آيات من القرآن الكريم

وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ۚ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ۚ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ۚ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ
ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇ

حق. فكان هذا التحويل حقا.
قلت: وثم وجه آخر أدق مما ذكره الفخر في علمهم حقيّة ذلك التحويل وأنه من أعلام نبوته صلّى الله عليه وسلّم. وبيانه أن أمره تعالى للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ولكافة من اتبعه، باستقبال الكعبة، من جملة الاستعلان في فاران المذكور في التوراة إشارة لخاتم النبيين وبشارة به. فقد جاء في الأصحاح الثالث والثلاثين من سفر التثنية (ويقال الاستثناء) هكذا: وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته فقال:
جاء الرب من سيناء وأشرق لهم من سعير وتلألأ من جبل فاران.
وهذه البشارة تنبه على موسى وعيسى ومحمد صلّى الله عليه وسلّم. لأن الله تعالى أنزل التوراة على موسى في طور سيناء والإنجيل على عيسى في جبل سعير. لأنه عليه السلام كان يسكن أرض الخليل من سعير بقرية تدعى الناصرة. وتلألؤه من جبل فاران عبارة عن إنزاله القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلّم في جبل فاران. وفاران هي مكة. لا يخالفنا في ذلك أهل الكتاب. ففي الأصحاح الحادي والعشرين من سفر التكوين في حال إسماعيل عليه السلام هكذا: وكان الله مع الغلام فكبر. وسكن في البرّية وكان ينمو رامي قوس. وسكن في برّية فاران.
ولا شك أن إسماعيل، عليه السلام، كان سكناه في مكة وفيها مات وبها دفن.
وقال ابن الأثير: وفي الحديث ذكر جبل فاران اسم لجبال مكة بالعبرانيّ. له ذكر في أعلام النبوة. وألفه الأولى ليست بهمزة. وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ قرئ بالياء والتاء. فيه إنباء بتماديهم على سوء أحوالهم. ولما بين تعالى أنهم يعلمون أن هذه القبلة حق، أعلم أن صفتهم لا تتغير في الاستمرار على المعاندة بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (٢) : آية ١٤٥]
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥)
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي من اليهود والنصارى بِكُلِّ آيَةٍ أي برهان قاطع أنّ التوجه إلى الكعبة هو الحق ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ أي هذه التي حوّلت

صفحة رقم 426

إليها. لأن تركهم اتباعك ليس عن شبهة تزيلها بإيراد الحجة. إنما هو عن مكابرة وعناد. مع علمهم بما في كتبهم من نعتك أنك على الحق. وقوله تعالى: وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ هذا حسم لأطماعهم في العود إليها. أو للمقابلة. يعني ما هم بتاركي باطلهم وما أنت بتارك حقك. وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ فلا اتفاق بين فريقيهم، مع كون الكل من بني إسرائيل.
قال الزمخشريّ: أخبر تعالى عن تصلب كل حزب فيما هو فيه وثباته عليه.
فالمحق منهم لا يزلّ عن مذهبه لتمسكه بالبرهان. والمبطل لا يقلع عن باطله لشدة شكيمته في عناده. وفيه إراحة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم من التطلع إلى هدى بعضهم.
فوائد:
الأولى: قال الراغب: إن قيل كيف أعلم بأنهم لا يتبعون قبلته وقد آمن منهم فريق؟ قيل: قال بعضهم: إن هذا حكم على الكل دون الأبعاض. وهذا صحيح.
بدلالة أنك لو قلت: ما آمنوا ولكن آمن بعضهم، لم يكن منافيا. وقيل: عني به أقوام مخصوصون.
الثانية: قال الراغب: في قوله تعالى: وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ إشارة إلى أن من عرف الله حق معرفته، فمن المحال أن يرتد. ولذا قيل: ما رجع من رجع إلا من الطريق: أي ما أخل بالإيمان إلا من لم يصل إليه حق الوصول.
إن قيل: فقد يوجد من يحصل له معرفة الله ثم يرتدّ (قيل) إن الذي يقدّر أنه معرفة، هو ظن متصور بصورة العلم. فأما أن يحصل له العلم الحقيقيّ ثم يعقبه الارتداد- فبعيد. ولم يعن بهذه المعرفة ما جعله الله تعالى للإنسان بالفطنة. فإن تلك كشررة تخمد إذا لم تتوقد.
الثالثة: قال الإمام ابن القيّم رحمه الله تعالى، وفي بدائع الفوائد: قبلة أهل الكتاب ليست بوحي وتوقيف من الله. بل بمشورة واجتهاد منهم. أما النصارى فلا ريب أن الله لم يأمرهم في الإنجيل ولا في غيره باستقبال المشرق. وهم يقرّون بأن قبلة المسيح قبلة بني إسرائيل. وهي الصخرة، وإنما وضع لهم أشياخهم هذه القبلة.
فهم مع اليهود، متفقون على أن الله لم يشرع استقبال بيت المقدس على رسوله أبدا. والمسلمون شاهدون عليهم بذلك الأمر. وأما اليهود فليس في التوراة الأمر باستقبال الصخرة، البتة. وإنما كانوا ينصبون التابوت ويصلّون إليه من حيث خرجوا.
فإذا قدموا نصبوه على الصخرة وصلّوا إليه. فلما رفع صلوا إلى موضعه وهو الصخرة.

صفحة رقم 427
محاسن التأويل
عرض الكتاب
المؤلف
محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق القاسمي
تحقيق
محمد باسل عيون السود
الناشر
دار الكتب العلميه - بيروت
سنة النشر
1418
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية