
كقوله: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ﴾ [الأنعام: ٩٣] المعنى: يقولون: أخرجوا، ومثله: ﴿يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (٢٣) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الرعد: ٢٣ - ٢٤].
وقوله تعالى: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ﴾ يريد: لدعائنا ﴿الْعَلِيمُ﴾ بما في قلوبنا (١).
١٢٨ - قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ أي: مطيعين مستسلمين منقادين لحكمك (٢).
قال ابن الأنباري: يقال: فلان مسلم، وفيه قولان:
أحدهما: أنه المستسلم لأمر الله.
والثاني: هو المخلص لله العبادة، من قولهم: سَلَّمَ لفلان الشيءَ، أي: خَلَّصَه له، وسَلِمَ له الشيءُ، أي: خَلَصَ (٣)، ومنه قوله تعالى: ﴿وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ﴾ [الزمر: ٢٩]، معناه: خالصًا لرجل، وأنشد على أنَّ المسلم بمعنى المستسلم لأمر الله قولَ الشاعر:
فقلنا أسْلِمُوا إنّا أخوكم (٤) | فقد بَرِئَتْ مِنَ الإحَنِ الصُّدُورُ (٥) |
(٢) "تفسير الثعلبي" ١/ ١١٨٥، "تفسير البغوي" ١/ ١٥٠.
(٣) نقله في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٧٤٥، وعنه في "لسان العرب" ٤/ ٢٠٨٠.
(٤) في (ش): (باحركم).
(٥) البيت لعباس بن مرداس، في "ديوانه" ص ٥٢، "لسان العرب" ١/ ٤١ "المعجم المفصل" ٣/ ٣٢٦.

ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ [الحجرات: ١٤] (١). معناه: استسلمنا من خوف القتل (٢). وقد ذكرنا معنى الإسلام فيما تقدم.
قوله تعالى: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ الأمَّةُ في اللغة تكون على وجوه، قال أبو العباس: الأمَّةُ تأويلها: الجماعة من كل شيء، من ذلك: أمة محمد - ﷺ -، ويقال: إنما فلان أمةٌ وَحْدَه، أي يَسُدُّ مَسَدَّ جَمَاعةٍ، ومنه يقال: فلان حسن الأُمَّة، إذا مُدِحَ بالتمامِ واستجماعِ الخُلُقِ على الاستواء (٣).
قال الأعشى (٤):
وإنَّ معاويةَ الأكْرَمِين | حسَانُ الوُجُوهِ طِوالُ الأُمَمْ (٥) |
(٢) ينظر: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٧٤٥، "لسان العرب" ٤/ ٢٠٨٠.
(٣) "تهذيب اللغة" ١/ ٢٠٢ - ٢٠٦، "لسان العرب" ١/ ١٣٥ (أمم).
(٤) هو أبو بصير ميمون بن قيس، تقدمت ترجمته.
(٥) البيت للأعشى في "ديوانه" ص ١٩٩، "تهذيب اللغة" ١/ ٢٠٤، "لسان العرب" ١/ ١٣٥، "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٢٨٢، "الأمالي" لأبي علي القالي ١/ ٢٥، "المعجم المفصل" ٧/ ٢٩.
(٦) في (أ): (يجتمع)، وفي (م): (مجتمع).
(٧) "لسان العرب" ١/ ١٣٣ - ١٣٤ (أمم).
(٨) "المفردات" للراغب الأصفهاني ص ٣٣.

والأعوام، وأم النجوم: المجرة، لأنها مجتمع النجوم، وكل شيء انضمت إليه أشياء فهو أمّ لها (١)، وأمُّ القوم: رئيسُهم الذي يجتمع إليه أَمْرُهم (٢).
قال الشنفرى (٣):
وأمَّ عيال قد شَهِدتُ تَقُوتُهم | إذا أحْتَرتْهُمْ (٤) أحْتَرَتْ وأقَلَّتِ (٥) |
وقال أبو إسحاق: الأمة في اللغة أشياء، الأمة: القرن من الناس، يقال: قد مضت أمم أي: قرون، والأمة: الدِّين، ومنه قوله: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [البقرة: ٢١٣]، أي: كانوا على دين واحد، والأمة: القامة وأنشد:
.......... طوال الأمم (٧)
والأمة: الرجل الذي لا نظير له، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ (٨)، [النحل: ١٢٠].
(٢) "لسان العرب" ١/ ١٣٣ (أمم).
(٣) هو ثابت بن أوس الأزدي، شاعر جاهلي، تقدمت ترجمته [البقرة: ٣٠].
(٤) في (ش): (أخترتهم)، وفي (أ) لعلها كذلك.
(٥) البيت للشنفرى في "ديوانه" ص ٣٥، "تهذيب اللغة" ١/ ٢٠٣ وروايته: إذا حَتَرَتْهم أتْفَهَتْ وأقَلَّتِ، "لسان العرب" ٢/ ٧٦٩ (مادة: حتر)، ١/ ١٣٧ (مادة: أمم)، "المعجم المفصل" ١/ ٥٥٢.
(٦) ينظر: "تهذيب اللغة" ١/ ٢٠٢ - ٢٠٣، "لسان العرب" ١/ ١٣٥ (أمم).
(٧) هذه قطعة من البيت المذكور في الصفحة السابقة.
(٨) بتصرف من "معاني القرآن" للزجاج ١/ ١٨٣، وزاد من المعاني: الأمة: بمعنى النعمة والخير.

قال: وأصل هذا الباب كله من القصد، يقال: أممت الشيء إذا قصدته، فمعنى الأمة في القرن من الناس: الذين يقصدهم مقصدًا واحدًا، ومعنى الأمة في الدين: إنما هو الشيء الذي يقصده الخلق ويطلبونه؛ ولذلك سميت النعمة أمة، ومعنى الأمة في الرجل: الذي لا نظير له: أن قصده منفرد من قصد سائر الناس (١). قال ومعنى الأمة: القامة، لأنها مقصد الجسد، فليس يخرج شيء من هذا الباب عن معنى أممت، أي: قصدت (٢).
قال الأزهري: والأمة فيما فسّروا يقع على الكفار والمؤمنين (٣)، وقال الليث: كلُّ قوم نُسبوا إلى نبيٍّ فأضيفوا إليه فهم أمته، وقيل: أمة محمد - ﷺ -: كل من أرسل إليه (٤) ممن آمن به أو كفر، قال: وكل جيل من الناس هم أمة على حدة (٥).
قال ابن الأنباري: والأمة أيضًا أتباع الأنبياء، من قولهم: نحن أمة محمد - ﷺ -.
قال ابن عباس: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا﴾ يريد: أمةَ محمَّدٍ - ﷺ - ﴿أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ يريد: المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان (٦). قيل: وإنما خصّا
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٢٨٤.
(٣) "تهذيب اللغة" ١/ ٢٠٤.
(٤) ساقط من (ش).
(٥) نقله في "تهذيب اللغة" ١/ ٢٠٥.
(٦) لم أجده ولعله من رواية عطاء التي تقدم الحديث عنها في المقدمة.

بالدعوة بعضَ الذُّرِّيَّة؛ لأن الله تعالى أعلمهما أن في ذريتهما من لا ينال العهد في قوله: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾.
وقوله تعالى: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾. (أرنا) يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون منقولًا من رأيت الذي يراد بها إدراك البصر، نقلت بالهمزة فتعدت إلى مفعولين، والتقدير: حذف المضاف، كأنه قال: أرنا مواضع مناسكنا، والمناسك: جمع منسك، وهو مصدر، جُمع لاختلاف ضروبه، والمعنى: عَرِّفْنا هذه المواضع التي تتعلق النسك بها؛ لنفعله ونقضي نسكنا فيها (١)، على حدِّ ما يقتضيه توقيفنا عليها، وذلك نحو: المواقيت التي يحرم منها، ونحو: الموضع الذي يوقف فيه بعرفةَ، وموضع الطواف، وموضع رمي الجمار، فهذا من: رأيتُ المواضع، وأريته زيدًا.
والوجه الآخر: أن يكون أرنا منقولًا من رأيت، الذي لا يراد به رؤية العين ولكن التوقيف على الأمر، وضرب من العلم. وإلى هذا ذهب أبو عبيدة في تأويل الآية فقال: (وأرنا مناسكنا) أي: عَلِّمْنا، وأنشد:
أريني جوادًا مات هَزْلًا لأَنني | أرى ما تَرَيْنَ أو بخيلًا مُخَلَّدا (٢) |
(٢) البيت لحاتم الطائي، في "ديوانه" ص ٤٠، ولحطائط بن يعفر، "مجاز القرآن" ١/ ٥٥، "الحجة" ٢/ ٢٢٥، "شرح أبيات المغني" ١/ ٢١٩، وفي "خزانة الأدب" ١/ ٤٠٦، ولدريد في "لسان العرب" ١/ ١٥٨، ولمعن بن أوس في "ديوانه" ص ٣٩. قال: العيني ١/ ٣٢٩: أقول قائله هو حاتم بن عدي الطائي، كذا قالت جماعة من النحاة. ينظر: "المعجم المفصل" ٢/ ٢٠٢، وتحقيق أحمد شاكر لكتاب "الشعر والشعراء" ١/ ٢٤٨.

قال: أراد: دُلِّيني، ولم يرد رؤية العين (١). وقوله: لأنني، أي: لعلني (٢).
وقال أبو إسحاق: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ معناه: عرِّفنا متعبداتنا، وكلُّ متعبدٍ فهو منسِك ومنسَك، ومن هذا قيل للعابد: ناسك، ويقال للذبيحة المتقرب بها إلى الله: نسيكة، وإنما سمي الذبيحة نَسِيكة (٣)؛ لأنهم كانوا يذبحونها للعبادة. فقوله: ﴿مَنَاسِكَنَا﴾ يحتمل أن يكون جمع مَنْسَك الذي هو المصدر، فيكون على تقدير حذف المضاف كما ذكرنا، ويحتمل أن يكون جمع منسك الذي هو الموضع، فلا يكون فيه حذف. ونسك في اللغة على معنيين:
أحدهما: ذَبَح، والآخر: عَبَدَ، فلا يُدرى (٤) أيهما الأصل (٥).
وفي قوله: (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} قراءتان: كسر الراء، وإسكانها (٦).
قال أبو إسحاق: والأجود الكسر؛ لأن الأصل أَرْئنا، فالكسرة في الراء إنما هي كسرة همزة، أُلقيت فَطُرحت حركتها على الراء، فالكسرة دليلُ الهمزة، وحذفُها قبيحٌ، وهو جائزٌ على بُعدٍ؛ لأن الكسرةَ والضمةَ
(٢) "مجاز القرآن" ١/ ٥٥.
(٣) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٢٠٩، وقال بعده: وكان الأصل في النسك إنما هو من الذبيحة لله جل وعز.
(٤) في (ش): (ندري).
(٥) ينظر: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٦٢ (نسو).
(٦) قرأ ابن كثير والسوسي ويعقوب بإسكان الراء، وقرأ الدوري عن أبي عمرو بإخفاء كسرتها: أي: اختلاسها، والباقون بالكسرة الكاملة على الأصل. ينظر: "السبعة" ص ١٧٠، "الحجة" ٢/ ٢٢٤، "البدور الزاهرة" ص ٥٠.