
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ
[مَرْيَمَ: ١٦]، أَيِ اذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ أَنَّ اللَّهَ رَبِّي فَكَذَلِكَ، وَيَكُونُ تَفْرِيعُ فَاعْبُدُوهُ عَلَى قَوْلِهِ: مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ [مَرْيَم: ٣٥] إِلَى آخِرِهِ...
وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ، وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ- بِكَسْرِ هَمْزَةِ إِنَّ. وَوَجْهُهَا ظَاهِرٌ عَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ.
وَجُمْلَةُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ تَذْيِيلٌ وَفَذْلَكَةٌ لِمَا سَبَقَهُ عَلَى اخْتِلَافِ الْوُجُوهِ.
وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَضْمُونِ مَا تَقَدَّمَ عَلَى اخْتِلَافِ الْوُجُوهِ.
وَالْمُرَادُ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ اعْتِقَادُ الْحَقِّ، شُبِّهَ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ عَلَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، شَبَّهَ الِاعْتِقَادَ الْحَقَّ فِي كَوْنِهِ مَوْصُولًا إِلَى الْهُدَى بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فِي إِيصَالِهِ إِلَى الْمَكَانِ الْمَقْصُودِ بِاطْمِئْنَانِ بَالٍ، وَعُلِمَ أَنَّ غَيْرَ هَذَا كَبُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ مَنْ سَلَكَهَا أَلْقَت بِهِ فِي الْمَخَاوِفُ وَالْمَتَالِفُ كَقَوْلِهِ وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ
سَبِيلِهِ
[الْأَنْعَام: ١٥٣].
[٣٧]
[سُورَة مَرْيَم (١٩) : آيَة ٣٧]
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧)
الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الْإِخْبَارِ بِحُصُولِ الِاخْتِلَافِ عَلَى الْإِخْبَارِ بِأَنَّ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ، أَيْ حَادَ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الْأَحْزَابُ فَاخْتَلَفُوا بَيْنَهُمْ فِي الطَّرَائِقِ الَّتِي سَلَكُوهَا، أَيْ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ لَا يَخْتَلِفُ سَالِكُوهُ اخْتِلَافًا أَصْلِيًّا، فَسَلَكَ الْأَحْزَابُ طُرُقًا أُخْرَى هِيَ حَائِدَةٌ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فَلَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى شَيْءٍ.

وَقَوْلُهُ مِنْ بَيْنِهِمْ متعلّق باختلف. و (من) حَرْفُ تَوْكِيدٍ، أَيِ اخْتَلَفُوا بَيْنَهُمْ.
وَالْمُرَادُ بِالْأَحْزَابِ أَحْزَابُ النَّصَارَى، لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَّفِقِينَ وَلَمْ يَكُنِ الْيَهُودُ مُوَافِقِينَ النَّصَارَى فِي شَيْءٍ مِنَ الدِّينِ. وَقَدْ كَانَ النَّصَارَى عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ عَلَى التَّوْحِيدِ فِي حَيَاةِ الْحَوَارِيِّينَ ثُمَّ حَدَثَ الِاخْتِلَافُ فِي تَلَامِيذِهِمْ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٧١] أَنَّ الِاخْتِلَافَ انْحَلَّ إِلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: الْمَلْكَانِيَّةُ (وَتُسَمَّى الْجَاثُلِيقِيَّةَ) وَالْيَعْقُوبِيَّةُ، وَالنَّسْطُورِيَّةُ. وَانْشَعَبَتْ مِنْ هَذِهِ الْفِرَقِ عِدَّةُ فِرَقٍ ذَكَرَهَا الشَّهْرَسْتَانِيُّ، وَمِنْهَا الْأَلْيَانَةُ، وَالْبِلْيَارِسِيَّةُ، وَالْمِقْدَانُوسِيَّةُ، وَالسِّبَالِيَّةُ، وَالْبُوطِينُوسِيَّةُ، وَالْبُولِيَّةُ، إِلَى فِرَقٍ أُخْرَى. مِنْهَا فِرْقَةٌ كَانَتْ فِي الْعَرَبِ تُسَمَّى الرَّكُوسِيَّةُ وَرَدَ ذِكْرُهَا
فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: إِنَّكَ رَكُوسِيٌّ»
. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ هِيَ نَصْرَانِيَّةٌ مَشُوبَةٌ بِعَقَائِدِ الصَّابِئَةِ. وَحَدَثَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فِرْقَةُ الِاعْتِرَاضِيَّةِ (الْبُرُوتِسْتَانُ) أَتْبَاعُ (لُوثِيرَ). وَأَشْهَرُ الْفِرَقِ الْيَوْمَ هِيَ الْمَلْكَانِيَّةُ (كاثوليك)، واليعقوبية (أرثودوكس)، والاعتراضية (بروتستان). وَلَمَّا كَانَ اخْتِلَافُهُمْ قَدِ انْحَصَرَ فِي مَرْجِعٍ وَاحِدٍ يَرْجِعُ إِلَى إِلَهِيَّةِ عِيسَى اغْتِرَارًا وَسُوءَ فَهْمٍ فِي مَعْنَى لَفْظِ (ابْنٍ) الَّذِي وَرَدَ صِفَةً لِلْمَسِيحِ فِي الْأَنَاجِيلِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ وُصِفَ بِذَلِكَ فِيهَا أَيْضًا أَصْحَابُهُ. وَقَدْ جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ أَيْضًا «أَنْتُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ». وَفِي إِنْجِيلِ مَتَّى الْحَوَارِيِّ وَإِنْجِيلِ يُوحَنَّا الْحَوَارِيِّ كَلِمَاتٌ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ إِنْسَانٍ وَأَنَّ اللَّهَ إِلَهُهُ وَرَبُّهُ، فَقَدِ انْحَصَرَتْ مَذَاهِبُهُمْ فِي الْكُفْرِ بِاللَّهِ فَلِذَلِكَ ذُيِّلَ بِقَوْلِهِ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ، فَشَمِلَ قَوْلُهُ (الَّذِينَ كَفَرُوا) هَؤُلَاءِ الْمُخْبَرَ عَنْهُمْ مِنَ النَّصَارَى وَشَمِلَ الْمُشْرِكِينَ غَيرهم.
وَالْمَشْهَدُ صَالِحٌ لِمَعَانٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنَ الْمُشَاهَدَةِ أَوْ مِنَ