آيات من القرآن الكريم

رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
ﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﱿ ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄ ﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ

فكان إسماعيل صلى الله على محمد [و] عليه وسلم يأتي بالحجارة وإبراهيم ﷺ يبني، حتى ارتفع البناء، فجاء بهذا الحجر يعني المقام، فقام [عليه إبراهيم] يبني، وهما يقولان: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم﴾.
فمعنى الآية: أنها خبر من الله تعالى عن إبراهيم وإسماعيل صلى الله على محمد و [عليهما وسلم] وما كانا يفعلان في بناء البيت، وما كانا يقولان وهما يبنيان.
وقوله: ﴿رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾.
أي: خاضعين لأمرك، مستسلمين لك، لا نشرك معك في الطاعة أحداً، فالمسلم الذي قد استسلم لأمر الله [ تعالى]. والمؤمن هو الذي أظهر القبول لأمر الله سبحانه فأضمر مثل ذلك.
فأما قوله: ﴿قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا﴾ [الحجرات: ١٤]. فمعناه ولكن

صفحة رقم 442

قولوا: خضعنا وأظهرنا الإسلام. فالمسلم على ضربين: مسلم أظهر مثل ما أضمر / فهذا مؤمن مسلم، ومسلم يظهر غير ما يبطن، فهذا غير مؤمن. إنما هو مستسلم في الظاهر ولذلك قال لهم: ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: ١٤] أي: إنما أظهرتم الإسلام خشية القتل، ولم يدخل في قلوبكم منه شيء.
وقوله في الدعاء: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ﴾.
دخول " مِنْ " يدل على التخصيص لبعض الذرية، لأن الله تعالى قد أعلم إبراهيم ﷺ أن من ذريته من لا يناله عهده لظلمه وفجوره. فخص إبراهيم عليه السلام بدعوته، ولم يعم لما تقدم عنده من الخبر عن الله تعالى.
والأمة هنا عني بها الجماعة.
وتكون الأمة الإمام كقوله في إبراهيم ﷺ ﴿ كَانَ أُمَّةً﴾ [النحل: ١٢٠]، أي: إماما يقتدى به.
وتكون الأمة السنين كقوله: ﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ﴾ [هود: ٨]، أي: إلى سنين.
وتكون الأمة الملة كقوله: ﴿إِنَّا وَجَدْنَآءَابَآءَنَا على أُمَّةٍ﴾ [الزخرف: ٢٢]. أي: على ملة ودين.

صفحة رقم 443

وقيل: الأمة هنا محمد وأمته ﷺ.
[ قوله] / ﴿رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ﴾.
يعني [محمداً عليه السلام].
وقول إبراهيم وإسماعيل: ﴿رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ﴾ يدل على أن الإسلام والإيمان سواء، إذ لم يسألا إلا أعلى الرتب وأشرف المنازل، وهو الإيمان الذي هو الإسلام.
[قال] مالك: " لما وقف إبراهيم على المقام أوحى الله إلى الجبال أن تأخري عنه، فتأخرت حتى أراه موضع المناسك وهو قوله: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ﴾ إلى قوله: ﴿لَمِنَ الصالحين﴾. معناه أظهر لأعيننا مكان المناسك ان جعلته من رؤية العين.
وقيل: معناه عَلِّمناها وعَرِّفناها.
والمناسك: مناسك الحج ومعالمه.
وقال قتادة: " فأراهما / الله مناسكهما بالطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة والإفاضة من عرفات، ومن جمع، ورمي الجمار حتى أكمل لهما الدين ".

صفحة رقم 444

قال السدي: " لما فرغ إبراهيم ﷺ وعلى محمد من بنيان البيت، أمره الله [أن] ينادي، فقال: ﴿وَأَذِّن فِي الناس بالحج﴾ [الحج: ٢٧]، فنادى بين أخشبي مكة: يا أيها الناس، إن الله يأمركم أن تحجوا بيته. قال: فوقرت في قلب كل مؤمن، فأجابه كل شيء سمعه من جبل أو شجر أو دابة: لبيك، لبيك - أجابوه بالتلبية -: لبيك اللهم لبيك، فأتاه من أتاه.
وأمره الله تعالى أن يخرج إلى عرفات، ونعتها الله له فخرج. فلما بلغ الشجرة عند العقبة، استقبله الشيطان يرده، فرماه بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، فطار اللعين فوقع على الجمرة الثانية [أيضاً فصده]، فرماه وكبّر فطار اللعين فوقع على الجمرة الثالثة فرماه وكبّر. فلما رأى أنه لا يطيقه

صفحة رقم 445

انطلق حتى أتى ذا المجاز، ولم يدر إبراهيم ﷺ أين يذهب فلما أتى إبراهيم ﷺ ذا المجاز لم يعرفه فجازه، فسمي ذا المجاز. ثم انطلق، حتى وقع بعرفات فلما نظر إليها إبراهيم ﷺ عرف النعت، فقال: قد عرفت، فسمى ذلك المكان عرفات. فوقف إبراهيم ﷺ بعرفات حتى إذا أمسى ازدلف بجمع، فسميت المزدلفة. فوقف بجمع ثم أقبل حتى أتى الشيطان حيث لقيه أولاً فرماه بسبع حصيات، سبع حصيات، ثم أقام بمنى حتى فرغ من الحج ".
وقيل: المناسك المذابح. فالمعنى على هذا: وأرنا كيف ننسك لك يا رب نسائكنا، فنذبحها لك.
قال عطاء: " مناسكنا ذبحنا ". وعنه: " مذابحنا ". وكذلك قال مجاهد.
وقيل: مناسكنا متعبداتنا. ومنه قيل للعابد ناسك.
قال ابن عباس: " لما قال إبراهيم ﷺ: " ﴿ رَبَّنَا وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾، أتاه [جبريل ﷺ]

صفحة رقم 446

وعلى محمد بهذا الحجر من الجنة الذي يقال له المقام - وهو ياقوتة بيضاء - فأقامه عليه. ثم رفعه إلى السماء حتى أشرف به على البلاد كلها. فأراه أعلام الحرم وجميع مناسك الحج كلها / عرفات، والمزدلفة، ومنى، وجميع المناسك. ثم قال له: ﴿وَأَذِّن فِي الناس بالحج﴾.
وواحد المناسك منسك مثل " مسجد ".
وقيل: منسك وكان يجب أن يكون على " مَنْسُك " بالضم لأنه من " فَعَلَ يَفْعُلُ " إلا أنه ليس في الكلام " مَفْعُلُ ".
وقيل: المنسك الموضع الذي ينسك فيه لله تعالى، ويتقرب فيه إليه سبحانه بما يرضيه من الأعمال الصالحة.
وأصله الموضع الذي يعتاده الإنسان يفعل فيه الخير، ولذلك [قيل: مناسك الحج لأنها مواضع] قد اعتادها الناس لفعل الخير.
ثم قال: ﴿وَتُبْ عَلَيْنَآ﴾.
التوبة الرجوع من مكروه إلى محبوب، فتوبة العبد / إلى ربه رجوعه مما هو عليه من المكروه بالندم عليه والإقلاع عنه والعزم على ترك العمود فيه.

صفحة رقم 447

وتوبة الرب سبحانه على عبده عوده عليه بالعفو عنه عن جرمه وذنبه.
- فإن قيل: وهل كانت لهما ذنوب فاحتاجا إلى مسألة ربهما التوبة؟.
- فالجواب: أنه ليس أحد من خلق الله تعالى إلا وله من العمل فيما بينه وبين ربه تعالى ما يجب عليه الإنابة [منه والتوبة، فخصا] الموضع الذي كانا فيه بالدعاء ليستجاب لهما على طريق التبرك به، وليكون دعاؤهما في ذلك المكان سُنة لمن بعدهما، وليتخذ الناس بعدهما تلك البقعة موضع تنصل من الذنوب ورجوع عن المكروه.
وقيل: عَنَيا بقولهما: ﴿وَتُبْ عَلَيْنَآ﴾: وتب على الظلمة من ذريتنا الذين أعلمتنا أن منهم ظالماً.
وقوله: ﴿إِنَّكَ أَنتَ التواب الرحيم﴾.
معناه إنك أنت العائد في الفضل على عبادك، المتفضل بالغفران لذنوبهم، الرحيم بهم.
ثم قال: ﴿رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آياتك وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَيُزَكِّيهِمْ﴾.

صفحة رقم 448

هذه دعوة إبراهيم وإسماعيل صلى الله عليهما وسلم لنبينا محمد ﷺ.
وكان النبي [عليه السلام يقول]: " أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْراهيمَ وَبُشْرَى عِيسَى ".
قال قتادة: " [فأجاب] الله دعوتهما، فبعث الله فيهم رسولاً من أنفسهم يعرفون وجهه ونسبه، يخرجهم من الظلمات إلى النور، وهو محمد ﷺ " قال الربيع: / " فقيل لإبراهيم: قد استجيب لك، وهو في آخر الزمان ".
وقوله: ﴿يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آياتك﴾.
من نعت الرسول. أي: يقرأ عليهم كتابك، وكذلك ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ﴾ ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾، كله من نعت الرسول ﷺ.
والكتاب القرآن.
قال قتادة: " الحكمة: السنة ".

صفحة رقم 449

وقال ابن وهب: " قلت لمالك: ما الحكمة؟ فقال: المعرفة في الدين والفقه فيه والاتباع له ".
وقال ابن زيد: " الحكمة. العقل في الدين ".
ومعنى ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾: ويطهرهم من الشرك بك ويكثرهم بطاعتهم لك.
ثم قال: ﴿إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم﴾.
أي: أنت القوي الذي لا يعجزه شيء المنيع الغالب. وأصل العزة المنع والغلبة، والعرب / تقول: " مَنْ [عزّ بَزّ] "، أي: من غلب استلب.
وقولهم: " أَدَامَ اللهُ عِزَّكَ "، أي: غلبتك وظفرك.
والحكيم الذي لا يدخل تدبيره خلل ولا زلل.
وقال الطبري: " الحكيم ذو الحكمة ".
وقيل: " الحكيم الحاكم ".

صفحة رقم 450

وقيل: " الحكيم: معناه المحكم، أي المحكم ما خلق ".
وقال ابن عباس: " العليم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته ".
ثم قال تعالى: ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾.
أي: ومن يزهد في دين إبراهيم الحنيفية المسلمة إلا من سفه نفسه ورغب عن ملته. واتخاذ اليهودية والنصرانية بدعة ليست من عند الله، هذا معنى قول قتادة والربيع.
وقيل: المعنى: ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا سفيه جاهل بموضع حظ نفسه فيما ينفعها ويضرها في معادها.
قال ابن زيد: " ﴿إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾: معناه من أخطأ حظّه ".

صفحة رقم 451

ومذهب الفراء أن " نفسه " منصوب على التفسير مثل " ضِقْتُ بهِ ذَرْعاً ".
قال: وهو من المعرفة كالنكرة، ولا يجوز أن يكون التمييز / معرفة عند البصريين ومثلها عنده: ﴿بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا﴾ [القصص: ٥٨]. ولا يجوز عند الفراء التقديم.
وقال الكسائي وهو أحد قولي الأخفش - / المعنى: إلا من سفه في نفسه، فلما حذف الحرف نصب. ويُجيزان التقديم.
ومذهب أهل التأويل أن معناه: سفه نفسه. فهو مفعول به.

صفحة رقم 452

وقال يونس: " أراها لغة ".
وقال أبو عبيدة: " معناه: [أهلك نفسه ".
ومذهب] البصريين أنه مثل: " ضرب فلان الظهر والبطن " أي: في الظهر [والبطن] فلا حذف في نصبه. كذلك معناه: سفه في نفسه، ثم نصب لما حذف " في ".
" وقال الزجاج ": معناه: جهل نفسه ". فهو مفعول به عنده بجهل " أي: لم يفكر في نفسه. فالسفه والجهل سواء.

صفحة رقم 453
الهداية الى بلوغ النهاية
عرض الكتاب
المؤلف
أبو محمد مكي بن أبي طالب حَمّوش بن محمد بن مختار القيسي القيرواني ثم الأندلسي القرطبي المالكي
الناشر
مجموعة بحوث الكتاب والسنة - كلية الشريعة والدراسات الإسلامية - جامعة الشارقة
سنة النشر
1429
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية