آيات من القرآن الكريم

فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا
ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﯸﯹﯺ ﯼﯽﯾﯿﰀﰁ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢ ﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ ﭼﭽﭾﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌ ﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝ ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥ ﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ ﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳ ﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠ ﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ ﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉ

قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً [الكهف: ٩٩، ١٠٠] اه، وللمناسبة أوجه أخر تظهر بأدنى تأمل، وأما فضلها فمشهور.
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عمر مرفوعا من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء يضيء له إلى يوم القيامة وغفر له ما بين الجمعتين.
وروى غير واحد عن أبي سعيد الخدري من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق،
وكان الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما كما أخرج أبو عبيد والبيهقي عن أم موسى يقرأها كل ليلة.
وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن مغفل مرفوعا البيت الذي تقرأ فيه سورة الكهف لا يدخله شيطان تلك الليلة وإلى سنية قراءتها يوم الجمعة وكذا ليلتها
ذهب غير واحد من الأئمة وقالوا بندب تكرار قراءتها.
وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان وجماعة عن أبي الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال»
وفي رواية أخرى عنه رواها أحمد. ومسلم والنسائي وابن حبان أيضا قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال».
وأخرج الترمذي وصححه عنه مرفوعا «أن من قرأ ثلاث آيات من أول الكهف عصم»
إلخ،
وجاء في حديث أخرجه ابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعا «أن من قرأ الخمس الأواخر منها عند نومه بعثه الله تعالى أي الليل شاء»
وقد جربت ذلك مرارا فليحفظ والله تعالى الموفق.

صفحة رقم 190

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ محمد صلّى الله عليه وسلّم الْكِتابَ الكامل الغني عن الوصف بالكمال المعروف بذلك من بين سائر الكتب الحقيق باختصاص اسم الكتاب به، وهو إما عبارة عن جميع القرآن ففيه تغليب الموجود على المترقب وإما عبارة عن الجميع المنزل حينئذ فالأمر ظاهر. وفي وصفه تعالى بالموصول إشعار بعلية ما في حيز الصلة لاستحقاق الحمد الدال عليه اللام على ما صرح به ابن هشام وغيره وإيذان بعظم شأن التنزيل الجليل كيف لا

صفحة رقم 191

وهو الهادي إلى الكمال الممكن في جانبي العلم والعمل وفي التعبير عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالعبد مضافا إلى ضميره تعالى من الإشارة إلى تعظيمه عليه الصلاة والسلام، وكذا تعظيم المنزل عليه ما فيه، وفيه أيضا إشعار بأن شأن الرسول أن يكون عبدا للمرسل لا كما زعمت النصارى في حق عيسى عليه السلام وتأخير المفعول الصريح عن الجار والمجرور مع أن حقه التقديم عليه ليتصل به قوله تعالى:
وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ أي للكتاب عِوَجاً أي شيئا من العوج باختلال اللفظ من جهة الإعراب ومخالفة الفصاحة وتناقض المعنى وكونه مشتملا على ما ليس بحق أو داعيا لغير الله تعالى والعوج وكذا العوج الانحراف والميل عن الاستقامة إلا أنه قيل هو بكسر العين ما يدرك بفتح العين وبفتح العين ما يدرك بفتح العين (١) فالأول الانحراف عن الاستقامة المعنوية التي تدرك بالبصيرة كعوج الدين والكلام، والثاني الانحراف عن الاستقامة الحسية التي تدرك بالبصر كعوج الحائط. والعود أورد عليه قوله تعالى في شأن الأرض لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه: ١٠٧] فإن الأرض محسوسة واعوجاجها وكذا استقامتها مما يدرك بالبصر فكان ينبغي على ما ذكر فتح العين، وأجيب بأنه لما أريد به هنا ما خفي من الاعوجاج حتى احتاج إثباته إلى المقاييس الهندسية المحتاجة إلى إعمال البصيرة الحق بما هو عقلي صرف فأطلق عليه ذلك لذلك وتعقب بأن لا ترى ظاهر في أن المنفي ما يدرك بالبصر فيحتاج إلى أن يراد به الإدراك، وعن ابن السكيت أن المكسور أعم من المفتوح.
واختار المرزوقي في شرح الفصيح أنه لا فرق بينهما قَيِّماً أي مستقيما كما أخرجه ابن المنذر عن الضحاك وروي أيضا عن ابن عباس، والمراد مما قيل إنه لا خلل في لفظه ولا في معناه، والمراد من هذا أنه معتدل لا إفراط فيما اشتمل عليه من التكاليف حتى يشق على العباد ولا تفريط فيه بإهمال ما يحتاج إليه حتى يحتاج إلى كتاب آخر كما قال سبحانه ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: ٣٨] ولذا كان آخر الكتب المنزل على خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام، وقيل المراد منه ما أريد مما قبله وذكره للتأكيد.
وقال الفراء: المراد قيما على سائر الكتب السماوية شاهدا بصحتها. وقال أبو مسلم: المراد قيما بمصالح العباد متكفلا بها وببيانها لهم لاشتماله على ما ينتظم به المعاش والمعاد وهو على هذين القولين تأسيس أيضا لا تأكيد فكأنه قيل كتابا صادقا في نفسه مصدقا لغيره أو كتابا خاليا عن النقائص حاليا بالفضائل وقيل المراد على الأخير أنه كامل في نفسه ومكمل لغيره، ونصبه بمضمر أي جعله قيما على أن الجملة مستأنفة أو جعله قيما على أنها معطوفة على ما قبل إلا أنه قيل إن حذف حرف العطف مع المعطوف تكلف وكان حفص يسكت على عِوَجاً سكتة خفيفة ثم يقول قَيِّماً.
واختار غير واحد أنه على الحال من الضمير في لَهُ أي لم يجعل له عوجا حال كونه مستقيما ولا عوج فيه على ما سمعت أولا من معنى المستقيم إذ محصله أنه تعالى صانه عن الخلل في اللفظ والمعنى حال كونه مستقيما ولا عوج فيه على ما سمعت أولا من معنى المستقيم إذ محصله أنه تعالى صانه عن الخلل في اللفظ والمعنى حال كونه خاليا عن الإفراط والتفريط، وكذا على القولين الأخيرين، نعم قيل: إن جعله حالا من الضمير مع تفسير المستقيم بالخالي عن العوج ركيك.
وتعقبه بعضهم بأنه تندفع الركاكة بالحمل على الحال المؤكدة كما في قوله تعالى: ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ

(١) ما الأولى نافية وما الثانية موصولة اه منه.

صفحة رقم 192

[التوبة: ٢٥] وفيه بحث، وجوز أن يكون حالا من الكتاب، واعترض بأنه يلزم حينئذ العطف قبل تمام الصلة لأن الحال بمنزلة جزء منها، وأجيب بأنه يجوز أن يجعل وَلَمْ يَجْعَلْ إلخ من تتمة الصلة الأولى على أنه عطف بياني حيث قال تعالى أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ الكامل في بابه عقبه بقوله سبحانه وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً فحينئذ لا يكون الفصل قبل تمام الصلة، وهو نظير قوله تعالى وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ [البقرة: ٢١٧] على قول. وأيضا يجوز أن يكون الواو في وَلَمْ يَجْعَلْ للحال والجملة بعده حال من الْكِتابَ كقيما واختاره الأصبهاني.
وقال أبو حيان: إن ذاك على مذهب من يجوز وقوع حالين من ذي حال واحد بغير عطف وكثير من أصحابنا على منعه، وقال آخر: إن قياس قول الفارسي في الخبر أنه لا يتعدد مختلفا بالإفراد والجملية أن يكون الحال كذلك.
وأجيب بأنه غير وارد إذ ما ذكره الفارسي خلاف مذهب الجمهور مع أنه قياس مع الفارق فلا يسمع، وكذا ما ذكره أبو حيان عن الكثير خلاف المعول عليه عند الأكثر، نعم فرارا من القيل والقال جعل بعضهم الواو للاعتراض والجملة اعتراضية، وفي الكلام تقديم وتأخير والأصل الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا، وروي القول بالتقديم والتأخير عن ابن عباس ومجاهد، وذكر السمين أن ابن عباس حيث وقعت جملة معترضة في النظم يجعلها مقدمة من تأخير، ووجه ذلك بأنها وقعت بين لفظين مرتبطين فهي في قوة الخروج من بينهما، ولما كان قَيِّماً يفيد استقامة ذاتية أو ثابتة لكونه صفة مشبهة وصيغة مبالغة، وما من شيء كذلك إلا وقد يتوهم فيه أدنى عوج ذكر قوله تعالى: وَلَمْ يَجْعَلْ إلخ للاحتراس، وقدم للاهتمام كما في قوله:

ألا يا اسلمي يا دار مي على البلا ولا زال منهلا بجرعائك القطر
ومن هنا يعلم أن تفسير القيم بالمستقيم بالمعنى المتبادر، وأن قول الزمخشري فائدة الجمع بينه وبين نفي العوج التأكيد فرب مستقيم مشهود له بالاستقامة ولا يخلو من أدنى عوج عند السبر والتصفح غير ذي عوج عند السبر والتصفح، وأنه لا يرد قول الإمام إن قوله تعالى: لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً يدل على كونه مكملا في ذاته، وقوله سبحانه:
قَيِّماً يدل على كونه مكملا لغيره، فثبت بالبرهان العقلي أن الترتيب الصحيح كما ذكره الله تعالى وأن ما ذكروه من التقديم والتأخير فاسد يمتنع العقل من الذهاب إليه انتهى.
ولعمري أن هذا الكلام لا ينبغي من الإمام إن صح عنده أن القول المذكور مروي عن ابن عباس ومجاهد، فإن الأول ترجمان القرآن وناهيك به جلالة ومعرفة بدقائق اللسان، وقد قيل في الثاني إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك، وقال صاحب حل العقد: يمكن أن يكون قيما بدلا من قوله تعالى: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قال أبو حيان:
ويكون حينئذ بدل مفرد من جملة كما قالوا في عرفت زيدا أبو من هو إنه بدل جملة من مفرد، وفي جواز ذلك خلاف، هذا وزعم بعضهم أن ضمير لَهُ عائد على عَبْدِهِ وحينئذ لا يتأتى جميع التخاريج الإعرابية السابقة، وقرأ أبان بن ثعلب «قيما» بكسر القاف وفتح الياء المخففة، وفي بعض مصاحف الصحابة «ولم يجعل له عوجا لكنه قيما» وحمل ذلك على أنه تفسير لا قراءة لِيُنْذِرَ متعلق بانزل واللام للتعليل، واستدل به من قال بتعليل أفعال الله تعالى بالأغراض كالسلف والماتريدية، ومن يأبى ذلك يجعلها لام العاقبة، وزعم الحوفي أنه متعلق بقيما وليس بقيم، والفاعل ضمير الجلالة، وكذا في الفعلين المعطوفين عليه، وجوز أن يكون الفاعل في الكل ضمير الكتاب أو ضميره صلّى الله عليه وسلّم، وأنذر يتعدى لمفعولين قال تعالى: نْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
[النبأ: ٤٠] وحذف هنا المفعول الأول واقتصر على الثاني، وهو قوله تعالى: بَأْساً شَدِيداً إيذانا بأن ما سيق له الكلام هو المفعول الثاني، وأن الأول ظاهر لا حاجة إلى

