
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ﴾
قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى على معنى"إقامة الصلاة"، وأنها أداؤها بحدودها وفروضها، وعلى تأويل"الصلاة" وما أصلها، وعلى معنى"إيتاء الزكاة"، وأنه إعطاؤها بطيب نفس على ما فُرضت ووجبت، وعلى معنى"الزكاة" واختلاف المختلفين فيها، والشواهد الدالة على صحة القول الذي اخترنا في ذلك، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (١)
* * *
وأما قوله: (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله)، فإنه يعني جل ثناؤه بذلك: ومهما تعملوا من عمل صالح في أيام حياتكم، فتقدموه قبل وفاتكم ذخرا لأنفسكم في معادكم، تجدوا ثوابه عند ربكم يوم القيامة، فيجازيكم به.
* * *
و"الخير" هو العمل الذي يرضاه الله. وإنما قال: (تجدوه)، والمعنى: تجدوا ثوابه، كما:-
١٨٠١- حدثت عن عمار بن الحسن قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: (تجدوه) يعني: تجدوا ثوابه عند الله.
قال أبو جعفر: لاستغناء سامعي ذلك بدليل ظاهر على معنى المراد منه، كما قال عمر بن لجأ: (٢)
وسبحت المدينة لا تلمها | رأت قمرا بسوقهم نهارا (٣) |
(٢) في المطبوعة: "عمرو بن لجأ"، وهو خطأ.
(٣) سلف هذا البيت وتخريجه في ١: ٢٧٩.

وإنما أمرهم جل ثناؤه في هذا الموضع بما أمرهم به، من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وتقديم الخيرات لأنفسهم، ليَطَّهروا بذلك من الخطأ الذي سلف منهم في استنصاحهم اليهود، وركون من كان ركن منهم إليهم، وجفاء من كان جفا منهم في خطابه رسول الله ﷺ بقوله: (راعنا)، إذْ كانت إقامة الصلوات كفارة للذنوب، وإيتاء الزكاة تطهيرا للنفوس والأبدان من أدناس الآثام، وفي تقديم الخيرات إدراك الفوز برضوان الله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه للذين خاطبهم بهذه الآيات من المؤمنين، أنهم مهما فعلوا من خير وشر سرا وعلانية، فهو به بصير لا يخفى عليه منه شيء، فيجزيهم بالإحسان خيرا، وبالإساءة مثلها. (١)
وهذا الكلام وإن كان خرج مخرج الخبر، فإن فيه وعدا ووعيدا، وأمرا وزجرا. وذلك أنه أعلم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم، ليجدوا في طاعته، إذْ كان ذلك مذخورا لهم عنده حتى يثيبهم عليه، كما قال: (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله)، وليحذروا معصيته، إذْ كان مطلعا على راكبها، بعد تقدمه إليه فيها بالوعيد عليها، وما أوعد عليه ربنا جل ثناؤه فمنهي عنه، وما وعد عليه فمأمور به.
* * *
وأما قوله: (بصير)، فإنه"مبصر" صرف إلى"بصير"، كما صرف"مبدع" إلى"بديع"، و"مؤلم" إلى"أليم". (٢)
* * *
(٢) انظر ما سلف ١: ٢٨٣، وهذا الجزء ٢: ١٤٠، ٣٧٧.