
الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ١ شَطْرَهُ٢ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ٣ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧) }
شرح الكلمات:
تقلب وجهك في السماء: تردده بالنظر إليها مرة بعد أخرى انتظاراً لنزول الوحي.
فلنولينك قبلة ترضاها: فلنحولنك إلى القبلة التي تحبها وهي الكعبة.
فول وجهك شطر المسجد: حول وجهك جهة المسجد الحرام بمكة.
الحرام: بمعنى: المحرم لا يسفك فيه دم ولا يقتل فيه أحد.
الشطر: هنا الجهة واستقبال الجهة يحصل به استقبال بعض البيت في المسجد الحرام، لأن الشطر لغة: النصف أو الجزء مطلقاً.
أنه الحق من ربهم: أي تحول القبلة جاء منصوصاً عليه في الكتب السابقة.
٢ اختلف في: هل الغائب عن البيت الحرام يصلى إلى عين الكعبة أو إلى جهتها. الصواب أنه يصلي إلى جهة الكعبة ناوياً استقبال البيت، لأن استقبال عين الكعبة معتذر على غير الموجود في المسجد الحرام، أما في المسجد الحرام فلا تصح صلاته إن لم يستقبل عين الكعبة.

آية: حجة وبرهان.
يعرفونه: الضمير عائد إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي: يعلمون أنه نبي الله ورسوله لما في كتبهم من صفاته الواضحة القطعية.
من الممترين: الشاكين والامتراء: الشك وعدم التصديق.
معنى الآيات:
يعلم الله تعالى رسوله أنه كان يراه وهو يقلب وجهه في السماء انتظاراً لوحي يؤمر فيه باستقبال الكعبة بدل بيت المقدس لرغبته في مخالفة اليهود لقبلة أبيه إبراهيم، إذ هي أول قبلة وأفضلها فبناء على ذلك ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ١الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾، وبهذا المر الإلهي تحولت القبلة، وروي أنه كان يصلي الظهر في مسجد بني سلمة المعروف الآن بمسجد القبلتين فصلى الرسول والمؤمنون وراءه ركعتين إلى بيت المقدس، وركعتين إلى الكعبة، وكيلا تكون القبلة خاصة بمن كان بالمدينة، قال تعالى: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ﴾ أي: في نواحي البلاد وأقطار الأرض ﴿فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ أي شطر المسجد الحرام، كما أخبر تعالى في هذه الآية أن علماء أهل الكتاب يعرفون أن تحول القبلة حق وأنه بأمر الله تعالى وما أحدثوه من التشويش والتشويه إزاء تحول القبلة، فقد علمه وسيجزيهم به إذ لم يكن تعالى بغاف عما يعملونه.
وفي الآية الثانية (١٤٥) يخبر تعالى بحقيقة ثابتة وهي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو أتى٢ اليهود والنصارى بكل آية تدل على صدقه أو حقيقة القبلة إلى الكعبة ما كانوا ليتابعوه على ذلك وصلوا إلى قبلته، كما إن النصارى لم يكونوا ليصلوا إلى بيت المقدس قبلة اليهود، ولا اليهود ليصلوا إلى مطلع الشمس قبلة النصارى، كما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين لم يكونوا أبداً ليتابعوا أهل الكتاب على قبلتهم بعد أن هداهم الله إلى أفضل قبلة وأحبها إليهم.
وأخيراً يحذر الله رسوله أن يتبع أهواء اليهود فيوافقهم على بدعهم وضلالاتهم بعد الذي أعطاه من العلم وهداه إليه من الحق، وحاشاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يفعل، ولو فعل لكان من الظالمين.
٢ قلت في التفسير: لو أتى اليهود إلخ: لأن لئن في الآية بمعنى لو، لأنها أجيبت بجواب لو، وهو المضي والوقوع، إذ قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾، فقوله: ﴿مَا تَبِعُوا﴾ جواب لئن، والمفروض فيها أن يجاب بالمضارع.

وفي الآية الثالثة (١٤٦) يخبر تعالى أن علماء أهل الكتاب يعرفون أن الرسول حق وأن ما حاء به هو الحق معرفة تامة كمعرفتهم لأبنائهم، ولكن فريقاً كبيراً يكتمون الحق وهم يعلمون إنه الحق، وفي الآية الرابعة (١٤٧) يخبر تعالى رسوله بأن ما هو عليه من الدين الحق هو الحق الوارد إليه من ربه فلا ينبغي أن يكون من الشاكين١ بحال من الأحوال.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- وجوب استقبال القبلة في الصلاة وفي أي مكان كان المصلي عليه أن يتجه٢ إلى جهة مكة.
٢- كفر كثير من أهل الكتاب كان على علم إيثاراً للدنيا على الآخرة.
٣- حرمة موافقة المسلمين أهل الكتاب على بدعة من بدعهم الدينية مهما كانت.
٤- علماء أهل الكتاب المعاصرون للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعرفون أنه النبي المبشر به وأنه النبي الخاتم وأعرضوا عن الإيمان به وعن متابعته إيثاراً للدنيا على الآخرة.
﴿وَلِكُلٍّ٣ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ٤ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا
٢ روي عن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي".
٣ الوجهة: من المواجهة وهي الجهة والوجه كلها بمعنى واحد، ومفعول موليها محذوف أي وجهة، أو يكون موليها بمعنى متوليها وحينئذ فلا حذف ولا تقدير.
٤ اختلف في الجهة التي كان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستقبلها في مكة قبل الهجرة، والراجح أنه كان يجعل الكعبة أمامه وهو متجه إلى الشام، بمعنى أنه يصلي بين الركنين اليمانيين، ولما قدم المدينة صلى إلى بيت المقدس حتى حول إلى الكعبة، وهل كان استقباله بيت المقدس باجتهاد منه أو بوحي، الظاهر أنه باجتهاد منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.