ولعل ترتيب هبتهما على اعتزاله هاهنا لبيان كمال عظم النعم التي أعطاها الله تعالى إياه بمقابلة من اعتزلهم من الأهل والأقرباء فإنهما شجرتا الأنبياء ولهما أولاد وأحفاد أولو شأن خطير وذوو عدد كثير مع أنه سبحانه أراد أن يذكر إسماعيل عليه السّلام بفضله على الانفراد. وروي أنه عليه السّلام لما قصد الشام أتى أولا حران وتزوج سارة وولدت له إسحاق وولد لإسحاق يعقوب. والأول هو الأقرب الأظهر وَكُلًّا أي كل واحد من إسحاق ويعقوب أو منهما ومن إبراهيم عليه السّلام وهو مفعول أول لقوله تعالى جَعَلْنا نَبِيًّا قدم عليه للتخصيص لكن لا بالنسبة إلى من عداهم بل بالنسبة إلى بعضهم أي كل واحد منهم جَعَلْنا نَبِيًّا لا بعضهم دون بعض، ولا يظهر في هذا الترتيب على الوجه الثاني في كُلًّا كون إبراهيم عليه السّلام نبيا قبل الاعتزال وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا قال الحسن: النبوة.
ولعل ذكر ذلك بعد ذكر جعلهم أنبياء للإيذان بأن النبوة من باب الرحمة التي يختص بها من يشاء. وقال الكلبي: هي المال والولد وقيل هو الكتاب والأظهر أنها عامة لكل خير ديني ودنيوي أوتوه مما لم يؤت أحد من العالمين وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا تفتخر بهم الناس ويثنون عليهم استجابة لدعوته عليه السّلام بقوله وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء: ٨٤] وزيادة على ذلك. والمراد باللسان ما يوجد به من الكلام فهو مجاز بعلاقة السببية كاليد في العطية ولسان العرب لغتهم. ويطلق على الرسالة الرائع كما في قول أعشى باهلة:
إني أتتني لسان لا أسر بها ومنه قول الآخر ندمت على لسان كان مني وإضافته إلى الصدق ووصفه بالعلو للدلالة على أنهم أحقاء بما يثنون عليهم وأن محامدهم لا تخفى كأنها نار على علم على تباعد الأعصار وتبدل الدول وتغير الملل والنحل، وخص بعضهم لسان الصدق بما يتلى في التشهد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم والعموم أولى.
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى قيل قدم ذكره على إسماعيل عليهما السلام لئلا ينفصل عن ذكر يعقوب عليه السلام. وقيل: تعجيلا لاستجلاب أهل الكتاب بعد ما فيه استجلاب العرب. إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً موحدا أخلص عبادته عن الشرك والرياء أو أسلم وجهه لله عز وجل وأخلص عن سواه.
وقرأ الكوفيون وأبو رزين ويحيى وقتادة «مخلصا» بفتح اللام على أن الله تعالى أخلصه وَكانَ رَسُولًا مرسلا من جهة الله تعالى إلى الخلق بتبليغ ما شاء من الأحكام نَبِيًّا رفيع القدر على كثير من الرسل عليهم السلام أو على سائر الناس الذين أرسل إليهم فالنبي من النبوة بمعنى الرفعة. ويجوز أن يكون من النبأ وأصله نبيء أي المنبئ عن الله تعالى بالتوحيد والشرائع (١) ورجح الأول بأنه أبلغ قيل ولذلك
قال صلّى الله عليه وسلّم «لست بنبيء الله تعالى بالهمزة ولكن نبي الله تعالى»
لمن خاطبه بالهمز وأراد أن يغض منه. والذي ذكره الجوهري أن القائل أراد أنه عليه الصلاة والسّلام أخرجه قومه من نبأ فأجابه صلّى الله عليه وسلّم بما يدفع ذلك الاحتمال. ووجه الإتيان بالنبي بعد الرسول على الأول ظاهر. ووجه ذلك على الثاني موافقة الواقع بناء على أن المراد أرسله الله تعالى إلى الخلق فأنبأهم عنه سبحانه.
واختار بعضهم أن المراد من كلا اللفظين معنا هما اللغوي وأن ذكر النبي بعد الرسول لما أنه ليس كل مرسل نبيا لأنه قد يرسل بعطية أو مكتوب أو نحوهما وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ الطور جبل بين مصر ومدين والأيمن صفة لجانب لقوله تعالى في آية أخرى جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ بالنصب أي باديناه من ناحيته اليمنى من اليمين المقابل لليسار. والمراد به يمين موسى عليه السّلام أي الناحية التي تلي يمينه إذ الجبل نفسه لا ميمنة له ولا ميسرة. ويجوز أن يكون الأيمن من اليمن وهو البركة وهو صفة لجانب أيضا أي من جانبه الميمون المبارك.
وجوز على هذا أن يكون صفة للطور والأول أولى، والمراد من ندائه من ذلك ظهور كلامه تعالى من تلك الجهة، والظاهر أنه عليه السّلام إنما سمع الكلام اللفظي، وقال بعض: إن الذي سمعه كان بلا حرف ولا صوت وأنه عليه السّلام سمعه بجميع أعضائه من جميع الجهات وبذلك يتيقن أن المنادي هو الله تعالى، ومن هنا قيل: إن المراد ناديناه مقبلا من جانب الطور المبارك وهو طور ما وراء طور العقل، وفي الأخبار ما ينادي على خلافه وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا تقريب تشريف مثل حاله عليه السّلام بحال من قربه الملك لمناجاته واصطفاه لمصاحبته ورفع الوسائط بينه وبينه، ونَجِيًّا فعيل بمعنى مفاعل كجليس بمعنى مجالس ونديم بمعنى منادم من المناجاة المسارّة بالكلام ونصبه على الحالية من أحد ضميري موسى عليه السّلام في ناديناه وقربناه أي ناديناه أو قربناه حال كونه مناجيا، وقال غير واحد.
مرتفعا على أنه من النجو وهو الارتفاع.
فقد أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أن جبرائيل عليه السّلام أردفه حتى سمع صرير القلم والتوراة تكتب له
أي كتابة ثانية وإلا ففي الحديث الصحيح الوارد في شأن محاجة آدم وموسى عليهما السّلام أنها كتبت قبل خلق آدم عليه السّلام بأربعين سنة، وخبر رفعه عليه السّلام إلى السماء حتى سمع صرير القلم رواه غير واحد وصححه الحاكم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعلى ذلك لا يكون المعراج مطلقا مختصا بنبينا صلّى الله عليه وسلّم بل المعراج الأكمل، وقيل معنى نَجِيًّا ناجيا بصدقه، وروى ذلك عن قتادة ولا يخفى بعده.
وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أي من أجل رحمتنا له أَخاهُ أي معاضدة أخيه ومؤازرته إجابة لدعوته بقوله:
وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي [طه: ٢٩، ٣٠] لا نفسه عليه السّلام لأنه كان أكبر من موسى عليه السّلام سنا فوجوده سابق على وجوده وهو مفعول وَهَبْنا وقوله تعالى هارُونَ عطف بيان له، وقوله سبحانه نَبِيًّا حال منه، ويجوز أن تكون من للتبعيض قيل وحينئذ يكون أَخاهُ بدل بعض من كل أو كل من كل أو اشتمال من من، وتعقب بأنها إن كانت اسما مرادفة لبعض فهو خلاف الظاهر وإن كانت حرفا فإبدال الاسم من الحرف مما لم يوجد في كلامهم، وقيل: التقدير وهبنا له شيئا من رحمتنا فأخاه بدل من شيئا المقدر وأنت تعلم أن الظاهر هو كونه مفعولا وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ الظاهر أنه ابن إبراهيم عليهما السّلام كما ذهب إليه الجمهور وهو الحق، وفصل ذكره عن ذكر أبيه وأخيه عليهم السّلام لإبراز كمال الاعتناء بأمره بإيراده مستقلا، وقيل:
إنه إسماعيل بن حز قيل بعثه الله تعالى إلى قومه فسلخوا جلدة رأسه فخيره الله تعالى فيما شاء من عذابهم فاستعفاه ورضي بثوابه سبحانه وفوض أمرهم إليه عز وجل في العفو والعقوبة وروى ذلك الإمامية عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه
وغالب الظن أنه لا يصح عنه إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ تعليل لموجب الأمر، وإيراده عليه السّلام بهذا الوصف لكمال شهرته بذلك.
وقد جاء في بعض الأخبار أنه وعد رجلا أن يقيم له بمكان فغاب عنه حولا فلما جاءه قال له: ما برحت من مكانك فقال: لا والله ما كنت لأخلف موعدي،
وقيل:
غاب عنه اثني عشر يوما، وعن مقاتل ثلاثة أيام، وعن سهل بن سعد يوما وليلة والأول أشهر ورواه الإمامية أيضا عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه
وإذا كان هو الذبيح فناهيك في صدقه أنه وعد أباه الصبر على الذبح بقوله: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات: ١٠٢] فوفى.
وقال بعض الأذكياء طال بقاؤه: لا يبعد أن يكون ذلك إشارة إلى هذا الوعد والصدق فيه من أعظم ما يتصور.
وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا الكلام فيه كالكلام في السابق بيد أنهم قالوا هنا: إن فيه دلالة على أن الرسول لا يجب أن يكون صاحب شريعة مستقلة فإن أولاد إبراهيم عليهم السّلام كانوا على شريعته وقد اشتهر خلافه بل اشترط بعضهم فيه أن يكون صاحب كتاب أيضا والحق أنه ليس بلازم، وقيل: إن المراد بكونه صاحب شريعة أن يكون له شريعة بالنسبة إلى المبعوث إليهم وإسماعيل عليه السّلام كذلك لأنه بعث إلى جرهم بشريعة أبيه ولم يبعث إبراهيم عليه السّلام إليهم ولا يخفى ما فيه وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ اشتغالا بالأهم وهو أن يبدأ الرجل بعد تكميل نفسه بتكميل من هو أقرب الناس إليه قال الله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: ٢١٤] وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ [طه: ١٣٢] قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً [التحريم: ٦] أو قصدا إلى تكميل الكل بتكميلهم لأنهم قدوة يؤتسى بهم.
وقال الحسن: المراد بأهله أمته (١) لكون النبي بمنزلة الأب لأمته، ويؤيد ذلك أن في مصحف عبد الله وكان يأمر قومه والمراد بالصلاة والزكاة قيل معناهما المشهور، وقيل: المراد بالزكاة مطلق الصدقة، وحكي أنه عليه السّلام كان
يأمر أهله بالصلاة ليلا والصدقة نهارا، وقيل المراد بها تزكية النفس وتطهيرها وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا لاستقامة أقواله وأفعاله وهو اسم مفعول وأصله مرضوو فأعل بقلب واوه ياء لأنها طرف بعد واو ساكنة فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء وقلبت الضمة كسرة.
وقرأ ابن أبي عبلة «مرضوا» من غير إعلال، وعن العرب أنهم قالوا: أرض مسنية ومسنوة وهي التي تسقى بالسواني وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ هو نبي قبل نوح وبينهما على ما في المستدرك عن ابن عباس ألف سنة وهو أخنوخ (١) بن يرد بن مهلاييل بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم عليه السّلام، وعن وهب بن منبه أنه جد نوح عليه السّلام، والمشهور أنه جد أبيه فإنه ابن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو أول من نظر في النجوم والحساب وجعل الله تعالى ذلك من معجزاته على ما في البحر وأول من خط بالقلم وخاط الثياب ولبس المخط وكان خياطا وكانوا قبل يلبسون الجلود وأول مرسل بعد آدم، وقد أنزل الله تعالى عليه ثلاثين صحيفة وأول من اتخذ الموازين والمكاييل والأسلحة فقاتل بني قابيل،
وعن ابن مسعود أنه الياس بعث إلى قومه أن يقولوا لا إله إلا الله ويعملوا ما شاؤوا فأبوا وأهلكوا
والمعول عليه الأول وإن روي القول بأنه الياس ابن أبي حاتم بسند حسن عن ابن مسعود، وهذا اللفظ سرياني عند الأكثرين وليس مشتقا من الدرس لأن الاشتقاق من غير العربي مما لم يقل به أحد وكونه عربيا مشتقا من ذلك يرده منع صرفه، نعم لا يبعد أن يكون معناه في تلك اللغة قريبا من ذلك فلقب به لكثرة دراسته إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا هو كما تقدم.
وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا هو شرف النبوة والزلفى عند الله تعالى كما روي عن الحسن وإليه ذهب الجبائي وأبو مسلم، وعن أنس وأبي سعيد الخدري وكعب ومجاهد السماء الرابعة، وعن ابن عباس. والضحاك السماء السادسة وفي رواية أخرى عن الحسن الجنة لا شيء أعلا من الجنة، وعن النابغة الجعدي أنه لما أنشد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الشعر الذي آخره:
بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا | وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا |
وعن قتادة أنه عليه السّلام يعبد الله تعالى مع الملائكة عليهم السّلام في السماء السابعة ويرتع تارة في الجنة حيث شاء، وأكثر القائلين برفعه حسا قائلون بأنه حي حيث رفع، وعن مقاتل أنه ميت في السماء وهو قول شاذ. وسبب رفعه على ما
روي عن كعب وغيره أنه مر ذات يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس فقال: يا رب إني مشيت يوما في الشمس فأصابني منها ما أصابني فكيف بمن يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد اللهم خفف عنه من ثقلها وحرها فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس وحرها ما لا يعرف فقال: يا رب خلقتني لحمل الشمس فماذا الذي قضيت فيه قال: إن عبدي إدريس سألني أن أخفف عنك حملها وحرها فأجبته قال: يا رب فاجمع بيني وبينه واجعل بيني وبينه خلة فأذن له حتى أتى إدريس ثم إنه طلب منه رفعه إلى السماء فأذن الله تعالى له بذلك فرفعه
وأخرج ابن المنذر عن عمر مولى عفرة يرفع الحديث إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن إدريس كان نبيا تقيا زكيا وكان يقسم دهره على نصفين ثلاثة أيام يعلم الناس الخير وأربعة أيام يسيح في الأرض ويعبد الله تعالى مجتهدا وكان يصعد من عمله وحده
إلى السماء من الخير مثل ما يصعد من جميع أعمال بني آدم وأن ملك الموت أحبه في الله تعالى فأتاه حين خرج للسياحة فقال له: يا نبي الله إني أريد أن تأذن لي في صحبتك فقال له إدريس وهو لا يعرفه: إنك لن تقوى على صحبتي قال: بلى إني أرجو أن يقويني الله تعالى على ذلك فخرج معه يومه ذلك حتى إذا كان من آخر النهار مرا براعي غنم فقال ملك الموت: يا نبي الله إنا لا ندري حيث نمسي فلو أخذنا جفرة من هذه الغنم فأفطرنا عليها فقال له: لا تعد إلى مثل هذا أتدعوني إلى أخذ ما ليس لنا من حيث نمسي يأتينا الله تعالى برزق فلما أمسى أتاه الله تعالى بالرزق الذي كان يأتيه فقال لملك الموت تقدم فكل فقال: لا والذي أكرمك بالنبوة ما أشتهي فأكل وحده وقاما جميعا إلى الصلاة ففتر إدريس ونعس ولم يفتر الملك ولم ينعس فعجب منه وصغرت عنده عبادته مما رأى ثم أصبحا فساحا فلما كان آخر النهار مرا بحديقة عنب فقال له مثل ما قال أولا فلما أمسيا أتاه الله تعالى بالرزق فدعاه إلى الأكل فلم يأكل وقاما إلى الصلاة وكان من أمرهما ما كان أولا فقال له إدريس: لا والذي نفسي بيده ما أنت من بني آدم فقال: أجل لست منهم وذكر له أنه ملك الموت فقال: أمرت فيّ بأمر فقال: لو أمرت فيك بأمر ما ناظرتك ولكني أحبك في الله تعالى وصحبتك له فقال له: إنك معي هذه المدة لم تقبض روح أحد من الخلق قال: بل إني معك وإني أقبض نفس من أمرت بقبض نفسه في مشارق الأرض ومغاربها وما الدنيا كلها عندي إلا كمائدة بين يدي الرجل يتناول منها ما شاء فقال له: يا ملك الموت أسألك بالذي أحببتني له وفيه إلا قضيت لي حاجة أسالكها فقال: سلني يا نبي الله فقال:
أحب أن تذيقني الموت ثم ترد عليّ روحي فقال: ما أقدر إلا أن أستأذن فاستأذن ربه تعالى فأذن له فقبض روحه ثم ردها الله تعالى إليه فقال له ملك الموت: يا نبي الله كيف وجدت الموت؟ قال: أعظم مما كنت أحدث وأسمع ثم سأله رؤية النار فانطلق إلى أحد أبواب جهنم فنادى بعض خزنتها فلما علموا أنه ملك الموت ارتعدت فرائصهم وقالوا:
أمرت فينا بأمر فقال لو أمرت فيكم بأمر ما ناظرتكم ولكن نبي الله تعالى إدريس سألني أن تروه لمحة من النار ففتحوا له قدر ثقب المخيط فأصابه ما صعق منه فقال ملك الموت: أغلقوا فغلقوا وجعل يمسح وجه إدريس ويقول: يا نبي الله تعالى ما كنت أحب أن يكون هذا حظك من صحبتي فلما أفاق سأله كيف رأيت قال: أعظم مما كنت أحدث وأسمع ثم سأله أن يريه لمحة من الجنة ففعل نظير ما فعل قبل فلما فتحوا له أصابه من بردها وطيبها وريحانها ما أخذ بقلبه فقال: يا ملك الموت إني أحب أن أدخل الجنة فآكل أكلة من ثمارها وأشرب شربة من مائها فلعل ذلك أن يكون أشد لطلبتي ورغبتي فدخل وأكل وشرب فقال له ملك الموت: اخرج يا نبي الله تعالى قد أصبت حاجتك حتى يردك الله عز وجل مع الأنبياء عليهم السّلام يوم القيامة فاحتضن بساق شجرة من أشجارها وقال: ما أنا بخارج وإن شئت أن أخاصمك خاصمتك فأوحى الله تعالى إلى ملك الموت قاضه الخصومة فقال له: ما الذي تخاصمني به يا نبي الله تعالى فقال إدريس: قال الله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: ١٨٥، الأنبياء: ٣٥، العنكبوت: ٥٧] وقد ذقته وقال سبحانه وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم: ٧١] وقد وردتها وقال جل وعلا لأهل الجنة وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ [الحجر: ٤٨] فأخرج من شيء ساقه الله عز وجل إليّ فأوحى الله تعالى إلى ملك الموت خصمك عبدي إدريس وعزتي وجلالي إن في سابق علمي أن يكون كذلك فدعه فقد احتج عليك بحجة قوية» الحديث
والله تعالى أعلم بصحته وكذا بصحة ما قبله من خبر كعب، وهذا الرفع لاقتضائه علو الشأن ورفعة القدر كان فيه من المدح ما فيه وإلا فمجرد الرفع إلى مكان عال حسا ليس بشيء:
فالنار يعلوها الدخان وربما | يعلو الغبار عمائم الفرسان |
ورد مثله بل ما هو أظهر منه كقوله:
وكن في مكان إذا ما سقطت | تقوم ورجلك في عافيه. فتأمل |
وجوز أن يكون عطفا على قوله سبحانه مِنَ النَّبِيِّينَ. ومن للبيان وأورد عليه أن ظاهر العطف المغايرة فيحتاج إلى أن يقال: المراد ممن جمعنا له بين النبوة والهداية والاجتباء للكرامة وهو خلاف الظاهر، وقوله تعالى إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا استئناف مساق لبيان خشيتهم من الله تعالى واخباتهم له سبحانه مع ما لهم من علو الرتبة وسمو الطبقة في شرف النسب وكمال النفس والزلفى من الله عز سلطانه.
وقيل: خبر بعد خبر لاسم الإشارة، وقيل: إن الكلام انقطع عند قوله تعالى وَإِسْرائِيلَ، وقوله سبحانه وَمِمَّنْ هَدَيْنا خبر مبتدأ محذوف وهذه الجملة صفة لذلك المحذوف أي وممن هدينا واجتبينا قوم إذا تتلى عليهم إلخ، ونقل ذلك عن أبي مسلم،
وروى بعض الإمامية عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أنه قال: نحن عنينا بهؤلاء القوم
، ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر جدا وحال روايات الإمامية لا يخفى على أرباب التمييز، وظاهر صنيع بعض المحققين اختيار أن يكون الموصول صفة لاسم الإشارة على ما هو الشائع فيما بعد اسم الإشارة وهذه الجملة هي الخبر لأن ذلك أمدح لهم، ووجه ذلك ظاهر عند من يعرف حكم الأوصاف والأخبار، وسجدا جمع ساجد وكذا بكيّا جمع باك كشاهد وشهود وأصله بكوى اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء صفحة رقم 425
وأدغمت الياء في الياء وحركت الكاف بالكسر لمناسبة الياء وجمعه المقيس بكاة كرام ورماة إلا أنه لم يسمع على ما في البحر وهو مخالف لما في القاموس وغيره، وجوز بعضهم أن يكون مصدر بكى كجلوسا مصدر جلس وهو خلاف الظاهر، نعم ربما يقتضيه ما أخرجه ابن أبي الدنيا في البكاء وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قرأ سورة مريم فسجد ثم قال: هذا السجود فأين البكى، وزعم ابن عطية أن ذلك متعيين في قراءة عبد الله ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي «بكيا» بكسر أوله وليس كما زعم لأن ذلك اتباع، وظاهر أنه لا يعين المصدرية. ونصب الاسمين على الحالية من ضمير خَرُّوا أي ساجدين وباكين والأول حال مقدرة كما قال الزجاج، والظاهر أن المراد من السجود معناه الشرعي والمراد من الآيات ما تضمنته الكتب السماوية سواء كان مشتملا على ذكر السجود أم لا وسواء كان متضمنا لذكر العذاب المنزل بالكفار أم لا، ومن هنا استدل بالآية على استحباب السجود والبكاء عند تلاوة القرآن.
وقد أخرج ابن ماجة وإسحاق بن راهوية والبزار في مسنديهما من حديث سعيد بن أبي وقاص مرفوعا اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا
، وقيل: المراد من السجود سجود التلاوة حسبما تعبدنا به عند سماع بعض الآيات القرآنية فالمراد بآيات الرحمن آيات مخصوصة متضمة لذكر السجود، وقيل: المراد منه الصلاة وهو قول ساقط جدا، وقيل:
المراد منه الخشوع والخضوع، والمراد من الآيات ما تضمن العذاب المنزل بالكفار وهذا قريب من سابقه، ونقل الجلال السيوطي عن الرازي أنه استدل بالآية على وجوب سجود التلاوة وهو كما قال الكيا: بعيد، وذكروا أنه ينبغي أن يدعو الساجد في سجدته بما يليق بآيتها فها هنا يقول: اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم المهتدين الساجدين لك الباكين عند تلاوة آياتك، وفي آية الإسراء اللهم اجعلني من الباكين إليك الخاشعين لك، وفي آية تنزيل السجدة اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك ورحمتك وأعوذ بك من أن أكون من المستكبرين عن أمرك.
وقرأ عبد الله وأبو جعفر وشيبة وشبل بن عباد وأبو حيوة وعبد الله بن أحمد العجلي عن حمزة وقتيبة في رواية وورش في رواية النحاس وابن ذكوان في رواية التغلبي «يتلى» بالياء التحتية لأن التأنيث غير حقيقي ولوجود الفاصل فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أي جاء بعدهم عقب سوء فإن المشهور في الخلف ساكن اللام ذلك والمشهور في مفتوح اللام ضده، وقال أبو حاتم: الخلف بالسكون الأولاد الجمع والواحد فيه سواء وبالفتح البدل ولدا كان أو غيره، وقال النضر بن شميل: الخلف بالتحريك والإسكان القرن السوء أما الصالح فالتحريك لا غير، وقال ابن جرير: أكثر ما جاء في المدح بفتح اللام وفي الذم بتسكينها وقد يعكس، وعلى استعمال المفتوح في الذم جاء قول لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم | وبقيت في خلف كجلد الأجرب |
تأخيرها عن وقتها، وروى ذلك الإمامية عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه
، واختار الزجاج أن إضاعتها الاختلال بشروطها من الوقت وغيره، وقيل: إقامتها في غير جماعة، وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد ابن كعب القرظي أن إضاعتها تركها، وقيل: عدم اعتقاد وجوبها، وعلى هذا الآية في الكفار وعلى ما قبله لأقطع، واستظهر أنها عليه في قوم مسلمين بناء على أن الكفار غير مكلفين بالفروع إلا أن يقال: المراد أن من شأنهم ذلك فتدبر، وعلى ما قبلهما في قوم مسلمين قولا واحدا.
والمشهور عن ابن عباس ومقاتل أنها في اليهود، وعن السدي أنها فيهم وفي النصارى، واختير كونها في صفحة رقم 426
الكفرة مطلقا لما سيأتي إن شاء الله تعالى قريبا وعليه بني حسن موقع حكاية قول جبريل عليه السّلام الآتي، وكونها في قوم مسلمين من هذه الأمة مروي عن مجاهد وقتادة وعطاء وغيرهم قالوا: إنهم يأتون عند ذهاب الصالحين يتبادرون بالزنا ينزو بعضهم على بعض في الأزقة كالأنعام لا يستحيون من الناس ولا يخافون من الله تعالى وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ وانهمكوا في المعاصي المختلفة الأنواع، وفي البحر الشَّهَواتِ عام في كل مشتهى يشغل عن الصلاة وعن ذكر الله تعالى، وعد بعضهم من ذلك نكاح الأخت من الأب وهو على القول بأن الآية فيما يعم اليهود لأن من مذهبهم فيما قيل ذلك وليس بحق. والذي صح عنهم أنهم يجوزون نكاح بنت الأخ وبنت الأخت ونحو هما، وعن علي كرم الله تعالى وجهه من بنى المشيد وركب المنظور ولبس المشهور فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا
أخرج ابن جرير والطبراني وغيرهما من حديث أبي أمامة مرفوعا أنه نهر في أسفل جهنم يسيل فيه صديد أهل النار وفيه لو أن صخرة زنة عشر عشراوات قذف بها من شفير جهنم ما بلغت قعرها سبعين خريفا ثم تنتهي إلى غي وأثام
، ويعلم منه سر التعبير بسوف يلقون.
وأخرج جماعة من طرق عن ابن مسعود أنه قال: الغيّ نهر أو واد في جهنم من قيح بعيد القعر خبيث الطعم يقذف فيه الذين يتبعون الشهوات، وحكى الكرماني أنه آبار في جهنم يسيل إليها الصديد والقيح.
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن الغي السوء، ومن ذلك قول مرقش الأصغر:
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره | ومن يغو لا يعدم على الغي لائما |
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر ويعقوب «يدخّلون» بالبناء للمفعول من أدخل. وقرأ ابن غزوان عن طلحة «سيدخلون» بسين الاستقبال مبنيا للفاعل وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً أي لا ينقصون من جزاء أعمالهم شيئا أو لا ينقصون شيئا من النقص، وفيه تنبيه على أن فعلهم السابق لا يضرهم ولا ينقص أجورهم. واستدل المعتزلة بالآية على أن العمل شرط دخول الجنة. وأجيب بأن المراد يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بلا تسويف بقرينة المقابلة وذلك بتنزيل الزمان السابق على الدخول لحفظهم فيه عما ينال غيرهم منزلة العدم فيكون العمل شرطا لهذا الدخول لا للدخول مطلقا، وأيضا يجوز أن يكون شرطا لدخول جنة عدن لا مطلق الجنة، وقيل هو شرط لعدم نقص شيء من ثواب الأعمال وهو كما ترى، وقيل غير ذلك. واعترض بعضهم على القول بالشرطية بأنه يلزم أن لا يكون من تاب وآمن ولم يتمكن من العمل الصالح يدخل الجنة. وأجيب بأن ذلك من الصور النادرة والأحكام إنما تناط بالأعم الأغلب فتأمل.
جَنَّاتِ عَدْنٍ بدل من الجنة بدل البعض لاشتمالها عليها اشتمال الكل على الجزء بناء على ما قيل: إن «جنات عدن» علم لإحدى الجنات الثمان كعلمية بنات أوبر. وقيل: إن العلم هو جنة عدن إلا أنه أقيم الجزء الثاني صفحة رقم 427
بعد حذف الأول مقام المجموع كما في شهر رمضان ورمضان فكان الأصل جنات جنة عدن. والذي حسن هذه الإقامة أن المعتبر علميته في المنقول الإضافي هو الجزء الثاني حتى كأنه نقل وحده كما قرر في موضعه من كتب النحو المفصلة. وقي الكشف إذا كانت التسمية بالمضاف والمضاف إليه جعلوا المضاف إليه في نحوه مقدر العملية لأن المعهود في كلامهم في هذا الباب الإضافة إلى الأعلام والكنى فإذا أضافوا إلى غيرها أجروه مجراها كأبي تراب ألا ترى أنهم لا يجوزون إدخال اللام في ابن داية وأبي تراب ويوجبونه في نحو امرئ القيس وماء السماء كل ذلك نظرا إلى أنه لا يغير من حاله كالعلم إلى آخر ما فيه.
ويدل على ذلك أيضا منعه من الصرف في بنات أوبر وأبي قترة وابن داية إلى غير ذلك فجنات عدن على القولين معرفة أما على الأول فللعلمية، وأما على الثاني فللإضافة المذكورة وإن لم يكن عدن في الأصل علما ولا معرفة بل هو مصدر عدن بالمكان يعدن ويعدن أقام به. واعتبار كون عدن قبل التركيب علما لإحدى الجنات يستدعي أن تكون الإضافة في «جنة عدن» من إضافة الأعم مطلقا إلى الأخص بناء على أن المتبادر من الجنة المكان المعروف لا الأشجار ونحوها وهي لا تحسن مطلقا بل منها حسن كشجر الأراك ومدينة بغداد ومنها قبيح كإنسان زيد ولا فارق بينهما إلا الذوق وهو غير مضبوط.
وجوز أن يكون «عدن» علما للعدن بمعنى الإقامة كسحر علم للسحر وأمس للأمس وتعريف «جنات» عليه ظاهر أيضا، وإنما قالوا تصحيحا للبدلية لأنه لو لم يعتبر التعريف لزم إبدال النكرة من المعرفة وهو على رأي القائل لا يجوز إلا إذا كانت النكرة موصوفة وللوصفية بقوله تعالى الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ وجوز أبو حيان اعتبار جَنَّاتِ عَدْنٍ نكرة على معنى جنات إقامة واستقرار وقال: إن دعوى أن عدنا علم لمعنى العدن يحتاج إلى توقيف وسماع من العرب مع ما في ذلك مما يوهم اقتضاء البناء. وكذا دعوى العلمية الشخصية فيه. وعدم جواز إبدال النكرة من المعرفة إلا موصوفة شيء قاله البغداديون وهم محجوجون بالسماع. ومذهب البصريين جواز الإبدال وإن لم تكن النكرة موصوفة (١) وقال أبو علي: يجوز ذلك إذا كان في إبدال النكرة فائدة لا تستفاد من المبدل منه مع أنه لا تتعين البدلية لجواز النصب على المدح، وكذا لا يتعين كون الموصول صفة لجواز الإبدال اه بأدنى زيادة.
وتعقب إبدال الموصول بأنه في حكم المشتق. وقد نصوا على أن إبدال المشتق ضعيف. ولعل أبا حيان لا يسلم ذلك ثم إنه جوز كون جَنَّاتِ عَدْنٍ بدل كل. وكذا جوز كونه عطف بيان. وجملة «لا يظلمون» على وجهي البدلية. والعطف اعتراض أو حال. وقرأ الحسن وأبو حيوة وعيسى بن عمر والأعمش وأحمد بن موسى عن أبي عمرو جَنَّاتِ عَدْنٍ بالرفع، وخرجه أبو حيان على أنه خبر مبتدأ محذوف أي تلك جنات، وغيره على أنها مبتدأ والخبر الموصول. وقرأ الحسن بن حي وعلي بن صالح «جنة عدن» بالنصب والإفراد ورويت عن الأعمش وهي كذلك في مصحف عبد الله.
وقرأ اليماني والحسن في رواية وإسحاق الأزرق عن حمزة «جنة عدن» بالرفع والإفراد والعائد إلى الموصول محذوف أي وعدها الرحمن، والتعرض لعنوان الرحمة للإيذان بأن وعدها وإنجازه لكمال سعة رحمته سبحانه وتعالى، والباء في قوله عز وجل: بِالْغَيْبِ للملابسة وهي متعلقة بمضمر هو حال من العائد أو من عِبادَهُ أي وعدها إياهم ملتبسة أو ملتبسين بالغيب أي غائبة عنهم غير حاضرة أو غائبين عنها لا يرونها أو للسببية وهي متعلقة بوعد أي وعدها
إياهم بسبب تصديق الغيب والإيمان به، وقيل: هي صلة «عباده» على معنى الذين يعبدونه سبحانه بالغيب أي في السر وهو كما ترى إِنَّهُ أي الرحمن، وجوز كون الضمير للشان كانَ وَعْدُهُ أي موعوده سبحانه وهو الجنات كما روي عن ابن جريج أو موعوده كائنا ما كان فيدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا كما قيل، وجوز إبقاء الوعد على مصدريته وإطلاقه على ما ذكر للمبالغة.
والتعبير بكان للإيذان بتحقق الوقوع أي كان ذلك مَأْتِيًّا أي يأتيه من وعد له لا محالة، وقيل: مَأْتِيًّا مفعول بمعنى فاعل أي آتيا، وقيل: هو مفعول من أتى إليه إحسانا أي فعل به ما يعد إحسانا وجميلا والوعد على ظاهره.
ومعنى كونه مفعولا كونه منجزا لأن فعل الوعد بعد صدوره وإيجاده إنما هو تنجيزه أي إنه كان وعده عباده منجزا لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً فضول كلام لا طائل تحته بل هو جار مجرى اللغاء وهو صوت العصافير ونحوها من الطير.
والكلام كناية عن عدم صدور اللغو عن أهلها، وفيه تنبيه على أن اللغو مما ينبغي أن يجتنب عنه في هذه الدار ما أمكن، وعن مجاهد تفسير اللغو بالكلام المشتمل على السب، والمراد لا يتسابون والتعميم أولى إِلَّا سَلاماً استثناء منقطع، والسّلام إما بمعناه المعروف أي لكن يسمعون تسليم الملائكة عليهم السّلام عليهم أو تسليم بعضهم على بعض أو بمعنى الكلام السالم من العيب والنقص أي لكن يسمعون كلاما سالما من العيب والنقص، وجوز أن يكون متصلا وهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم كما في قوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم | بهن فلول من قراع الكتائب |
وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا وارد على عادة المتنعمين في هذه الدار، أخرج ابن المنذر عن يحيى بن كثير قال: كانت العرب في زمانها إنما لها أكلة واحدة فمن أصاب أكلتين سمي فلان الناعم فأنزل الله تعالى هذا يرغب عباده فيما عنده، وروي نحو ذلك عن الحسن، وقيل: المراد دوام رزقهم ودروره وإلا فليس في الجنة بكرة ولا عشي لكن جاء في بعض الآثار أن أهل الجنة يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب،
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول من طريق أبان عن الحسن. وأبي قلابة قالا: «جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله هل في الجنة من ليل؟ قال: وما هيجك على هذا؟ قال: سمعت الله تعالى يذكر في الكتاب وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا فقلت: الليل من البكرة والعشي فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ليس هناك ليل وإنما هو ضوء ونور يرد الغدو على الرواح والرواح على الغدو وتأتيهم طرف الهدايا من الله تعالى لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدنيا وتسلم عليهم الملائكة عليهم السّلام».
تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا استئناف جيء به لتعظيم شأن الجنة وتعيين أهلها فاسم الإشارة مبتدأ والْجَنَّةُ خبر له والموصول صفة (١) لها والجملة بعده صلته والعائد محذوف أي نورثها، وبذلك قرأ الأعمش وقرأ الحسن والأعرج وقتادة ورويس وحميد وابن أبي عبلة وأبو حيوة ومحبوب عن أبي عمرو «نورّث» بفتح
الواو وتشديد الراء والمراد نبقيها على من كان تقيا من ثرمة تقواه ونمتعه بها كما نبقي على الوراث مال مورثه ونمتعه به فالإيراث (١) مستعار للإبقاء، وإيثاره على سائر ما يدل على ذلك كالبيع والهبة لأنه أتم أنواع التمليك من حيث إنه لا يعقب بفسح ولا استرجاع ولا إبطال، وقيل: يورث المتقون من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار لو آمنوا.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن شوذب قال: ليس من أحد إلا وله في الجنة منزل وأزواج فإذا كان يوم القيامة ورث الله تعالى المؤمن كذا وكذا منزلا من منازل الكفار
وذلك قوله تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ الآية، ولا يخفى أن هذا إن صح فيه أثر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعلى العين والرأس وإلا فقد قيل عليه: إنه ضعيف لأنه يدل على أن بعض الجنة موروث والنظم الجليل يدل على أنها كلها كذلك ولأن الإيراث ينبىء عن ملك سابق لا على فرضه مع أنه لا داعي للفرض هنا لكن تعقب بأنه يكفي في الإيراث كونه الموروث كان موجودا لكن بشرط التقوى بناء على ما ذهب إليه بعضهم في قوله تعالى جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ حيث قال: المراد من العباد ما يعم المؤمن التقي وغيره ووعد غير المؤمن التقي مشروط بالإيمان والتقوى، نعم اختار الأكثرون أن المراد من العباد هناك المتقون والمراد منهم هنا الأعم، والمراد من التقى من آمن وعمل صالحا على ما قيل، ولا دلالة في الآية على أن غيره لا يدخل الجنة مطلقا، وأخرج ابن أبي حاتم عن داود بن أبي هند أنه الموحد فتذكر ولا تغفل.
وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ حكاية قول جبرائيل صلوات الله تعالى وسلامه عليه،
فقد روي أنه احتبس عنه صلّى الله عليه وسلّم أيّا ما حين سئل عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح فلم يدر عليه الصلاة والسّلام كيف يجيب حتى حزن واشتد عليه ذلك وقال المشركون: إن ربه ودعه وقلاه فلما نزل قال له عليه الصلاة والسّلام: يا جبريل احتبست عني حتى ساء ظني واشتقت إليك فقال: إني كنت أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست وأنزل الله تعالى هذه الآية وسورة الضحى
قاله غير واحد، فهو من عطف القصة على القصة على ما قاله الخفاجي. وفي الكشف وجه وقوع ذلك هذا الموقع أنه تعالى لما فرغ من أقاصيص الأنبياء عليهم السّلام تثبيتا له صلّى الله عليه وسلّم وذنب بما أحدث بعدهم الخلوف واستثنى الأخلاف وذكر جزاء الفريقين عقب بحكاية نزول جبريل عليه السّلام وما رماه المشركون به من توديع ربه سبحانه إياه زيادة في التسلية وأن الأمر ليس على ما زعم هؤلاء الخلوف وأدمج فيه مناسبته لحديث التقوى بما دل على أنهم مأمورون في حركة وسكون منقادون مفوضون لطفا له ولأمته صلّى الله عليه وسلّم ولهذا صرح بعده بقوله تعالى فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ وفيه إنك لا ينبغي أن تكترث بمقالة المخالفين إلى أن تلقى ربك سعيدا، وعطف عليه مقالة الكفار بيانا لتباين ما بين المقالتين وما عليه الملك المعصوم والإنسان الجاهل الظلوم فهو استطراد شبيه بالاعتراض حسن الموقع انتهى، ولا يأبى ما تقدم في سبب النزول ما
أخرجه أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وجماعة في سببه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لجبريل عليه الصلاة والسّلام: ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ فنزلت وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ
لجواز أن يكون صلّى الله عليه وسلّم قال ذلك في أثناء محاورته السابقة أيضا واقتصر في كل رواية على شيء مما وقع في المحاورة، وقيل: يجوز أن يكون النزول متكررا نعم ما ذكر في التوجيه إنما يحسن على بعض الروايات السابقة في المراد بالخلف الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات.
وقال بعضهم: إن التقدير هذا، وقال جبريل: وما نتنزل إلخ وبه يظهر حسن العطف ووجهه انتهى وتعقب بأنه لا
محصل له. وحكى النقاش عن قوم أن الآية متصلة بقول جبريل عليه السّلام أولا إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا
[مريم: ١٩] وهو قول نازل عن درجة القبول جدا، والتنزل النزول على مهل لأنه مطاوع نزل يقال نزلته فتنزل، وقد يطلق بمعنى النزول مطلقا كما يطلق نزل بمعنى أنزل، وعلى ذلك قوله:
فلست لإنسيّ ولكن لملأك | تنزل من جو السماء يصوب |
وقال صاحب الفنيان: ما بين أيدينا السماء وما خلفنا الأرض وما بين ذلك ما بين الأرض والسماء، وقيل: ما بين الأيدي الأرض وما خلف السماء وقيل: ما بين الأيدي المكان الذي ينتقلون إليه وما خلف المكان الذي ينتقلون منه وما بين ذلك المكان الذي هم فيه فالمئات من الأمكنة، واختار بعضهم تفسيرها بما يعم الزمان والمكان، والمراد أنه تعالى المالك لكل ذلك فلا ننتقل من مكان إلى مكان ولا ننزل في زمان دون زمان إلا بإذنه عز وجل.
وقال البغوي: المراد له علم ما بين أيدينا إلخ أي فلا نقدم على ما لم يكن موافق حكمته سبحانه وتعالى.
واختار بعضهم التعميم أي له سبحانه ذلك ملكا وعلما وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا أي تاركا أنبياءه عليهم السّلام ويدخل صلّى الله عليه وسلّم في ذلك دخولا أوليا أي ما كان عدم النزول إلا لعدم الأمر به ولم يكن عن ترك الله تعالى لك وتوديعه إياك كما زعمت الكفرة وإنما كان لحكمة بالغة، وقيل: النسيان على ظاهره يعني أنه سبحانه لإحاطة علمه وملكه لا يطرأ عليه الغفلة والنسيان حتى يغفل عنك وعن الإيحاء إليك وإنما كان تأخير الإيحاء لحكمة علمها جل شأنه، واختير الأول لأن هذا المعنى لا يجوز عليه سبحانه فلا حاجة إلى نفيه عنه عز وجل مع أن الأول هو الأوفق لسبب النزول.
ورجح الثاني بأنه أوفق بصيغة المبالغة فإنها باعتبار كثرة من فرض التعلق به وهي أتم على الثاني مع ما في ذلك من إبقاء اللفظ على حقيقته، وكثيرا ما جاء في القرآن نفي ما لا يجوز عليه سبحانه وتعالى وفيه نظر، نعم لا شبهة في أن المتبادر الثاني وأمر الأوفقية لسبب النزول سهل، وفي إعادة اسم الرب المعرب عن التبليغ إلى الكمال اللائق مضافا إلى ضميره عليه الصلاة والسّلام من تشريفه صلّى الله عليه وسلّم والإشعار بعلة الحكم ما لا يخفى، وقال أبو مسلم وابن بحر: أول الآية إلى وَما بَيْنَ ذلِكَ من كلام المتقين حين يدخلون الجنة والتنزل فيه من النزول في المكان، والمعنى وما نحل الجنة ونتخذها منازل إلا بأمر ربك تعالى ولطفه وهو سبحانه مالك الأمور كلها سالفها ومترقبها وحاضرها فما وجدنا وما نجده من لطفه وفضله، وقوله سبحانه وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا تقرير من جهته تعالى لقولهم أي وما كان سبحانه تاركا لثواب العالمين أو ما كان ناسيا لأعمالهم والثواب عليها حسبما وعد جل وعلا، وفيه أن حمل التنزل على ما ذكر صفحة رقم 431
خلاف الظاهر. وأيضا مقتضاه بأمر ربنا لأن خطاب النبي صلّى الله عليه وسلّم كما في الوجه الأول غير ظاهر إلا أن يكون حكاه الله تعالى على المعنى لأن ربهم وربه واحد ولو حكى على لفظهم لقيل ربنا، وإنما حكى كذلك ليجعل تمهيدا لما بعده، وكون ذلك خطاب جماعة المتقين لواحد منهم بعيد وكذا وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا إذ لم يقل ربهم. وأيضا لا يوافق ذلك سبب النزول بوجه، وكأن القائل إنما اختاره ليناسب الكلام ما قبله ويظهر عطفه عليه. وقد تحقق أنا في غنى عن ارتكابه لهذا الغرض.
وقوله تعالى رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما بيان لاستحالة النسيان عليه تعالى فإن من بيده ملكوت السموات والأرض وما بينهما كيف يتصور أن يحوم حول ساحة عظمته وجلاله الغفلة والنسيان أو ترك وقلاء من اختاره واصطفاه لتبليغ رسالته، ورَبُّ خبر مبتدأ محذوف أي هو رب السموات إلخ أو بدل من رَبِّكَ في قوله تعالى وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا والفاء في قوله سبحانه فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ لترتيب ما بعدها من موجب الأمرين على ما قبلها من كونه تعالى رب السموات والأرض وما بينهما، وقيل: من كونه تعالى غير تارك له عليه الصلاة والسّلام أو غير ناس لأعمال العاملين، والمعنى فحين عرفته تعالى بما ذكر من الربوبية الكاملة فاعبده إلخ فإن إيجاب معرفته سبحانه كذلك لعبادته مما لا ريب فيه أو حين عرفت أنه عز وجل لا ينساك أو لا ينسى أعمال العاملين فأقبل على عبادته واصطبر على مشاقها ولا تحزن بإبطاء الوحي وكلام الكفرة فإنه سبحانه يراقبك ويراعيك ويلطف بك في الدنيا والآخرة.
وجوز أبو البقاء أن يكون رَبُّ السَّماواتِ مبتدأ والخبر فَاعْبُدْهُ والفاء زائدة على رأي الأخفش وهو كما ترى.
وجوز الزمخشري أن يكون قوله تعالى: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا من تتمة كلام المتقين على تقدير أن يكون رَبُّ خبر مبتدأ محذوف ولم يجوز ذلك على تقدير الإبدال لأنه لا يظهر حينئذ ترتب قوله سبحانه فَاعْبُدْهُ إلخ عليه لأنه من كلام الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا بلا شك، وجعله جواب شرط محذوف على تقدير ولما عرفت أحوال أهل الجنة وأقوالهم فأقبل على العمل لا يلائم- كما في الكشف- فصاحة التنزيل للعدول عن السبب الظاهر إلى الخفي، وتعدية الاصطبار باللام مع أن المعروف تعديته بعلى كما في قوله تعالى: وَاصْطَبِرْ عليها لتضمنه معنى الثبات للعبادة فيما تورد عليه من الشدائد والمشاق كقولك للمبارز: اصطبر لقرنك أي اثبت له فيما يورد عليك من شداته، وفيه إشارة إلى ما يكابد من المجاهدة وأن المستقيم من ثبت لذلك ولم يتزلزل وشمة من معنى رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.
هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا أي مثلا كما جاء في رواية جماعة عن ابن عباس ومجاهد وابن جبير وقتادة وأصله الشريك في الاسم، وإطلاقه على ذلك لأن الشركة في الاسم تقتضي المماثلة، وقال ابن عطية: السمي على هذا بمعنى المسامي والمضاهي، وأبقاه بعضهم على الأصل، واستظهر أن يرادها هنا الشريك في اسم خاص قد عبر عنه تعالى بذلك وهو رب السماوات والأرض، وقيل: المراد هو الشريك في الاسم الجليل فإن المشركين مع غلوهم في المكابرة لم يسموا الصنم بالجلالة أصلا، وقيل: المراد هو الشريك فيما يختص به تعالى كالاسم الجليل والرحمن، ونقل ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا وقيل: هو الشريك في اسم الإله، والمراد بالتسمية التسمية على الحق وأما التسمية على الباطل فهي كلا تسمية، وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن ذلك فقال:
السمي الولد وأنشد له قول الشاعر:
أما السمى فأنت منه مكثر | والمال مال يغتدي ويروح |
وقرأ الأخوان وهشام وعلي بن نصر وهارون كلاهما عن أبي عمرو والحسن وال. عمش وعيسى وابن محيصن «هتعلم» بإدغام اللام في التاء وهو على ما قال أبو عبيدة لغة كالإظهار وأنشدوا لذلك قول مزاحم العقيلي:
فذر ذا ولكن هتعين متيما | على ضوء برق آخر الليل ناصب |
وقال غير واحد: يجوز أن تكون أل للجنس ويكون هناك مجاز في الطرف بأن يطلق جنس الإنسان ويراد بعض أفراده كما يطلق الكل على بعض أجزائه أو يكون هناك مجاز في الإسناد بأن يسند إلى الكل ما صدر عن البعض كما يقال: بنو فلان قتلوا قتيلا والقاتل واحد منهم، ومن ذلك قوله:
فسيف بني عبس وقد ضربوا | نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد |
وقال الخفاجي: الحق عدم اشتراط ذلك لصحته وإنما يشترط لحسنه نكتة يقتضيها مقام الكلام حتى يعد الفعل كأنه صدر عن الجميع فقد تكون الرضا وقد تكون المظاهرة وقد تكون عدم الغوث والمدد ولذا أوجب الشرع القسامة والدية وقد تكون غير ذلك، وكأن النكتة هنا أنه لما وقع بينهم إعلان قول لا ينبغي أن يقال مثله وإذا قيل لا ينبغي أن يترك قائله بدون منع أو قتل جعل ذلك بمنزلة الرضا حثا لهم على إنكاره قولا أو فعلا انتهى.
وقيل: لعل الحق أن الإسناد إلى الكل هنا للإشارة إلى قلة المؤمنين بالبعث على الوجه الذي أخبر به الصادق وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين فتأمل، وعبر بالمضارع إما استحضارا للصورة الماضية لنوع غرابة. وإما لإفادة الاستمرار التجددي فإن هذا القول لا يزال يتجدد حتى ينفخ في الصور، والهمزة للإنكار وإذا ظرف متعلق بفعل محذوف دل عليه أُخْرَجُ ولم يجوزوا تعلقه بالمذكور لأن ما بعد اللام لا يعمل فيما قبله، وعد ابن عطية توسط سوف مانعا من العمل أيضا، ورد عليه بقوله:
فلما رأته آمنا هان وجدها | وقالت أبونا هكذا سوف يفعل |
الكلام معطوف محذوف لقيام القرينة عليه أي إذا ما مت وصرت رميما لسوف إلخ.
واللام هنا لمجرد التوكيد، ولذا ساغ اقترانها بحرف الاستقبال، وهذا على القول بأنها إذا دخلت المضارع خلصته للحال، وأما على القول بأنها لا تخلصه فلا حاجة إلى دعوى تجريدها للتوكيد لكن الأول هو المشهور وما في إِذا ما للتوكيد أيضا. والمراد من الإخراج الإخراج من الأرض أو من حال الفناء والخروج على الأول حقيقة وعلى الثاني مجاز عن الانتقال من حال إلى أخرى، وإيلاء الظرف همزة الإنكار دون الإخراج لأن ذلك الإخراج ليس بمنكر مطلقا وإنما المنكر كونه وقت اجتماع الأمرين فقدم الظرف لأنه محل الإنكار، والأصل في المنكر أن يلي الهمزة، ويجوز أن يكون المراد إنكار وقت ذلك بعينه أي إنكار مجيء وقت فيه حياة بعد الموت يعني أن هذا الوقت لا يكون موجودا وهو أبلغ من إنكار الحياة بعد الموت لما أنه يفيد إنكاره بطريق برهاني، وبعضهم لم يقدر معطوفا واعتبر زمان الموت ممتد إلا أول زهوق الروح كما هو المتبادر وقيل: لا حاجة إلى جميع ذلك لأنهم إذا أحالوه في حالة الموت علم إحالته إذا كانوا رفاتا بالطريق الأولى، وأيا ما كان فلا إشكال في الآية.
وقرأ جماعة منهم ابن ذكوان بخلاف عنه إِذا بدون همزة الاستفهام وهي مقدرة معه لدلالة المعنى على ذلك، وقيل: لا تقدير والمراد الاخبار على سبيل الهزء والسخرية بمن يقول ذلك. وقرأ طلحة بن مصرف «سأخرج» بسين الاستقبال وبغير لام، وعلى ذلك تكون إذا متعلقة بالفعل المذكور على الصحيح، وفي رواية أخرى عنه «لسأخرج» بالسين واللام. وقرأ الحسن وأبو حيوة «أخرج» مبنيا للفاعل «أو لا يذكر الإنسان» من الذكر الذي يراد به التفكر، والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير والإشعار بأن الإنسانية من دواعي الفكر فيما جرى عليه من شؤون التكوين المانعة عن القول المذكور وهو السر في إسناده إلى الجنس أو إلى الفرد بذلك العنوان على ما قيل: والهمزة للإنكار التوبيخي وهي على أحد المذهبين المشهورين في مثل هذا التركيب داخلة على محذوف معطوف عليه ما بعد والتقدير هاهنا أيقول ذلك ولا يذكر أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ أي من قبل الحالة التي هو فيها وهي حالة بقائه، وقيل: أي من قبل بعثه وَلَمْ يَكُ شَيْئاً أي والحال أنه لم يكن حينئذ موجودا فحيث خلقناه وهو في تلك الحالة المنافية للخلق بالكلية مع كونه أبعد من الوقوع فلأن نبعثه باعادة ما عدم منه وقد كان متصفا بالوجود في وقت على ما اختاره بعض أهل السنة أو بجمع المواد المتفرقة وإيجاد مثل ما كان فيها من الإعراض على ما اختاره بعض آخر منهم أيضا أولى وأظهر فما له لا يذكره فيقع فيما يقع فيه من النكير، وقيل: إن العطف على يقول المذكور سابقا.
والهمزة لإنكار الجمع لدخولها على الواو المفيدة له، ولا يخل ذلك بصدارتها لأنها بالنسبة إلى جملتها فكأنه قيل، أيجمع بين القول المذكور وعدم الذكر: ومحصله أيقول ذلك ولا يذكر أنا خلقناه إلخ.
وقرأ غير واحد من السبعة «يذّكر» بفتح الذال والكاف وتشديد هما، وأصله يتذكر فأدغم التاء في الذال وبذلك قرأ أبي فَوَ رَبِّكَ أقسامه باسمه عزت أسماؤه مضافا إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم لتحقيق الأمر بالإشعار بعلته وتفخيم شأنه عليه الصلاة والسّلام ورفع منزلته لَنَحْشُرَنَّهُمْ أي لتجمعن القائلين ما تقدم بالسوق إلى المحشر بعد ما أخرجناهم أحياء، وفي القسم على ذلك دون البعث إثبات له على أبلغ وجه وآكده كأنه أمر واضح غني عن التصريح به بعد بيان إمكانه بما تقدم من الحجة البالغة وإنما المحتاج إلى البيان ما بعد ذلك من الأهوال، وكون الضمير للكفرة القائلين هو الظاهر نظرا إلى السياق وإليه ذهب ابن عطية. وجماعة. ولا ينافي ذلك إرادة الواحد من الإنسان كما لا يخفى.
واستظهر أبو حيان أنه للناس كلهم مؤمنهم وكافرهم وَالشَّياطِينَ معطوف على الضمير المنصوب أو مفعول معه. روي أن الكفرة يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين كانوا يغوونهم كل منهم مع شيطانه في سلسلة، ووجه
ذلك على تقدير عود الضمير للناس أنهم لما حشروا وفيهم الكفرة مقرونين بالشياطين فقد حشروا معهم جميعا على طرز ما قيل في نسبة القول إلى الجنس، وقيل: يحشر كل واحد من الناس مؤمنهم وكافرهم مع قرينه من الشياطين ولا يختص الكافر بذلك. وقد يستأنس له بما
في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه مرفوعا «ما منكم من أحد إلا وكل به قرينه من الجن قالوا: وإياك يا رسول الله قال: وإياي إلا أن الله تعالى أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير»
ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا باركين على الركب، وأصله جثوو بواوين فاستثقل اجتماعهما بعد ضمتين فكسرت الثاء للتخفيف فانقلبت الواو الأولى ياء لسكونها وانكسار ما قبلها فاجتمعت واو وياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء فأدغمت الياء في الياء وكسرت الجيم اتباعا لما بعدها.
وقرأ غير واحد من السبعة بضمها وهو جمع جاث في القراءتين، وجوز الراغب كونه مصدرا نظير ما قيل في بكى وقد مر، ولعل إحضار الكفرة بهذه الحال إهانة لهم أو لعجزهم عن القيام لما اعتراهم من الشدة.
وقال بعضهم: إن المحاسبة تكون حول جهنم فيجثون لمخاصمة بعضهم بعضا ثم يتبرأ بعضهم من بعض، وقال السدي: يجثون لضيق المكان بهم فالحال على القولين مقدرة بخلافه على ما تقدم. وقيل: إنها عليه مقدرة أيضا لأن المراد الجثي حول جهنم، ومن جعل الضمير للكفرة وغيرهم قال: إنه يحضر السعداء والأشقياء حول جهنم ليرى السعداء ما نجاهم الله تعالى منه فيزدادوا غبطة وسرورا وينال الأشقياء ما ادخروا لمعادهم ويزدادوا غيظا من رجوع السعداء عنهم إلى دار الثواب وشماتتهم بهم ويجثون كلهم ثم لما يدهمهم من هول المطلع أو لضيق المكان أو لأن ذلك من توابع التواقف للحساب والتقاول قبل الوصول إلى الثواب والعقاب، وقيل: إنهم يجثون على ركبهم إظهارا للذل في ذلك الموطن العظيم، ويدل على جثي جميع أهل الموقف ظاهر قوله تعالى: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً [الجاثية: ٢٨] لكن سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى ما هو ظاهر في عدم جثي الجميع من الأخبار والله تعالى أعلم، والحال قيل: مقدرة، وقيل: غير مقدرة إلا أنه أسند ما للبعض إلى الكل، وجعلها مقدرة بالنسبة إلى السعداء وغير مقدرة بالنسبة إلى الأشقياء لا يصح، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسر جِثِيًّا بجماعات على أنه جمع جثوة وهو المجموع من التراب والحجارة أي لنحضرنهم جماعات ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أي جماعة تشايعت وتعاونت على الباطل أو شاعت وتبعت الباطل على ما يقتضيه كون الآية في الكفرة أو جماعة شاعت دينا مطلقا على ما يقتضيه كونها في المؤمنين وغيرهم أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا أي نبوا عن الطاعة وعصيانا، وعن ابن عباس جراءة، وعن مجاهد كفرا، وقيل: افتراء بلغة تميم، والجمهور على التفسير الأول، وهو على سائر التفاسير مصدر وفيه القراءتان السابقتان في جثيا.
وزعم بعضهم أنه فيهما جمع جاث وهو خلاف الظاهر هنا، والنزع الإخراج كما في قوله تعالى: وَنَزَعَ يَدَهُ [الأعراف: ١٠٨، الشعراء: ٣٣] والمراد استمرار ذلك أي إنا نخرج ونفوز من كل جماعة من جماعات الكفر أعصاهم فأعصاهم إلى أن يحاط بهم فإذا اجتمعوا طرحناهم في النار على الترتيب نقدم أولاهم بالعذاب فأولاهم ولك قوله تعالى: ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا فالمراد بالذين هم أولى المنتزعون باعتبار الترتيب، وقد يراد بهم أولئك باعتبار المجموع فكأنه قيل: ثم لنحن أعلم بتصلية هؤلاء وهم أولى بالصلي من بين سائر الصالين ودركاتهم أسفل وعذابهم أشد ففي الكلام إقامة المظهر مقام المضمر، وفسر بعضهم النزع بالرمي من نزعت السهم عن القوس أي رميته فالمعنى لنرمين فيها الأعصى فالأعصى من كل طائفة من تلك الطوائف ثم لنحن أعلم بتصليتهم وحمل الآية على البدء بالأشد فالأشد مروي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.
وجوز أن يراد بأشدهم عتيا رؤساء الشيع وأئمتهم لتضاعف جرمهم بكونهم ضلالا مضلين قال الله تعالى:
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ.
وأخرج ذلك ابن أبي حاتم عن قتادة وعليه لا يجب الاستمرار والإحاطة. وأورد على القول بالعموم أن قوله تعالى أَشَدُّ عِتِيًّا يقتضي اشتراك الكل في العتي بل في أشديته وهو لا يناسب المؤمنين، وأجيب عنه بأن ذلك من نسبة ما للبعض إلى الكل والتفضيل على طائفة لا يقتضي مشاركة كل فرد فرد فإذا قلت: هو أشجع العرب لا يلزمه وجود الشجاعة في جميع أفرادهم، وعلى هذا يكون في الآية إيماء إلى التجاوز عن كثير حيث خص العذاب بالأشد معصية، وأَيُّهُمْ مفعول لَنَنْزِعَنَّ وهو اسم موصول بمعنى الذي مبني على الضم محله النصب وأَشَدُّ خبر مبتدأ محذوف أي هو أشد والجملة صلة والعائد المبتدأ وعَلَى الرَّحْمنِ متعلق بأشد وعِتِيًّا تمييز محول عن المبتدأ، ومن زعم أنه جمع جعله حالا، وجوز في الجار أن يكون للبيان فهو متعلق بمحذوف كما في سقيا لك، ويجوز تعلقه بعتيا، أما إن كان وصفا فبالاتفاق، وأما إذا كان مصدرا فعند القائل بجواز تقدم معمول المصدر لا سيما إذا كان ظرفا، وكذا الكلام في بِها من قوله هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا فإنه جوز أن يكون الجار للبيان وأن يكون متعلقا بأولى وأن يكون متعلقا بصليا، وقد قرىء بالضم والكسر، وجوز فيه المصدرية والوصية، وهو على الوصفية حال وعلى المصدرية تمييز على طرز ما قيل في عِتِيًّا إلا أنه جوز فيه أن يكون تمييزا عن النسبة بين أَوْلى والمجرور وقد أشير إلى ذلك فيما مر.
والصلي من صلى النار كرضي وبها قاسى حرها، وقال الراغب: يقال صلي بالنار وبكذا أي بلي به، وعن الكلبي أنه فسر الصلي بالدخول، وعن ابن جريج أنه فسره بالخلود، وليس كل من المعنيين بحقيقي له كما لا يخفى، ثم ما ذكر من بناء- أي- هنا هو مذهب سيبويه، وكان حقها أن تبنى في كل موضع كسائر الموصولات لشبهها الحرف بافتقارها لما بعدها من الصلة لكنها لما لزمت الإضافة إلى المفرد لفظا أو تقديرا وهي من خواص الأسماء بعد الشبه فرجعت إلى الأصل في الأسماء وهو الأعراب ولأنها إذا أضيفت إلى نكرة كانت بمعنى كل وإذا أضيفت إلى معرفة كانت بمعنى بعض فحملت في الإعراب على ما هي بمعناه وعادت هنا عنده إلى ما هو حق الموصول وهو البناء لأنه لما حذف صدر صلتها ازداد نقصها المعنوي وهو الإبهام والافتقار للصلة بنقص الصلة التي هي كجزئها فقويت مشابهتها للحرف، ولم يرتض كثير من العلماء ما ذهب إليه.
قال أبو عمرو الجرمي: خرجت من البصرة فلم أسمع منذ فارقت الخندق إلى مكة أحدا يقول: لأضربن أيهم قائم بالضم، وقال أبو جعفر: النحاس ما عملت أحدا من النحويين إلا وقد خطأ سيبويه في هذه المسألة.
وقال الزجاج: ما تبين أن سيبويه غلط في كتابه إلا في موضعين هذا أحدهما فإنه يقول بإعراب أي إذا أفردت عن الإضافة فكيف يبنيها إذا أضيفت. وقد تكلف شيخنا علاء الدين أعلى الله تعالى مقامه في عليين للذب عن سيبويه في ذلك بما لا يفي بمؤنة نقله، وقد ذكرنا بعضا منه في حواشينا على شرح القطر للمصنف.
