آيات من القرآن الكريم

وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
ﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰ ﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ

موقف أهل الكتاب من المؤمنين وكيفية الردّ عليه
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٠٩ الى ١١٠]
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠)
الإعراب:
لَوْ مصدرية. كُفَّاراً إما مفعول ثان «ليردونكم» أو منصوب على الحال من الكاف والميم في «يردونكم». حَسَداً مفعول لأجله، أي لأجل الحسد. مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ إما متعلق «بودّ» أو «بحسد» والوجه الأول أوجه.
المفردات اللغوية:
الحسد تمني زوال نعمة الغير. فَاعْفُوا اتركوهم، والعفو: ترك العقاب على الذنب. وَاصْفَحُوا أعرضوا فلا تجاوزهم، والصفح: إزالة أثر الذنب من النفس أو الإعراض عن المذنب بصفحة الوجه، وهو يشمل ترك العقاب وترك اللوم والتثريب. حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ نصره ومعونته، وما يأمر فيهم من القتال والقتل، وهو قتل بني قريظة، وإجلاء يهود بني النضير وفرض الجزية عليهم. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فهو يقدر على الانتقام منهم.
سبب نزول الآية (١٠٩) :
قال ابن عباس: نزلت في نفر من اليهود قالوا للمسلمين بعد وقعة أحد: ألم تروا إلى ما أصابكم، ولو كنتم على الحق، ما هزمتم، فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم.

صفحة رقم 269

المناسبة العامة للآية (١٠٩) :
بعد أن نهى الله سبحانه في الآيات السالفة عن الاستماع لنصح اليهود ورفض آرائهم، ذكر هنا وجه العلّة، وهي أنهم يحسدون المسلمين على نعمة الإسلام ويتمنون أن يحرموا منها، فهم لا يكتفون بكفرهم بالنبي والكيد له ونقض العهود، وإنما يتمنون أن يرتد المسلمون عن دينهم.
التفسير والبيان:
تمنى كثير من اليهود والنصارى أن يصرفوا المسلمين عن دينهم وأن يعودوا كفارا بعد أن كانوا مؤمنين، حسدا لهم، عن طريق التشكيك في الدين وإلقاء الشبه على المؤمنين، وطلب بعضهم من بعض أن يؤمنوا أوّل النهار ويكفروا آخره، ليتأسى بهم بعض ضعاف الإيمان.
وسبب ذلك: الحسد الكامن والخبث الباطن في نفوسهم، لا ميلا مع الحق، ولا رغبة فيه. ومدعاة التمني: هو ما ظهر لهم بالدليل الواضح أن الإسلام دين الحق الصحيح، وأن محمدا على الحق، فاعفوا عنهم أيها المسلمون واصفحوا عن أفعالهم، واصبروا حتى يأتي نصر الله لكم، ويأذن الله بالقتال، ويأتي أمره فيهم:
وهو قتل بني قريظة، وإجلاء بني النضير وإذلالهم، والله هو القادر على تحقيق النصر: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج ٢٢/ ٤٠].
ثم نبّه الله سبحانه إلى بعض وسائل النصر الذي وعدوا به: وهو أداء الصلاة كاملة الأركان، تامة الأوصاف، وأداء الزكاة للفقراء، ففي الصلاة تتوطد دعائم الإيمان، وتتقوى الصلة بالله والثقة به، وتتوثق روابط الأخوة بالاجتماع في المساجد، وفي الزكاة تتحقق سعادة المجتمع بإغناء الفقراء، وتتجلى وحدة الأمة بتكافل أبنائها، وتعاضد فئاتها، وثواب كل ذلك مرصود لكم في الآخرة، فكل ما تعملونه من خير، تجدون جزاءه الكامل عند ربكم: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ

صفحة رقم 270

خَيْراً يَرَهُ
[الزلزلة ٩٩/ ٧] والله عالم بجميع أعمالكم، بصير بقليلها وكثيرها، لا تخفى عليه خافية، من خير أو شرّ، فالصلاة والزكاة من أسباب النصر في الدنيا، وكذلك من أسباب السعادة في الآخرة، بدليل قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
فقه الحياة أو الأحكام:
يحذر الله تعالى عباده المؤمنين من سلوك طريق الكفار من أهل الكتاب، ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر، وما هم مشتملون عليه من حسد المؤمنين، مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم، ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو، أو الاحتمال، حتى يأتي أمر الله من النصر والفتح.
ويأمرهم بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، ويحثهم على ذلك ويرغبهم فيه.
روى محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال: كان حييّ بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود للعرب حسدا، إذ خصّهم الله برسوله صلّى الله عليه وسلّم، وكانا جاهدين في ردّ الناس عن الإسلام ما استطاعا، فأنزل الله فيهما: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ، لَوْ يَرُدُّونَكُمْ.
والحسد نوعان: مذموم ومحمود، فالمذموم: أن تتمنى زوال نعمة الله عن أخيك المسلم، سواء تمنيت مع ذلك أن تعود إليك أو لا. وهذا النوع الذي ذمّه الله تعالى في كتابه بقوله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء ٤/ ٥٤] وإنما كان مذموما، لأن فيه تسفيه الحق سبحانه، وأنه أنعم على من لا يستحق.
وأما المحمود وهو المسمى بالغبطة أو المنافسة، فهو ما
جاء في صحيح الحديث من قوله عليه السّلام: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن، فهو

صفحة رقم 271

يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا، فهو ينفقه آناء الليل، وآناء النهار»
وحقيقته: أن تتمنى أن يكون لك ما لأخيك المسلم من الخير والنعمة، ولا يزول عنه خيره. وفي أمره تعالى لهم بالعفو والصفح إشارة إلى أن المؤمنين على قلّتهم، هم أصحاب القدرة والشوكة، لأن الصفح لا يكون إلا من القادر.
أخرج ابن أبي حاتم عن أسامة بن زيد- وأصله في الصحيحين-: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب، كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى
، قال الله تعالى: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة ٢/ ١٠٩]. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتأوّل من العفو ما أمره الله به، حتى أذن الله فيهم بالقتل، فقتل الله به من قتل من صناديد قريش.
وقد جرت سنة الله في القرآن أن يقرن الزكاة بالصلاة، لما في الصلاة من إصلاح حال الفرد، ولما في الزكاة من إصلاح حال المجتمع، وكلاهما من أسباب السعادة الدنيوية والأخروية، بدليل ما أردف الله تعالى الأمر بهما بقوله: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ
جاء في الحديث: «إن العبد إذا مات، قال الناس: ما خلف؟ وقالت الملائكة: ما قدّم؟».
ودلّ قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ على أنه مهما فعل الناس من خير أو شرّ، سرا وعلانية، فهو به بصير، لا يخفى عليه منه شيء، فيجزيهم بالإحسان خيرا، وبالإساءة مثلها. وهذا الكلام وإن خرج مخرج الخبر، فإن فيه وعدا ووعيدا، وأمرا وزجرا، وذلك أنه أعلم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم، ليجدّوا في طاعته، إذ كان ذلك مذخورا لهم عنده، حتى يثيبهم عليه، كما قال تعالى: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة ٢/ ١١٠].
وثبت في الحديث: «إذا مات الإنسان، انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة

صفحة رقم 272
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية