
(صِبْغَةَ اللَّهِ وَمنْ أَحْسنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنحْن لَهُ عَابِدُونَ).
الصبغة هي الملة التي اختارها الله تعالى، وهي ملة إبراهيم، وهي دين الله الحق الذي اصطفاه واختاره وصح أن يكون دينه.
والصبغة في الأصل ما يصبغ منه، ويتشربه الثوب حتى يصير لونا غير قابل للتغيير، بيد أن هذه الصبغة في القلب يتشربها فتكون لونا ثابتا مستقرا دائما بالإيمان والإذعان، يخالط مداركه، ويتشربها قلب المؤمن كما يتشرب الثوب صبغته؛ لأنه مفطور على الإيمان والإيمان في فطرته، إلى أن يتدرن بالأهواء والشهوات فتطمس الفطرة، ولقد قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ للدِّينِ حَنيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّين الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النًّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).

ولقد قال - ﷺ -: " كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كمثل البهيمة تنتج البهيمة هل ترى فيها جدعاء " (١).
وصبغة هنا منصوبة على الإغراء لفعل محذوف تقديره إلزم صبغة الله، فإنها إيمان القلوب، وزينة النفوس للمؤمنين؛ كما يتزين الجسم بزينة الثياب اللونة بأبهى الصباغ.
وإن التعبير عن الدين بأنه صبغة الله إشارة لما يفعله اليهود والنصارى من صبغ أولادهم باليهودية أو النصرانية بما يغمسونهم فيه بماء يسمى المعمودية.
فإذا كان هؤلاء يعملون تلك الأعمال حاسبين أنها تصبغهم بدينهم غير الحق الذي ارتضوا، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يجعل القلوب تتشرب حب الدين الحق، فلا تتحول ولا تتغير ولا تتبدل.
ولقد بين سبحانه وتعالى أن صبغة الإيمان الجامع الذي اختاره الله تعالى دينا للعالمين هي أحسن صبغة وأبهاها حسا ومعنى، وطهارة؛ ولذا قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) أي لَا صبغة أفضل من صبغة الله تعالى؛ لأنها الحق والحق وحده زينة القلوب. وغيرها الباطل، وهو طمس للفطرة وفرق بين زين القلب وحسن الإيمان، والإشراق بنوره، وطمس النور منه وامتلائه بالظلمات.
وقد قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَق كَانَ لَهُ قَلْبٌ...)، من شأنه الإذعان للحق، والتمسك به، وقال هنا: (وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) فالقلوب قسمان: قلوب على الفطرة يدخلها نور الإيمان فيشرق فيها، وقلوب طمست عليها
________
(١) رواه أحمد عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أن رَسُولَ اللَّه - ﷺ - قَالَ: " كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَة، فَأبَوَاهُ يُهَودانه اوْ يُنَصرانِهِ اوْ يُمَجسانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً هًلْ تُحسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟ " [مسند المكثَرين (٦٨٨٤)، َ وبنحوه في البخاري: الجنائز (١٢٧٠)، ومسلم: القدَر (٤٤٠٣)]. والجدعاء: مقطوعة الأنف أو الأذن أو غيره، ولفظ البخاري: عن أبي هُرَيْرَةَ - رَضي اللَّهُ عَنْه - كَانَ يُحَدثُ: قَالَ النَّبِي - ﷺ -: " مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَة فَأبَوَاهُ يُهَوِّدَاِنِهِ أوْ يُنَصرانه أوْ يُمَجسَانِه، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَة بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحسُّون فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ " ثُم يَقُولُ أبُو هُريْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ: (فِطْرًتَ اللَّهِ التي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا...].

الأهواء وسيطرت عليها وأخفت منابع الهداية فهي فى عمياء عن الهدى، غلقت فلا تدخلها هداية.
وإنَّما يدرك جمال صبغة الله تعالى، وتزيينها للقلب والنفوس الذين يوقنون بالحق، ومن شاء الإيمان به إذا قامت دلائله، وبدرت محاسنه؛ ولذا قال تعالى: (وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) خاضعون له لَا لسواه؛ ولذا قدم " له " على " عابدون " إذ التقديم للاختصاص فلا نعبد سواه ولا نؤمن بغيره.
* * *
(قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١)
* * *
كان اليهود والنصارى يدَّعون أن ما عندهم هو دين الله تعالى، وأنهم أعلم الناس بالله، وأنهم أبناء الله تعالى وأحباؤه، وحسبوا أنهم أقرب إلى الله تعالى لأنهم ليسوا وثنيين ولم يشركوا به أحدا، والوثنيون ليسوا كذلك، وبذلك يحاجون النبي في أنهم أقرب إلى الله، وأنه أقرب إليهم، وأنهم أولى به، فأمر الله تعالى نبيه بأن يبين لهم أن الله ربنا وربكم، وأن القربى إليه بالعمل، فلنا أعمالنا ولكم أعمالكم فقال تعالى: