
وَسَلَامٌ عَلَيَّ وَالسَّلَامُ لِكَوْنِهِ مِنَ اللَّهِ وَهَذَا مِنْ قَوْلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: سَلَامُ عِيسَى أَرْجَحُ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَقَامَهُ فِي ذَلِكَ مَقَامَ نَفْسِهِ فَسَلَّمَ نائبا عن الله.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٣٤ الى ٤٠]
ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠)
الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْمَوْلُودِ الَّذِي وَلَدَتْهُ مَرْيَمُ الْمُتَّصِفُ بِتِلْكَ الأوصاف الجميلة، وذلِكَ مبتدأ وعِيسَى خبره وابْنُ مَرْيَمَ صِفَةٌ لِعِيسَى أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ أَوْ بَدَلٌ، وَالْمَقْصُودُ ثُبُوتُ بُنُوَّتِهِ مِنْ مَرْيَمَ خَاصَّةً مِنْ غَيْرِ أَبٍ فَلَيْسَ بِابْنٍ لَهُ كَمَا يَزْعُمُ النَّصَارَى وَلَا لِغَيْرِ رِشْدَةٍ كَمَا يَزْعُمُ الْيَهُودُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْحَسَنُ وَيَعْقُوبُ قَوْلَ الْحَقِّ بِنَصْبِ اللَّامِ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ أَيْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ عِيسَى أَنَّهُ ابْنُ مَرْيَمَ ثَابِتٌ صِدْقٌ لَيْسَ مَنْسُوبًا لِغَيْرِهَا، أَيْ إِنَّهَا وَلَدَتْهُ مِنْ غَيْرِ مَسِّ بَشَرٍ كَمَا تَقُولُ هَذَا عَبْدُ الله الحق لَا الْبَاطِلَ، أَيْ أَقُولُ الْحَقِّ وَأَقُولُ قَوْلَ الْحَقِّ فَيَكُونُ الْحَقِّ هُنَا الصِّدْقُ وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ أَيِ الْقَوْلُ الْحَقِّ كَمَا قَالَ وَعْدَ الصِّدْقِ «١» أَيْ الْوَعْدُ الصِّدْقُ وَإِنْ عَنَى بِهِ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ الْقَوْلُ مُرَادًا بِهِ الْكَلِمَةُ كَمَا قَالُوا كَلِمَةُ اللَّهِ كَانَ انْتِصَابُهُ عَلَى الْمَدْحِ وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الَّذِي صِفَةً لِلْقَوْلِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَكُونُ الَّذِي صِفَةً لِلْحَقِّ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قَوْلَ بِرَفْعِ اللَّامِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْأَعْمَشُ قَالُ بِأَلِفٍ وَرَفْعِ اللَّامِ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ قَوْلَ بِضَمِّ الْقَافِ وَرَفْعِ اللَّامِ وَهِيَ مَصَادِرُ كَالرَّهَبِ وَالرَّهْبِ وَالرُّهْبِ وارتفاعه عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ أَيْ نِسْبَتُهُ إِلَى أُمِّهِ فَقَطْ قَوْلَ الْحَقِّ فَتَتَّفِقُ إِذْ ذَاكَ قِرَاءَةُ النَّصْبِ وَقِرَاءَةُ الرَّفْعِ فِي الْمَعْنَى.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَارْتِفَاعُهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ أَوْ بَدَلٌ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى الْمَجَازِ فِي قَوْلٍ وَهُوَ أَنْ يُرَادَ بِهِ كَلِمَةُ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَكُونُ الذَّاتَ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ فِي رِوَايَةٍ زَائِدَةٍ قَالَ: بِأَلِفٍ جَعَلَهُ فِعْلًا مَاضِيًا الْحَقِّ بِرَفْعِ الْقَافِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَالْمَعْنَى قَالَ الْحَقُّ وَهُوَ اللَّهُ ذلِكَ النَّاطِقُ الْمَوْصُوفُ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ هُوَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ والَّذِي عَلَى هَذَا خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هُوَ الَّذِي.
وَقَرَأَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَالسُّلَمِيُّ وَدَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ وَنَافِعٌ فِي رِوَايَةٍ وَالْكِسَائِيُّ فِي رِوَايَةٍ تَمْتَرُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ
وَالْجُمْهُورُ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، وَامْتَرَى افْتَعَلَ إِمَّا مِنَ الْمِرْيَةِ وَهِيَ الشَّكُّ، وَإِمَّا مِنَ الْمِرَاءِ وَهُوَ الْمُجَادَلَةُ وَالْمُلَاحَاةُ، وَكِلَاهُمَا مَقُولٌ هُنَا قَالَتِ الْيَهُودُ سَاحِرٌ كَذَّابٌ، وَقَالَتِ النَّصَارَى ابْنُ اللَّهِ وَثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَهُوَ اللَّهُ مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ هَذَا تَكْذِيبٌ لِلنَّصَارَى فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ، وَإِذَا اسْتَحَالَتِ الْبُنُوَّةُ فَاسْتِحَالَةُ الْإِلَهِيَّةِ مُسْتَقِلَّةٌ أَوْ بِالتَّثْلِيثِ أَبْلَغُ فِي الِاسْتِحَالَةِ، وَهَذَا التَّرْكِيبُ مَعْنَاهُ الِانْتِفَاءُ فَتَارَةً يَدُلُّ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى عَلَى الزَّجْرِ مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ «١» وَتَارَةً عَلَى التَّعْجِيزِ مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها «٢» وَتَارَةً عَلَى التَّنْزِيهِ كَهَذِهِ الْآيَةِ، وَلِذَلِكَ أَعْقَبَ هَذَا النَّفْيَ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ أَيْ تَنَزَّهَ عَنِ الْوَلَدِ إِذْ هُوَ مِمَّا لَا يُتَأَتَّى وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي الْمَعْقُولِ وَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْقُدْرَةُ لِاسْتِحَالَتِهِ، إِذْ هُوَ تَعَالَى مَتَى تَعَلَّقَتْ إِرَادَتُهُ بِإِيجَادِ شيء أو جده فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنِ التَّوَالُدِ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْجُمْلَةِ مِنْ قَوْلِهِ إِذا قَضى أَمْراً.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَإِنَّ اللَّهَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ بِالْكَسْرِ دُونَ وَاوٍ.
وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عَمْرٍو وَإِنَّ بِالْوَاوِ وَفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَخَرَّجَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ هَذَا قَوْلَ الْحَقِّ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي كَذَلِكَ. وَخَرَّجَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ وَلِأَنَّهُ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ كَقَوْلِهِ وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً «٣» انْتَهَى. وَهَذَا قَوْلُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ أَيْضًا، وَبِأَنَّ اللَّهَ بِالْوَاوِ وَبَاءِ الْجَرِّ أَيْ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَاعْبُدُوهُ. وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ في وَإِنَّ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ مَعْطُوفًا عَلَى وَالزَّكَاةِ، أَيْ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ «٤» وَبِأَنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ انْتَهَى. وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ لِلْفَصْلِ الْكَثِيرِ، وَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِمَعْنَى الْأَمْرِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ.
(٢) سورة النمل: ٢٧/ ٦٠.
(٣) سورة الجن: ٧٣/ ١٨.
(٤) سورة مريم: ١٩/ ٣١.

وَحَكَى أَبُو عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى، وَقَضَى إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ أَمْراً مِنْ قَوْلِهِ إِذا قَضى أَمْراً وَالْمَعْنَى إِذا قَضى أَمْراً وَقَضَى إِنَّ اللَّهَ انْتَهَى. وَهَذَا تَخْبِيطٌ فِي الْإِعْرَابِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى أَمْراً كَانَ فِي حَيِّزِ الشَّرْطِ، وَكَوْنُهُ تَعَالَى رَبَّنَا لَا يَتَقَيَّدُ بِالشَّرْطِ وَهَذَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ فَإِنَّهُ مِنَ الْجَلَالَةِ فِي عِلْمِ النَّحْوِ بِالْمَكَانِ الَّذِي قَلَّ أَنْ يُوَازِنَهُ أَحَدٌ مَعَ كَوْنِهِ عَرَبِيًّا، وَلَعَلَّ ذَلِكَ مِنْ فَهْمِ أَبِي عُبَيْدَةَ فَإِنَّهُ يُضَعَّفُ فِي النَّحْوِ وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِ وَرَبُّكُمْ قِيلَ لِمُعَاصِرِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ لَهُمْ ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ هَذَا الْكَلَامَ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلَّذِينِ خَاطَبَهُمْ عِيسَى بِقَوْلِهِ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ «١» الْآيَةَ وَإِنَّ اللَّهَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْكِتَابِ، وَقَدْ قَالَ وَهْبٌ عَهَدَ عِيسَى إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ وَمَنْ كَسَرَ الْهَمْزَةَ عَطَفَ عَلَى قَوْلِهِ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ فَيَكُونُ مَحْكِيًّا.
يُقَالُ: وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ قَوْلِهِ ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ- إِلَى- وَإِنَّ اللَّهَ حمل اعْتِرَاضٍ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا رَسُولَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ هَذَا أَيِ الْقَوْلُ بِالتَّوْحِيدِ وَنَفْيِ الْوَلَدِ وَالصَّاحِبَةِ، هُوَ الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي يُفْضِي بِقَائِلِهِ وَمُعْتَقِدِهِ إِلَى النَّجَاةِ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ لِلرَّسُولِ بِتَفَرُّقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِرَقًا، وَمَعْنَى مِنْ بَيْنِهِمْ أَنَّ الِاخْتِلَافَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْهُمْ بَلْ كَانُوا هُمُ الْمُخْتَلِفِينَ لَمْ يَقَعِ الِاخْتِلَافُ سَبَبُهُ غَيْرُهُمْ. والْأَحْزابُ قَالَ الْكَلْبِيُّ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَقَالَ الْحَسَنُ: الَّذِينَ تَحَزَّبُوا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ لَمَّا قَصَّ عَلَيْهِمْ قِصَّةَ عِيسَى اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ انْتَهَى. فَالضَّمِيرُ فِي بَيْنِهِمْ عَلَى هَذَا لَيْسَ عَائِدًا عَلَى الْأَحْزابُ.
وَقِيلَ: الْأَحْزابُ هُنَا الْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَقِيلَ: هُمُ النَّصَارَى فَقَطْ.
وَعَنْ قَتَادَةَ إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ جَمَعُوا أَرْبَعَةً مِنْ أَحْبَارِهِمْ. فَقَالَ أَحَدُهُمْ: عِيسَى هُوَ اللَّهُ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ وَأَحْيَا مَنْ أَحْيَا وَأَمَاتَ مَنْ أَمَاتَ، فَكَذَّبَهُ الثَّلَاثَةُ وَاتَّبَعَتْهُ الْيَعْقُوبِيَّةُ. ثُمَّ قَالَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ: عِيسَى ابْنُ اللَّهِ فَكَذَّبَهُ الِاثْنَانِ وَاتَّبَعَتْهُ النُّسْطُورِيَّةُ، وَقَالَ أَحَدُ الِاثْنَيْنِ: عِيسَى أَحَدُ ثَلَاثَةٍ اللَّهُ إِلَهٌ، وَمَرْيَمُ إِلَهٌ، وَعِيسَى إِلَهٌ فَكَذَّبَهُ الرَّابِعُ وَاتَّبَعَتْهُ الْإِسْرَائِيلِيَّةُ. وَقَالَ الرَّابِعُ:
عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَاتَّبَعَتْهُ فِرْقَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ثُمَّ اقْتَتَلَ الْأَرْبَعَةُ، فَغُلِبَ الْمُؤْمِنُونَ وَظَهَرَتِ الْيَعْقُوبِيَّةُ عَلَى الْجَمِيعِ فَرُوِيَ أَنَّ فِي ذَلِكَ نَزَلَتْ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ «٢» آيَةُ آلِ عِمْرَانَ، وَالْأَرْبَعَةُ يَعْقُوبُ وَنُسْطُورُ وَمَلْكَا وإسرائيل.
(٢) سورة آل عمران: ٣/ ٢١.

وبين هُنَا أَصْلُهُ ظَرْفٌ اسْتُعْمِلَ اسْمًا بِدُخُولِ مِنْ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: مِنْ زَائِدَةٌ.
وَقِيلَ الْبَيْنُ هُنَا الْبُعْدُ أَيِ اخْتَلَفُوا فِيهِ لِبُعْدِهِمْ عَنِ الحق. ومَشْهَدِ مَفْعَلِ مِنَ الشُّهُودِ وَهُوَ الْحُضُورُ أَوْ مِنَ الشَّهَادَةِ وَيَكُونُ مَصْدَرًا وَمَكَانًا وَزَمَانًا، فَمِنَ الشُّهُودِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مِنْ شُهُودِ هَوْلِ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ مَكَانِ الشُّهُودِ فِيهِ وَهُوَ الْمَوْقِفُ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ وَقْتِ الشُّهُودِ وَمِنَ الشَّهَادَةِ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مِنْ شَهَادَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَأَنْ تَشْهَدَ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَأَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِالْكُفْرِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ مَكَانِ الشَّهَادَةِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ وَقْتِ الشَّهَادَةِ وَالْيَوْمُ الْعَظِيمُ عَلَى هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَعَنْ قَتَادَةَ: هُوَ يَوْمُ قَتْلِ الْمُؤْمِنِينَ حِينَ اخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ وَقِيلَ مَا قَالُوهُ وَشَهِدُوا بِهِ فِي عِيسَى وَأُمِّهِ يَوْمَ اخْتِلَافِهِمْ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى التَّعَجُّبِ الْوَارِدِ مِنَ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ «١» وَأَنَّهُ لَا يُوصَفُ بِالتَّعَجُّبِ.
قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: لَئِنْ كَانُوا صُمًّا وَبُكْمًا عَنِ الْحَقِّ فَمَا أَسْمَعَهُمْ وَأَبْصَرَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَكِنَّهُمْ يَسْمَعُونَ وَيُبْصِرُونَ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمُ السَّمْعُ وَلَا الْبَصَرُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّهُمْ أَسْمَعُ شَيْءٍ وَأَبْصَرُهُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: هُوَ وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ أَيْ سَوْفَ يَسْمَعُونَ مَا يَخْلَعُ قُلُوبَهُمْ، وَيُبْصِرُونَ مَا يُسَوِّدُ وُجُوهَهُمْ. وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: إِنَّهُ أَمْرُ حَقِيقَةٍ لِلرَّسُولِ أَيْ أَسْمِعْ الناس اليوم وأبصرهم بِهِمْ وَبِحَدِيثِهِمْ مَاذَا يُصْنَعُ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ إِذَا أَتَوْا مَحْشُورِينَ مَغْلُولِينَ لكِنِ الظَّالِمُونَ عُمُومٌ يَنْدَرِجُ فِيهِ هؤلاء الأحزاب الكفارة وغيرهم من الظالمين، والْيَوْمَ أَيْ فِي دَارِ الدُّنْيَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْقَعَ الظَّاهِرَ أَعْنِي الظَّالِمِينَ مَوْقِعَ الضَّمِيرِ إِشْعَارًا بِأَنْ لَا ظُلْمَ أَشَدُّ مِنْ ظُلْمِهِمْ حَيْثُ أَغْفَلُوا الِاسْتِمَاعَ وَالنَّظَرَ حِينَ يُجْدِي عَلَيْهِمْ وَيُسْعِدُهُمْ، وَالْمُرَادُ بِالضَّلَالِ الْمُبِينِ إِغْفَالُ النَّظَرِ وَالِاسْتِمَاعِ انْتَهَى.
وَأَنْذِرْهُمْ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالضَّمِيرُ لِجَمِيعِ النَّاسِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الظَّالِمِينَ.
ويَوْمَ الْحَسْرَةِ يَوْمَ ذَبْحِ الْمَوْتِ وَفِيهِ حَدِيثٌ.
وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقِيلَ: حِينَ يَصْدُرُ الْفَرِيقَانِ إِلَى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: حِينَ يَرَى الْكُفَّارُ مَقَاعِدَهُمُ الَّتِي فَاتَتْهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ لَوْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ الْحَسْرَةِ اسْمَ جِنْسٍ لِأَنَّ هَذِهِ حَسَرَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي مَوَاطِنَ عِدَّةٍ، وَمِنْهَا يَوْمُ الْمَوْتِ، وَمِنْهَا وَقْتُ أَخْذِ الْكِتَابِ بِالشَّمَالِ وَغَيْرُ ذَلِكَ انْتَهَى.