
(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) ود هنا معناها تمنى، فإنها تستعمل بمعنى أحب، وبمعنى تمنى، وحيث كانت لو وما بعدها موضع الطلب كانت بمعنى تمنى؛ فإن أمنية أهل الكتاب (وكذلك المشركون) أن يختفي هذا الدين، ولا يكون إلا الوثنية وخصوصا الوثنيين الذين بقوا على وثنيتهم من الأوس والخزرج لكيلا يكون محمد - ﷺ - وصحبه مسيطرين على المدينة.
ويلاحظ أمران:
أولهما - أن القرآن الكريم الذي أنزله العادل الحكيم لم يذكر أهل الكتاب جميعا، بل ذكر الكثير منهم فقال تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ منْ أَهْلِ الْكِتَابِ)؛ لأن بعضهم يرجى إيمانه ويسير في طريق الإيمان، ومن سار في طريق الإيمان لَا يرجو زواله، ومن يريد الهداية لَا يود زوالها.
الأمر الثاني - أنه ذكر أهل الكتاب دون غيرهم لأنهم كانوا أشد رغبة في تضليل المؤمنين، وكان الحق عندهم أشد بيانا، وأقوى برهانا؛ ولأن حسدهم أوضح، فكلما كانت الحجة أقطع، كان حسدهم أوضح وأبين وعداوتهم أشد، ولجاجتهم في الباطل.
ويقول سبحانه في موضع التمني وباعثه: (لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِمِ) تمنوا أن تعودوا إلى الكفر، بعد أن ذقتم بشاشة الإيمان، وعبر بقوله تعالى: (يرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا) للإشارة إلى أن ذلك رجعة بعد تقدم، وانتكاسة بعد استقامة.

وما كان الباعث على ذلك الحسد؛ وعبر عن حسدهم بأنه منبعث من نفوسهم، وذلك التعبير يشير إلى أمرين:
أولهما - أنه ليس له مبرر إلا من نفوسهم فلا وجه لأن يحسدوكم على ما آتاكم الله تعالى من فضله.
ثانيهما - تأكيد ما في نفوسهم من غل بقوله تعالى: (مِّنْ عِند أَنفُسِهِم...)، كما في قوله تعالى: (يَكْتُبُونَ الْكِتَاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمًّ يَقُولونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ...).
والحسد تمني زوال نعمة غيره، سواء أعادت النعمة إليه أم لم تعد. فالحاسد لا يريد الخير لغيره، وهو بهذا يملأ قلبه بالضغن والحقد من غير أن يعود إليه شيء؛ ولذلك قيل إن الحسد مرض نفسي، لَا يؤذي إلا صاحبه لأنه بمقدار ما ينال غيره من خير تتوالى آلامه، وخير الدنيا كثير فيزيد مرضه بمقدار ما يؤتى الناس من فضل، وقد يسمي بعض الناس حسدًا ما ينال الناس من غبطة كقول النبي - ﷺ -: " لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله تعالى القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار " (١).
واستعمال الحسد هنا من قبيل المجاز؛ لأن موضوع الغبطة والحسد، هو الخير بيد أن الحاسد يتمنى الزوال والغابط يتمنى الدوام والإتباع، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
وإن حسد اليهود كان باديا في كل معاملاتهم للنبي - ﷺ -، وفي أقوالهم وأفعالهم، وحسد بعض الذين بقوا على وثنيتهم كان باديا في نفاقهم وفي أفعالهم، وكانوا يجاهرون بالحسد قبل وقوعه إذ كانوا يجاهرون به، ولا يخفون كفرهم.
يروى أن النبي - ﷺ - كان راكبا دابة فمر بمجلس فيه مسلمون، ويهود ومشركون من عبدة الأوثان من بقايا الأوس والخزرج الذين لم يكونوا قد دخلوا في الإسلام
________
(١) متفق عليه: أخرجه البخاري بنحوه: كتاب التوحيد (٦٩٥٧)، ومسلم: صلاة المسافرين (١٣٥٠).

بعد، ولو نفاقا، فسلم رسول الله - ﷺ - ثم نزل عن دابته وأخذ يدعوهم إلى الإسلام، وقرأ عليهم القرآن فقال عبد الله بن أبي: إن كان حقا، فلا تؤذِنَا به في مجالسنا، ارجع إلى رحلك. فقال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله فاغش مجالسنا فإنا نحب ذلك، فاستَّب المشركون والمسلمون واليهود، فلم يزل رسول الله - ﷺ - يخفضهم حتى سكتوا، ثم ركب دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال رسول الله - ﷺ -: " ألم تسمع إلى ما قاله أبو حباب " يريد عبد الله بن أبي بن سلول فكنّاه تقريبًا لنفسه " قال كذا وكذا " فقال: أي رسول الله بأبي أنت وأمي! اعف عنه وأصفح، فوالذي أنزل عليك الكتاب بالحق لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوِّجوه ويعصِّبوه بالعصابة، فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاك شرق، فذلك فعل ما رأيت (١).
والحسد هنا واضح.
ولقد قال تعالى: (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّه بِأمْرِهِ)، والعفو معناه، ترك المؤاخذة على الذنب والرفق في المظهر، والمعاملة الحسنة، والصفح هو إزالة كل أثر في النفس، فالعفو يتعلق بالمظهر كقوله تعالى: (خذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْف وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ)، والصفح ألا يبقى في النفس أثر من الآلام التي أثارها الحسد والعمل على مقتضاه، وكلاهما أعلى درجة من الصبر المجرد؛ لأن الصبر معناه الضبط والتحمل مع ملاحظة ورجاء، والعفو يتضمن كالصفح معنى الصبر، مع تجمل المظهر وألا تكون آلام قط مما يصنعون.
وقد حد الله تعالى نهاية للعفو والصفح، وهو أن يأتي أمر الله قال تعالى: (حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأمْرِهِ) وإن ذلك يكون بأحد أمور ثلاثة: إما بالقصاص منهم، بإجلائهم أو قتالهم، وإما بنزع الحسد والحقد من قلوبهم وهدايتهم، وإما بالغلب عليهم وأن يكونوا في ظل المسلمين، ويعلنوا إسلامهم وقلوبهم ليست مؤمنة وإن الأمر بالصفح والعفو كان لإرضاء قلوبهم، وإخراج الحسد من نفوسهم فإنه لَا يدني القلوب إلا عفو رفيق وصفح جميل.
________
(١) هذه القصة مذكورة في البخاري تفسير القرآن (٤٢٠٠)، ومسلم: الجهاد والسير (٣٣٥٦).

ولقد ذيل الله سبحانه وتعالى الآية بإثبات قدرة الله تعالى فقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، فإذا أمر الله كان قادرا على نزع الأحقاد من القلوب، والقصاص من الظالمين، وكشف ضلال المنافقين؛ لأنه قادر على كل شيء وقد أكد قدرته سبحانه بالجملة الاسمية وإن المؤكدة، وعموم موضوع قدرته واختصاصه سبحانه وتعالى بالقدرة على كل شيء بتقديم الجار والمجرور على قدير. تعالت قدرته وعظمته وحكمته.
وإن العفو والصفح صفحا جميلا لَا منَّة فيه، يحتاج إلى رياضة نفسية وطهارة روحية وإلف اجتماعي، ولذلك قرن الله تعالى الأمر بالمعروف والصفح والأمر بالصلاة والزكاة وتقديم الخير رجاء من عند الله قال الله تعالى: