آيات من القرآن الكريم

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا
ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷ

سبب قول موسى لفتاه وهو ( يوشع بن نون ) هذا الكلام، أنه ذكر له أن عبداً من عباد الله بمجمع البحرين عنده من العلم ما لم يحط به موسى فأحب الرحيل إليه، وقال لفتاه ذلك ﴿ لا أَبْرَحُ ﴾ : أي لا أزال سائراً ﴿ حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين ﴾ أي هذا المكان الذي فيه مجمع البحرين، قال قتادة وغير واحد : هما ( بحر فارس ) مما يلي المشرق و ( بحر الروم ) مما يلي المغرب، وقال محمد بن كعب : مجمع البحرين عند طنجة، يعني في أقصى بلاد المغرب، فالله أعلم. وقوله :﴿ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً ﴾ أي ولو أني أسير حقباً من الزمان، عن عبد الله بن عمرو أنه قال : الحقب ثمانون سنة، وقال مجاهد : سبعون خريفاً، وقال ابن عباس ﴿ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً ﴾ قال : دهراً، وقوله :﴿ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا ﴾ وذلك أنه كان قد أمر بحمل حوت مملوح معه وقيل له متى فقدت الحوت فهو ثمة، فسارا حتى بلغا مجمع البحرين، وكان من مكتل مع يوشع عليه السلام، وطفر من المكتل إلى البحر، فاستيقظ يوشع عليه السلام وسقط الحوت في البحر فجعل يسير في الماء والماء له مثل الطاق لا يلتئم بعده، ولهذا قال تعالى :﴿ فاتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر سَرَباً ﴾ أي مثل السرب في الأرض، قال ابن عباس : صار أثره كأنه حجر، وقال قتادة : سرب من البحر حتى أفضى إلى البحر، ثم سلك فيه فيجعل لا يسلك فيه طريقاً إلاّ صار ماء جامداً، وقوله :﴿ فَلَمَّا جَاوَزَا ﴾ : أي المكان الذي نسيا الحوت فيه، ﴿ قَالَ ﴾ موسى ﴿ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا ﴾ أي الذي جاوزا في المكان ﴿ نَصَباً ﴾ أي تعباً، ﴿ قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ ﴾، ولهذا قال :﴿ واتخذ سَبِيلَهُ ﴾ أي طريقه ﴿ فِي البحر عَجَباً * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ﴾ أي هذا هو الذي نطلب ﴿ فارتدا ﴾ أي رجعا ﴿ على آثَارِهِمَا ﴾ أي طريقهما ﴿ قَصَصاً ﴾ أي يقصان آثار مشيهما، ويقفون أثرهما ﴿ فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً ﴾، وهذا هو الخضر عليه السلام، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله ﷺ.
روى البخاري، عن أُبي بن كعب رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله ﷺ يقول :« إن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل، فسئل أي الناس أعلم؟ قال : أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك. قال موسى : يا رب كيف لي به؟ قال : تأخذ معك حوتاً فتجعله بمكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم، فأخذ فجعله بمكتل ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون عليه السلام، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر، فاتخذ سبيله في البحر سرباً، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء، فصار عليه مثل الطاق.

صفحة رقم 1523

فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه :﴿ آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً ﴾، ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به، قال له فتاه :﴿ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر عَجَباً ﴾، قال فكان للحوت سرباً، ولموسى وفتاه عجباً، فقال :﴿ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً ﴾ قال، فرجعا يقصان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى بثوب، فسلم عليه موسى، فقال الخضر : وأني بأرضك السلام؟ فقال : أنا موسى، فقال : موسى بني إسرائيل؟ قال : نعم، قال أتيتك لتعلمني مما علمت رشداً ﴿ قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ﴾ [ الكهف : ٦٧ ] يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه. فقال موسى :﴿ ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً ﴾ [ الكهف : ٦٩ ]، قال له الخضر :﴿ فَإِنِ اتبعتني فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً ﴾ [ الكهف : ٧٠ ]، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر، فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلاّ والخضر قد قلع لوحاً من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى : قد حملونا بغير نول فعمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها! لقد جئت شيئاً إمراً ﴿ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً ﴾ [ الكهف : ٧٢-٧٣ ]. قال، وقال رسول الله ﷺ وعلى آله - فكانت الأولى من موسى نسياناً، قال، وجاء عصفور، فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة أو نقرتين، فقال له الخضر : ما علمي وعلمك في علم الله إلاّ مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر، ثم خرجا من السفينة فبينما هم يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاماً يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر رأسه، فاقتلعه بيده فقتله، فقال له موسى :﴿ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ﴾ [ ٧٤-٧٥ ]، قال وهذه أشد من الأولى، ﴿ قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً * فانطلقا حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ ﴾

صفحة رقم 1524

[ الكهف : ٧٦-٧٧ ] أي مائلاً فقال الخضر بيده ﴿ قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً * فانطلقا حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ ﴾ [ ٦٧-٧٧ ] فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا ﴿ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً * قَالَ هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ﴾ [ الكهف : ٧٧-٧٨ ]، فقال رسول الله ﷺ :« وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما » قال سعيد بن جبير : كان ابن عباس يقرأ :﴿ وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً ﴾، وكان يقرأ :﴿ وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين ﴾.
وروى الزهري : عن ابن عباس : أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري، في صاحب موسى، فقال ابن عباس : هو خضر، فمر بها أبي بن كعب بدعاه ابن عباس، فقال : إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى، الذي سأل السبيل إلى لقيه، فهل سمعت رسول الله ﷺ يذكر شأنه؟ قال : إني سمعت رسول الله ﷺ يقول :« بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل إذ جاءه رجل، فقال : تعلم مكان رجل أعلم منك؟ قال : لا، فأوحى الله إلى موسى : بلى عبدنا خضر، فسأل موسى السبيل إلى لقيه، فجعل الله له الحوت آية، وقيل له : إذا فقدت الحوت فارجع، فإنك ستلقاه، فكان موسى يتبع أثر الحوت في البحر، فقال فتى موسى لموسى أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت، قال موسى ﴿ قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً ﴾ فوجد عبدنا خضراً، فكان من شأنهما ما قص الله في كتابه ».

صفحة رقم 1525
تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير
عرض الكتاب
المؤلف
محمد نسيب بن عبد الرزاق بن محيي الدين الرفاعي الحلبي
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية