آيات من القرآن الكريم

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا
ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍ ﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ

ينفعهم الإقبال عليها وهم في الدنيا صم عمي إذ لا ينفعهم النظر مع إعراضهم، ثم قال: لكنهم اليوم في الدنيا فِي ضَلالٍ وهو جهل المسلك، و «المبين» في نفسه وإن لم يبين لهم، وحكى الطبري عن أبي العالية أنه قال أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ، وهي بمعنى الأمر لمحمد عليه السلام أي أسمع الناس اليوم وأبصرهم بهم وبحديثهم ماذا يصنع بهم من العذاب إذا أتوا محشورين مغلوبين، وقوله وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ، الآية، الخطاب أيضا في هذه الآية لمحمد عليه السلام والضمير في أَنْذِرْهُمْ لجميع الناس، واختلف في يَوْمَ الْحَسْرَةِ فقال الجمهور هو يوم ذبح الموت، وفي هذا حديث صحيح، وقع في البخاري وغيره، أن الموت يجاء به في صورة كبش أملح، وفي بعض الطرق كأنه كبش أملح، وقال عبيد بن عمير كأنه دابة فيذبح على الصراط بين الجنة والنار وينادى: يا أهل الجنة خلود لا موت ويا أهل النار خلود لا موت، ويروى أن أهل النار يشرئبون خوفا على ما هم فيه. و «الأمر المقضي»، هو ذبح الكبش الذي هو مثال الموت وهذا عند حذاق العلماء، كما يقال: تدفن الغوائل وتجعل الترات تحت القدم، ونحو ذلك، وعند ذلك تصيب أهل النار حسرة لا حسرة مثلها، وقال ابن زيد وغيره يَوْمَ الْحَسْرَةِ هو يوم القيامة، وذلك أن أهل النار قد حصلوا من أول أمرهم في سخط الله وأمارته فهم في حال حسرة، و «الأمر المقضي» على هذا هو الحتم عليهم بالعذاب وظهور إنفاذ ذلك عليهم، وقال ابن مسعود يَوْمَ الْحَسْرَةِ حين يرى الكفار مقاعدهم التي فاتتهم في الجنة لو كانوا مؤمنين، ويحتمل أن يكون يَوْمَ الْحَسْرَةِ اسم جنس لأن هذه حسرات كثيرة في مواطن عدة، ومنها يوم الموت ومنها وقت أخذ الكتاب بالشمال وغير ذلك. وقوله وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ، يريد في الدنيا الآن وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ كذلك. وقوله نَرِثُ، تجوز وعبارة عن فناء المخلوقات وبقاء الخالق فكأنها وراثة، وقرأ عاصم ونافع وأبو عمرو والحسن والأعمش «يرجعون» بالياء، وقرأ الأعرج «ترجعون» بالتاء من فوق، وقرأ أبو عبد الرحمن وابن أبي إسحاق وعيسى «يرجعون» بالياء من تحت مفتوحة وكسر الجيم، وحكى عنهم أبو عمرو الداني «ترجعون» بالتاء.
قوله عز وجل:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٤١ الى ٤٦]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥)
قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦)
قوله: وَاذْكُرْ بمعنى واتل وشهر، لأن الله تعالى هو الذاكر، والْكِتابِ هو القرآن وهذا وشبهه من لسان الصدق الذي أبقاه الله عليهم، و «الصديق»، فعيل بناء مبالغة من الصدق، وقرأ أبو البرهسم «إنه كان صادقا»، والصدق عرفه في اللسان وهو مطرد في الأفعال والخلق، ألا ترى أنه يستعار لما لا يعقل فيقال صدقني الطعام كذا وكذا قفيزا، ويقال عود صدق للصلب الجيد، فكان إبراهيم عليه السلام يوصف

صفحة رقم 17

بالصدق على العموم في أفعاله وأقواله وذلك يغترق صدق اللسان الذي يضاد الكذب، وأبو بكر رضي الله عنه وصف ب «صدّيق» لكثرة ما صدق في تصديقه بالحقائق وصدق في مبادرته إلى الإيمان وما يقرب من الله تعالى، و «الصديق» مراتب ألا ترى أن المؤمنين صديقون لقوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ [الحديد: ١٩]. وقوله يا أَبَتِ
، اختلف النحاة في التاء من أَبَتِ
، فمذهب سيبويه أنها عوض من ياء الإضافة والوقوف عنده عليها بالهاء، ومذهب الفراء أن يوقف عليها بالتاء، لأن الياء التي للإضافة عنده منوية وجمهور القراء على كسر التاء، وفي مصحف ابن مسعود «وا أبت» بواو للنداء، وقرأ ابن عامر والأعرج وأبو جعفر. «يا أبت» بفتح التاء، ووجهها أنه أراد «يا أبتا» فحذف الألف وترك الفتحة دالة عليها، ووجه آخر أن تكون التاء المقحمة كالتي في قوله يا طلحة وفي هذا نظر وقد لحن هارون هذه القراءة، والذي لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ
، هو الصنم ولو سمع وأبصر كما هي حالة الملائكة وغيرهم ممن عبد لم يحسن عبادتها، لكن بين إبراهيم عليه السلام بنفي السمع والبصر شنعة الرأي في عبادتها وفساده.
وقوله قَدْ جاءَنِي يدل على أن هذه المقاولة هي بعد أن نبىء، و «الصراط السوي»، معناه الطريق المستقيم، وهو طريق الإيمان. وقوله يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ، مخاطبة بر واستعطاف على حالة كفره.
وقوله لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ يحتمل أن يكون أبوه ممن عبد الجن ويحتمل أن يجعل طاعة الشيطان المعنوي في عبادة الأوثان والكفر بالله عبادة له. و «العصي»، فعيل من عصى يعصي إذا خالف الأمر، وقوله أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ قال الطبري وغيره أَخافُ بمعنى أعلم.
قال القاضي أبو محمد: والظاهر عندي أنه خوف على بابه، وذلك أن إبراهيم عليه السلام لم يكن في وقت هذه المقاولة يائسا من إيمان أبيه، فكان يرجو ذلك وكان يخاف أن لا يؤمن ويتمادى على كفره إلى الموت فيمسه العذاب. و «الولي» الخالص المصاحب القريب بنسب أو مودة، قال آزر وهو تارخ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي، والرغبة ميل النفس، فقد تكون الرغبة في الشيء وقد تكون عنه، وقوله أَراغِبٌ رفع بالابتداء وأَنْتَ فاعل به يسد مسد الخبر وحسن ذلك وقربه اعتماد «راغب» على ألف الاستفهام، ويجوز أن يكون «راغب» خبرا مقدما وأَنْتَ ابتداء والأول أصوب وهو مذهب سيبويه. وقوله عَنْ آلِهَتِي، يريد الأصنام وكان فيما روي ينحتها وينجرها بيده ويبيعها ويحض عليها فقرر ابنه إبراهيم على رغبته عنها على جهة الإنكار عليه ثم أخذ يتوعده، وقوله لَأَرْجُمَنَّكَ اختلف فيه المتأولون، فقال السدي وابن جريج والضحاك: معناه بالقول، أي لأشتمنك وَاهْجُرْنِي أنت إذا شئت مدة من الدهر، أو سالما حسب الخلاف الذي سنذكره. وقال الحسن بن أبي الحسن: معناه لَأَرْجُمَنَّكَ بالحجارة، وقالت فرقة:
معناه لأقتلنك، وهذان القولان بمعنى واحد، وقوله وَاهْجُرْنِي على هذا التأويل إنما يترتب بأنه أمر على حياله كأنه قال: إن لم تنته لأقتلنك بالرجم، ثم قال له وَاهْجُرْنِي أي مع انتهائك كأنه جزم له الأمر بالهجرة وإلا فمع الرجم لا تترتب الهجرة ومَلِيًّا معناه دهرا طويلا مأخوذ من الملوين وهما الليل والنهار وهذا قول الجمهور والحسن ومجاهد وغيرهما فهو ظرف، وقال ابن عباس وغيره مَلِيًّا معناه سليما منا سويا فهو حال من إِبْراهِيمُ عليه السلام، وتلخيص هذا أن يكون بمعنى قوله مستبدا بحالك غنيا عني مليا بالاكتفاء.

صفحة رقم 18
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز
عرض الكتاب
المؤلف
أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن تمام بن عطية الأندلسي المحاربي
تحقيق
عبد السلام عبد الشافي محمد
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1422 - 2001
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية