
استمروا على التكذيب، وكخروجها عن القدر الصالح لإلزام الحجة، وأيضا كثرة الآيات وتعاقبها ينافي كونها خوارق العادة فلا تبقى آيات، وكل ما أدى وجوده إلى عدمه ففرض وجوده محال، فثبت بهذه البيانات أن عدم إسعافهم بما اقترحوه لا يقدح في صحة النبوة والله أعلم.
التأويل:
مساجد الله التي يذكر فيها أساميها عند أهل النظر، النفس والقلب والروح، والسر والخفي- وهو سر السر- وذكر كل مسجد منها مناسب لذلك المسجد.
فذكر مسجد النفس الطاعات والعبادات ومنع الذكر فيه بترك الحسنات وملازمة السيئات، وذكر مسجد القلب التوحيد والمعرفة ومنع الذكر فيه بالتمسك بالشبهات والتعلق بالشهوات، كما أوحى الله إلى داود عليه السلام: يا داود حذر وأنذر أصحابك كل الشهوات فإن القلوب المعلقة بالشهوات عقولها عني محجوبة. وذكر مسجد الروح الشوق والمحبة ومنع الذكر فيه بالحظوظ والمسكنات، وذكر مسجد السر المراقبة والشهود ومنع الذكر فيه بالركون إلى الكرامات والقربات، وذكر مسجد الخفي بذل الوجود ومنع الذكر فيه بالالتفات إلى المشاهدات والمكاشفات أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أن يدخلوا هذه المشاهد بقدم السلوك إلا بخطوات الخوف من سوء الحساب وألم العقاب لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ من ذل الحجاب وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ الحرمان من جوار الله. وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ القلوب مشارق شموس المعارف ومغاربها، والله في مشرق كل قلب ومغربه شارق وطارق، فطارق القلب من هواجس النفس يطرق بظلمات المنى عند غلبات الهوى وغروب نجم الهدى، وشارق القلب من واردات الروح يشرق بأنوار الفتوح عند غلبات الشوق وطلوع قمر الشهود، فتكون القبلة واضحة والدلالات لائحة، فإذا تحلت شمس صفات الجلال خفيت نجوم صفات الجمال، وإذا استولى سلطان الحقيقة على ممالك الخليقة طويت بأيدي سطوات الجود سرادقات الوجود، فما بقيت الأرض ولا السماء ولا الظلمة ولا الضياء، إذ ليس عند الله صباح ولا مساء. وتلاشي العبدية في كعبة العندية، وتودوا بفناء الفناء من عالم البقاء، رفعت القبلة وما بقي إلا الله فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ يوسع قلب من يشاء من عباده ليسعه عَلِيمٌ بتوسيع القلب لسعته بلا كيف وحيف كما قال لا يسعني أرضي ولا سمائي وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن والله أعلم.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١١٩ الى ١٢٣]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣)

القراآت:
وَلا تُسْئَلُ على النهي: نافع ويعقوب. الباقون بضم التاء ورفع اللام على الخبر.
الوقوف:
وَنَذِيراً (لا) للعطف أي نذيرا وغير مسؤول إلا لمن قرأ وَلا تُسْئَلُ على النهي لاختلاف الجملتين الْجَحِيمِ (هـ) مِلَّتَهُمْ (ط) الْهُدى (ط) مِنَ الْعِلْمِ (لا) لأن نفي الولاية والنصرة يتعلق بشرط اتباع أهوائهم فكان في الإطلاق حظر نَصِيرٍ (هـ) تِلاوَتِهِ (ط) لأن ما بعدها مبتدأ آخر مع خبره. وعندي أن الأصوب عدم الوقف لتكون الجملة أعني يتلونه حالا من مفعول آتينا أو من فاعله مقدرة وقوله أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ الجملة خبر «الذين» لأن الإخبار عن أهل الكتاب مطلقا بأنهم يتلونه حق تلاوته لا يصح، اللهم إلا أن يحمل الكتاب على القرآن كما يجيء يُؤْمِنُونَ بِهِ (ط) للابتداء بالشرط الْخاسِرُونَ (هـ) الْعالَمِينَ (هـ) يُنْصَرُونَ (هـ).