نعم يؤيد ما ذهب إليه سيبويه من المفعولية قراءة طلحة بن مصرف ومعاذ بن مسلم الهراء أستاذ الفراء وزائدة عن الأعمش أيهم بالنصب لكنها ترد ما نقل عنه من تحتم البناء إذا أضيفت وحذف صدر صلتها، وينبغي إذا كان واقفا على هذه القراءة أن يقول بجواز الأمرين فيها حينئذ، وقال الخليل: مفعول (ننزعن) موصول محذوف وأي هنا استفهامية مبتدأ وأشد خبره والجملة محكية بقول وقع صلة للموصول المحذوف أي لننزعن الذين يقال فيهم: أيهم
أشد، وتعقب بأنه لا معنى لجعل «النزع» لمن يسأل عنه بهذا الاستفهام، وأجيب بأن ذلك مجاز عن تقارب أحوالهم وتشابهها في العتو حتى يستحق أن يسأل عنها أو المراد الذين يجاب بهم عن هذا السؤال، وحاصله لننزعن الأشد عتيا وهو مع تكلفه فيه حذف الموصول مع بعض الصلة وهو تكلف على تكلف ومثله لا ينقاس، نعم مثله في الحذف على ما قيل قول الشاعر:
ولقد أبيت من الفتاة بمنزل | فأبيت لا حرج ولا محروم |
ونقل بعضهم عن المبرد أن أَيُّهُمْ فاعل شِيعَةٍ لأن معناه يشيع، والتقدير لننزعن من كل فريق يشيع أيهم هو أشد، وأي على هذا على ما قال أبو البقاء. ونقل عن الرضي بمعنى الذي، وفي البحر قال المبرد: أيهم متعلق بشيعة فلذلك ارتفع، والمعنى أن الذين تشايعوا أيهم أشد كأنهم يتبادرون إلى هذا، ويلزمه أن يقدر مفعولا لننزعن محذوفا، وقدر أيضا في هذا المذهب من الذين تشايعوا أيهم أشد على معنى من الذين تعاونوا فنظروا أيهم أشد، قال النحاس:
وهذا قول حسن انتهى، وهو خلاف ما نقل أولا، ولعمري إن ما نسب إلى المبرد أولا وأخيرا أبرد من يخ، وقيل: إن الجملة استفهامية وقعت صفة لشيعة على معنى لننزعن من كل شيعة مقول فيهم أيهم أشد أي من كل شيعة متقاربي الأحوال، ومن مزيدة والنزع الرمي، وحكى أبو بكر بن شقير أن بعض الكوفيين يقول: في أيهم معنى الشرط تقول:
ضربت القوم أيهم غضب، والمعنى إن غضبوا أو لم يغضبوا قال أبو حيان: فعلى هذا يكون التقدير هنا إن اشتد عتوهم أو لم يشتد انتهى وهو كما ترى، والوجه الذي ينساق إليه الذهن ويساعده اللفظ والمعنى هو ما ذهب إليه سيبويه ومدار ما ذهب إليه في أي من الإعراب والبناء هو المساع في الحقيقة، وتعليلات النحويين على ما فيها إنما هي بعد الوقوع، وعدم سماع لا يقدح في سماعه فتدبر.
وَإِنْ مِنْكُمْ التفات إلى خطاب الإنسان سواء أريد منه العموم أو خصوص الكفرة لإظهار مزيد الاعتناء بمضمون الكلام. وقيل: هو خطاب للناس وابتداء كلام منه عز وجل بعد ما أتم الغرض من الأول فلا التفات أصلا. ولعله الأسبق إلى الذهن لكن قيل يؤيد الأول قراءة ابن عباس وعكرمة وجماعة وَإِنَّ مِنْهُمْ أي وما منكم أحد إِلَّا وارِدُها أي داخلها كما ذهب إلى ذلك جمع كثير من سلف المفسرين وأهل السنة، وعلى ذلك قوله تعالى إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ [الأنبياء: ٩٨]. وقوله تعالى: في فرعون يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [هود: ٩٨]. صفحة رقم 437
واحتج ابن عباس بما ذكر على ابن الأزرق حين أنكر عليه تفسير الورود بالدخول وهو جار على تقدير عموم الخطاب أيضا فيدخلها المؤمن إلا أنها تضره على ما قيل،
فقد أخرج أحمد، والحكيم الترمذي، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وجماعة عن أبي سمية قال: اختلفنا في الورود فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن. وقال آخر: يدخلونها جميعا ثم ينجي الله تعالى الذين اتقوا، فلقيت جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه فذكرت له فقال: وأهوى بإصبعه إلى أذنيه صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمن بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم عليه السّلام حتى إن للنار ضجيجا من بردهم ثم ينجي الله تعالى الذين اتقوا»
، وقد ذكر الإمام الرازي لهذا الدخول عدة فوائد في تفسيره فليراجع.
وأخرج عبد بن حميد وابن الأنباري والبيهقي عن الحسن الورود المرور عليها من غير دخول، وروي ذلك أيضا عن قتادة وذلك بالمرور على الصراط الموضوع على متنها على ما رواه جماعة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، ويمر المؤمن ولا يشعر بها بناء على ما أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والحكيم وغيرهم عن خالد بن معدان قال:
إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا: ربنا ألم تعدنا أن نرد النار قال: بلى ولكنكم مررتم عليها وهي خامدة، ولا ينافي هذا ما
أخرجه الترمذي والطبراني وغيرهما عن يعلى بن أمية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «تقول النار للمؤمن يوم القيامة جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي
لجواز أن لا يكون متذكرا هذا القول عند السؤال أو لم يكن سمعه لاشتغاله، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال في الآية: ورود المسلمين المرور على الجسر بين ظهريها ورود المشركين أن يدخلوها، ولا بد على هذا من ارتكاب عموم المجاز عند من لا يرى جواز استعمال اللفظ في معنيين، وعن مجاهد أن ورود المؤمن النار هو مس الحمى جسده في الدنيا لما صح من
قوله صلّى الله عليه وسلّم «الحمى من فيح جهنم»
ولا يخفى خفاء الاستدلال به على المطلوب.
واستدل بعضهم على ذلك بما
أخرجه ابن جرير عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعود رجلا من أصحابه وعكا وأنا معه فقال عليه الصلاة والسّلام: «إن الله تعالى يقول هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار في الآخرة وفيه خفاء أيضا»
والحق أنه لا دلالة فيه على عدم ورود المؤمن المحموم في الدنيا النار في الآخرة، وقصارى ما يدل عليه أنه يحفظ من ألم النار يوم القيامة، وأخرج عبد ابن حميد عن عبيد بن عمير أن الورود الحضور والقرب كما في قوله تعالى وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ [القصص: ٢٣] واختار بعضهم أن المراد حضورهم جاثين حواليها، واستدل عليه بما ستعلمه إن شاء الله تعالى، ولا منافاة بين هذه الآية وقوله تعالى: أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ [الأنبياء: ١٠١] لأن المراد مبعدون عن عذابها، وقيل: المراد إبعادهم عنها بعد أن يكونوا قريبا منها كانَ أي ورودهم إياها عَلى رَبِّكَ حَتْماً أمرا واجبا كما روي عن ابن عباس، والمراد بمنزلة الواجب في تحتم للوقوع إذ لا يجب على الله تعالى شيء عند أهل السنة مَقْضِيًّا قضى بوقوعه البتة.
وأخرج الخطيب عن عكرمة أن معنى كان حتما مقضيا كان قسما واجبا، وروي ذلك أيضا عن ابن مسعود والحسن وقتادة، قيل: والمراد منه إنشاء القسم، وقيل: قد يقال: إن عَلى رَبِّكَ المقصود منه اليمين كما تقول: لله تعالى على كذا إذ لا معنى له إلا تأكد اللزوم والقسم لا يذكر إلا لمثله، وعلى ورد في كلامهم كثيرا للقسم كقوله:
على إذا ما جئت ليلى أزورها | زيارة بيت الله رجلان حافيا |
أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن صفحة رقم 438
ماجة وغيرهم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار إلا تجلة القسم».
وقال أبو عبيدة. وابن عطية وتبعهما غير واحد: إن القسم في الخبر إشارة إلى القسم في المبتدأ أعني وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها، وصرح بعضهم أن الواو فيه للقسم، وتعقب ذلك أبو حيان بأنه لا يذهب نحوي إلى أن مثل هذه الواو واو قسم لأنه يلزم من ذلك حذف المجرور وإبقاء الجار وهو لا يجوز إلا أن وقع في شعر أو نادر كلام بشرط أن تقوم صفة المحذوف مقامه كما في قوله: والله ما ليلي ينام صاحبه.
وقال أيضا: نص النحويون على أنه لا يستغنى عن القسم بالجواب لدلالة المعنى إلا إذا كان الجواب باللام أو بأن وأين ذلك في الآية، وجعل ابن هشام تحلة القسم كناية عن القلة وقد شاع في ذلك، ومنه قول كعب:
تخذى على يسرات وهي لاحقة | ذوابل مسهن الأرض تحليل |
أخرجه أحمد والبخاري في تاريخه والطبراني وغيرهم عن معاذ بن أنس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من حرس من وراء المسلمين في سبيل الله تعالى متطوعا لا يأخذه سلطان لم ير النار بعينه إلا تحلة القسم فإن الله تعالى يقول: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها.
فإن التعليل صحيح مع إرادة القلة من ذلك أيضا فكأنه قيل: لم ير النار إلا قليلا لأن الله تعالى أخبر بورود كل أحد إياها ولا بد من وقوع ما أخبر به ولولا ذلك لجاز أن لا يراها أصلا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا بالإخراج منها على ما ذهب إليه الجمع الكثير وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا على ركبهم كما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد، وهذه الآية ظاهرة عندي في أن المراد بالورود الدخول وهو الأمر المشترك.
وقال بعضهم: إنها دليل على أن المراد بالورود الجثو حواليها وذلك لأن ننجي. وَنَذَرُ تفصيل للجنس فكأنه قيل ننجي هؤلاء ونترك هؤلاء على حالهم الذي أحضروا فيه جاثين، ولا بد على هذا من أن يكون التقدير في حواليها، وأنت تعلم أن الظاهر عدم التقدير والجثو لا يوجب ذلك، وخولف بين قوله تعالى: اتَّقَوْا وقوله سبحانه الظَّالِمِينَ ليؤذن بترجيح جانب الرحمة وأن التوحيد هو المنجي والإشراك هو المردي فكأنه قيل: ثم ننجي من وجد منه تقوى ما وهو الاحتراز من الشرك ونهلك من اتصف بالظلم أي بالشرك وثبت عليه، وفي إيقاع نَذَرُ مقابلا لننجي إشعار بتلك اللطيفة أيضا، وقال الراغب: يقال فلان يذر الشيء أي يقذفه لقلة اعتداده به. ومن ذلك قيل لقطعة اللحم التي لا يعتد بها وذر، وجيء بثم للإيذان بالتفاوت بين فعل الخلق هو وورودهم النار وفعل الحق سبحان وهو النجاة والدمار زمانا ورتبة قاله العلامة الطيبي طيب الله تعالى ثراه، والذي تقتضيه الآثار الواردة في عصاة المؤمنين أن يقال: إن التنجية المذكورة ليست دفعية بل تحصل أولا فأولا على حسب قوة التقوى وضعفها حتى يخرج من النار من في قلبه وزن ذرة من خير وذلك بعد العذاب حسب معصيته وما ظاهره من الأخبار كخبر جابر السابق إن المؤمن لا تضره النار مؤول بحمل المؤمن على المؤمن الكامل لكثرة الأخبار الدالة على أن بعض المؤمنين يعذبون.
ومن ذلك ما
أخرجه الترمذي عن جابر رضي الله تعالى عنه أيضا قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يعذب ناس من أهل صفحة رقم 439
التوحيد في النار حتى يكونوا حمما ثم تدركهم الرحمة فيخرجون فيطرحون على أبواب الجنة فيرش عليهم أهل الجنة الماء فينبتون كما ينبت الغثاء في حميل السيل»
ومن هنا حظر بعض العلماء أن يقال في الدعاء: اللهم اغفر لجميع أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم جميع ذنوبهم أو اللهم لا تعذب أحدا من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم هذا، وقال بعضهم: إن المراد من التنجية على تقدير أن الخطاب خاص بالكفرة أن يساق الذين اتقوا إلى الجنة بعد أن كانوا على شفير النار، وجيء بثم لبيان التفاوت بين ورود الكافرين النار وسوق المذكورين إلى الجنة وأن الأول للإهانة والآخر للكرامة، وأنت تعلم أن الذين يذهب بهم إلى الجنة من الذين اتقوا من غير دخول في النار أصلا ليسوا إلا الخواص. والمعتزلة خصوا الذين اتقوا بغير أصحاب الكبائر وأدخلوهم في الظالمين واستدلوا بالآية على خلودهم في النار وكانوا ظالمين.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وابن مسعود وأبي رضي الله تعالى عنهم والجحدري ومعاوية بن قرة ويعقوب «ثمّ» بفتح الثاء أي هناك وابن أبي ليلى «ثمّة» بالفتح مع هاء السكت وهو ظرف متعلق بما بعده وقرأ يحيى والأعمش. والكسائي وابن محيصن ويعقوب «ننجي» بتخفيف الجيم. وقرىء «ينجي» و «ينجّي» بالتشديد والتخفيف مع البناء للمفعول، وقرأت فرقة «نجّي» بنون واحدة مضمومة وجيم مشددة،
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه «ننحي» بحاء مهملة
، وهذه القراءة تؤيد بظاهرها تفسير الورود بالقرب والحضور وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ الآية إلى آخرها حكاية لما قالوا عند سماع الآيات الناعية عليهم فظاعة حالهم ووخامة مآلهم أي وإذا تتلى على المشركين آياتُنا التي من جملتها الآيات السابقة بَيِّناتٍ أي ظاهرات الإعجاز تحدي بها فلم يقدر على معارضتها أو مرتلات الألفاظ ملخصات المعنى مبينات المقاصد أما محكمات أو متشابهات قد تبعها البيان بالمحكمات أو تبيين الرسول صلّى الله عليه وسلّم قولا أو فعلا، والوجه كما في الكشاف أن يكون بَيِّناتٍ حالا مؤكدة لمضمون الجملة وإن لم يكن عقدها من اسمين لأن المعنى عليه.
وقرأ أبو حيوة والأعرج وابن محيصن «وإذا يتلى» بالياء التحتية لأن المرفوع مجازي التأنيث مع وجود الفاصل قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي قالوا. ووضع الموصول موضع الضمير للتنبيه على أنهم قالوا ما قالوا كافرين بما يتلى عليهم رادين له أو قال الذين مردوا منهم على الكفر وأصروا على العتو والعناد وهم النضر بن الحارث وأتباعه الفجرة فإن الآية نزلت فيهم. واللام في قوله تعالى لِلَّذِينَ آمَنُوا للتبليغ كما في قلت له كذا إذا خاطبته به، وقيل لام الأجل أي قالوا لأجلهم وفي حقهم، ورجح الأول بأن قولهم ليس في حق المؤمنين فقط كما ينطق به قوله تعالى أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أي المؤمنين والكافرين كأنهم قالوا: أينا خَيْرٌ نحن أو أنتم مَقاماً أي مكانا ومنزلا، وأصله موضع القيام ثم استعمل لمطلق المكان. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد والجعفي وأبو حاتم عن أبي عمرو «مقاما» بضم الميم وأصله موضع الإقامة، والمراد به أيضا المنزل والمكان فتتوافق القراءتان.
وجوز في البحر احتمال المفتوح والمضموم للمصدرية على أن الأصل مصدر قام يقوم، والثاني مصدر أقام يقيم، ورأيت في بعض المجموعات كلاما ينسب لأبي السعود عليه الرحمة في الفرق بين المقام بالفتح والمقام بالضم وقد سأله بعضهم عن ذلك بقوله:
يا وحيد الدهر يا شيخ الأنام | نبتغي فرق المقام والمقام |
إليه بإقامة غيره أو موضع قيامه الممتد، وأما إذا قصد ذلك فمقتضاه الثاني كما إذا قلت: أقيمت تاء القسم مقام الواو تنبيها على أنها خلف عن الباء التي هي الأصل من أحرف القسم.
ومقامات الكلمات كلها وإن كانت منوطة بوضع الواضع لكن مقامها المنوط بأصل الوضع لكونه مقاما أصليا لها قد نزل منزلة موضع قيامها بأنفسها وجعل مقامها المنوط بالاستعمال الطارئ جاريا مجرى المقام الاضطراري لذوات الاختيار، هذا إذا كان المقام ظرفا أما إذا كان مصدرا ميميا والفعل الناصب رباعي فحقه ضم الميم انتهى المراد منه.
وأنت تعلم أنه في هذا المقام ليس منصوبا على الظرفية ولا على المصدرية بل منصوب على التمييز وهو محول عن المبتدأ على ما قيل: أي أي الفريقين مقامه خير وَأَحْسَنُ نَدِيًّا أي مجلسا ومجتمعا، وفي البحر هو المجلس الذي يجتمع فيه لحادثة أو مشورة، وقيل: مجلس أهل الندى أي الكرم. وكذا النادي يروي أنهم كانوا يرجلون شعورهم ويدهنونها ويتطيبون ويلبسون مفاخر الملابس ثم يقولون ذلك لفقراء المؤمنين الذين لا يقدرون على ذلك إذا تليت عليهم الآيات، قال الإمام: ومرادهم من ذلك معارضة المؤمنين كأنهم قالوا: لو كنتم على الحق وكنا على الباطل كان حالكم في الدنيا أحسن وأطيب من حالنا لأن الحكيم لا يليق به أن يوقع أولياءه المخلصين في العذاب والذل وأعداءه المعرضين عن خدمته في العز والراحة لكن الكفار كانوا في النعمة والراحة والمؤمنين كانوا بعكس ذلك فعلم أن الحق ليس مع المؤمنين، وهذا مع ظهور أنه قياس عقيم ناشىء من رأى سقيم نقضه الله تعالى وأبطله بقوله سبحانه وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً.
وحاصله أن كثيرا ممن كان أعظم نعمة منكم في الدنيا كعاد. وثمود. وأضرابهم من الأمم العاتية قد أهلكهم الله تعالى فلو دل حصول نعمة الدنيا للإنسان على كونه مكرما عند الله تعالى وجب أن لا يهلك أحدا من المتنعمين في الدنيا، وفيه من التهديد والوعيد ما لا يخفى كأنه قيل فلينظر هؤلاء أيضا مثل ذلك، وكَمْ خبرية للتكثير مفعول أَهْلَكْنا، وقدمت لصدارتها، وقيل: استفهامية والأول هو الظاهر ومِنْ قَرْنٍ بيان لإبهامها. والقرن أهل كل عصر، وقد اختلف في مدته وهو من قرن الدابة سمي به لتقدمه، ومنه قرن الشمس لأول ما يطلع منها. و «هم أحسن» في حيز النصب على ما ذهب إليه الزمخشري وتبعه أبو البقاء صفة لكم ورده أبو حيان بأنه قد صرح الأصحاب بأن كم سواء كانت خبرية أو استفهامية لا توصف ولا يوصف بها، وجعله صفة قَرْنٍ وضمير الجمع لاشتمال القرن على أفراد كثيرة ولو أفرد الضمير لكان عربيا أيضا. ولا يرد عليه كما قال الخفاجي: كم من رجل قام وكم من قرية هلكت بناء على أن الجار والمجرور يتعين تعلقه بمحذوف هو صفة لكم كما ادعى بعضهم أن الرضي أشار إليه لأنه يجوز في الجار والمجرور أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف والجملة مفسرة لا محل لها من الإعراب فما ادعى غير مسلم عنده، وأَثاثاً تمييز وهو متاع البيت من الفرش والثياب وغيرها واحدها أثاثة، وقيل: لا واحد لها وقيل: الأثاث ماجد من المتاع والخرثي ما قدم وبلى، وأنشد الحسن بن علي الطوسي:
تقادم العهد من أم الوليد بنا | دهرا وصار أثاث البيت خرثيا |
وقرأ أبو بكر في رواية الأعمش «ريئا» بياء ساكنة بعدها همزة وهو على القلب ووزنه فلعا، وقرىء «رياء» بياء بعدها ألف صفحة رقم 441
بعدها همزة حكاها اليزيدي. ومعناها كما في الدر المصون مراءاة بعضهم بعضا.
وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «ريا» بحذف الهمزة والقصر فتجاسر بعض الناس وقال: هي لحن، وليس كذلك بل خرجت على وجهين أحدهما أن يكون الأصل «ريّا» بتشديد الياء فخفف بحذف إحدى الياءين وهي الثانية لأنها التي حصل بها الثقل ولأن الآخر محل التغيير وذلك كما حذفت في لا سيما. والثاني أن يكون الأصل «ريئا» بياء ساكنة بعدها همزة فنقلت حركة الهمزة إلى الياء ثم حذفت على القاعدة المعروفة.
وقرأ ابن عباس أيضا وابن جبير ويزيد البربري والأعصم المكي «زيّا» بالزاي وتشديد الياء وهو المحاسن المجموعة يقال: زواه زيا بالفتح أي جمعه، ويراد منه الأثاث أيضا كما ذكره المبرد في قول الثقفي:
أشاقتك الظعائن يوم بانوا | بذي الزي الجميل من الأثاث |
وقوله تعالى: إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ بدل من «ما» وتفصيل للموعود على طريقة منع الخلو، والمراد بالعذاب العذاب الدنيوي بغلبة المؤمنين واستيلائهم عليهم، والمراد بالساعة قيل: يوم القيامة وهو الظاهر.
وقيل: ما يشمل حين الموت ومعاينة العذاب ومن مات فقد قامت قيامته وذلك لتتصل الغاية بالمغيا فإن المد لا يتصل بيوم القيامة، وأجيب بأن أمر الفاصل سهل لأن أمور هذه الدنيا لزوالها وتقضيها لا تعد فاصلة كما قيل: ذلك في قوله تعالى: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً [نوح: ٢٥] وقوله تعالى: فَسَيَعْلَمُونَ جواب الشرط وهما في الحقيقة الغاية إن قلنا: إن المجموع هو الكلام أو مفهومه فقط إن قلنا: إنه هو الكلام والشرط قيد له، وحَتَّى عند ابن مالك جارة وهي لمجرد الغاية لا جارة ولا عاطفة عند الجمهور وهكذا هي كلما دخلت على إذا الشرطية وهي منصوبة بالشرط أو الجزاء على الخلاف المشهور، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب، والمراد حتى إذا عاينوا ما يوعدون من العذاب الدنيوي أو الأخروي فقط فسيعلمون حينئذ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً من الفريقين بأن يشاهدوا الأمر على عكس ما كانوا يقدرونه فيعلمون أنهم شر مكانا لا خير مقاما، وفي التعبير بالمكان هنا دون المقام المعبر به هناك مبالغة في صفحة رقم 442