
بالعشب وكان كثير البكاء، فكان لدمعه مجار على خدّه. وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ
، أي لطيفا بهما، محسنا إليهما. وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً
أي متكبرا في دينه. عَصِيًّا
(١٤)، أي عاصيا لربه، عاقا بوالديه. وَسَلامٌ عَلَيْهِ
، أي أمان من الله تعالى على يحيى. يَوْمَ وُلِدَ
، من أن يناله الشيطان.
وَيَوْمَ يَمُوتُ
، من فتنة القبر، وَيَوْمَ يُبْعَثُ
، من القبر حَيًّا
(١٥)، من هول القيامة، وهذا تنبيه على كونه عليه السلام من الشهداء. وَاذْكُرْ
، يا أكرم الرسل للناس، فِي الْكِتابِ
أي هذه السورة مَرْيَمَ
أي قصتها، إِذِ انْتَبَذَتْ
أي اعتزلت، مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا
(١٦) أي شرقي بيت المقدس، وشرقي دارها، لتتخلى هناك للعبادة. فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً
أي فأرخت لأجل منع رؤية أهلها سترا لتغتسل من حيضها، فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
رسولنا جبريل، فَتَمَثَّلَ لَها
بعد فراغها من الاغتسال، وبعد لبسها ثيابها، بَشَراً سَوِيًّا
(١٧) أي لم ينقص من الصورة البشرية شيئا.
وكان موضعها المسجد، فإذا حاضت تحّولت إلى بيت خالتها، وإذا طهرت عادت إلى المسجد، فلما طهرت وهي في مغتسلها، أتاها جبريل بعد لبسها ثيابها في صورة آدمي شاب أمرد، وضيء الوجه، جعد الشعر، كامل البدن لم ينقص من حسان نعوت الآدمية شيئا. وقيل:
تمثّل في صورة ترب لها اسمه يوسف، من خدم بيت المقدس، لتستأنس بكلامه، وتتلقى منه ما يلقى إليها من كلماته تعالى، قالَتْ
أي مريم: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
(١٨) أي مطيعا لله، يرجى منك أن تتقي الله، ويحصل ذلك بالاستعاذة به، فإني عائذة به منك.
وقيل: كان في ذلك الزمان، رجل فاجر اسمه تقي، يتبع النساء، فظنت مريم أن ذلك المشاهد هو ذلك التقي، فمن ذلك تعوّذت منه، وخصّت الرحمن بالذكر ليرحم ضعفها وعجزها عن دفعه. قالَ
لها جبريل: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ
الذي استعذت به، لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا
(١٩)، أي لأكون سببا في هبة ولد طاهر من الذنوب، بالنفخ في الدرع.
قرأ نافع وأبو عمرو «ليهب» بياء مفتوحة بعد اللام، أي ليهب الرب لك ولدا ذكرا، مترقيا من سن إلى سن، على الخير. قالَتْ مريم لجبريل: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ أي من أين يكون لي ولد كما وصفت، والحال أنه لم يباشرني رجل بنكاح، وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) أي فاجرة تبغي الرجال.
قالَ لها جبريل: كَذلِكِ أي الأمر كما قلت لك، قالَ رَبُّكِ الذي أرسلني إليك هُوَ أي هبة الولد من غير أن يمسك بشر أصلا. عَلَيَّ خاصة هَيِّنٌ وإن كان مستحيلا عادة، لأني لا أحتاج إلى الوسائط، وَلِنَجْعَلَهُ أي وهب الولد من غير أب، آيَةً لِلنَّاسِ أي برهانا لهم يستدلون به على كمال قدرتنا نفعل ذلك.
وبهذا إتمام الأنواع الأربعة في خلق البشر، فإنه تعالى خلق آدم من غير ذكر وأنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وخلق بقية البشر من ذكر وأنثى معا.

وَرَحْمَةً، عظيمة كائنة مِنَّا عليهم يهتدون بهدايته، وَكانَ، أي خلق الولد بلا أب، أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) أي لا يتغيّر. فلو لم يقع لا نقلب علم الله جهلا وهو محال. وجميع الممكنات منتهية في سلسلة القضاء إلى واجب الوجود، وإذا كان الأمر كذلك، فلا فائدة في الحزن، وهذا هو سر
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب»
. فَحَمَلَتْهُ أي فنفخ جبريل في طوق قميصها نفخة وصلت إلى فرجها، ودخلت منه جوفها فحملته في الحال، فَانْتَبَذَتْ بِهِ أي فاعتزلت وهو في بطنها، مَكاناً قَصِيًّا (٢٢)، أي بعيدا من الناس.
قال وهب: إن مريم لما حملت بعيسى، كان معها ابن عم لها يقال له: يوسف النجار، وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند جبل صهيون، وكان يوسف ومريم يخدمان ذلك المسجد، ولا يعلم في أهل زمانهما أحد أشد عبادة منهما. وأول من علم حمل مريم هو يوسف، فتحيّر في أمرها فكلما أراد أن يتهمها ذكر عبادتها، وأنها لم تغب عنه ساعة قط. وإذا أراد أن يبرّئها رأى الذي ظهر بها من الحمل.
فأول ما تكلم به أن قال: قد وقع في نفسي من أمرك شيء وقد حرصت على كتمانه، فغلبني ذلك، فرأيت أن الكلام فيه أشفى لصدري، فقالت: قل قولا جميلا. قال: أخبريني يا مريم، هل ينبت زرع بغير بذر؟ وهل تنبت شجرة من غير غيث؟ وهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم، ألم تعلم أن الله أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر وهذا البذر إنما حصل من الزرع الذي أنبته من غير بذر، ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الشجرة من غير غيث؟ وبالقدرة جعل الغيث حياة الشجر، بعد ما خلق كل واحد منهما على حدة، أو تقول أن الله تعالى لا يقدر على أن ينبت الشجرة حتى استعان بالماء، ولولا ذلك لم يقدر على إنباتها.
فقال يوسف: لا أقول هذا ولكني أقول: إن الله قادر على ما يشاء، فيقول له: كن فيكون.
فقالت له مريم: ألم تعلم أن الله تعالى خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى؟ فعند ذلك زالت التهمة عن قلبه.
وكان ينوب عنها في خدمة المسجد لاستيلاء الضعف عليها بسبب الحمل، وضيق القلب، فلما دنت ولادتها، أوحى الله إليها أن اخرجي من أرض قومك، فخرجت أقصى الدار. فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ أي فألجأها وجع الولادة إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ أي إلى أصل نخلة يابسة لا رأس لها، وكان الوقت شتاء شديد البرد، فلما اعتمدت عليه بصدرها اخضر، وأطلع الجريد، والخوص، والثمر رطبا في وقت واحد، كما أن حمل عيسى وتصويره وولادته في وقت واحد.
وكأن الله أرشدها إلى النخلة ليريها من آياته ما يسكن روعتها، وليطعمها الرطب، الذي هو أشد الأشياء موافقة للنفساء فهو خرسة لها، ولأن النخلة من أقل الأشجار صبرا على البرد،

ولأنها لا تثمر إلا عند اللقاح من ذكر النخل، وإذا قطعت رأسها ماتت. فكأنه تعالى قال: كما أن الأنثى لا تلد إلا مع الذكر، فكذا النخلة لا تثمر إلا عند اللقاح. ثم إني أظهر الرطب من غير اللقاح، ليدل ذلك على جواز ظهور الولد من غير ذكر فحملها بمجرد هزها أنسب شيء بإتيانها بولد من غير والد، قالَتْ لما خافت أن يظن بها السوء في دينها، فيقع في المعصية من يتكلم فيها وهي راضية بما بشّرها به جبريل: يا أي أنبهك يا مخاطب، لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا، الوقت الذي فيه الأمر العظيم.
وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي «مت» بكسر الميم. والباقون بالضم. وَكُنْتُ نَسْياً، أي شيئا تافها لا يعتدّ به أصلا كخرقة الطمث، ونحوها.
وقرأ حفص وحمزة وابن وثاب والأعمش بفتح النون، والباقون بالكسر. وقرأ محمد بن كعب القرظي «نسأ» بالهمز وبهما، وهو الحليب المخلوط بالماء الكثير ينساه أهله لقلته واستهلاكه في الماء، مَنْسِيًّا (٢٣) أي متروكا لم يذكر بالبال، وهو نعت للمبالغة. وهذا جرى على عادة الصالحين عند اشتداد الأمر عليهم، فإنهم يقولون مثل ذلك.
كما روي عن أبي بكر أنه نظر إلى طائر على شجرة فقال: طوبى لك يا طائر تقع على الشجرة، وتأكل من الثمر وددت أني ثمرة ينقرها الطائر. وعن عمر أنه أخذ تبنة من الأرض فقال:
يا ليتني هذه التبنة ولم أك شيئا. وعن علي أنه قال يوم الجمل: يا ليتني متّ قبل هذا اليوم بعشرين سنة. وعن بلال أنه قال: ليت بلالا لم تلده أمه. وقرأ الأعمش: «منسيا» بكسر الميم اتباعا للسين. فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤).
وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي: ب «من» الجارة، أي فناداها جبريل من مكان أسفل منها تحت الأكمة، أي لا تحزني يا مريم على ولادة عيسى، قد جعل ربك بمكان أسفل منك، أو قريب منك نهرا صغيرا، أو إنسانا شريفا جليلا.
ويدل على ذلك قراءة ابن عيسى، فناداها ملك من تحتها، ويقال: فناداها المولود كائنا من تحت ذيلها، أي لا تحزني يا أمي، قد جعل ربك تحتك جدولا يجري، ويمسك بأمرك، أو نبيا مرتفع القدر. وقرأ الباقون ب «من» الموصولة.
وقرأ زر وعلقمة «فخاطبها» من تحتها بفتح الميم، أي فناداها عيسى الذي كان تحت ذيلها أي لا تحزني قد جعل ربك تحتك رئيسا عزيزا لا يكاد يوجد له نظير أو جدولا بضرب جبريل الأرض برجله.
ويقال: فناداها جبريل من تحتها يقبل الولد كالقابلة، أو من تحت النخلة بأن لا تحزني، قد جعل ربك قربك عين ماء عذب، تعظيما لشأنك فإن الله تعالى أرسل جبريل إليها ليناديها بهذه الكلمات. كما أرسل إليها في أول الأمر ليكون ذلك تذكيرا لها ما تقدم من أصناف البشارات، أو

يقال: إن الله تعالى أنطق عيسى لها حين وضعته تطييبا لقلبها، وإزالة للوحشة عنها، حتى تشاهد في أول الأمر ما بشّرها به جبريل من علوّ شأن ذلك الولد.
كما
قال الحسن بن علي رضي الله عنهما: إن عيسى عليه السلام لو لم يكن كلّمها لما علمت أنه ينطق، فما كانت تشير إلى عيسى بالكلام
. وحمل فاعل «نادى» على عيسى أقرب وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ أي حرّكي أصل النخلة تحريكا عنيفا إلى جهتك، تُساقِطْ عَلَيْكِ أي تسقط النخلة عليك إسقاطا متواترا بحسب تواتر الهز، رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) أي طريا استحق أن يجنى.
وقرأ حمزة بفتح التاء والسين مخففة، وفتح القاف. وقرأ حفص بضم التاء، وكسر القاف.
والباقون بفتح التاء، وتشديد السين، وفتح القاف، فَكُلِي وَاشْرَبِي أي فكلي من الرطب، واشربي من النهر، أو كلي من الرطب، واشربي من عصيره. وَقَرِّي عَيْناً أي طيبي نفسا بولدك عيسى، فالعين إذا رأت ما يسّر النفس سكنت إليه من النظر إلى غيره، وأن دمعة السرور باردة، ودمعة الحزن حارة، ولذلك يقال: للمحبوب قرة العين، وللمكروه سخنة العين. فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦)، أن فإن تري يا مريم أحدا من الآدميين فيسألك عن ولدك، فقولي له إن استنطقك: إني نذرت للرحمن صمتا فلن أكلم اليوم آدميا، بعد أن أخبرتك بنذري وإنما أكلم الملائكة، وأناجي ربي. وإنما منعت مريم من الكلام ليكون عيسى المتكلم عنها، فيكون أقوى لحجتها في إزالة التهمة عنها، ولكراهة مجادلة السفهاء. فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ أي فجاءتهم مع ولدها عيسى حاملة له وهو ابن أربعين يوما.
روي عن ابن عباس أن يوسف انتهى بمريم إلى غار فأدخلها فيه أربعين يوما حتى طهرت من النفاس، ثم حملته إلى قومها، فكلّمها عيسى في الطريق، فقال: يا أماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه.
فلما دخلت على أهلها ومعها الصبي بكوا وحزنوا وكانوا أهل بيت صالحين. قالُوا مؤنبين لها:
يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧)، أي لقد فعلت شيئا منكرا عظيما، يا أُخْتَ هارُونَ، أي يا شبيهة هارون في العبادة وكان هارون هذا رجلا صالحا من أفضل الناس من بني إسرائيل، ينسب إليه كل من عرف بالصلاح وهذا لمّا مات تبع جنازته أربعون ألفا كلهم يسمّون هارون تبركا به وباسمه. والمراد أنك يا مريم كنت في الزهد كهارون، فكيف صرت هكذا! ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ، أي ما كان أبوك عمران رجلا زانيا، وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨)، أي وما كانت أمك حنة امرأة فاجرة فَأَشارَتْ، مريم إِلَيْهِ، أي إلى عيسى أن كلموه، قالُوا منكرين لجوابها: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ، أي في الحجر أو في السرير صَبِيًّا (٢٩) أي صغيرا ابن أربعين يوما.
روي أن عيسى كان يرضع، فلما سمع ذلك ترك الرضاع، وأقبل عليهم بوجهه، واتكأ على يساره، وأشار بسبابة يمينه، فتكلم عيسى قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ، وإنما نص عيسى على إثبات عبودية نفسه، لأن إزالة التهمة عن الله تعالى، تفيد إزالة التهمة عن الأم، لأن الله تعالى لا يخص