التفسير:
لما بين غاية إصرارهم على العناد وتصميمهم على الكفر بعد نزول ما يكفي في باب الاقتداء والاهتداء من الآيات البينات، أراد أن يسلي ويسري عن رسوله لئلا يضيق صدره فقال إنا أرسلناك يا محمد بالحق. والصواب حسب ما تقتضيه الحكمة وهو أن لا يكون لك أن تجبرهم على الإيمان بل لا يتجاوز حالك عن أن تكون بشيرا لمن اتبعك بكل خبر ونذيرا لمن خالفك بكل سوء فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فاطر: ٨] فإنك غير مسؤول عن أصحاب الجحيم وهو من أسماء النار، وكل نار عظيمة في مهواة فهي جحيم من قوله تعالى قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ [الصافات: ٩٧] والجاحم المكان الشديد الحر، وهذا كقوله فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرعد: ٤٠] وأما قراءة النهي فيروى أنه قال: ليت شعري ما فعل أبواي فنهي عن السؤال عن أحوال الكفرة والاهتمام بأعداء الله. وفي هذه الرواية بعد، لأن سياق الكلام ينبو عن ذلك، ولأنه ﷺ مع

علمه الإجمالي بحال الكفار، كيف يتمنى ذلك؟ والأقرب أن معناه تعظيم ما وقع فيه الكفار من المحن كما إذا سألت عمن وقع في بلية فيقال لك لا تسأل عنه، فكان المسئول يحرج أن يجري على لسانه ما هو فيه لفظاعته، أو يرى أنك لا تقدر على استماع خبره لأنه يورث الوحشة والضجر. وقوله وَلَنْ تَرْضى فيه إقناط لرسول الله ﷺ عن إسلامهم وأن القوم قد بلغوا من التصميم على ما هم فيه إلى حد لا يقنعون بالكفاف ولا يرضون رأسا برأس، بل يريدون منك عكس ما تطمع منهم زاعمين أن ملتهم التي حان نسخها هي الهدى قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ الذي هو الإسلام هُوَ الْهُدى الحق ليس وراءه هدى لأنه ناسخ للأديان كلها وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مشتهياتهم وآراءهم الباطلة المنسوخة بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ بأمر الديانة لوضوح البراهين وسطوع الدلائل ما لَكَ مِنَ اللَّهِ من عقابه وسخطه مِنْ وَلِيٍّ معين يعصمك وَلا نَصِيرٍ يذب عنك. قال أهل البرهان إنما لم يقل في هذه الآية بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ كما قال في آية القبلة على ما يجيء، لأن العلم في الآية الأولى علم كامل ليس وراءه علم وهو العلم بالله وبصفاته وأن الهدى هدى الله، فكأن لفظ «الذي» أليق لأنه في التعريف أبلغ، فإن «الذي» يعرفه صلته ولا يتنكر قط، ويلزمه الألف واللام.
بخلاف ما فإنه نكرة ولا يدخله الألف واللام وخصت آية القبلة «بما» و «من» التي لابتداء الغاية، لأن المراد هناك قليل من كثير العلم وهو العلم بالقبلة وليس الأول موقتا بوقت أعني العلم بالله وبصفاته- فلم يحتج إلى زيادة من التوقيتية، وقريب من معنى القبلة ما في آل عمران مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ [آل عمران: ٦١] فلهذا جاء بلفظ «ما» وزاد لفظة «من» وأما في سورة الرعد فإنه وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ [الرعد: ٣٧] لأن العلم فيها هو الحكم العربي أي القرآن، فكأن بعضا من الأول وهو العلم بالله وبصفاته فجاء لفظ «ما» ولم يزد لفظ «من» التوقيتية لأنه غير موقت والله أعلم بأسرار كلامه. وفي الآية دليل على بطلان التقليد فيما إلى تحقيقه سبيل حتى لا يكون اتباع الهوى، وفيها أنه لا يجوز الوعيد إلا بعد نصب الأدلة على العلم بالمأمور به لقوله بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فلأن لا يجوز التوعد إلا بعد القدرة على المأمور به كان أولى، فبطل القول بتكليف ما لا يطاق. وفيها أن الذي علم الله منه أنه لا يفعل الشيء يجوز منه أن يتوعده على فعله ونظيره وقوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: ٦٥] وإنما يحسن هذا الوعيد لاحتمال أن الصارف له عن ذلك الفعل هو هذا الوعيد أو هو أحد صوارفه، ولأن فيه زجرا شديدا لأمته لأنهم إذا علموا مآل حال النبي ﷺ لو فرض منه اتباع أهوائهم مع ما ورد في حقه لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: ٢] ولم يبق لهم طمع في الخلاص لو وجد منهم