آيات من القرآن الكريم

فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا
ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚ

وَزَكَاةٍ وَتُقًى، عَطَفَ بِذِكْرِ طَاعَتِهِ لِوَالِدَيْهِ وَبِرِّهِ بهما، ومجانبته عقوقهما قولا وفعلا، أمرا وَنَهْيًا، وَلِهَذَا قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا
ثُمَّ قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الْجَمِيلَةِ جَزَاءً لَهُ عَلَى ذَلِكَ وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا
أَيْ لَهُ الْأَمَانُ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَحْوَالِ. وَقَالَ سُفْيَانُ بن عيينة: أوحش ما يكون المرء فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ: يَوْمَ يُولَدُ فَيَرَى نَفْسَهُ خَارِجًا مِمَّا كَانَ فِيهِ، وَيَوْمَ يَمُوتُ فَيَرَى قَوْمًا لَمْ يَكُنْ عَايَنَهُمْ، وَيَوْمَ يُبْعَثُ فَيَرَى نَفْسَهُ فِي مَحْشَرٍ عَظِيمٍ، قَالَ:
فَأَكْرَمَ اللَّهُ فِيهَا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا فَخَصَّهُ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ، فقال: وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا
رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَنْصُورٍ الْمَرْوَزِيِّ عَنْ صَدَقَةَ بْنِ الْفَضْلِ عَنْهُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: جَبَّاراً عَصِيًّا
قَالَ: كَانَ ابن المسيب يذكر قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا مِنْ أَحَدٍ يَلْقَى اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا ذَا ذَنْبٍ إِلَّا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا» قَالَ قَتَادَةُ: مَا أَذْنَبَ وَلَا هَمَّ بِامْرَأَةٍ «١»، مُرْسَلٌ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، حدثني ابن الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ بَنِي آدَمَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَهُ ذَنْبٌ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ يَحْيَى بن زكريا بن إِسْحَاقَ هَذَا مُدَلِّسٌ، وَقَدْ عَنْعَنَ هَذَا الْحَدِيثَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٢»
: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ، أَخْبَرَنَا عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ وَلَدِ آدَمَ إِلَّا وَقَدْ أَخْطَأَ أَوْ هَمَّ بِخَطِيئَةٍ، لَيْسَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا وَمَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى» وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنُ جُدْعَانَ لَهُ مُنْكَرَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ الحسن قَالَ: إِنَّ يَحْيَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ الْتَقَيَا، فَقَالَ لَهُ عِيسَى: اسْتَغْفِرْ لِي أَنْتَ خَيْرٌ مني، فقال له الآخر: اسْتَغْفِرْ لِي أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي، فَقَالَ لَهُ عِيسَى: أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي سَلَّمْتُ عَلَى نَفْسِي، وسلم الله عليك فعرف والله فضلهما.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ١٦ الى ٢١]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠)
قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١)
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قِصَّةَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهُ أَوْجَدَ مِنْهُ فِي حَالِ كِبَرِهِ وَعُقْمِ زَوْجَتِهِ وَلَدًا زَكِيًّا طَاهِرًا مُبَارَكًا، عَطَفَ بِذِكْرِ قِصَّةِ مَرْيَمَ فِي إِيجَادِهِ وَلَدَهَا عِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ أَبٍ، فَإِنَّ بَيْنَ الْقِصَّتَيْنِ مُنَاسَبَةً وَمُشَابَهَةً، وَلِهَذَا ذَكَرَهُمَا فِي آلِ عِمْرَانَ وَهَاهُنَا، وَفِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ يُقْرِنُ

(١) انظر تفسير الطبري ٨/ ٣١٨.
(٢) المسند ١/ ٢٥٤.

صفحة رقم 193

بَيْنَ الْقِصَّتَيْنِ لِتَقَارُبِ مَا بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى، لِيَدُلَّ عِبَادَهُ عَلَى قُدْرَتِهِ وَعَظَمَةِ سُلْطَانِهِ، وَأَنَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ قَادِرٌ، فَقَالَ وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ
وَهِيَ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ مِنْ سُلَالَةِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَكَانَتْ مِنْ بَيْتٍ طَاهِرٍ طَيِّبٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى قِصَّةَ وِلَادَةِ أُمِّهَا لَهَا فِي سورة آلِ عِمْرَانَ، وَأَنَّهَا نَذَرَتْهَا مُحَرَّرَةً، أَيْ تَخْدُمُ مَسْجِدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَانُوا يَتَقَرَّبُونَ بِذَلِكَ فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً [آلِ عِمْرَانَ: ٣٧] وَنَشَأَتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ نَشْأَةً عَظِيمَةً، فَكَانَتْ إِحْدَى الْعَابِدَاتِ النَّاسِكَاتِ الْمَشْهُورَاتِ بِالْعِبَادَةِ الْعَظِيمَةِ والتبتل والدؤوب، وكانت في كفالة زوج أختها زَكَرِيَّا نَبِيِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ ذَاكَ، وَعَظِيمِهِمُ الَّذِي يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فِي دِينِهِمْ، وَرَأَى لَهَا زَكَرِيَّا مِنَ الْكَرَامَاتِ الْهَائِلَةِ مَا بَهَرَهُ.
كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ [آلِ عِمْرَانَ: ٣٧] فَذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ يَجِدُ عِنْدَهَا ثَمَرَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ، وَثَمَرَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ، كَمَا تَقَدَّمَ بيانه في سورة آلِ عِمْرَانَ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَهُ الْحِكْمَةُ وَالْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، أَنْ يُوجِدَ مِنْهَا عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَحَدَ الرُّسُلِ أُولِي الْعَزْمِ الْخَمْسَةِ الْعِظَامِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا
أَيِ اعْتَزَلَتْهُمْ وَتَنَحَّتْ عَنْهُمْ، وَذَهَبَتْ إِلَى شرق المسجد المقدس. وقال السُّدِّيُّ لِحَيْضٍ أَصَابَهَا، وَقِيلَ لِغَيْرِ ذَلِكَ.
قَالَ أَبُو كُدَيْنَةَ عَنْ قَابُوسُ بْنُ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ إِلَى الْبَيْتِ وَالْحَجُّ إِلَيْهِ، وَمَا صَرَفَهُمْ عَنْهُ إِلَّا قِيلُ رَبِّكَ: انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا
قَالَ: خَرَجَتْ مَرْيَمُ مَكَانًا شَرْقِيًّا، فَصَلُّوا قِبَلَ مَطْلِعِ الشَّمْسِ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «١» أَيْضًا: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ شَاهِينَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ دَاوُدَ عَنْ عَامِرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ خَلْقِ اللَّهِ لِأَيِّ شَيْءٍ اتَّخَذَتِ النَّصَارَى الْمَشْرِقَ قِبْلَةً لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا
وَاتَّخَذُوا مِيلَادَ عِيسَى قبلة. وقال قتادة مَكاناً شَرْقِيًّا
شاسعا منتحيا، وقال محمد بن إسحاق: ذهبت بقلتها لتستقي الْمَاءِ. وَقَالَ نَوْفٌ الْبِكَالِيُّ: اتَّخَذَتْ لَهَا مَنْزِلًا تَتَعَبَّدُ فِيهِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً
أَيِ اسْتَتَرَتْ مِنْهُمْ وَتَوَارَتْ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهَا جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
أَيْ عَلَى صُورَةِ إِنْسَانٍ تَامٍّ كَامِلٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وقَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ والسُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
يعني جبرائيل عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ هُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَدْ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشُّعَرَاءِ: ١٩٣- ١٩٤] وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ

(١) تفسير الطبري ٨/ ٣١٩.

صفحة رقم 194

الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: إِنَّ رُوحَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَرْوَاحِ الَّتِي أُخِذَ عَلَيْهَا الْعَهْدُ فِي زَمَانِ آدَمَ عليه السلام، وَهُوَ الَّذِي تَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا، أَيْ رُوحُ عِيسَى، فَحَمَلَتِ الَّذِي خَاطَبَهَا، وَحَلَّ فِي فِيهَا، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْغَرَابَةِ وَالنَّكَارَةِ وَكَأَنَّهُ إِسْرَائِيلِيٌّ قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
أَيْ لَمَّا تَبَدَّى لَهَا الْمَلَكُ فِي صُورَةِ بَشَرٍ وَهِيَ فِي مَكَانٍ مُنْفَرِدٍ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ قَوْمِهَا حِجَابٌ، خَافَتْهُ وَظَنَّتْ أَنَّهُ يُرِيدُهَا عَلَى نَفْسِهَا، فَقَالَتْ:
إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
أَيْ إِنْ كُنْتَ تخاف الله تذكيرا لَهُ بِاللَّهِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْرُوعُ فِي الدَّفْعِ أَنْ يَكُونَ بِالْأَسْهَلِ، فَالْأَسْهَلِ، فَخَوَّفَتْهُ أَوَّلًا بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «١» : حَدَّثَنِي أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ قَالَ: قَالَ أَبُو وَائِلٍ وَذَكَرَ قِصَّةَ مَرْيَمَ، فَقَالَ: قَدْ عَلِمَتْ أَنَّ التَّقِيَّ ذُو نُهْيَةٍ حِينَ قالت: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ
أَيْ فقال لها الملك مجيبا لها ومزيلا لما حَصَلَ عِنْدَهَا مِنَ الْخَوْفِ عَلَى نَفْسِهَا لَسْتُ مِمَّا تَظُنِّينَ وَلَكِنِّي رَسُولُ رَبِّكِ أَيْ بَعَثَنِي الله إِلَيْكِ، وَيُقَالُ إِنَّهَا لَمَّا ذَكَرَتِ الرَّحْمَنَ انْتَفَضَ جِبْرِيلُ فَرَقًا وَعَادَ إِلَى هَيْئَتِهِ وَقَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِيَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا هَكَذَا قَرَأَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ أَحَدُ مَشْهُورِي الْقُرَّاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا
وَكِلَا الْقِرَاءَتَيْنِ لَهُ وَجْهٌ حَسَنٌ وَمَعْنًى صَحِيحٌ، وَكُلٌّ تَسْتَلْزِمُ الْأُخْرَى.
قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ أَيْ فَتَعَجَّبَتْ مَرْيَمُ مِنْ هَذَا وَقَالَتْ: كَيْفَ يَكُونُ لِي غُلَامٌ؟ أَيْ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ يُوجَدُ هَذَا الْغُلَامُ مِنِّي، وَلَسْتُ بِذَاتِ زَوْجٍ، وَلَا يُتَصَوَّرُ مِنِّي الْفُجُورُ، وَلِهَذَا قَالَتْ: وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا وَالْبَغِيُّ هِيَ الزَّانِيَةُ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ نُهِيَ عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ أَيْ فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ مُجِيبًا لَهَا عَمَّا سَأَلَتْ:
إِنَّ اللَّهَ قَدْ قَالَ إِنَّهُ سَيُوجَدُ مِنْكِ غُلَامًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَكِ بَعْلٌ، وَلَا تُوجَدُ مِنْكِ فَاحِشَةٌ، فَإِنَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ قَادِرٌ، وَلِهَذَا قَالَ: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ أَيْ دَلَالَةً وَعَلَامَةً لِلنَّاسِ عَلَى قُدْرَةِ بَارِئِهِمْ وَخَالِقِهِمُ الَّذِي نَوَّعَ فِي خَلْقِهِمْ، فَخَلَقَ أَبَاهُمْ آدَمَ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى وَخَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ذَكَرٍ بِلَا أُنْثَى، وَخَلَقَ بَقِيَّةَ الذُّرِّيَّةِ مَنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى إِلَّا عِيسَى، فَإِنَّهُ أَوْجَدَهُ مِنْ أُنْثَى بِلَا ذَكَرٍ، فَتَمَّتِ الْقِسْمَةُ الرُّبَاعِيَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ فَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.
وَقَوْلُهُ: وَرَحْمَةً مِنَّا أَيْ وَنَجْعَلُ هَذَا الغلام رحمة من الله ونبيا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَوْحِيدِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران: ٤٥] أي يدعو إلى عبادة رَبِّهِ فِي مَهْدِهِ وَكُهُولَتِهِ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ إبراهيم، حدثنا مروان، حدثنا

(١) تفسير الطبري ٨/ ٣٢١. [.....]

صفحة رقم 195
تفسير القرآن العظيم
عرض الكتاب
المؤلف
أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي
تحقيق
محمد حسين شمس الدين
الناشر
دار الكتب العلمية، منشورات محمد علي بيضون - بيروت
الطبعة
الأولى - 1419 ه
عدد الأجزاء
1
التصنيف
كتب التفسير
اللغة
العربية