آيات من القرآن الكريم

صِبْغَةَ اللَّهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ۖ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ
ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (١٣٨) ﴾
قال أبو جعفر: يعنى تعالى ذكره ب"الصبغة: صبغةَ الإسلام. وذلك أنّ النصارى إذا أرادت أن تنصِّر أطفالهم، جعلتهم في ماء لهم تزعم أن ذلك لها تقديس، بمنزلة غُسل الجنابة لأهل الإسلام، وأنه صبغة لهم في النصرانية. (١)
فقال الله تعالى ذكره -إذ قالوا لنبيه محمد ﷺ وأصحابه المؤمنين به:"كونوا هودًا أو نَصَارَى تَهتدوا"-: قل لهم يا محمد: أيها اليهود والنصارى، بل اتبعوا ملة إبراهيمَ، صبغة الله التي هي أحسن الصِّبَغ، فإنها هي الحنيفية المسلمة، ودعوا الشركَ بالله، والضلالَ عن محجَّة هُداه.
* * *
ونصب"الصبغة" من قرأها نصبًا على الردِّ على"الملة". وكذلك رَفع"الصبغة" من رَفع"الملة"، على ردّها عليها.
وقد يجوز رفعها على غير هذا الوجه. وذلك على الابتداء، بمعنى: هي صبغةُ الله.
وقد يجوز نصبها على غير وجه الرّد على"الملة"، ولكن على قوله:"قولوا آمنا بالله" إلى قوله"ونحنُ له مسلمون"،"صبغةَ الله"، بمعنى: آمنا هذا الإيمان، فيكون الإيمان حينئذ هو صبغةُ الله. (٢)
* * *
وبمثل الذي قلنا في تأويل"الصبغة" قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
٢١١٣- حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:

(١) انظر معاني القرآن ١: ٨٢-٨٣.
(٢) انظر معاني القرآن ١: ٨٢-٨٣.

صفحة رقم 117

"صبغةَ الله ومن أحسن من الله صبغة" إنّ اليهود تصبغ أبناءها يهودَ، والنصارى تَصبغ أبناءَها نصارَى، وأن صبغة الله الإسلامُ، فلا صبغة أحسنُ من الإسلام، ولا أطهر، وهو دين الله بعث به نُوحًا والأنبياء بعده.
٢١١٤- حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال عطاء:"صبغةَ الله" صبغت اليهودُ أبناءَهم خالفوا الفِطْرة.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"صبغة الله". فقال بعضهم: دينُ الله.
ذكر من قال ذلك:
٢١١٥- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن قتادة:"صبغة الله" قال: دينَ الله.
٢١١٦- حدثنا أبو كريب قال: حدثنا وكيع، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:"صبغةَ الله" قال: دينَ الله،"ومن أحسن من الله صِبغةً"، ومن أحسنُ من الله دينًا.
٢١١٧- حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه، عن الربيع مثله.
٢١١٨- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري قال: حدثنا سفيان، عن رجل، عن مجاهد مثله.
٢١١٩- حدثني المثنى قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا سفيان، عن مجاهد مثله.
٢١٢٠- حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٢١٢١- حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا فُضَيل بن مرزوق، عن عطية قوله:"صبغةَ الله" قال: دينَ الله.

صفحة رقم 118

٢١٢٢- حدثنا موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"صبغةَ الله ومن أحسنُ من الله صبغة"، يقول: دينَ الله، ومن أحسن من الله دينًا.
٢١٢٣- حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"صبغةَ الله" قال: دينَ الله.
٢١٢٤- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قول الله:"صبغةَ الله" قال: دين الله.
٢١٢٥- حدثني ابن البرقي قال: حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال: سألت ابن زيد عن قول الله:"صبغةَ الله"، فذكر مثله.
* * *
وقال أخرون:"صبغة الله" فطرَة الله. (١)
ذكر من قال ذلك:
٢١٢٦- حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"صبغة الله" قال: فطرةَ الله التي فطر الناسَ عليها.
٢١٢٧- حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا محمد بن حرب قال: حدثنا ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة، عن مجاهد:"ومن أحسنُ من الله صبغة" قال: الصبغة، الفطرةُ.
٢١٢٨- حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: "صبغةَ الله"، الإسلام، فطرةَ الله التي فطر الناس عليها. قال ابن جريج: قال لي عبد الله بن كثير:"صبغةَ الله" قال: دين الله، ومن أحسنُ من الله دينًا. قال: هي فطرة الله.
* * *

(١) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة: ٥٩.

صفحة رقم 119

ومن قال هذا القول، فوجَّه"الصبغة" إلى الفطرة، فمعناه: بل نتبع فطرة الله وملَّته التي خلق عليها خلقه، وذلك الدين القيم. من قول الله تعالى ذكره: (فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) [سورة الأنعام: ١٤]. بمعنى خالق السماوات والأرض (١).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (١٣٨) ﴾
قال أبو جعفر: وقوله تعالى ذكره:"ونَحنُ له عَابدون"، أمرٌ من الله تعالى ذكره نبيَّه ﷺ أن يقوله لليهود والنصارى، الذين قالوا له ولمن تبعه من أصحابه:"كونوا هودًا أو نَصارَى". فقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ بل نتبعُ ملة إبراهيم حنيفًا، صبغةَ الله، ونحنُ له عابدون. يعني: ملة الخاضعين لله المستكينين له، في اتّباعنا ملة إبراهيم، وَديْنُونتنا له بذلك، غير مستكبرين في اتباع أمره، والإقرار برسالته رسلَه، كما استكبرت اليهودُ والنصارَى، فكفروا بمحمد ﷺ استكبارًا وبغيًا وحسدًا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"قُلْ أتُحاجُّونَنا في الله"، قل يا محمد = لمعاشر اليهود والنصارى، الذين قالوا لك ولأصحابك:"كونوا هُودًا

(١) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة: ٥٩.

صفحة رقم 120

أو نَصَارَى تَهتدوا"، وزعموا أن دينهم خيرٌ من دينكم، وكتابهم خير من كتابكم، لأنه كان قبلَ كتابكم، وزعموا أنهم من أجل ذلك أولى بالله منكم =:"أتحاجوننا في الله وهو رَبنا وربكم"، بيده الخيرات، وإليه الثواب والعقابُ، والجزاءُ على الأعمال - الحسنات منها والسيئات، فتزعمون أنكم بالله أوْلى منا، من أجل أن نبيكم قبل نبينا، وكتابكم قبل كتابنا، وربّكم وربّنا واحدٌ، وأنّ لكلّ فريق منا ما عمل واكتسب من صالح الأعمال وسيئها، يجازى [عليها] فيثابُ أو يعاقبُ، (١) - لا على الأنساب وقدمَ الدِّين والكتاب.
* * *
ويعني بقوله:"قُلْ أتحاجوننا"، قل أتخاصموننا وتجادلوننا؟ كما-
٢١٢٩- حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"قل أتحاجوننا في الله"، قل: أتخاصموننا؟
٢١٣٠- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد:"قل أتحاجُّونَنا"، أتخاصموننا؟
٢١٣١- حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"أتحاجوننا"، أتجادلوننا؟
* * *
فأما قوله:"ونحن له مُخلصون"، فإنه يعني: ونحن لله مخلصو العبادةِ والطاعة، لا نشرك به شيئًا، ولا نعبد غيره أحدًا، كما عبد أهل الأوثان معه الأوثانَ، وأصحاب العِجل معه العجلَ.
* * *
وهذا من الله تعالى ذكره توبيخٌ لليهود، واحتجاج لأهل الإيمان، بقوله تعالى ذكره للمؤمنين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: قولوا -أيها المؤمنون، لليهود

(١) في المطبوعة: "ويجازى فيثاب أو يعاقب". وكأن الصواب يقتضي حذف"الواو"، وزيادة: "عليها". وقوله: "لأعلى الأنساب" معطوف على قوله: "والجزاء على الأعمال".

صفحة رقم 121
جامع البيان في تأويل آي القرآن
عرض الكتاب
المؤلف
أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري
تحقيق
أحمد شاكر
الناشر
مؤسسة الرسالة
الطبعة
الأولى، 1420 ه - 2000 م
عدد الأجزاء
24
التصنيف
كتب التفسير
اللغة
العربية