
(فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (٦)
الفاء تنبئ عن تقدير قولي مطوي، معناه إذا كنت حريصا على إيمانهم فلعلك باخع نفسك إلخ... ، والبخع: جهد النفس حتى تتلف، وباخع نفسك، أي مؤدى بها إلى التلف ومهلكها من شدة همك وتحميل نفسك ما لَا حاجة إلى تحميله (عَلَى آثَارِهِمْ)، أي على آثار توليهم؛ لأنك لَا تتوقعه، إذ إن نضوح الدليل ووضوح الصدق وقوة الإعجاز يجعلك تتوقع إيمانا، فجاء إعراضا وتوليا عن الحق البين وقوله تعالى: (عَلَى آثَارِهِمْ) فيه استعارة وترشيح لها، كأنهم محبوب يفارقك فيدفع الفراق إلى ألم ولوغة كأنه باخع نفسه لهذا الألم ولذلك الفراق، وأنه يبرح به البعد والفراق حتى يكاد يبخع نفسه، هذا تخريج الزمخشري أو معناه في قوله تعالى: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ) وهو معقول في ذاته وربما يكون أقرب من هذا التخريج أن تقول لعلك باخع نفسك على آثار توليهم وإعراضهم ودخولهم النار (إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ)، والحديث هو القرآن الكريم، كما قال تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ...).
والإشارة في قوله سبحانه: (بِهَذَا الْحَديثِ) إشارة إلى ما سبق في قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ) فهو كتاب اللَّه الذي سجلت فيه شرائعه، وهو حديث اللَّه إلى رسوله وإلى خلقه المؤمنين، بل إلى الخليقة أجمعين.
و (لعل) معناها الرجاء، والرجاء ما يتوقع وقوعه سواء أكان مرغوبا أم كان مرهوبا، فهو الأمر المتوقع على كلتا حاليه، وهو هنا يبين اللَّه تعالى لنبيه أن حاله حال من يتوقع منه بخع نفسه (إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) و (أَسَفًا)

مفعول لأجله، أي يبخع نفسه هما وحزنا إن لم يؤمنوا، كقوله تعالى: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمنينَ)، والأسف هو الهم الشديد الذي لا يذهب، بل يبقى كقوله: (... غَضْبَانَ أَسِفًا...)، أي مهموما هما يسكن في القلب ولا يكون كالغضب يعرض ثم يزول، كالزوبعة تثور ثم تهدأ، أما الأسف والهم فيبقى.
بعد ذلك بين سبحانه أن الإنسان يرى في هذه الدنيا العبر، وعجائب الوجود ولكن لَا يعتبر؛ ولذا قال تعالى: