المنَاسَبَة: لما ضرب تعالى المثل في قصة صاحب الجنتين، وضرب المثل للحياة الدنيا وما فيها من نعيم خادع ومتاع زائل، نبَّه تعالى إلى الغاية من ذكر هذه الأمثال وهي «العظةُ والاعتبار» ثم ذكر القصة الثالثة «قصة موسى مع الخضر» وما فيها من أمور غيبيَّة عجيبة.
اللغَة: ﴿قُبُلاً﴾ مقابلةً وعياناً ﴿مَوْئِلاً﴾ ملجأ ومنجى قال ابن قتيبة: وأل فلان إلى كذا لجأ إليه وألاً ووءولاً والموئل: الملجأ قال الأعشى:
وقد أُخالِسُ ربَّ البيت غفلتَه | وقد يحاذِرُ مني ثم لا يئلُ |
التفسِير: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ﴾ أي بيّنا في هذا القرآن الأمثال وكرَّرنا الحجج والمواعظ ﴿وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾ أي وطبيعة الإنسان الجدلُ والخصومة لا ينيب لحق ولا ينزجر لموعظة ﴿وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى﴾ أي ما منع الناسَ من الإيمان حين جاءهم الهُدى من الله ﴿وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ﴾ أي ومن الاستغفار من الذنوب والآثام {إِلاَّ صفحة رقم 180
أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين} َ أي إلا انتظارهم أن تأتيهم سنة الأولين وهي الإهلاك ﴿أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب قُبُلاً﴾ أي يأتيهم عذاب الله عياناً ومقابلة ومعنى الآية أنه ما منعهم من الإيمان والاستغفار إلا طلبهم أن يشاهدوا العذاب الذي وُعدوا به عياناً ومواجهة كقولهم ﴿فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الأنفال: ٣٢] ﴿وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾ أي ما نرسل الرسل إلا لغرض التبشير والإِنذار لا للإِهلاك والدمار، مبشرين لأهل الإِيمان ومنذرين لأهل العصيان ﴿وَيُجَادِلُ الذين كَفَرُواْ بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق﴾ أي ومع وضوح الحق يجادل الكفار بالباطل ليغلبوا به الحق ويبطلوه فهم حين يطلبون الخوارق ويستعجلون العذاب لا يريدون الإيمان وإنما يستهزئون ويسخرون ﴿واتخذوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُواْ هُزُواً﴾ أي أتخذوا القرآن وما خُوّفوا به من العذاب سخرية واستهزاءً ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بآيات رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا﴾ أي لا أحد أظلمُ ممن وُعظ بآيات الله البينة، وحججه الساطعة، فتعامى عنها وتناساها ولم يُلقِ لها بالاً ﴿وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ أي نسي ما عمله من الجرائم الشنيعة، والأفعال القبيحة، ولم يتفكر في عاقبتها ﴿إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ﴾ أي جعلنا على قلوبهم أغطية تحول دون فقه هذا القرآن وإدراك أسراره، والانتفاع بما فيه من المواعظ والأحكام ﴿وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً﴾ أي وفي آذانهم صمماً معنوياً يمنعهم أن يسمعوه سماع تفهم وانتفاع ﴿وَإِن تَدْعُهُمْ إلى الهدى فَلَنْ يهتدوا إِذاً أَبَداً﴾ أي وإن دعوتهم إلى الإيمان والقرآن فلن يستجيبوا لك أبداً لأنهم لا يفقهون ولا يسمعون، فللهدى قلوبٌ متفتحة مستعدة لقبول الإيمان وهؤلاء كالأنعام ﴿وَرَبُّكَ الغفور ذُو الرحمة﴾ أي وربك يا محمد واسع المغفرة عظيم الرحمة بالعباد مع تقصيرهم وعصيانهم ﴿لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ العذاب﴾ أي لو يعاقبهم بما اقترفوا من المعاصي والإجرام لعجَّل لهم عذاب الدنيا، ولكنه تعالى يمهلهم ويؤخر عنهم العذاب الذي يستعجلونه به رحمةً بهم، وقد جرت سنته بأن يمهل الظالم ولكن لا يهمله ﴿بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً﴾ أي لهم موعد آخر في القيامة يرون فيه الأهوال لن يجدوا لهم فيه ملجأ ولا منجى ﴿وَتِلْكَ القرى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ﴾ أي تلك هي أخبار الأمم السالفة والقرون الخالية كقوم هود وصالح ولوط وشعيب أهلكناهم حين ظلموا ﴿وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً﴾ أي جعلنا لهلاكهم وقتاً محدَّداً معلوماً، أفلا يعتبر هؤلاء المكذبون المعاندون؟ والآية وعيد وتهديد لكفار قريش قال ابن كثير: والمعنى احذروا أيها المشركون أن يصيبكم ما أصابهم فقد كذبتم أعظم نبيَّ وأشرف رسول، ولستم بأعزَّ علينا منهم فخافوا عذابي ونُذري ﴿وَإِذْ قَالَ موسى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين﴾ هذه هي القصة الثالثة في هذه السورة الكريمة والمعنى اذكر حين قال موسى الكليم لفتاة «يوشع بن نون» لا أزال أسير وأتابع السير حتى أصل الى ملتقى بحر فارس وبحر الروم مما يلي جهة المشرق وهو مجمع البحرين ﴿أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً﴾ أي أسير زماناً إلى أن أبلغ ذلك المكان ﴿فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا﴾ أي فلما بلغ موسى وفتاه مجمع البحرين نسي «يوشع» أن يخبر موسى بأمر الحوت وما شاهده منه من الأمر
صفحة رقم 181العجيب، روي أن الله تعالى أوحى إلى موسى أن يأخذ معه حوتاً فيجعله في مِكْتل فحيثما فقد الحوت فهناك الرجل الصالح ﴿فاتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر سَرَباً﴾ أي اتخذ الحوت سبيله في البحر مسلكاً قال المفسرون: كان الحوت مشوياً فخرج من المِكْتل ودخل في البحر وأمسك الله جرية الماء فصار كالطاق عليه وجمد الماء حوله وكان ذلك آيةً من آيات الباهرة لموسى عليه السلام ﴿فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا﴾ أي فلما قطعا ذلك المكان وهو مجمع البحرين الذي جُعل موعداً للملاقاة قال موسى لفتاه أعطنا طعام الغذاء ﴿لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً﴾ لقينا في هذا السفر العناء والتعب، وكان قد سار ليلة وجزءاً من النهار بعد أن جاوز الصخرة ﴿قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت﴾ أي قال الفتى «يوشع بن نون» حين طلب موسى منه الحوت للغذاء أرأيت حين التجأنا إلى الصخرة التي نمت عندها ماذا حدث من الأمر العجيب؟ لقد خرج الحوتُ من المكتل ودخل البحر وأصبح عليه مثل الكوة وقد نسيتُ أن أذكر لك ذلك حين استيقظت ﴿وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ﴾ أي وقد أنساني الشيطان أن أخبرك عن قصته الغريبة ﴿واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر عَجَباً﴾ أي واتخذ الحوتُ طريقة في البحر وكان أمره عجباً، يتعجب الفتى من أمره لأنه كان حوتاً مشوياً فدبَّت فيه الحياة ودخل البحر ﴿قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ﴾ أي قال موسى هذا الذي نطلبه ونريده لأنه علامة على غرضنا وهو لُقْيا الرجل الصالح ﴿فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً﴾ أي رجعا في طريقهما الذي جاءا منه يتتبعان أثرهما الأول لئلا يخرجا عن الطريق ﴿فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ﴾ وجدا الخضر عليه السلام عند الصخرة التي فقد عندها الحوت، وفي الحديث أن موسى وجد الخضر مسجَّى بثوبه مستلقياً على الأرض فقال له: السلام عليك فرفع رأسه وقال: وأنّى بأرضك السلام؟ ﴿آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا﴾ أي وهبناه نعمة عظيمة وفضلاً كبيراً وهي الكرامات التي أظهرها الله على يديه ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً﴾ أي علماً خاصاً بنا لا يُعلم إلا بتوفيقنا وهو علم الغيوب قال العلماء: هذا العلم الرباني ثمرة الإخلاص والتقوى ويسمى «العلم اللدُنِّي» يورثه الله لم أخلص العبودية له، ولا ينال بالكسب والمشقة وإِنما هو هبة الرحمن لمن خصَّه الله بالقرب والولاية والكرامة ﴿قَالَ لَهُ موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً﴾ أي هل تأذن لي في مرافقتك لأقتبس من علمك ما يرشدني في حياتي؟ قال المفسرون: هذه مخاطبة فيها ملاطفة وتواضع من نبي الله الكريم وكذلك ينبغي أن يكون الإنسان مع من يريد أن يتعلم منه ﴿قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً﴾ أي قال الخضر: إِنك لا تستطيع الصبر على ما ترى قال ابن عباس: لن تصبر على صنعي لأني علمتُ من غيب علم ربي ﴿وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً﴾ أي كيف تصبر على أمرٍ ظاهرة منكرٌ وأنت لا تعلم باطنه؟ ﴿قَالَ ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً﴾ أي قال موسى ستراني صابراً ولا أعصي أمرك إن شاء الله ﴿قَالَ فَإِنِ اتبعتني فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً﴾ شرط عليه قبل بدء الرحلة ألا يسأله ولا يستفسر عن شيء من تصرفاته حتى يكشف له
صفحة رقم 182
سرها، فقبل موسى شرطه رعايةً لأدب المتعلم مع العالم، والمعنى لا تسألني عن شيء مما أفعله حتى أبيّنه لك بنفسي ﴿فانطلقا حتى إِذَا رَكِبَا فِي السفينة خَرَقَهَا﴾ أي انطلق موسى والخضر يمشيان على ساحل البحر حتى مرت بهما سفينة فعرفوا الخضر فحملوهما بدون أجر فلما ركبا السفينة عمد الخضر إلى فأس فقلع لوحاً من ألواح السفينة بعد أن أصبحت في لجة البحر ﴿قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا﴾ أي قال له موسى مستنكراً: أخرقت السفينة لتغرق الركاب؟ ﴿لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً﴾ أي فعلت شيئاً عظيماً هائلاً، يروى أن موسى لما رأى ذلك أخذ ثوبه فجعله مكان الخرق ثم قال للخضر: قومٌ حملونا بغير أجرٍ عمدتَ إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهل السفينة لقد فعلت أمراً منكراً عظيماً!! ﴿قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً﴾ أي ألم أخبرك من أول الأمر أنك لا تصبر على ما ترى من صنيعي؟ ذكَّره بلطفٍ في مخالفته الشرط ﴿قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ﴾ أي لا تؤاخذني بمخالفتي الشرط ونسياني العهد ﴿وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً﴾ أي لا تكلفني مشقةً في صحبتي إياك وعاملني باليُسر لا بالعُسر ﴿فانطلقا حتى إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ﴾ أي فقبل عذره وانطلقا بعد نزولهما من السفينة يمشيان فمرَّا بغلمانٍ يلعبون وفيهم غلام وضيء الوجه جميل الصورة فأمسكه الخضر واقتلع رأسه بيده ثم رماه في الأرض ﴿قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾ أي قال موسى: أقتلت نفساً طاهرةً لم ترتكب جرماً ولم تقتل نفساً حتى تقتل به ﴿لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً﴾ أي فعلت شيئاً منكراً عظيماً لا يمكن السكوت عنه.
. لم يكن موسى ناسياً في هذه المرة ولا غافلاً ولكنه قاصدٌ أن يُنكر المنكر الذي لا يصبر على وقوعه بالرغم من تذكره لوعده، وقال هنا ﴿نُّكْراً﴾ أي منكراً فظيعاً وهو أبلغ من قوله ﴿أمْراً﴾ في الآية السابقة، ذكر القرطبي أن موسى عليه السلام لما قال للخضر ﴿أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً﴾ غضب واقتلع كتف الصبي الأيسر وقشر اللحم عنه فإذا مكتوب في عظم كتفه كافرٌ لا يؤمن بالله أبداً ﴿قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً﴾ أي ألم أقل لك أنتَ على التعيين والتحديد لن تستطيع الصبر على ما ترى مني؟ قال المفسرون: وقَّره في الأول فلم يواجهه بكاف الخطاب فلما خالف في الثاني واجهه بقوله ﴿لَّكَ﴾ لعدم العذر هنا، ويعود موسى لنفسه ويجد أنه خالف وعده مرتين، فيندفع ويقطع على نفسه الطريق ويجعلها آخر فرصةٍ أمامه ﴿قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي﴾ أي إن أنكرت عليك بعد هذه المرة واعترضتُ على ما يصدر منك فلا تصحبني معك ﴿قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً﴾ أي قد أعذرت إليَّ في ترك مصاحبتي فأنت معذورٌ عندي لمخالفتي لك ثلاث مرات ﴿فانطلقا حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا﴾ أي مشيا حتى وصلا إلى قرية قال ابن عباس: هي انطاكية فطلبا طعاماً وكان أهلها لئاماً لا يطعمون جائعاً، ولا يتسضيفون ضيفاً، فامتنعوا عن إضافتهما أو إطعامهما ﴿فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ﴾ أي وجدا في القرية حائطاً مائلاً يوشك أن يسقط ويقع ﴿فَأَقَامَهُ﴾ أي مسحه الخضر بيده فاستقام، وقيل إنه هدمه ثم بناه وكلاهما مرويٌ عن ابن عباس ﴿قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً﴾ أي قال له موسى لو أخذت منهم أجراً نستعين به على شراء الطعام! {أنكر عليه موسى صنيع المعروف مع غير أهله، روي أن
موسى قال للخضر: قومٌ استطعمناهم فلم يطعمونا، وضِفناهم فلم يضيّفونا ثم قعدت تبني لهم الجدار لو شئتَ لاتخذت عليه أجراً} ﴿قَالَ هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾ أي قال الخضر: هذا وقت الفراق بيننا حسب قولك ﴿سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً﴾ أي سأخبرك بحكمة هذه المسائل الثلاث التي أنكرتها عليَّ ولم تستطع عليها وفي الحديث
«رحم الله أخي موسى لوددت أنه صبر حتى يقص الله علينا من أمرهما ولو لبث مع صاحبه لأبصر العجب» ﴿أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البحر﴾ هذا بيانٌ وتفصيل للأحداث العجيبة التي رآها موسى ولم يطق لها صبراً والمعنى أما السفينة التي خرقتها فكانت لأناس ضعفاء لا يقدرون على مدافعة الظَّلمة يشتغلون بها في البحر بقصد التكسب ﴿فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا﴾ أي أردتُ بخرقها أن أجعلها معيبة لئلا يغتصبها الملك الظالم ﴿وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ﴾ أي كان أمامهم ملك كافر ظالمٌ ﴿يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً﴾ أي يغتصب كل سفينة صالحة لا عيب فيها ﴿وَأَمَّا الغلام فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ﴾ أي وأما الغلام الذي قتلتُه فكان كافراً فاجراً وكان أبواه مؤمنين وفي الحديث «إِن الغلام الذي قتله الخضر طُبع كافراً، ولو عاش لأرهق أبويه طغياناً وكفراً» ﴿فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً﴾ أي فخفنا أن يحملهما حبُّه على اتّباعه في الكفر والضلال ﴿فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً﴾ أي فأردنا بقتله أن يرزقهما الله ولداً صالحاً خيراً من ذلك الكافر وأقربَ براً ورحمة بوالديه ﴿وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المدينة وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا﴾ أي وأما الجدار الذي بنيتُه دون أجر والذي كان يوشك أن يسقط فقد خبئ تحته كنزٌ من ذهب وفضة لغلامين يتيمين ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً﴾ أي وكان والدهما صالحاً تقياً فحفظ الله لهما الكنز لصلاح الوالد قال المفسرون: إن صلاح الأباء ينفع الأبناء، وتقوى الأصول تنفع الفروع ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا﴾ أي فأراد الله بهذا الصنيع أن يكبرا ويشتد عودهما ويستخرجا كنزهما من تحت الجدار ﴿رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾ أي رحمةً من الله بهما لصلاح أبيهما ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ أي ما فعلتُ ما رأيتَ من خرْقِ السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدارعن رأيي واجتهادي، بل فعلته بأمر الله وإلهامه ﴿ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً﴾ أي ذلك تفسير التي لم تستطع الصبر عليها وعارضت فيها قبل أن أخبرك عنها.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي:
١ - الطباق بين ﴿مُبَشِّرِينَ.
. وَمُنذِرِينَ﴾ وبين ﴿نَسِيتُ.. وَأَذْكُرَ﴾.
٢ - اللف والنشر المرتَّب ﴿أَمَّا السفينة﴾ ﴿وَأَمَّا الغلام﴾ ﴿وَأَمَّا الجدار﴾ فقد جاء بها مرتبة بعد ذكر ركوب السفينة وقتل الغلام وبناء الجدار بطريق اللف والنشر المرتب وهو من المحسنات البديعية.
٣ - الحذف بالإيجاز ﴿كُلَّ سَفِينَةٍ﴾ أي صالحةٍ خذف لدلالة لفظ «أعيبها» وكذلك حذف لفظ كافر من ﴿وَأَمَّا الغلام﴾ لدلالة قوله تعالى ﴿فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ﴾.
٤ - التغليب ﴿أَبَوَاهُ﴾ المراد باللفظ أبوه وأمه.
٥ - الاستعارة ﴿يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ﴾ لأن الإرادة من صفات العقلاء وإسنادها إلى الجدار من لطيف الاستعارة وبليغ المجاز كقول الشاعر:
يريد الرمحُ صدر أبي براءٍ ويرغب عن دماء بني عقيل
٦ - التنكير للتفخيم والإضافة للتشريف ﴿عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ﴾.
٧ - السجع مراعاة لرءوس الآيات مثل ﴿نَصَباً.. سَرَباً.. عَجَباً﴾.
٨ - تعليم الأدب ﴿فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا﴾ وهناك قال ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ﴾ حيث أسند ما ظاهره شر لنفسه وأسند الخير إلى الله تعالى، وذلك لتعليم العباد الأدب مع الله جل وعلا.
«قصة موسى والخضر كما في الصحيحين»
عن أبيّ كعب عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: (إن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عَزَّ وَجَلَّ عليه إذْ لم يرُدَّ العلم إليه، فأوحى الله إليه أنَّ لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى يا رب فكيف لي به؟ قال: تأخذ حوتاً فتجعله في مِكْتل فحيثما فقدتَ الحوت فهو ثمَّ، فانطلق موسى: ومعه فتاه «يوشع بن نون» حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما واضطرب الحوت في المِكْتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيه في البحر سرَباَ، وأمسك الله عن الحوت جريه الماء فصار عليه مثل الطاق، فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً - قال ولم يجد موسى النَّصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به - فقال فتاه ﴿أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر عَجَباً﴾ قال فكان للحوت سَرَباً ولموسى وفتاه عجَباً فقال موسى ﴿ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً﴾ قال رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا هو مسجَّى بثوب فسلَّم عليه موسى فقال الخضر: وأنَّى بأرضك السلام! من أنت؟ قال: أنا موسى، قال موسى بني إسرائيل؟ قال نعم أتيتك لتعلمني مما عُلمت رُشداً ﴿قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً﴾.. يا موسى إني على علم من علم الله لا تعلمه علَّمنيه، وأنت على علم من علم الله علّّمكه لا أعلمه، فقال موسى ﴿ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً﴾ فقال الخضر ﴿فَإِنِ اتبعتني فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً﴾ فانطلقا يمشيان على الساحل فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نوْل - أي بدون أجر - فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحاً من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى: قومٌ قد حملونا بغير نوْل عمدت إلى سفينتهم فخرقتها ﴿لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً﴾ وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: وكانت الأولى من موسى نسياناً، وجاء عصفورٌ فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة فقال له الخضر: ما علمي وعلمكَ من علم الله
تعالى إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر، ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذْ أبصر الخضر غلاماً يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه فاقتلعه فقتله، فقال له موسى ﴿أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً﴾ قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً قال سُفيان: وهذه أشدُ من الأولى ﴿قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً﴾ فانطلقا ﴿حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ﴾ فقال الخضر بيده هكذا - أي أشار بيده - فأقامه فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا، ولم يضيفونا ﴿لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً﴾ قال الخضر: ﴿هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً﴾ قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«يرحم الله موسى لوددت أنه كان صبر حتى يقص الله علينا من أخبارهما» !! أخرجه الشيخان.
تنبيه: قال العلامة القرطبي: «كرامات الأنبياء ثابتة على ما دلت عليه الأخبار والآيات المتواترة، ولا ينكرها إلا المبتدع الجاحد أو الفاسق الحائد، فالآيات ما أخبر الله تعالى في حق مريم من ظهور الفواكه الشتوية في الصيف، والصيفية في الشتاء، وما ظهر على يدها حيث هزَّت النخلة وكانت يابسة فأثمرت، وهي ليست بنبية، ويدل أيضاً ما ظهر على يد الخضر من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار» أهـ. القرطبي ١١/٢٨