
لا يعبده ويشرك معه غيره «أَطَّلَعَ الْغَيْبَ» هذا الأحمق حتى يقول هذا الكلام ويقسم عليه «أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً» ٧٨ بأن يؤتيه ذلك «كَلَّا» لم بطلع على الغيب ولم يأخذ عهدا من الله، وإنما قال ذلك تكبرا وتجبرا وعتوا على الله القائل له ولأمثاله «سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ» من افتئاته علينا وتعاظمه «وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا» ٧٩ فنزيده عذابا فوق عذابه بسبب قوله هذا ونطيله عليه جزاء افترائه واجترائه حتى يظل معذبا دائما «وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ» بأن نهلكه ونجعل ماله وولده إرثا لغيره «وَيَأْتِينا يوم القيامة فَرْداً» ٨٠ لا مال له ولا ولد ولا قرابة ولا أصدقاء، راجع الآية ٤٨ من سورة الكهف والآية ٩٣ من سورة الأنعام في ج ٢. روى البخاري ومسلم عن خبّاب بن الأرت أن رجلا من الأزد قال كنت رجلا قينا في الجاهلية، وكان لي على العاص بن وائل السهمي دين، فأتيته أتقاضاه، وفي رواية فعلت للعاص بن وائل السهمي سيفا فجئته أتقاضاه، فقال لا أعطيك حتى تكفر بمحمد، قلت لا أكفر حتى يميتك الله تعالى ثم تبعث، قال وإني لميت ثم مبعوث؟ قلت بلى، قال دعني أموت وأبعث، فأوتى مالا وولدا فأقضيك، فأنزل الله فيه هذه الآية،
قال تعالى «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا» ٨١ في الدنيا يعتزون بها ويمتنعون من العذاب في الآخرة على زعمهم الباطل، قال تعالى «كَلَّا» لا تفيدهم عزا في الدنيا ولا منعة في الآخرة وهذا زجر لهم ورد لكلامهم الكاذب.
مطلب تبرأ المعبودين من العابدين وأصناف الحشر:
ذلك لأن هذه الأوثان التي اتخذوها لذلك فإنّهم «سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ» يوم القيامة وينكرونها ويتبرأون منهم «وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا» ٨٢ حين ينطقهم الله ويسألهم عن ذلك فيقولون: يا ربنا عذّب هؤلاء الذين عبدونا من دونك، وإنا نتبرأ إليك من عبادتهم، راجع الآية ١٧ من سورة الفرقان المارة والآية ٤٢ من سورة سبأ الآتية في ج ٢ إذ يقولون: (ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) بل كانوا يعبدون الجن، فيخيب ظنهم ويعود الأمر عليهم بالعكس، فيكون لهم الذل والهوان

والخزي والعار، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآيتين ١٦٧ و ١٦٨ من سورة البقرة في ج ٣، قال تعالى «أَلَمْ تَرَ» يا أكمل الرسل فتخبر وتعلم «أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا» ٨٣ أي سلطنا الشياطين على الكافرين لتهيجهم وتزعجهم وتغريهم على ارتكاب المعاصي تستفزهم لاقترافها حتى يتوغلوا فيها «فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ» يا حبيبي بإنزال العذاب، ودعهم تحيق بهم المهالك من كل مكان حتى يأتي الأجل المعين في أزلنا لهلاكهم، وهو حتما نازل بهم، ولكنهم لم يستكملوا ما قدر لهم بعد «إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا» ٨٤ سنين وشهورا وأياما وساعات ودقائق وثواني ولحظات، قال السماك: عند ما قرأت هذه الآية بحضرة المأمون العباسي قال: إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد وقيل في المعنى:
إن الحبيب من الأحباب مختلس | لا يمنع الموت بواب ولا حرس |
وكيف يفرح بالدنيا ولذتها | فتى يعدّ عليه اللفظ والنفس |
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
محشر الناس يوم القيامة على ثلاث طرائق راغبين وراهبين، واحد على بعير واثنان على بعير وثلاثة على بعير وأربعة على بعير وعشرة على بعير، وتحشر معهم النار تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث بانوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، تمسي معهم حيث أمسوا. وأخرج الترمذي أن رسول الله ﷺ قال: يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: صنفا مشاة وصنفا ركبانا وصنفا على وجوههم، صفحة رقم 177

قيل يا رسول الله كيف يمشون على وجوههم؟ قال الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم. راجع الآية ٣٤ من سورة الفرقان المارة، وللبحث صلة في الآية ٩٧ من سورة الإسراء الآتية.
مطلب الشفاعة ومحبة الله:
واعلم يا أكمل الرسل أن هؤلاء في ذلك اليوم العصيب «لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ» للعصاة لا هم ولا غيرهم «إِلَّا» لكن يملكها «مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً» ٨٧ بأن يشفع لمن يريده الله وهم المرتضون، قال تعالى (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) الآية ٣٧ من سورة الجن المارة، فهؤلاء يشفعون بإذن الله لمن قال لا إله إلا الله محمد رسول الله مخلصا ومات عليها. هذا، وقد أنكر المعتزلة جواز الشفاعة في دخول الجنة، مع أن الأخبار والأحاديث وظاهر الآيات تكذبهم، روي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الرجل من أمتي يشفع للفئام من الناس فيدخلون الجنة بشفاعته، وإن الرجل ليشفع للرجل وأهل بيته فيدخلون الجنة بشفاعته، (ومعنى الفئام الجماعة) والأحاديث في هذا الباب كثيرة وسنأتي عليها في الآية ٨٩ من سورة الإسراء إن شاء الله، وان ما عليه أهل السنة والجماعة هو أن شفاعة الأنبياء والأولياء حق واجب مفيدة، قال في بدء الأمالي:
ومرجو شفاعة أهل خير... لأصحاب الكبائر كالجبال
وقال في الشيبانية:
لكل نبي شافع ومشفع... وكل ولي في جماعته غدا
وجزاء منكرها حرمانها «وَقالُوا» هؤلاء الكفرة بعد قولهم بالإشراك وانكارهم البعث والنبوة «اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً» ٨٨ وذلك أنهم يقولون الملائكة بنات الله كما تقول اليهود عزيز والنصارى المسيح أبناء الله، تعالى الله عن ذلك راجع الآية ٣١ من سورة التوبة في ج ٣، «لَقَدْ جِئْتُمْ» أيها الكفرة المغترون المبهتون بمقالتكم هذه «شَيْئاً إِدًّا» ٨٩ منكرا عظيما وقولا ثقيلا، وفعلا شديدا، وعظمتنا إن قولكم هذا «تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ» لشناعته وفظاعته