
وروى ابن وهب عن مالك بن أنس عن حميد بن قيس عن مجاهد، أنه [قال]: كان طعام يحيى بن زكريا العشب، وإن كان ليبكي من خسية الله ما لو كان القار على عينيه لحرقه. ولقد كان الدمع اتخذ مجرى في وجهه.
قال أبو ادريس الخلاني: أطيب الناس طعاماً يحيى بن زكرياء. إنما كان يأكل مع الوحش كراهة أن يخالط الناس معايشهم.
قال ابن وهب أن ابن شهاب قال: كان يحيى ابن خالة عيسى وكان أكبر من عيسى بيسير.
قوله تعالى ذكره: ﴿واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ﴾ إلى قوله: ﴿وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً﴾.

والمعنى: واذكر يا محمد في الكتاب الذي أنزل إليك مريم حين اعتزلت من أهلها، وانفردت في مكان شرقي، أي في شرقي المحراب.
وقال السدي: " خرجت مريم إلى جانب المحراب لحيض أصابها ".
وقال قتادة: " شرقياً " قبل المشرق شاسعاً ".
وقيل: إنما صارت بمكان يلي المشرق، لأن ما يلي المشرق عندهم كان خيراً مما يلي المغرب /.
وقال ابن عباس: أظلها الله بالشمس، وجعل لها منها حجاباً ".
وهو قوله: ﴿فاتخذت مِن دُونِهِم حِجَاباً﴾ أي: ستراً يسترها عن الناس.
ويروى أن مريم كانت في منزل زكرياء، وكان زوج أختها، وكان لها محراب تصلي فيه، وكان زكرياء إذا خرج أغلق عليها الباب، فآذاها يوماً القمل في رأسها فتمنت لو وجدت خلوة إلى الجبل تفلي فيه رأسها، فانفرج لها السقف وخرجت والبيت مقفل في يوم شديد البرد، فجلست في شرفة من الشمس، وأتى زكرياء فلم يجدها فبينما هي جالسة إذ أتاها جبريل ﷺ في صورة البشر في أحسن صورة شاب

مقصص عليه البياض وعليه تاج مكلل بالدر والياقوت، ومريم يومئذ بنت أربع عشرة سنة، فلما أن رأت جبريل عليه السلام يصعد نحوها نادته ﴿إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً﴾. أي إن كنت تتقي الله فكان من شأنها ما قصّ الله علينا.
ثم قال تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا﴾.
قال قتادة وابن جريج ووهب بن منبه: هو جبريل ﷺ.
وقيل: الروح: عيسى، لأنه روح الله وكلمته أَلقاها إلى مريم.
وقيل: معناه، فدخل الروح في مريم فتمثل لها بشراً سوياً. أي تمثل فيها، يعني عيسى.
قال أبي بن كعب: " كان روح عيسى بن مريم من الأرواح التي أخذ الله تعالى ذكره عليها الميثاق، فأرسل ذلك الروح إلى مريم، فدخل من فيها، فحملت بعيسى عليه السلام ". والله أعلم بذلك كله.
والصحيح أنه جبريل عليه السلام لقوله: " فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً " لأن عيسى بشر، ومعناه

فتشبه لها في صورة آدمي، سوي الخلق، معتدلة. وإنما سمي جبريل ﷺ روحاً، لأنه يأتي بما يحيي به العباد من الوحي، ولهذا سمي عيسى أيضاً روحاً، وسمي القرآن روحاً.
وقيل: إنما اعتزلت لتغتسل من الحيض.
وقيل: لتخلو بالعبادة.
ثم قال: ﴿قَالَتْ إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً﴾. والمعنى: أن مريم خافت من جبريل لما رأته في هيئة آدمي.
قال قتادة: " خشيت أن يكون يريدها على نفسها ".
وقال السدي: " فزعت منه لما رأته، فتعوذت بالرحمن واستجارت به منه ".
ومعنى: ﴿إِن كُنتَ تَقِيّاً﴾ أي: إن كنت ذا تقوى وخوف من الله، تتقي محارمه.
وقيل: المعنى: إني أستجير بالله منك إن كنت تتقي الله في استجارتي به منك.
قال وهب بن منبه: " هو رجل من بني آدم معروف عندهم بالشر اسمه " تقي ".

ف " إن " على هذه الأقوال للشرط، وما قبلها جواب للشرط.
وقيل: ﴿إِن كُنتَ تَقِيّاً﴾ معناه: ما كنت.
[قوله]: قَالَ: ﴿إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً﴾.
من قرأ بالهمز في لأَهَبَ، فإنه أسند إلى جبريل ﷺ، إذ قد علم أن الهبة أصلها من الله.
والتقدير: إنما أنا رسول ربك أرسلني لأهب لك.
وقال أبو عبيد: التقدير في هذه القراءة: إنما أنا رسول ربك، يقول لك: أرسلته إليك لأهب لك غلاماً.

فأما من لم يهمز، فيحتمل أن يكون على أحد هذين المعنيين المتقدم ذكرهما في الهمز، لكن خففت الهمزة، ويحتمل أن يكون في الكلام حذف تقديره: بعثني لِيَهَبَ لك.
وكذا حكى أبو عمرو عن ابن عباس.
و" الزكي ": الطاهر من الذنوب.
﴿قَالَتْ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً﴾.
أي: قالت مريم: من أي وجه يكون لي غلام؟ أَمِنْ قبل زوج أرزقه منه؟ أم يبتدئ الله خلقه ابتداء، ولم يمسسني بشر من بني آدم بنكاح حلال. " ولمَ ألكُ بَغيّاً " أي لم يمسسني أحد في حرام.
قال السدي: [﴿بَغِيّاً﴾ زانية].
و ﴿بَغِيّاً﴾ فعول. وفعول يقع للمؤنث والمذكر بغير هاء.
كقولك: امرأة شكور، ورجل شكور. ولا يجوز أن يكون " بغي " فعيلاً، لأنه يلزم فيه دخول الهاء ككريمة ورحيمة. ولا يلزم ذلك في فعول. فدل حذف الهاء منه على أنه فعول، وليس بفعيل. وأصله بغوى، ثم وقع القلب والإدغام على الأصول