
أنعم عليه، وآنسه برفقتهم، وعوّضه عن أبيه وقومه خيرا «وَوَهَبْنا لَهُمْ» ولولديه الكريمين «مِنْ رَحْمَتِنا» أموالا وأولاد «وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ» ثناء حسنا «عَلِيًّا» ٥٠ رفيعا مشهورا في جميع الأديان مستمرا إلى أبد الدوران، إذ ما من أمة إلا وتلهج بالثناء على ابراهيم وولده، فانظر عطاء الله إلى أوليائه كيف يكون بغير قدر ولا حساب، أللهم اجعلنا من أتباعهم.
ستأتي بقية قصته مع أبيه وقومه في الآية ٥١ فما بعدها من سورة الأنبياء في ج ٢
وَاذْكُرْ» يا سيد الرسل لقومك «فِي الْكِتابِ» أيضا قصة «مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً» أخلصه الله واصطفاه بعد أن استخلفه. هذا على فتح اللام، وعلى كسرها أخلص عبادته لله فلم يراء بها «وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا» ٥١ جمع له الوصفين الشريفين وكل رسول نبي ولا عكس «وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ» من ناحيته التي تلي يمين موسى إذ لا يمين للجبل ولا شمال بل يكون باعتبار من هو عليه «وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا» ٥٢ تقريب منزلة ومكانة حتى شرفناه بمناجاتنا وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا» ٥٣ إجابة لدعائه، وكان كبر منه سنا إذ ولد قبل أمر فرعون بذبح الأولاد من بني إسرائيل ليؤازره يعاضده في امر دعوته لقومه
مطلب في انجاز الوعد وبحث بالوعيد:
«وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ» مع أبيه بأن انقاد لذبحه ووعده أن يصبر على الذبح وبرّ بوعده تنفيذا لأمر الله الذي تبلغه على لسان أبيه- كما سيأتي في الآية ١٤٣ من سورة الصافات في ج ٢- قال مقاتل وعد الحسن رجلا أن يقيم مكانه حتى يرجع إليه، فأقام ثلاثة أيام حتى رجع إليه وقال الكلبي انتظره حولا. وسأل بعضهم الشعبي عن مثل هذا فقال إن وعده نهارا فكل النهار، وإن ليلا فكل الليل، وان لوقت ينتظره لوقت صلاة أخرى بعدها.
واعلم أن الخلف بالوعد مذموم وفي الوعيد ممدوح، وقد جاء في الحديث: من وعد لأحد على عمله ثوابا فهو منجز له، ومن أوعد على عمله عقابا فهو بالخيار،

والعرب لا تعد الخلف في الوعيد عيبا بل مكرمة وعطفا، وتعد الخلف بالوعد مذمة ونقصانا، قال قائلهم:
وإني وإن أوعدته أو وعدته | لمخلف ايعادي ومنجز موعدي |
إذا وعد السراء أنجز وعده | وإن أوعد الضراء فالعقل مانعه |
مطلب أول من اخترع المهن وقصة إدريس عليه السلام:
«وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ» أخنوخ بن يرد بن مهلاييل بن أنوش بن خيتان بن شيث بن آدم عليهم السلام، وبينه وبين نوح ألف سنة تقريبا، وسمي صفحة رقم 162

إدريسا لدراسة الصحف المنزلة على آدم فمن بعده، وهو أول مرسل بعده، وأول من خط بالقلم ولم تكن قبله كتابة، وقد أنزل عليه ثلاثون صحيفة، وهو أول من خاط اللباس وكان الناس من قبله يرتدون جلود الحيوانات ويخللونها عليهم، وأول من نظر في علم النجوم والحساب، قال ابن الأثير في تاريخه: إن إدريس (أخنوخ) كان خوّاء ينظر بالنجوم وأطلعه الله على كون طوفان يعم الأرض، فبنى الأهرامات في مصر ليتحصن فيها من يكون زمن هذا الطوفان، قالوا وكان بناؤها بتخلية الهواء من حجر فقط بلا كلس ولا طين ولا غيره، وهو أول من اتخذ الموازين والمكاييل والأسلحة، وأول من قاتل بني قابيل، لأن قابيل ابن آدم لما قتل أخاه هابيل خرج عن طاعة أبيه وانفرد بعصيانه وأخذ أخته وهاجر عنه، فنشأ أولاده على المعصية، فلما بعث الله إدريس وجعله خلفا لآدم غزاهم واسترقهم. فادريس عليه السلام أول مؤسس لهذه المهن المارّة، وأول من سن الجهاد واسترقاق المغلوبين، وستأتي قصة قابيل معه في الآية ٣٠ من سورة المائدة في ج ٣ إن شاء الله «إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا» ٥٦ تقدم تفسير مثله «وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا» ٥٧ بتشريفه بالنبوة والرسالة وتقريبه من الله برفعه إلى السماء الرابعة. روى أنس بن مالك بن صعصعة عن النبي ﷺ أنه رأى إدريس في السماء الرابعة ليلة المعراج- متفق عليه- واختلف في حياته وموته، واتفق الجمهور على أنه حي، وقالوا أربعة من الأنبياء أحياء اثنان في الأرض الخضر وإلياس، وثنان في السماء إدريس وعيسى اه- من بحر العلوم- على أن الخضر مختلف في نبوته، وأكثر العلماء على أنه ولي، ولهذا البحث صلة تأتي في الآية ١٦ من سورة الكهف في ج ٢ إن شاء الله تعالى. وخلاصة قصته عليه السلام أنه حببّ إلى الملائكة لكثرة عبادته، فقال لملك الموت أذقني الموت يهن علي ففعل بإذن الله، ثم أحياه الله، ثم قال لمالك خازن النار، أدخلني النار أزدد رهبة من الله، فأدخله فيها بإذن الله، ثم أخرجه منها، ثم قال إلى رضوان خازن الجنة أدخلني الجنة أزدد رغبة في عبادة الله، فأدخله فيها بإذن الله، ولما أراد أن يخرجه أبى فتلاحيا بينهما، فبعث الله
صفحة رقم 163
ملكا ليتحاكما إليه، فقال الملك بعد أن أخذ ادعاء المدعي رضوان ودفاع المدعى عليه إدريس لإدريس: لم لم تخرج بأمره بعد أن أدخلك بأمره وأنت تعترف بأنك استأذنته بالدخول وأنه أمرك بالخروج فلم تفعل؟ قال لأن الله قضى على كل نفس بالموت بقوله: (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) الآية ٣٦ من سورة الأنبياء في ج ٢ وقد متّ، وقضى على كل نفس بورود جهنم بقوله: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) الآية ٧٤ الآتية وقد وردتها، وقضى على كل من دخل الجنة أن لا يخرج منها بقوله: (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) الآية ٤٩ من سورة الحجر في ج ٢، ولذلك فإني لا أخرج. فأوحى الله إلى الملك بأمري دخل وبأمري لا يخرج. وجاء هذا في حديث طويل أخرجه ابن المنذر عن عمر مولى عفرة يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم بذلك، ولا يقال إن هذه الآيات المحتج بها نزلت على محمد ولم تكن في زمنه، لأن الله قادر على إلهامه إياها، لأنها مدونة في لوحه، وقد يجوز أنه أشار إليها في الصحف التي أنزلها عليه. هذا، وان الرفعة بالمكان كما جاء في هذه الآية لا تكون معنوية بل حسية، وظاهرها لا يحتاج إلى التأويل فيكون، والله أعلم، أن سيدنا إدريس حي خالد في جنة ربه، نسأل الله أن يدخلنا فيها ونراه إن شاء الله، وهذه الآية المدنية من هذه السورة المتأخر نزولها عنها. قال تعالى «أُولئِكَ» اشارة الى الأنبياء المذكورين في هذه السورة كلهم، وما في هذه الكلمة من معنى البعد يؤيد أن نزولها كان متأخرا إذ كان بعد بضع سنين، وفيها إشارة اخرى الى علو منزلة المشار إليهم ولارتفاع شأنهم عنده «الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ» أي إدريس ونوح ومن تقدمه من الأنبياء ومن حملهم في سفينته وذريتهم ومنهم ابراهيم لأنه
من ولد سام بن نوح «وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ» اسحق وإسماعيل ويعقوب المعني بقوله «وَإِسْرائِيلَ» ومن ذرية موسى وهرون وزكريا ويحيى وعيسى المار ذكرهم، عليهم جميعا صلوات الله وسلامه، لأنهم كما شرفوا بالنبوة شرفوا بالنسب الطاهر «وَ» هؤلاء المحترمون الأكارم «مِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا» من خلقنا إلى الإيمان بنا والدعوة لخلقنا لتوحيدنا

ورفض ما سوانا «إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ» المتضمنة الأمر لهم بالسجود لنا والخضوع لعظمتنا والخشوع لقدرتنا «خَرُّوا» سقطوا على وجوههم إلى الأرض «سُجَّداً» لإلهيّتنا وحدها «وَبُكِيًّا» ٥٨ خوفا منا وطمعا برحمتنا. وقيل في المعنى
ونبكي إن نأوا شوقا إليهم | ونبكي إن دنوا خوف الفراق |
وهذه السجدة من عظائم السجود أيضا، أخرج ابن ابي الدنيا في (البكاء) وابن جرير وابن ابي حاتم والبيهقي في (الشعب) عن عمر رضي الله عنه أنه قرأ سورة مريم فسجد ثم قال: هذا السجود فأين البكاء؟ وأخرج ابن ماجه واسحق بن راهويه والبزار في مسنديهما من حديث سعد بن ابي وقاص مرفوعا: اتلوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا. وقال العلماء: ينبغي للساجد أن يدعو في كل سجدة بما يناسبها، فهنا يقول اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم المهتدين الساجدين لك الباكين عند تلاوة آياتك، وفي آية الإسراء الآتية يقول اللهم اجعلني من الباكين إليك الخاشعين لك، وفي آية السجدة في ج ٢ اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك ورحمتك، وأعوذ بك من المتكبرين عن أمرك. وهكذا، راجع بحث السجود في آخر الأعراف المارة، وما ترشدك إليه، قال تعالى «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ» جاء بعدهم عقب سيء، وكلمة (خلف) لا توجد في القرآن إلا هنا وفي الآية ١٦٨ من سورة الأعراف المارة، وتقرأ بفتح اللام في غير هذا الموضع، ويكون معناها أتوا بأولاد سوء، وعلى القراءة بإسكانها كما هنا أتوا قوم سوء. قال النضر بن شميل الخلف بالتحريك والإسكان القرن السوء، أما الصالح فبالتحريك فقط. وقال ابن جرير بالمدح بفتح اللام وبالذّم بتسكينها على الأكثر، لذلك فالقراءة هنا بالتسكين لأن معناه الرّديء وعليه المثل (سكت ألفا ونطق خلفا) وبالفتح إذا قام مقام أهله، ومن هذا القبيل النصب بالفتح التعب، وبالسكون الشر، والشق بالفتح الصدع في عود أو زجاجة، وبالكسر نصف الشيء، والسّداد بالفتح الإصابة، وبالكسر كل شيء سددت به من قارورة وغيرها. ولهذا البحث صفحة رقم 165