صفحة رقم 193

ذكره وهو الذين كفروا بقرينة ما بعد، والمراد الذين كفروا بالكتاب، والظاهر أن المراد من البأس الشديد عذاب الآخرة لا غير، وقيل يحتمل أن يندرج فيه عذاب الدنيا مِنْ لَدُنْهُ أي صادرا من عنده تعالى نازلا من قبله بمقابلة كفرهم فالجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة ثانية للبأس، ولدن هنا بمعنى عند كما روي عن قتادة، وذكر الراغب أنه أخص منه لأنه يدل على ابتداء نهاية نحو أقمت عنده من لدن طلوع الشمس إلى غروبها، وقد يوضع موضع عند.
وقال بعضهم: إن «لدن» أبلغ من عند وأخص وفيه لغات، وقرأ أبو بكر عن عاصم بإشمام الدال بمعنى تضعيف الصوت بالحركة الفاصلة بين الحرفين فيكون إخفاء لها وبكسر النون لالتقاء الساكنين وكسر الهاء للإتباع، ويفهم من كلام بعضهم أنه قرأ بالإسكان مع الإشمام بمعنى الإشارة إلى الحركة بضم الشفتين مع انفراج بينهما فاستشكل في الدر المصون. وغيره بأن هذا الإشمام إنما يتحقق في الوقف على الآخر وكونه في الوسط كما هنا لا يتصور، ولذا قيل: إنه يؤتى به هنا بعد الوقف على الهاء. ودفع الاعتراض بأنه لا يدل حينئذ على حركة الدال وقد علل به بأنه متعين إذ ليس في الكلمة ما يصلح أن يشار إلى حركته غيرها، ولا يخفى ما فيه، وما قدمناه حاسم لمادة الإشكال، وقرأ الجمهور بضم الدال والهاء وسكون النون إلا أن ابن كثير يصل الهاء بواو وغيره لا يصل وَيُبَشِّرَ بالنصب عطف على ينذر وقرىء شاذا بالرفع.
وقرأ حمزة والكسائي «ويبشر» بالتخفيف الْمُؤْمِنِينَ أي المصدقين بالكتاب كما يشعر به وكذا بما تقدم ذكر ذلك بعد الامتنان بإنزال الكتاب الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أي الأعمال الصالحة التي بينت في تضاعيفه، وإيثار صيغة الاستقبال في الصلة للإشعار بتجدد العمل واستمراره، وإجراء الموصول على موصوفه المذكور لما أن مدار قبول العمل الإيمان أَنَّ لَهُمْ أي بأن لهم بمقابلة إيمانهم وعملهم المذكور أَجْراً حَسَناً هو كما قال السدي وغيره الجنة وفيها من النعيم المقيم والثواب العظيم ما فيها، ويؤيد كون المراد به الجنة ظاهر قوله تعالى ماكِثِينَ فِيهِ أي مقيمين في الأجر أَبَداً من غير انتهاء لزمان مكثهم.
ونصب ماكِثِينَ على الحال من الضمير المجرور في لَهُمْ والظرفان متعلقان به، وتقديم الإنذار على التبشير لإظهار كمال العناية بزجر الكفار عما هم عليه مع مراعاة تقديم التخلية على التحلية، وتكرير الإنذار بقوله تعالى وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً متعلقا بفرقة خاصة ممن عمه الإنذار السابق من مستحقي البأس الشديد للإيذان بكمال فظاعة حالهم لغاية شناعة كفرهم وضلالهم كما ينبىء عنه ما بعد أي وينذر من بين هؤلاء الكفرة المتفوهين بمثل هاتيك العظيمة خاصة وهم العرب القائلون الملائكة بنات الله تعالى واليهود القائلون عزير ابن الله سبحانه والنصارى القائلون المسيح ابن الله عز وجل، وترك إجراء الموصول على الموصوف كما في قوله تعالى: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ إلخ للإيذان بكفاية ما في حيز الصلة في الكفر على أقبح الوجوه وإيثار صيغة الماضي في الصلة للدلالة على تحقق صدور تلك الكلمة القبيحة عنهم فيما سبق، وجعل بعضهم المفعول المحذوف فيما سلف عبارة عن هذه الطائفة، وفي الآية صنعة الاحتباك حيث حذف من الأول ما ذكر فيما بعد وهو المنذر وحذف مما بعد ما ذكر في الأول وهو المنذر به. وتعقب بأنه يؤدي إلى خروج سائر أصناف الكفرة عن الإنذار والوعيد.
وأجيب بأنه يعلم إنذار سائر الأصناف ودخولهم في الوعيد من باب الأولى لأن القول بالتبني وإن كبر كلمة دون الإشراك وفيه نظر، وقدر ابن عطية العالم وأبو البقاء العباد فيعم المؤمنين أيضا، وتعقب بأن التعميم يقتضي حمل الإنذار على معنى مجرد الأخبار بالأمر الضار من غير اعتبار حلول المنذر به على المنذر كما في قوله تعالى: أَنْ أَنْذِرِ

صفحة رقم 194

النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا
[يونس: ٢] وهو يفضي إلى خلو النظم الكريم عن الدلالة على حلول البأس الشديد على من عدا هذه الفرقة فتأمل.
ما لَهُمْ بِهِ أي باتخاذه سبحانه وتعالى ولدا مِنْ عِلْمٍ مرفوع المحل على الابتداء أو الفاعلية لاعتماد الظرف، ومن مزيدة لتأكيد النفي والجملة حالية أو مستأنفة لبيان حالهم في مقالهم أي ما لهم بذلك شيء من العلم أصلا لا لإخلالهم بطريق العلم مع تحقق المعلوم أو إمكانه بل لا ستحالته في نفسه ومعها لا يستقيم تعلق العلم، واستظهر كون ضمير بِهِ عائدا على الولد وعدم العلم وكذا خال الجملة على ما سمعت، وزعم المهدوي أن الجملة على هذا صفة لولدا وليس بشيء، وجوز أن يعود على القول المفهوم من قالُوا أي ليس قولهم ذلك ناشئا عن علم وتذكر ونظر فيما يجوز عليه تعالى وما يمتنع، وقال الطبري: هو عائد على الله تعالى على معنى ليس لهم علم بما يجوز عليه تعالى وما يمتنع وَلا لِآبائِهِمْ الذين قالوا مثل ذلك ناسبين التبني إليه عز وجل، والتعرض لنفي العلم عنهم لأنهم قدورة هؤلاء كَبُرَتْ كَلِمَةً أي عظمت مقالتهم هذه في الكفر والافتراء لما فيها من نسبته تعالى إلى ما لا يكاد يليق بكبريائه جل وعلا، وكبر وكذا كل ما كان على وزن فعل موضوعا على الضم كظرف أو محولا إليه من فعل أو فعل ذهب الأخفش والمبرد إلى إلحاقه بباب التعجب فالفاعل هنا ضمير يرجع إلى قوله تعالى: اتَّخَذَ إلخ بتأويل المقالة، وكَلِمَةً نصب على التمييز وكأنه قيل ما أكبرها كلمة وقوله تعالى تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ صفة كَلِمَةً تفيد استعظام اجترائهم على النطق بها وإخراجها من أفواههم فإن كثيرا مما يوسوس به الشيطان وتحدث به النفس لا يمكن أن يتفوه به بل يصرف عنه الفكر فكيف بمثل هذا المنكر. وذهب الفارسي وأكثر النحاة إلى إلحاقه بباب نعم وبئس فيثبت له جميع أحكامه ككون فاعله معرفا بأل أو مضافا إلى معرف بها أو ضميرا مفسرا بالتمييز، ومن هنا جوز أن يكون الفاعل هنا ضمير كَلِمَةً وهي أيضا تمييز والجملة صفتها ولا ضير في وصف التمييز في باب نعم وبئس، وجوز أبو حيان وغيره أن تكون صفة لمحذوف هو المخصوص بالذم أي كبرت كلمة كلمة خارجة من أفواههم، وظاهر كلام الأخفش تغاير المذهبين. وفي التسهيل أنه من باب نعم وبئس وفيه معنى التعجب. والمراد به هنا تعظيم الأمر في قلوب السامعين وهذا ظاهر في أنه لا تغاير بينهما وإليه يميل كلام بعض الأئمة. وقيل نصبت على الحال ولا يخفى حاله. وتسمية ذلك كلمة على حد تسمية القصيدة بها. وقرىء «كبرت» بسكون الباء وهي لغة تميم، وجاء في نحو هذا الفعل ضم العين وتسكينها ونقل حركتها إلى الفاء. وقرأ الحسن وابن يعمر وابن محيصن والقواس عن ابن كثير كلمة بالرفع على الفاعلية والنصب أبلغ وأوكد. واستدل النظام على أن الكلام جسم بهذه الآية لوصفه فيها بالخروج الذي هو من خواص الأجسام وأجيب بأن الخارج حقيقة هو الهواء الحامل له وإسناده إلى الكلام الذي هو كيفية مجاز وتعقب بأن النظام القائل بجسمية الكلام يقول هو الهواء المكيف لا الكيفية واستدلاله على ذلك مبني على الأصل هو الحقيقة إلا أن الخلاف لفظي لا ثمرة فيه إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً أي ما يقولون في ذلك الشأن إلا قولا كذبا لا يكاد يدخل تحت إمكان الصدق أصلا والضمير أن لهم ولآبائهم فَلَعَلَّكَ باخِعٌ أي قاتل نَفْسَكَ وفي معناه ما في صحيح البخاري مهلك. والأول مروي عن مجاهد. والسدي وابن جبير وابن عباس وأنشد لابن الأزرق إذ سأله قول لبيد بن ربيعة:

لعلك يوما إن فقدت مزارها على بعده يوما لنفسك باخع
وفي البحر عن الليث بخع الرجل نفسه بخعا وبخوعا قتلها من شدة الوجد وأنشد قول الفرزدق:

صفحة رقم 195

ألا أيهذا الباخع الوجد (١) نفسه لشيء نحته عن يديه المقادر
وهو من بخع الأرض بالزراعة أي جعلها ضعيفة بسبب متابعة الزراعة كما قال الكسائي، وذكر الزمخشري أن البخع أن يبلغ الذبح البخاع بالباء وهو عرق مستبطن القفا، وقد رده ابن الأثير وغيره بأنه لم يوجد في كتب اللغة والتشريح لكن الزمخشري ثقة في هذا الباب واسع الاطلاع، وقرىء «باخع نفسك» بالإضافة وهي خلاف الأصل في اسم الفاعل إذا استوفى شروط العمل عند الزمخشري، وأشار إليه سيبويه في الكتاب.
وقال الكسائي: العمل والإضافة سواء، وزعم أبو حيان أن الإضافة أحسن من العمل عَلى آثارِهِمْ أي من بعدهم. يعني من بعد توليهم عن الإيمان وتباعدهم عنه. أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والنضر بن الحارث. وأمية بن خلف والعاصي بن وائل والأسود بن المطلب وأبا البختري في نفر من قريش اجتمعوا وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد كبر عليه ما يرى من خلاف قومه إياه وإنكارهم ما جاء به من النصيحة فأحزنه حزنا شديدا فأنزل الله تعالى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ إلخ، ومنه يعلم أن ما ذكرنا أوفق بسبب النزول من كون المراد من بعد موتهم على الكفر.
إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ الجليل الشأن، وهو القرآن المعبر عنه في صدر السورة بالكتاب، ووصفه بذلك لو سلم دلالته على الحدوث لا يضر الأشاعرة وأضرابهم القائلين: بأن الألفاظ حادثة، وإن شرطية، والجملة بعدها فعل الشرط، والجواب محذوف ثقة بدلالة ما سبق عليه عند الجمهور، وقيل الجواب فلعلك إلخ المذكور، وهو مقدم لفظا مؤخر معنى، والفاء فيه فاء الجواب، وقرىء «أن لم يؤمنوا» بفتح همزة أن على تقدير الجار أي لأن، وهو متعلق بباخع على أنه علة له. وزعم غير واحد أنه لا يجوز إعماله على هذا إذ هو اسم فاعل وعمله مشروط بكونه للحال أو الاستقبال، ولا يعمل وهو للمضي، وإن الشرطية تقلب الماضي بواسطة لَمْ إلى الاستقبال بخلاف أن المصدرية فإنها تدخل على الماضي الباقي على مضيه إلا إذا حمل على حكاية الحال الماضية لاستحضار الصورة للغرابة.
وتعقبه بعض الأجلة بأنه لا يلزم من مضي ما كان علة لشيء مضيه، فكم من حزن مستقبل على أمر ماض سواء استمر أو لا فإذا استمر فهو أولى لأنه أشد نكاية فلا حاجة إلى الحمل على حكاية الحال. ووجه ذلك في الكشف بأنه إذا كانت علة البخع عدم الإيمان فإن كانت العلة قد تمت فالمعلول كذلك ضرورة تحقق المعلول عند العلة التامة، وإن كانت بعد فكمثل ضرورة أنه لا يتحقق بدون تمامها، وتعقب بأنه غير مسلم، لأن هذه ليست علة تامة حقيقية حتى يلزم ما ذكر، وإنما هي منشأ وباعث فلا يضر تقدمها، وقيل إنه تفوت المبالغة حينئذ في وجده صلّى الله عليه وسلّم على توليهم لعدم كون البخع عقبه بل بعده بمدة بخلاف ما إذا كان للحكاية، وتعقب أيضا بأنه لا وجه له بل المبالغة في هذا أقوى لأنه إذا صدر منه لأمر مضى فكيف لو استمر أو تجدد؟ ولعل في الآية ما يترجح له البقاء على الاستقبال فتدبر، وانتصاب قوله تعالى: أَسَفاً بباخع على أنه مفعول من أجله.
وجوز أن يكون حالا من الضمير فيه بتأويل متأسفا لأن الأصل في الحال الاشتقاق وأن ينتصب على أنه مصدر
(١) قال أبو عبيدة كان ذو الرمة ينشد الوجد بالرفع وقال الأصمعي إنما هو الوجد بالفتح اه فيكون نصبه على أنه مفعول لأجله ونحته مخفف نحته اه منه.

صفحة رقم 196

فعل مقدر أي تأسف أسفا، والأسف على ما نقل عن الزجاج المبالغة في الحزن والغضب.
وقال الراغب: الأسف الحزن والغضب معا وقد يقال لكل منهما على الانفراد، وحقيقته ثوران دم القلب شهوة الانتقام فمتى كان على من دونه انتشر فصار غضبا ومتى كان على ما فوقه انقبض فصار حزنا، ولذلك سئل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن الحزن والغضب فقال: مخرجهما واحد واللفظ مختلف فمن نازع من يقوى عليه أظهره غيظا وغضبا ومن نازع من لا يقوى عليه أظهره حزنا وجزعا، وبهذا النظر قال الشاعر:
فحزن كل أخي حزن أخو الغضب وإلى كون الأسف أعم من الحزن والغضب وكون الحزن على من لا يملك ولا هو تحت يد الآسف والغضب على من هو في قبضته وملكه ذهب منذر بن سعد وفسر الأسف هنا بالحزن بخلافه في قوله تعالى: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ [الزخرف: ٥٥] وإذا استعمل الأسف مع الغضب يراد به الحزن على ما قيل في قوله تعالى: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً [الأعراف: ١٥٠] وجعل كل منهما فيه بالنسبة إلى بعض من القوم، وعن قتادة تفسير الأسف هنا بالغضب، وفي رواية أخرى بالحزن، وفي صحيح البخاري تفسيره بالندم. وعن مجاهد تفسيره بالجزع، وأهل الحزن أكثر، ولعل للترجي وهو الطمع في الوقوع أو الإشفاق منه، وهي هنا استعارة أي وصلت إلى حالة يتوقع منك الناس ذلك لما يشاهد من تأسفك على عدم إيمانهم.
وقال العسكري: هي هنا موضوعة موضع النهي كأنه قيل لا تبخع نفسك، وقيل موضع الاستفهام، وجعله ابن عطية إنكاريا على معنى لا تكن كذلك، والقول بمجيء لعل للاستفهام قول كوفي، والذي يظهر أنها هنا للإشفاق الذي يقصد به التسلي والحث على ترك التحزن والتأسف، ويمكن أن يكون مراد العسكري ذلك، وفي الآية عند غير واحد استعارة تمثيلية وذلك أنه مثل حاله صلّى الله عليه وسلّم في شدة الوجد على إعراض القوم وتوليهم عن الإيمان بالقرآن وكمال الحزن عليهم بحال من يتوقع منه إهلاك نفسه إثر فوت ما يحبه عند مفارقة أحبته تأسفا على مفارقتهم وتلهفا على مهاجرتهم ثم قيل ما قيل، وهو أولى من اعتبار الاستعارة المفردة التبعية في الأطراف.
وجوز أن تكون من باب التشبيه لذكر طرفيه وهما النبي صلّى الله عليه وسلّم وباخع بأن يشبه عليه الصلاة والسلام لشدة حرصه على الأمر بمن يريد قتل نفسه لفوات أمر وهو كما ترى.
إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ الظاهر عموم ما جميع ما لا يعقل أي سواء كان حيوانا أو نباتا أو معدنا أي جعلنا جميع ما عليها من غير ذوي العقول زِينَةً لَها تتزين به وتتحلى وهو شامل لزينة أهلها أيضا وزينة كل شيء يحسبه بالحقيقة وإنما هو زينة لأهلها، وقيل لا يدخل في ذلك ما فيه إيذاء من حيوان ونبات، ومن قال بالعموم قال: لا شيء مما على الأرض إلا وفيه جهة انتفاع ولا أقل من الاستدلال به على الصانع ووحدته، وخص بعضهم ما بالأشجار والأنهار، وآخر بالنبات لما فيه من الأزهار المختلفة الألوان والمنافع، وآخر بالحيوان المختلف الأشكال والمنافع والأفعال، وآخر بالذهب والفضة والرصاص والنحاس والياقوت والزبرجد واللؤلؤ والمرجان والألماس وما يجري مجرى ذلك من نفائس الأحجار.
وقالت فرقة: أريد بها الخضرة والمياه والنعم والملابس والثمار، ولعمري إنه تخصيص لا يقبله الخواص على العموم وقيل إن ما هنا لمن يعقل والمراد بذلك على ما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير والحسن وجاء في رواية عن ابن عباس الرجال، وعلى ما أخرج أبو نصر السجزي في الإبانة عن ابن عباس العلماء وعلى ما روي عكرمة الخلفاء والعلماء والأمراء، وأنت تعلم أن جعل ما لمن يعقل مع إرادة ما ذكر بعيد جدا، ولعل أولئك الأجلة أرادوا من ما العقلاء

صفحة رقم 197

وغيرهم تغليبا للأكثر على غيره وما على الأرض بهذا المعنى ليس إلا بعض العناصر الأربعة والمواليد الثلاثة وأشرف ذلك المواليد وأشرفها نوع الإنسان وهو متفاوت الشرف بحسب الأصناف فيمكن أن يكون ما ذكروه من باب الاقتصار على بعض أصناف هذا الأشرف لداع لذلك أصناف وقد يقال: المراد بما عموم ما لا يعقل ومن يعقل فيدخل من توجه إليه التكليف وغيره ولا ضير في ذلك فإن للمكلف جهتين جهة يدخل بها تحت الزينة وجهة يدخل بها تحت الابتلاء المشار إليه بقوله تعالى لِنَبْلُوَهُمْ وقد نص سبحانه على بعض المكلفين بأنهم زينة في قوله تعالى:
الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا [الكهف: ٤٦] ومن هنا يعلم ما في قول القاضي الأولى أن لا يدخل المكلف لأن ما على الأرض ليس زينة لها بالحقيقة وإنما هو زينة لأهلها لغرض الابتلاء فالذي له الزينة يكون خارجا عن الزينة، ونصب زِينَةً على أنه مفعول ثان للجعل إن حمل على معنى التصيير أو على أنه حال أو مفعول له كما قال أبو البقاء وأبو حيان إن حمل على معنى الإبداع، واللام الأولى إما متعلقة به أو متعلقة بمحذوف وقع صفة له أي زينة كائنة لها واللام الثانية متعلقة بجعلنا والكلام على هذا وجعل زينة مفعولا له نحو قمت إجلالا لك لتقابلني بمثل ذلك، وضمير الجمع عائد على سكان الأرض من المكلفين المفهوم من السياق.
وجوز أن يعود على ما على تقدير أن تكون للعقلاء، والابتلاء في الأصل الاختبار، وجوز ذلك على الله سبحانه هشام بن الحكم بناء على جهله وزعمه أنه عز وجل لا يعلم الحوادث إلا بعد وجودها لئلا يلزم نفي قدرته تعالى على الفعل أو الترك، ورده أهل السنة في محله وقالوا: إنه تعالى يعلم الكليات والجزئيات في الأزل، وأولوا هذه الآية أن المراد ليعاملهم معاملة من يختبرهم أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فنجازي كلا بما يليق به وتقتضيه الحكمة وحسن العمل الزهد في زينة الدنيا وعدم الاغترار بها وصرفها على ما ينبغي والتأمل في شأنها وجعلها ذريعة إلى معرفة خالقها والتمتع بها حسبما أذن الشرع وأداء حقوقها والشكر على ما أوتي منها لا اتخاذها وسيلة إلى الشهوات والأغراض الفاسدة كما تفعله الكفرة وأصحاب الأهواء، ومراتب الحسن متفاوتة وكلما قوي الزهد مثلا كان أحسن، وسأل ابن عمر رضي الله تعالى عنهما النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الأحسن عملا كما
أخرج ذلك ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في التاريخ فقال عليه الصلاة والسلام «أحسنكم عقلا (١) وأورع عن محارم الله تعالى وأسرعكم في طاعته سبحانه».
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال: أحسنهم عملا أشدهم للدنيا تركا، وأخرج نحوه عن سفيان الثوري وذكر بعضهم أن الأحسن من زهد وقنع من الدنيا بزاد المسافر ووراءه حسن وهو من استكثر من حلالها وصرفه في وجوهه وقبيح من احتطب حلالها وحرامها وأنفقه في شهواته، وكلام النبي صلّى الله عليه وسلّم في بيان الأحسن أحسن وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر: ٧] وإيراد صيغة التفضيل مع أن الابتلاء شامل للفريقين باعتبار أعمالهم المنقسمة إلى الحسن والقبيح أيضا لا إلى الحسن والأحسن فقط للإشعار بأن الغاية الأصلية للجعل المذكور إنما هو ظهور كمال إحسان المحسنين، وأي أما استفهامية فهي مرفوعة بالابتداء وأحسن خبرها، والجملة في محل نصب بفعل الابتلاء ولما فيه من معنى العلم باعتبار عاقبته كالسؤال والنظر ومكان الاستفهام علق عن العمل، وإما موصولة بمعنى الذي فهي مبنية على الضم محلها النصب على أنها بدل من ضمير النصب في لِنَبْلُوَهُمْ وأحسن خبر مبتدأ محذوف والجملة صلة لها والتقدير لنبلو الذي هو أحسن عملا. ويفهم من البحر أن مذهب سيبويه في أي إذا أضيفت وحذف صدر صلتها كما هنا جواز البناء لا وجوبه، وتحقيق الكلام في مذهبه لا يخلو عن إشكال، وأفعل التفضيل باق على الصحيح

(١) قوله في الحديث وأورع كذا بخط مؤلفه وما في الدر المنثور «أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله» إلخ.

صفحة رقم 198

على حقيقته كما أشرنا إليه والمفضل عليه محذوف والتقدير كما قال أبو حيان لنبلوهم أيهم أحسن عملا ممن ليس أحسن عملا وَإِنَّا لَجاعِلُونَ فيما سيأتي عند تناهي عمر الدنيا ما عَلَيْها مما جعلناه زينة، والإظهار في مقام الإضمار لزيادة التقرير، وجوز غير واحد أن يكون هذا أعم مما جعل زينة ولذا لم يؤت بالضمير، والجعل هنا بمعنى التصيير أي مصيرون ذلك صَعِيداً أي ترابا جُرُزاً أي لا نبات فيه قاله قتادة، وقال الراغب: الصعيد وجه الأرض، وقال أبو عبيدة هو المستوي من الأرض وروي ذلك عن السدي وقال الزجاج: هو الطريق الذي لا نبات فيه، وأخرج ابن أبي حاتم أن الجرز الخراب، والظاهر أنه ليس معنى حقيقيا والمعنى الحقيقي ما ذكرناه، وقد ذكره غير واحد من أئمة اللغة، وفي البحر يقال جرزت الأرض فهي مجروزة إذا ذهب نباتها بقحط أو جراد وأرضون أجراز لا نبات فيها ويقال سنة جرز وسنون أجراز لا مطر فيها وجرز الأرض الجراد والشاة والإبل إذا أكلت ما عليها ورجل جروز أكول أو سريع الأكل وكذا الأنثى قال الشاعر:
إن العجوز خبة جروزا... تأكل كل ليلة قفيزا
وفي القاموس أرض جرز (١) وجرز وجرز وجرز لا تنبت أو أكل نباتها أو لم يصبها مطر وفي المثل لا ترضى شانئة إلا بجرزة أي بالاستئصال، والمراد تصيير ما على الأرض ترابا ساذجا بعد ما كان يتعجب من بهجته النظار وتستلذ بمشاهدته الأبصار، وظاهر الآية تصيير ما عليها بجميع أجزائه كذلك وذلك إنما يكون بقلب سائر عناصر المواليد إلى عنصر التراب ولا استحالة فيه لوقوع انقلاب بعض العناصر إلى بعض اليوم، وقد يقال إن هذا جار على العرف فإن الناس يقولون صار فلان ترابا إذا اضمحل جسده ولم ييق منه أثر إلا التراب. وحديث انقلاب العناصر مما لا يكاد يخطر لهم ببال وكذا زعم محققي الفلاسفة بقاء صور العناصر في المواليد ويوشك أن يكون تركب المواليد من العناصر أيضا كذلك وهذا الحديث لا تكاد تسمعه عن السلف الصالح والله تعالى أعلم، ووجه ربط هاتين الآيتين بما قبلهما على ما قاله بعض المحققين إن قوله تعالى إِنَّا جَعَلْنا إلخ تعليل لما في لعل من معنى الإشفاق وقوله سبحانه: وَإِنَّا لَجاعِلُونَ إلخ تكميل للتعليل، وحاصل المعنى لا تحزن بما عاينت من القوم من تكذيب ما أنزلنا عليك من الكتاب فإنا قد جعلنا ما على الأرض من فنون الأشياء زينة لها لنختبر أعمالهم فنجازيهم بحسبها وإنا لمفنون ذلك عن قريب ومجازون بحسب الأعمال وفي معنى ذلك ما قيل إنه تسكين له عليه الصلاة والسلام كأنه قيل: لا تحزن فإنا ننتقم لك منهم وظاهر كلام بعضهم جعل ما يفهم من أول السورة تعليلا للإشفاق حيث قال المعنى لا يعظم حزنك بسبب كفرهم فإنا بعثناك منذرا ومبشرا وأما تحصيل الإيمان في قلوبهم فلا قدرة لك عليه قيل ولا يضر جعل ما ذكر تعليلا لذلك أيضا لأن العلل غير حقيقية، وقيل: في وجه الربط إن ما تقدم تضمن نهيه صلّى الله عليه وسلّم عن الحزن وهذا تضمن إرشاده إلى التخلق ببعض أخلاقه تعالى كأنه قيل إني خلقت الأرض وزينتها ابتلاء للخلق بالتكاليف ثم إنهم يتمردون ويكفرون ومع ذلك لا أقطع عنهم نعمي فأنت أيضا يا محمد لا تترك الاشتغال بدعوتهم بعد أن لا تأسف عليهم، والجملة الثانية لمجرد التزهيد في الميل إلى زينة الأرض ولا يخفى عليك بعد هذا الربط بل لا يكاد ينساق الذهن إليه فتألم أَمْ حَسِبْتَ خطاب لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم والمقصود غيره كما ذهب إليه غير واحد، وأَمْ منقطعة مقدرة ببل التي هي للانتقال من كلام إلى آخر لا للإبطال وهمزة الاستفهام عند الجمهور وببل وحدها عند بعض، وقيل: هي هنا بمعنى الهمزة والحق الأول أي بل أحسبت أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا في بقائهم

(١) قوله أرض جرز إلخ الأول على وزن كتب جمع كتاب، والثاني كقفل، والثالث كسهم، والرابع كسبب اه منه.

صفحة رقم 199

على الحياة ونومهم مدة طويلة من الدهر مِنْ آياتِنا أي من بين دلائلنا الدالة على القدرة والألوهية عَجَباً أي آية ذات عجب وضعا له موضع المضاف أو وصفا لذلك بالمصدر مبالغة. وهو خبر لكانوا ومِنْ آياتِنا حال منه كما هو قاعدة نعت النكرة إذا تقدم عليها، وجوز أبو البقاء أن يكون عَجَباً ومِنْ آياتِنا خبرين وإن يكون عَجَباً حالا من الضمير في الجار والمجرور وليس بذاك، والمعنى أن قصتهم وإن كانت خارقة للعادة ليست بعجيبة بالنسبة إلى سائر الآيات التي من جملتها ما تقدم، ومن هنا يعلم وجه الربط، وفي الكشف أنه تعالى ذكر من الآيات الكلية وإن كان لتسليته صلّى الله عليه وسلّم وأنه لا ينبغي أن تبخع نفسه على آثارهم فالمسترشد يكفيه أدنى إشارة والزائغ لا تجدي فيه آيات النذارة والبشارة ما يشتمل على أمهات العجائب وعقبه سبحانه بقوله أَمْ حَسِبْتَ إلخ يعني أن ذلك أعظم من هذا فمن لا يتعجب من ذلك لا ينبغي أن يتعجب من هذا وأريد من الخطاب غيره صلّى الله عليه وسلّم لأنه كان يعرف من قدرته تعالى ما لا يتعاظمه لا الأول ولا الثاني فأنكر اختلافهم في حالهم تعجبا وإضرابهم عن مثل تلك الآيات البينات والاعتراض عليه بأن الإضراب عن الكلام الأول إنما يحسن إذا كان الثاني أغرب ليحصل الترقي، وإيثار أن الهمزة للتقرير وهو قول آخر في الآية لذلك غير قادح لأن تعجبهم عن هذا دون الأول هو المنكر وهو الأغرب فافهم، وبأن المنكر ينبغي أن يكون مقررا عند السامع معلوما عنده، وهذا ابتداء إعلام منه تعالى على ما يعرف من سبب النزول. كذلك لأن الإنكار من تعجبهم ويكفي في ذلك معرفتها إجمالا وكانت حاصلة كيف وقد علمت أنه راجع إلى الغير أعني أصحاب الكتاب الذين أمروا قريشا بالسؤال وكانوا عالمين، ثم إنه مشترك الإلزام لأن التقرير أيضا يقتضي العلم بل أولى انتهى، وقال الطبري: المراد إنكار ذلك الحسبان عليه عليه الصلاة والسلام على معنى لا يعظم ذلك عندك بحسب ما عظمه عليك السائلون من الكفرة فإن سائر آيات الله تعالى أعظم من قصتهم وزعم أن هذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن إسحاق وفي القلب منه شيء، وقيل: المراد من الاستفهام إثبات أنهم عجب كأنه قيل أعلم أنهم عجب كما تقول أعلمت أن فلانا فعل كذا أي قد فعل فاعله.
والمقصود بالخطاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيضا وليس بشيء، وزعم الطيبي أن الوجه أن يجري الكلام على التسلي والاستفهام على التنبيه ويقال: إنه عليه الصلاة والسلام لما أخذه من الكآبة والأسف من إباء القوم عن الإيمان ما أخذه قيل له ما قيل وعلل بقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا إلى آخره على معنى أنا جعلنا ذلك لنختبرهم وحين لم تتعلق إرادتنا بإيمانهم تشاغلوا به عن آياتنا وشغلوا عن الشكر وبدلوا الإيمان بالكفران فلم نبال بهم وإنا لجاعلون أبدانهم جرزا لأسيافكم كما إنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا ألا ترى إلى أولئك الفتيان كيف اهتدوا وفروا إلى الله تعالى وتركوا زينة الدنيا وزخرفها فأووا إلى الكهف قائلين رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً وكما تعلقت الإرادة بإرشادهم فاهتدوا تتعلق بإرشاد قوم من أمتك يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين اه، ويكاد يكون أعجب من قصة أهل الكهف فتأمل، والحسبان إما بمعنى الظن أو بمعنى العلم وقد استعمل بالمعنيين، والكهف النقب المتسع في الجبل فإن لم يكن واسعا فهو غار، وأخرج ابن أبي حاتم أنه غار الوادي، وعن مجاهد أنه فرجة بين الجبلين، وعن أنس هو الجبل وهو غير مشهور في اللغة، والرقيم اسم كلبهم على ما روي عن أنس (١)
والشعبي وجاء في رواية عن ابن جبير ويدل عليه قول أمية بن أبي الصلت:

وليس بها إلا الرقيم مجاورا وصيدهمو والقوم في الكهف هجدا
(١) رواه عنه ابن أبي حاتم اه منه.

صفحة رقم 200

وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن جبير أنه لوح من حجارة كتبوا فيه قصة أصحاب الكهف وأمرهم ثم وضع على باب الكهف، وقيل لوح من حجارة كتب فيه أسماؤهم وجعل في سور المدينة وروي ذلك عن السدي.
وقيل لوح من رصاص كتب فيه شأنهم ووضع في تابوت من نحاس في فم الكهف وقيل لوح من ذهب كتب فيه ذلك وكان تحت الجدار الذي أقامه الخضر عليه السلام، وروي عن ابن عباس أنه كتاب كان عندهم فيه الشرع الذي تمسكوا به من دين عيسى عليه السلام، وقيل من دين قبل عيسى عليه السلام فهو لفظ عربي وفعيل بمعنى مفعول.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس أنه واد دون فلسطين قريب من أيلة والكهف على ما قيل في ذلك الوادي فهو من رقمة الوادي أي جانبه، وأخرجاهما وجماعة من طريق أخر عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: لا أدري ما الرقيم وسألت كعبا فقال: اسم القرية التي خرجوا منها، وعلى جميع هذه الأقوال يكون أصحاب الكهف والرقيم عبارة عن طائفة واحدة، وقيل إن أصحاب الرقيم غير أصحاب الكهف وقصتهم في الصحيحين وغيرهما.
فقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي وابن المنذر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم يمشون إذ أصابهم مطر فأووا إلى غار فانطبق عليهم فقال بعضهم لبعض: إنه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصدق فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه فقال واحد منهم: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجير عمل على فرق من أرز فذهب وتركه وإني عمدت إلى ذلك الفرق فزرعته فصار من أمره أني اشتريت منه بقرا وأنه أتاني يطلب أجره فقلت اعمد إلى تلك البقر فسقها فقال لي: إنما لي عندك فرق من أرز فقلت: اعمد إلى تلك البقر فإنها من ذلك الفرق فساقها فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا فانساخت عنهم الصخرة فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران فكنت آتيهما كل ليلة بلبن غنم لي فأبطأت عليهما ليلة فجئت وقد رقدا وأهلي وعيالي يتضاغون من الجوع فكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي فكرهت أن أوقظهما وكرهت أن أدعهما فيستكينا لشربتهما فلم أزل أنتظر حتى طلع الفجر فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا فانساخت عنهم الصخرة حتى نظروا إلى السماء. فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي ابنة عم من أحب الناس إلي وإني راودتها عن نفسها فأبت إلا أن آتيها بمائة دينار فطلبتها حتى قدرت فأتيتها بها فدفعتها إليها فأمكنتني من نفسها فلما قعدت بين رجليها قالت: اتق الله تعالى ولا تفض الخاتم إلا بحقه فقمت وتركت المائة دينار فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا ففرج الله تعالى عنهم فخرجوا» وروي نحو ذلك عن بن عباس وأنس والنعمان بن بشير كل يرفعه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
، والرقيم على هذا بمعنى محل في الجبل، وقيل بمعنى الصخرة، وقيل بمعنى الجبل، ويكون ذكر ذلك تلميحا إلى قصتهم وإشارة إلى أنه تعالى لا يضيع عمل أحد خيرا أو شرا فهو غير مقصود بالذات، ولا يخفى أن ذلك بعيد عن السياق، وليس في الأخبار الصحيحة ما يضطرنا إلى ارتكابه فتأمل إِذْ أَوَى معمول عَجَباً أو كانُوا أو اذكر مقدرا، ولا يجوز أن يكون ظرفا لحسبت لأن حسبانه لم يكن في ذلك الوقت أي حين التجأ الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ واتخذوه مأوى ومكانا لهم، والفتية جمع قلة لفتى، وهو كما قال الراغب وغيره الطري من الشبان ويجمع أيضا على فتيان، وقال ابن السراج: إنه اسم جمع وقال غير واحد انه جمع فتى كصبي وصبية، ورجح بكثرة مثله، والمراد بهم أصحاب الكهف، وإيثار الإظهار على الإضمار لتحقيق ما كانوا عليه في أنفسهم من حال الفتوة،
فقد روي أنهم كانوا شبانا من أبناء أشراف الروم وعظمائهم مطوقين مسورين بالذهب ذوي ذوائب
، وقيل لأن صاحبية الكهف من فروع التجائهم إلى الكهف، فلا يناسب اعتبارها معهم قبل بيانه، والظاهر مع

صفحة رقم 201

الضمير اعتبارها، وليس الأمر كذلك مع هذا الظاهر وإن كانت أل فيه للعهد فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ أي من عندك رَحْمَةً عظيمة أو نوعا من الرحمة فالتنوين للتعظيم أو للنوع، و «من» للابتداء متعلق بآتنا، ويجوز أن يتعلق بمحذوف وقع حالا من رحمة قدم عليها لكونها نكرة ولو تأخر لكان صفة لها، وفسرت الرحمة بالمغفرة والرزق والأمن والأولى تفسيرها بما يتضمن ذلك وغيره، وفي ذكر مِنْ لَدُنْكَ إيماء إلى أن ذلك من باب التفضل لا الوجوب فكأنهم قالوا ربنا تفضل علينا برحمة وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا الذي نحن عليه من مهاجرة الكفار والمثابرة على طاعتك، وقرأ أبو جعفر وشيبة والزهري «وهيي» بياءين من غير همز يعني أنهم أبدلوا الهمزة الساكنة ياء، وفي كتاب ابن خالويه قرأ الأعشى عن أبي بكر عن عاصم «وهيّ» بلا همز انتهى.
وهو يحتمل أن يكون قد أبدل الهمزة ياء وأن يكون حذفها، والأول إبدال قياسي، والثاني مختلف فيه أينقاس حذف الحرف المبدل من الهمزة في الأمر والمضارع المجزومين أم لا، وأصل التهيئة إحداث الهيئة وهي الحالة التي يكون عليها الشيء محسوسه أو معقوله ثم استعمل في إحضار الشيء وتيسيره أي يسر لنا من أمرنا رَشَداً إصابة للطريق الموصل إلى المطلوب واهتداء إليه، وقرأ أبو رجاء «رشدا» بضم الراء وإسكان الشين والمعنى واحد إلا أن الأوفق بفواصل الآيات قراءة الجمهور، وإلى اتحاد المعنى ذهب الراغب قال: الرشد بفتحتين خلاف الغي ويستعمل استعمال الهداية وكذا الرشد بضم فسكون.
وقال بعضهم: الرشد أي بفتحتين كما في بعض النسخ المضبوطة أخص من الرشد لأن الرشد بالضم يقال في الأمور الدنيوية والأخروية والرشد يقال في الأمور الأخروية لا غير اه، وفيه مخالفة لما ذكره ابن عطية فإنه قال: إن هذا الدعاء منهم كان في أمر دنياهم وألفاظه تقتضي ذلك وقد كانوا على ثقة من رشد الآخرة ورحمتها، وينبغي لكل مؤمن أن يجعل دعاءه في أمر دنياه لهذه الآية فإنها كافية.
ويحتمل أن يراد بالرحمة رحمة الآخرة اه، نعم فيما قاله نظر، والأولى جعل الدعاء عاما في أمر الدنيا والآخرة وإن كان تعقيبه بما بعد ظاهرا في كونه خاصا في أمر الأولى واللام ومن متعلقان بهيء فإن اختلف معناهما بأن كانت الأولى للأجل والثانية ابتدائية فلا كلام، وإن كانتا للأجل احتاجت صحة التعلق إلى الجواب المشهور.
وتقديم المجرورين على المفعول الصريح لإظهار الاعتناء بهما وإبراز الرغبة في المؤخر وكذا الكلام في تقديم مِنْ لَدُنْكَ على رحمة على تقدير تعلقه بآتنا، وتقديم المجرور الأول على الثاني للإيذان من أول الأمر بكون المسئول مرغوبا فيه لديهم، وقيل الكلام على التجريد وهو إن ينتزع من أمر ذي صفة آخر مثله مبالغة كأنه بلغ إلى مرتبة من الكمال بحيث يمكن أن يؤخذ منه آخر كرأيت منك أسدا أي اجعل أمرنا كله رشدا. فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ أي ضربنا عليها حجابا يمنع السماع فالمفعول محذوف كما في قولهم: بنى على امرأته والمراد أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأصوات بأن يجعل الضرب على الآذان كناية عن الإنامة الثقيلة وإنما صلح كناية لأن الصوت والتنبيه طريق من طرق إزالة النوم فسد طريقه يدل على استحكامه وأما الضرب على العين وإن كان تعلقه بها أشد فلا يصلح كناية إذ ليس المبصرات من طرق إزالته حتى يكون سد الأبصار كناية ولو صلح كناية فعن ابتداء النوم لا النومة الثقيلة.
واعترض القطب جعله كناية عما ذكر بما لا يخفى رده وخرج الآية على الاستعارة المكنية بأن يقال شبه الإنامة الثقيلة بضرب الحجاب على الآذان ثم ذكر ضربنا وأريد أنمنا وهو وجه فيها، وجوز أن تكون من باب الاستعارة التمثيلية واختاره بعض المحققين.
ومن الناس من حمل الضرب على الآذان على تعطيلها كما في قولهم ضرب الأمير على يد الرعية أي منعهم عن

صفحة رقم 202

التصرف. وتعقب بأنه مع عدم ملاءمته لما سيأتي إن شاء الله تعالى من البعث لا يدل على إرادة النوم مع أنه المراد قطعا. وأجيب بأنه يمكن أن يكون مراد الحامل التوصل بذلك إلى إرادة الإنامة فافهم.
والضرب إما من ضربت القفل على الباب أو من ضربت الخباء على ساكنه، والفاء هنا مثلها في قوله تعالى:
فَاسْتَجَبْنا لَهُ [الأنبياء: ٧٦] بعد قوله سبحانه إِذْ نادى [الأنبياء: ٧٦] فإن الضرب المذكور وما يترتب عليه من التقليب ذات اليمين وذات الشمال والبعث وغير ذلك من آثار استجابة دعائهم السابق فِي الْكَهْفِ ظرف لضربنا وكذا قوله عز وجل: سِنِينَ ولا مانع من ذلك لا سيما وقد تغايرا بالمكانية والزمانية عَدَداً أي ذوات عدد على أنه مصدر وصف بالتأويل الشائع، وقيل إنه صفة بمعنى معدودة، وقيل إنه مصدر لفعل مقدر أي تعد عددا، والعدد على ما قال الراغب وغيره قد يراد به التكثير لأن القليل لا يحتاج إلى العد غالبا وقد يذكر للتقليل في مقابلة ما لا يحصى كثرة كما يقال بغير حساب وهو هنا يحتمل الوجهين والأول هو الأنسب بإظهار كمال القدرة والثاني هو الأليق بمقام إنكار كون القصة عجبا من بين سائر الآيات العجيبة فإن مدة لبثهم وإن كثرت في نفسها فهي كبعض يوم عند الله عز وجل.
وفي الكشف أن الكثرة تناسب نظرا إلى المخاطبين والقلة تناسب نظرا إلى المخاطب اه، وقد خفي على العز ابن عبد السلام أمر هذا الوصف وظن أنه لا يكون للتكثير وأن التقليل لا يمكن هاهنا وهو غريب من جلالة قدره وله في أماليه أمثال ذلك. وللعلامة ابن حجر في ذلك كلام ذكره في الفتاوي الحديثية لا أظنه شيئا.
ثُمَّ بَعَثْناهُمْ أي أيقظناهم وأثرناهم من نومهم لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أي منهم وهم القائلون لبثنا يوما أو بعض يوم والقائلون: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ [الكهف: ١٩] وقيل أحد الحزبين الفتية الذين ظنوا قلة زمان لبثهم، والثاني أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم وكان عندهم تاريخ غيبتهم، وزعم ابن عطية أن هذا قول جمهور المفسرين وعن ابن عباس أن أحد الحزبين الفتية والآخر الملوك الذين تداولوا ملك المدينة واحدا بعد واحد وعن مجاهد: الحزبان قوم أهل الكهف حزب منهم مؤمنون وحزب كافرون، وقال الفراء: الحزبان مؤمنان كانوا في زمنهم، واختلفوا في مدة لبثهم، وقال السدي: الحزبان كافران، والمراد بهما اليهود والنصارى الذي علموا قريشا سؤال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أهل الكهف وقال ابن حرب: الحزبان الله سبحانه وتعالى، والخلق كقوله تعالى: أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة: ١٤٠] والظاهر هو الأول لأن اللام للعهد ولا عهد لغير من سمعت أَحْصى أي ضبط فهو فعل ماض وفاعله ضمير أَيُّ واختار ذلك الفارسي والزمخشري، وابن عطية، وما في قوله تعالى: لِما لَبِثُوا مصدرية، والجار والمجرور حال مقدم عن قوله تعالى: أَمَداً وهو مفعول أَحْصى والأمد على ما قال الراغب: مدة لها حد، والفرق بينه وبين الزمان أن الأمد يقال: باعتبار الغاية بخلاف الزمان فإنه عام في المبدأ والغاية، ولذلك قال بعضهم:
المدى والأمد يتقاربان، وليس اسما للغاية حتى يكون إطلاقه على المدة مجازا كما أطلقت الغاية، عليها في قولهم:
ابتداء الغاية وانتهاؤها، أي ليعلم أيهم أحصى مدة كائنة للبثهم، والمراد من إحصائها ضبطها من حيث كميتها المنفصلة العارضة لها باعتبار قسمتها إلى السنين وبلوغها من تلك الحيثية إلى مراتب الأعداد كما يرشدك إليه كون المدة عبارة عما سبق من السنين، وليس المراد ضبطها من حيث كميتها المتصلة الذاتية فإنه لا يسمى إحصاء، وقيل إطلاق الأمد على المدة مجاز وحقيقته غاية المدة.
ويجوز إرادة ذلك بتقدير المضاف أي لنعلم أيهم ضبط غاية لزمان لبثهم وبدونه أيضا فإن اللبث عبارة عن الكون المستمر المنطبق على الزمان المذكور فباعتبار الامتداد العارض له بسببه يكون له أمد وغاية لا محالة لكن ليس المراد

صفحة رقم 203

ما يقع غاية ومنتهى لذلك الكون المستمر باعتبار كميته المتصلة العارضة له بسبب انطباقه على الزمان الممتد بالذات، وهو آن انبعاثهم من نومهم فإن معرفته من تلك الحيثية لا تخفى على أحد ولا تسمى إحصاء أيضا، بل باعتبار كميته المنفصلة العارضة له بسبب عروضها لزمانه المنطبق هو عليه باعتبار انقسامه إلى السنين ووصوله إلى مرتبة معينة من مراتب العدد، والفرق بين هذا وما سبق أن ما تعلق به الإحصاء في الصورة السابقة نفس المدة المنقسمة إلى السنين فهو مجموع ثلاثمائة وتسع سنين وفي الصورة الأخيرة منتهى تلك المدة المنقسمة إليها أعني التاسعة بعد الثلاثمائة وتعلق الإحصاء بالأمد بالمعنى الأول ظاهر، وأما تعلقه به بالمعنى الثاني فباعتبار انتظامه لما تحته من مراتب العدد، واشتماله عليها انتهى.
وأنت تعلم أن ظاهر كلام الراغب وهو- هو- في اللغة يقتضي أن الأمد حقيقة في المدة وأنه في الغاية مجاز وأن توجيه إرادة الغاية هنا بما ذكر تكلف لا يحتاج إليه على تقدير كون ما مصدرية. نعم يحتاج إليه على تقدير جعلها موصولة حذف عائدها من الصلة أي لنعلم أيهم أحصى أمدا كائنا للذي لبثوه أي لبثوا فيه من الزمان. وقيل ما لبثوا في موضع المفعول له وجيء بلام التعليل لكونه غير مصدر صريح وغير مقارن أيضا وليس بذاك. وقيل اللام مزيدة وما موصولة وهي المفعول به وعائدها محذوف أي أَحْصى الذي لبثوه والمراد الزمان الذي لبثوا فيه، وأَمَداً على هذا تمييز للنسبة مفسر لما في نسبة المفعول من الإبهام محول عن المفعول وأصله أحصى أمد الزمان الذي لبثوا فيه.
وزعم أنه لا يصح أن يكون تمييزا للنسبة لأنه لا بد أن يكون محولا عن الفاعل ولا يمكن ذلك هنا ليس بشيء لأن اللابدية في حيز المنع. والذي تحقق في المعتبرات كشروح التسهيل وغيرها أنه يكون محولا عن المفعول ك فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً [القمر: ١٢] كما يكون محولا عن الفاعل كتصبب زيد عرقا ولو جعل تمييزا لما كان تمييزا لمفرد. ولم يقل أحد باشتراط التحويل فيه أصلا.
وجوز في ما على هذا التقدير أن تكون مصدرية وهو بعيد، وضعف القول بزيادة اللام هنا بأنها لا تزاد في مثل ذلك.
واختار الزجاج والتبريزي كون أَحْصى أفعل تفضيل لأنه الموافق لما وقع في سائر الآيات الكريمة نحو أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً إلى غير ذلك مما لا يحصى ولأن كونه فعلا ماضيا يشعر بأن غاية البعث هو العلم بالإحصاء المتقدم على البعث لا بالإحصاء المتأخر عنه وليس كذلك، واعترض أولا بأن بناء أفعل التفضيل من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس وما جاء منه شاذ كأعدى من الجرب وأفلس من ابن المدلق، وأجيب بأن في بناء أفعل من ذلك ثلاثة مذاهب الجواز مطلقا وهو ظاهر كلام سيبويه والمنع مطلقا وما ورد شاذ لا يقاس عليه وهو مذهب أبي علي، والتفصيل بين أن تكون الهمزة للنقل فلا يجوز أو لغيره كأشكل الأمر وأظلم الليل فيجوز وهو اختيار ابن عصفور فلعلهما يريان الجواز مطلقا كسيبويه أو التفصيل كابن عصفور، والهمزة في أَحْصى ليست للنقل، وثانيا بأن أَمَداً حينئذ إن نصب على أنه مفعول به فإن كان بمضمر كما في قول العباس بن مرداس:

فلم أر مثل الحي حيا مصبحا ولا مثلنا لما التقينا فوارسا
أكر وأحمى للحقيقة منهم وأضرب منا بالسيوف القوانسا
لزم الوقوع فيما فرا منه حيث لم يجعلا المذكور فعلا ثم قدرا وإن كان به فليس صالحا لذلك، وإن نصب يلبثوا لا يكون المعنى سديدا لأن الضبط لمدة اللبث وأمده لا للبث في الأمد، ولا يقال: فليكن نظير قولكم أيكم أضبط لصومه في الشهر أي لأيام صومه والمعنى أيهم أضبط لأيام اللبث أو ساعاته في الأمد ويراد به جميع المدة لما قيل

صفحة رقم 204

يعضل حينئذ تنكير أَمَداً والاعتذار بأنهم ما كانوا عارفين بتحديده يوما أو شهرا أو سنة فنكر على أنه سؤال أما عن الساعات والأيام أو الأشهر غير سديد لأنه معلوم أنه أمد زمان اللبث فليعرف إضافة أو عهدا ويكون الاحتمال على حاله، ووجه أبو حيان نصبه بأنه على إسقاط حرف الجر وهو بمعنى المدة والأصل لما لبثوا من أمد ويكون من أمد تفسيرا لما أبهم في لفظ ما كقوله تعالى ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ [البقرة: ١٠٦] ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ [فاطر:
٢] ولما سقط الحرف وصل إليه الفعل وهو كما ترى، وتعقب منع صلاحية أفعل لنصب المفعول به بأنه قول البصريين دون الكوفيين فلعل الإمامين سلكا مذهب الكوفيين فجعلا أَحْصى أفعل تفضيل وأَمَداً مفعولا له، والحق أن الذاهب إلى كون أحصى أفعل تفضيل جعل أمدا تمييزا وهو يعمل في التمييز على الصحيح والقول بأن التمييز يجب كونه محولا عن الفاعل قد ميزت حاله، وثالثا بأن توهم الأشعار بأن غاية البعث هو العلم بالإحصاء المتقدم عليه مردود بأن صيغة الماضي باعتبار حال الحكاية ولا يكاد يتوهم من ذلك الإشعار المذكور، ورابعا بأنه يلزم حينئذ أن يكون أصل الإحصاء متحققا في الحزبين إلا أن بعضهم أفضل والبعض الآخر أدنى مع أنه ليس كذلك، وفي الكشف أن قول الزجاج ليس بذلك المردود إلا أن ما آثره الزمخشري أحق بالإيثار لفظا ومعنى أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلأنه تعالى حكى تساؤلهم فيما بينهم وأنه عن العارف لا عن الأعرف وغيرهم أولى به انتهى فافهم، وأي استفهامية مبتدأ وما بعدها خبرها وقد علقت نعلم عن العمل كما هو شأن أدوات الاستفهام في مثل هذا الوضع وهذا جار على احتمالي كون أَحْصى فعلا ماضيا وكونه أفعل تفضيل، وجوز جعل أي موصولة ففي البحر إذا قلنا بأن أَحْصى أفعل تفضيل جاز أن تكون أي موصولا مبنيا على مذهب سيبويه لوجود شرط جواز البناء فيه وهو كون أي مضافة حذف صدر صلتها والتقدير لنعلم الفريق الذي هو أحصى لما لبثوا أمدا من الذين لم يحصوا وإذا كان فعلا ماضيا امتنع ذلك لأنه حينئذ لم يحذف صدر صلتها لوقوع الفعل مع فاعله صلة فلا يجوز بناؤها لفوات تمام الشرط وهو حذف صدر الصلة انتهى.
وقرأ الزهري «ليعلم» بالياء على إسناد الفعل إليه تعالى بطريق الالتفات، وأيّا ما كان فالعلم غاية للبعث وليس ذلك على ظاهره وإلا تكن الآية دليلا لهشام على ما يزعمه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا فقيل هو غاية بجعله مجازا عن الإظهار والتمييز، وقيل: المراد ليتعلق علمنا تعلقا حاليا مطابقا لتعلقه أولا تعلقا استقباليا كما في قوله تعالى:
لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ [البقرة: ١٤٣] واعترضه بعض الأجلة بأن بعث هؤلاء الفئة لم يترتب عليه تفرقهم إلى المحصي وغيره حتى يتعلق بهما العلم تعلقا حاليا أو الإظهار والتمييز ويتسنى نظم شيء من ذلك في سلك الغاية كما ترتب على تحويل القبلة انقسام الناس إلى متبع ومنقلب فصح تعلق العلم الحالي والإظهار بكل من القسمين وإنما الذي ترتب على ذلك تفرقهم إلى مقدر تقديرا غير مصيب ومفوض العلم إلى الله عز وجل وليس في شيء منهما إحصاء أصلا، ثم قال: إن جعل ذلك غاية بحمل النظم الكريم على التمثيل المبني على جعل العلم عبارة عن الاختبار مجازا بإطلاق اسم المسبب على السبب وليس من ضرورة الاختبار صدور الفعل المختبر به عن المختبر قطعا بل قد يكون لإظهاره عجزه عنه على سنن التكاليف التعجيزية كقوله تعالى: فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة:
٢٥٨] وهو المراد هنا فالمعنى بعثناهم لنعاملهم معاملة من يختبرهم أيهم أحصى لما لبثوا أمدا فيظهر لهم عجزهم ويفوضوا ذلك إلى العليم الخبير ويتعرفوا حالهم وما صنع الله تعالى بهم من حفظ أبدانهم فيزدادوا يقينا بكمال قدرته تعالى وعلمه ويستبصروا به أمر البعث ويكون ذلك لطفا لمؤمني زمانهم وآية بينة لكفارهم، وقد اقتصرها هنا من تلك الغايات الجليلة على مبدئها الصادر عنه سبحانه وفيما سيأتي إن شاء الله تعالى على ما صدر عنهم من التساؤل المؤدي

صفحة رقم 205

إليها وهذا أولى من تصوير التمثيل بأن يقال بعثناهم بعث من يريد أن يعلم إذ ربما يتوهم منه استلزام الإرادة لتحقق المراد فيعود المحذور فيصار إلى جعل إرادة العلم عبارة عن الاختبار فاختبر واختر انتهى.
وتعقبه الخفاجي بأن ما ذكره مع تكلفه وقلة جدواه غير مستقيم لأن الاختيار الحقيقي لا يتصور ممن أحاط بكل شيء علما فحيث وقع جعلوه مجازا عن العلم أو ما يترتب عليه فلزمه بالآخرة الرجوع إلى ما أنكره واختار جعل العلم كناية عن ظهور أمرهم ليطمئن بازدياد الإيمان قلوب المؤمنين وتنقطع حجة المنكرين وعلم الله تعالى حيث تعذر إرادة حقيقته في كتابه تعالى جعل كناية عن بعض لوازمه المناسبة لموقعه والمناسب هنا ما ذكر، ثم قال: وإنما علق العلم بالاختلاف في أمده أي المفهوم من أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا لأنه ادعى لإظهاره وأقوى لانتشاره. وفي الكشف توجيها لما في الكشاف أراد أن العلم مجاز عن التمييز والإظهار كأنه قيل لنظهره ونميز لهم العارف بأمد ما لبثوا ولينظر من هذا العارف فإنه لا يجوز أن يكون أحدا منهم لأنهم بين مفوض ومقدر غير مصيب، والفرق بين ما في الكشف وما ذكره الخفاجي لا ينفى على بصير وما في الكشف أقل مؤنة منه.
وتصوير التمثيل بأن يقال: بعثناهم بعث من يريد أن يعلم أحسن عندي من التصوير الأول، والتوهم المذكور مما لا يكاد يلتفت إليه فتدبر جدا. وقرىء «ليعلم» مبنيا للفاعل من الإعلام وخرج ذلك على أن الفاعل ضميره تعالى والمفعول الأول محذوف لدلالة المعنى عليه وأَيُّ الْحِزْبَيْنِ إلخ من المبتدأ والخبر في موضع مفعولي نعلم الثاني والثالث، والتقدير ليعلم الله الناس أي الحزبين إلخ، وإذا جعل العلم عرفانيا كانت الجملة في موضع مفعولي نعلم الثاني فقط وهو ظاهر. وقرىء «ليعلم» بالبناء للمفعول وخرج على أن نائب الفاعل محذوف أي ليعلم الناس.
والجملة بعد أما في موضع المفعولين أو المفعول حسبما سمعت، وقال بعضهم: إن الجملة هي النائب عن الفاعل وهو مذهب كوفي ففي البحر البصريون لا يجوز كون الجملة فاعلا ولا نائبا عنه وللكوفيين مذهبان، أحدهما أنه يجوز الإسناد إلى الجملة مطلقا، والثاني أنه لا يجوز إلا إذا كان المسند مما يصح تعليقه وتحقيق ذلك في محله.
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ شروع في تفصيل ما أجمل فيما سلف أي نحن نخبرك بتفصيل خبرهم الذي له شأن وخطر بِالْحَقِّ أما صفة لمصدر محذوف أو حال من ضمير نَقُصُّ أو من نَبَأَهُمْ أو صفة له على رأي من يرى جواز حذف الموصول مع بعض الصلة أي نقص قصصا ملتبسا بالحق أو نقصه ملتبسين به أو نقص نبأهم ملتبسا به أو نبأهم الملتبس به، ولعل في التقييد بِالْحَقِّ إشارة إلى أن في عهده صلّى الله عليه وسلّم من يقص نبأهم لكن لا بالحق.
وفي الكشف بعد نقل شعر أمية بن أبي الصلت السابق ما نصه وهذا يدل على أن قصة أصحاب الكهف كانت من علم العرب وإن لم يكونوا عالميها على وجهها، ونبؤهم حسبما ذكره ابن إسحاق وغيره أنه مرج أهل الإنجيل وعظمت فيهم الخطايا وطغت ملوكهم فعبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت وفيهم بقايا على دين المسيح عليه السلام متمسكين بعبادة الله تعالى وتوحيده وكان ممن فعل ذلك من ملوكهم وعتا عتوا كبيرا دفيانوس وفي رواية دقيوس فإنه غلا غلوا شديدا فجلس خلال الديار والبلاد وأكثر فيها الفساد وقتل من خالفه من المتمسكين بدين المسيح عليه السلام وكان يتتبع الناس فيخيرهم بين القتل وعبادة الأوثان فمن رغب في الحياة الدنيا انقاد لأمره وامتثله ومن آثر عليها الحياة الأبدية لم يبال بأي قتلة قتله فكان يقتل أهل الإيمان ويقطع أجسادهم ويجعلها على سور المدينة وأبوابها فلما رأى الفتية ذلك وكانوا عظماء مدينتهم واسمها على ما في بعض الروايات أفسوس وفي بعضها طرسوس، وقيل كانوا من خواص الملك قاموا فتضرعوا إلى الله عز وجل واشتغلوا بالصلاة والدعاء فبينما هم كذلك دخل عليهم

صفحة رقم 206

الشرط فاخذوهم وأعينهم تفيض من الدمع ووجوههم معفرة بالتراب وأحضروهم بين يدي الجبار فقالوا لهم: ما منعكم أن تشهدوا الذبح لآلهتنا وخيرهم بين القتل وعبادة الأوثان فقالوا: إن لنا إلها ملأ السموات والأرض عظمته وجبروته لن ندعو من دونه أحدا ولن نقر بما تدعونا إليه أبدا فاقض ما أنت قاض وأول من قال ذلك أكبرهم مكسلمينا فأمر الجبار فنزع ما عليهم من الثياب الفاخرة وأخرجهم من عنده وخرج هو إلى مدينة أخرى قيل هي نينوى لبعض شأنه وأمهلهم إلى رجوعه وقال: ما يمنعني أن أعجل عقوبتكم إلا أني أراكم شبانا فلا أحب أن أهلككم حتى أجعل لكم أجلا تتأملون فيه وترجعون إلى عقولكم فإن فعلتم فيها وإلا أهلكتكم فلما رأوا خروجه اشتوروا فيما بينهم واتفقوا على أن يأخذ كل منهم نفقة من بيت أبيه فيتصدق ببعضها ويتزود بالباقي وينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة يقال له بنجلوس ففعلوا ما فعلوا وأووا إلى الكهف فلبثوا فيه ليس لهم عمل إلا الصلاة والصيام والتسبيح والتحميد وفوضوا أمر نفقتهم إلى فتى منهم اسمه يمليخا فكان إذا أصبح يتنكر ويدخل المدينة ويشتري ما يهمهم ويتجسس ما فيها من الأخبار ويعود إليهم فلبثوا على ذلك إلى أن قدم الجبار مدينتهم فتطلبهم وأحضر آباءهم فاعتذروا بأنهم عصوهم ونهبوا أموالهم وبذروها في الأسواق وفروا إلى الجبل وكان يمليخا إذ ذاك في المدينة فرجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه قليل طعام فأخبرهم بما شاهد من الهول ففزعوا إلى الله تعالى وخروا له سجدا ثم رفعوا رؤوسهم وجلسوا يتحدثون في أمرهم فبينما هم كذلك إذ ضرب الله عز وجل على آذانهم فناموا ونفقتهم عند رؤوسهم وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد فأصابه ما أصابهم فخرج الجبار في طلبهم بخيله ورجله فوجدوهم قد دخلوا الكهف فأمر بإخراجهم فلم يطق أحد أن يدخله فلما ضاق بهم ذرعا قال قائل منهم: أليس لو كنت قدرت عليهم قتلتهم؟ قال: بلى قال: فابن عليهم باب الكهف ودعهم يموتوا جوعا وعطشا وليكن كهفهم قبرا لهم ففعل ثم كان من شأنهم ما قص الله تعالى عز وجل.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا في مملكة ملك من الجبابرة يدعو الناس إلى عبادة الأوثان فلما رأوا ذلك خرجوا من تلك المدينة فجمعهم الله تعالى على غير ميعاد فجعل بعضهم يقول لبعض: أين تريدون أين تذهبون؟ فجعل بعضهم يخفي عن بعض لأنه لا يدري هذا علام خرج هذا ولا يدري هذا علام خرج هذا فأخذوا العهود والمواثيق أن يخبر بعضهم بعضا فإن اجتمعوا على شيء وإلا كتم بعضهم بعضا فاجتمعوا على كلمة واحدة فقالوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ- إلى- مِرفَقاً
ثم انطلقوا حتى دخلوا الكهف فضرب الله تعالى على آذانهم فناموا وفقدوا في أهلهم فجعلوا يطليونهم فلم يظفروا بهم فرفع أمرهم إلى الملك فقال: ليكونن لهؤلاء القوم بعد اليوم شأن ناس خرجوا لا ندري أين ذهبوا في غير جناية ولا شيء يعرف فدعا بلوح من رصاص فكتب فيه أسماءهم ثم طرح في خزانته ثم كان من شأنهم ما قصه الله سبحانه وتعالى.
وكانوا على ما
أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر صيارفة. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن وهب بن منبه قال: جاء رجل من حواري عيسى عليه السلام إلى مدينة أصحاب الكهف فأراد أن يدخلها فقيل على بابها صنم لا يدخل أحد إلا سجد له فكره أن يدخل فأتى حماما قريبا من المدينة وأجر نفسه من صاحبه فكان يعمل فيه ورأى صاحب الحمام البركة والرزق وجعل يسترسل إليه وعلقه فتية من أهل المدينة فجعل يخبرهم عن خبر السماء وخبر الآخرة حتى آمنوا وكانوا على مثل حاله في حسن الهيئة وكان يشترط على صاحب الحمام أن الليل لي ولا تحول بيني وبين الصلاة إذا حضرت حتى جاء ابن الملك بامرأة يدخل بها الحمام فعيره الحواري فقال: أنت ابن الملك وتدخل مع هذه الامرأة التي صفتها كذا وكذا فاستحيا فذهب فرجع مرة أخرى فسبه وانتهره فلم يلتفت حتى دخل ودخلت معه فباتا في الحمام جميعا فماتا فيه فأتى الملك فقيل له: قتل ابنك صاحب الحمام فالتمس فلم يقدر عليه

صفحة رقم 207

وهرب من كان يصحبه والتمس الفتية فخرجوا من المدينة فمروا بصاحب لهم في زرع له وهو على مثل أمرهم فذكروا له أنهم التمسوا فانطلق معهم حتى أواهم الليل إلى كهف فدخلوا فيه فقالوا نبيت هاهنا الليلة ثم نصبح إن شاء تعالى فنرى رأينا فضرب على آذانهم فخرج الملك بأصحابه يتبعونهم حتى وجدوهم قد دخلوا الكهف فكلما أراد الرجل منهم أن يدخله أرعب فلم يطق أن يدخل فقال للملك قائل: ألست لو قدرت عليهم قتلتهم؟ قال: بلى قال: فابن عليهم باب الكهف ودعهم يموتوا عطشا وجوعا ففعل ثم كان ما كان، وروي غير ذلك والأخبار في تفصيل شأنهم مختلفة.
وفي البحر لم يأت في الحديث الصحيح كيفية اجتماعهم وخروجهم ولا معول إلا على ما قص الله تعالى من نبئهم إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ استئناف مبني على السؤال من قبل المخاطب وتقدم الكلام آنفا في الفتية آمَنُوا بِرَبِّهِمْ أي بسيدهم والناظر في مصالحهم، وفيه التفات من التكلم إلى الغيبة، وأوثر للإشعار بعلية وصف الربوبية لإيمانهم ولما صدر عنهم من المقالة حسبما سيحكي عنهم.
وَزِدْناهُمْ هُدىً بالتثبيت على الإيمان والتوفيق للعمل الصالح والانقطاع إلى الله تعالى والزهد في الدنيا.
وفي التحرير المراد زدناهم ثمرات هدى أو يقينا قولان وما حصلت به الزيادة امتثال المأمور وترك المنهي أو إنطاق الكلب لهم بأنه على ما هم عليه من الإيمان أو إنزال ملك عليهم بالتبشير والتثبيت وإخبارهم بظهور نبي من العرب يكون به الدين كله لله تعالى فآمنوا به صلّى الله عليه وسلّم قبل بعثه اه. ولا يلزم من القول بإنزال ملك عليهم بذلك القول بنبوتهم كما لا يخفى. وفي زِدْناهُمْ التفات من الغيبة إلى التكلم الذي عليه سبك النظم الكريم سباقا وسياقا، وفيه من تعظيم أمر الزيادة ما فيه وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ قويناها بالصبر فلم تزحزحها عواصف فراق الأوطان وترك الأهل والنعيم والأخوان ولم يزعجها الخوف من ملكهم الجبار ولم يرعها كثرة الكفار، وأصل الربط الشد المعروف واستعماله فيما ذكر مجاز كما قال غير واحد. وفي الأساس ربطت الدابة شددتها برباط والمربط الحبل، ومن المجاز ربط الله تعالى على قلبه صبره ورابط الجأش.
وفي الكشف لما كان الخوف والتعلق يزعج القلوب عن مقارها ألا ترى إلى قوله تعالى وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الأحزاب: ١٠] قيل في مقابله ربط قلبه إذا تمكن وثبت وهو تمثيل.
وجوز بعضهم أن يكون في الكلام استعارة مكنية تخييلية، وعدي الفعل بعلى وهو متعد بنفسه لتنزيله منزلة اللازم كقوله: يجرح في عراقيبها نصلي إِذْ قامُوا متعلق بربطنا، والمراد بقيامهم انبعاثهم بالعزم على التوجه إلى الله تعالى ومنابذة الناس كما في قولهم: قام فلان إلى كذا إذا عزم عليه بغاية الجد، وقريب منه ما قيل المراد به انتصابهم لإظهار الدين.
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم أنهم خرجوا من المدينة فاجتمعوا وراءها على غير ميعاد فقال رجل منهم: هو أشبههم إني لأجد في نفسي شيئا ما أظن أحدا يجده قالوا: ما تجد؟ قال: أجد في نفسي أن ربي رب السموات والأرض فقالوا أيضا: نحن كذلك فقاموا جميعا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وقد تقدم آنفا عن ابن عباس القول باجتماعهم على غير ميعاد أيضا إلا أنه قال: إن بعضهم أخفى حاله عن بعض حتى تعاهدوا فاجتمعوا على كلمة فقالوا ذلك.
وقال صاحب الغنيان المراد به وقوفهم بين يدي الجبار دقيانوس، وذلك أنهم قاموا بين يديه حين دغاهم إلى عبادة الأوثان فهددهم بما هددهم فبينما هم بين يديه تحركت هرة وقيل فأرة ففزع الجبار منها فنظر بعضهم إلى بعض

صفحة رقم 208

فلم يتمالكوا أن قالوا ذلك غير مكترثين به، وقيل المراد قيامهم لدعوة الناس سرا إلى الإيمان. وقال عطاء: المراد قيامهم من النوم وليس بشيء، ومثله ما قيل إن المراد قيامهم على الإيمان، وما أحسن ما قالوا فإن ربوبيته تعالى للسموات والأرض تقتضي ربوبيته لما فيهما وهم من جملته أي اقتضاء، وأردفوا دعواهم تلك بالبراءة من إله غيره عز وجل فقالوا:
لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً وجاؤوا بلن لأن النفي بها أبلغ من النفي بغيرها حتى قيل إنه يفيد استغراق الزمان فيكون المعنى لا نعبد أبدا من دونه إلها أي معبودا آخر لا استقلالا ولا اشتراكا قيل وعدلوا عن قولهم ربا إلى قولهم «إلها» للتنصيص على رد المخالفين حيث كانوا يسمون أصنامهم آلهة، وللإشعار بأن مدار العبادة وصف الألوهية، وللإيذان بأن ربوبيته تعالى بطريق الألوهية لا بطريق المالكية المجازية.
وقد يقال: إنهم أشاروا بالجملة الأولى إلى توحيد الربوبية، وبالجملة الثانية إلى توحيد الألوهية وهما أمران متغايران وعبدة الأوثان لا يقولون بهذا ويقولون بالأول وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:
٢٥، الزمر: ٣٨] وحكى سبحانه عنهم أنهم يقولون: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: ٣] وصح أنهم يقولون أيضا: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. وجاؤوا بالجملة الأولى مع أن ظاهر القصة كونهم بصدد ما تشير إليه الجملة الثانية من توحيد الألوهية لأن الظاهر أن قومهم إنما أشركوا فيها وهم إنما دعوا لذلك الإشراك دلالة على كمال الإيمان، وابتدؤوا بما يشير إلى توحيد الربوبية لأنه أول مراتب التوحيد، والتوحيد الذي أقرت به الأرواح في عالم الذر يوم قال لها سبحانه: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: ١٧٢] وفي ذكر ذلك أولا وذكر الآخر بعده تدرج في المخالفة فإن توحيد الربوبية يشير إلى توحيد الألوهية بناء على أن اختصاص الربوبية به عز وجل علة لاختصاص الألوهية واستحقاق المعبودية به سبحانه وتعالى، وقد ألزم جل وعلا الوثنية القائلين باختصاص الربوبية بذلك في غير موضع، ولكون الجملة الأولى لكونها مشيرة إلى توحيد الربوبية مشيرة إلى توحيد الألوهية قيل إن في الجملة الثانية تأكيدا لها فتأمل، ولا تعجل بالاعتراض.
والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من النكرة بعده، ولو أخر لكان صفة أي لن ندعو إلها كائنا من دونه تعالى لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً أي قولا ذا شطط أي بعد عن الحق مفرط أو قولا هو عين الشطط والبعد المفرط عن الحق على أنه وصف بالمصدر مبالغة ثم اقتصر على الوصف مبالغة على مبالغة، وجوز أبو البقاء كون «شططا» مفعولا به لقلنا، وفسره قتادة بالكذب، وابن زيد بالخطا، والسدي بالجور، والكل تفسير باللازم، وأصل معناه ما أشرنا إليه لأنه من شط إذا أفرط في البعد، وأنشدوا:
شط المراد بحزوى وانتهى الأمل وفي الكلام قسم مقدر واللام واقعة في جوابه، «وإذا» حرف جواب وجزاء فتدل على شرط مقدر أي لو دعونا وعبدنا من دونه إلها والله لقد قلنا إلخ، واستلزام العبادة القول لما أنها لا تعرى عن الاعتراف بألوهية المعبود، والتضرع إليه، وفي هذا القول دلالة على أن الفتية دعوا لعبادة الأصنام وليموا على تركها، وهذا أوفق بكون قيامهم بين يدي الملك هؤُلاءِ هو مبتدأ وفي اسم الإشارة تحقير لهم قَوْمُنَا عطف بيان له لا خبر لعدم إفادته ولا صفة لعدم شرطها والخبر قوله تعالى اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ تعالى شأنه آلِهَةً أي عملوها ونحتوها لهم.
قال الخفاجي: فيفيد أنهم عبدوها ولا حاجة إلى تقديره كما قيل بناء على أن مجرد العمل غير كاف في المقصود، وتفسير الاتخاذ بالعمل أحد احتمالين ذكرهما أبو حيان، والآخر تفسيره بالتصيير فيتعدى إلى مفعولين أحدهما «آلهة» والثاني مقدر، وجوز أن يكون «آلهة» هو الأول و «من دونه» هو الثاني وهو كما ترى، وأيّا ما كان

صفحة رقم 209

فالكلام إخبار فيه معنى الإنكار لا إخبار محض بقرينة ما بعده ولأن فائدة الخبر معلومة لَوْلا يَأْتُونَ تحضيض على وجه الإنكار والتعجيز إذ يستحيل أن يأتوا عَلَيْهِمْ بتقدير مضاف أي على ألوهيتهم أو على صحة اتخاذهم لها آلهة بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ بحجة ظاهرة الدلالة على مدعاهم فإن الدين لا يؤخذ إلا به، واستدل به على أن ما لا دليل عليه من أمثال ما ذكر مردود فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بنسبة الشريك إليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا، وقد مر تحقيق المراد من هذا التركيب، وهذه المقالة يحتمل أن يكونوا قالوها بين يدي الجبار تبكيتا له وتعجيزا وتأكيدا للتبرّي من عبادة ما يدعوهم إليه بأسلوب حسن ويحتمل أن يكونوا قالوها فيما بينهم لما عزموا عليه وخبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما السابق نص في أن هذه المقالة وما قبلها وما بعدها إلى مِرفَقاً مقولة فيما بينهم، ودعوى أنه إذا كان المراد من القيام فيما مر قيامهم بين يدي الجبار يتعين كون هذه المقالة صادرة عنهم بعد خروجهم من عنده غير مسلمة كما لا يخفى، نعم ينبغي أن يكون قوله تعالى: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ مقولا فيما بينهم مطلقا خاطب به بعضهم بعضا. وفي مجمع البيان عن ابن عباس أن قائله يمليخا، والاعتزال تجنب الشيء بالبدن أو بالقلب وكلا الأمرين محتمل هنا، والتعزل بمعناه ومن ذلك قوله:

يا بيت عاتكة الذي أتعزل حذر العدا وبه الفؤاد موكل
و «ما» يحتمل أن تكون موصولة وأن تكون مصدرية، والعطف في الاحتمالين على الضمير المنصوب، والظاهر أن الاستثناء فيهما متصل، ويقدر على الاحتمال الثاني مضاف في جانب المستثنى ليتأتى الاتصال أي وإذ اعتزلتموهم واعتزلتم الذين يعبدونهم إلا الله تعالى أو إذا اعتزلتموهم واعتزلتم عبادتهم إلا عبادة الله عز وجل، وتقدير مستثنى منه على ذلك الاحتمال لذلك نحو عبادتهم لمعبوديهم تكلف، ويحتمل أن يكون منقطعا، وعلى الأول يكون القوم عابدين الله تعالى وعابدين غيره كما جاء ذلك في بعض الآثار.
أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم عن عطاء الخراساني أنه قال: كان قوم الفتية يعبدون الله تعالى ويعبدون معه آلهة شتى فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم تعتزل عبادة الله تعالى.
وعلى الثاني يكونون عابدين غيره تعالى فقط، قيل وهذا هو الأوفق بقوله تعالى أولا: هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً فتأمل.
وجوز أن تكون ما نافية والاستثناء مفرغ والجملة إخبار من الله تعالى عن الفتية بالتوحيد معترضة بين إذ وجوابه أعني قوله تعالى: فَأْوُوا أي التجثوا إِلَى الْكَهْفِ ووجه الاعتراض على ما في الكشف أن قوله تعالى: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ فأووا معناه وإذا اجتنبتم عنهم وعما يعبدون فأخلصوا له العبادة في موضع تتمكنون منه فدل الاعتراض على أنهم كانوا صادقين وأنهم أقاموا بما وصى به بعضهم بعضا فهو يؤكد مضمون الجملة. وإلى كون فَأْوُوا جواب إذ ذهب الفراء، وقيل: إنه دليل الجواب أي وإذ اعتزلتموهم اعتزالا اعتقاديا فاعتزلوهم اعتزالا جسمانيا أو إذا أردتم الاعتزال الجسماني فافعلوا ذلك. واعترض كلا القولين بأن إذ بدون ما لا تكون للشرط، وفي همع الهوامع أن القول بأنها تكون له قول ضعيف لبعض النحاة أو تسامح لأنها بمعناه فهي هنا تعليلية أو ظرفية وتعلقها قيل بأووا محذوفا دل عليه المذكور لا به لمكان الفاء أو بالمذكور والظرف يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره، وقال أبو البقاء: إذ ظرف لفعل محذوف أي وقال بعضهم لبعض، وظاهره أنه عنى بالفعل المحذوف قال وأقول: هو من أعجب العجائب. وفي مصحف ابن مسعود كما أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة «وما يعبدون من دون الله» وقال

صفحة رقم 210

هارون: في بعض المصاحف «وما يعبدون من دوننا» وهذا يؤيد الاعتراض، وفي البحر أن ما في المصحفين تفسير لا قراءة لمخالفته سواد الإمام. وزعم أن المتواتر عن ابن مسعود ما فيه يَنْشُرْ لَكُمْ يبسط لكم ويوسع عليكم رَبُّكُمْ مالك أمركم الذي هداكم للإيمان مِنْ رَحْمَتِهِ في الدارين وَيُهَيِّئْ يسهل لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ الذي أنتم بصدده من الفرار بالدين والتوجه التام إلى الله تعالى مِرفَقاً ما ترتفقون وتنتفعون به، وهو مفعول يُهَيِّئْ ومفعول يَنْشُرْ محذوف أي الخير ونحوه مِنْ أَمْرِكُمْ على ما في بعض الحواشي متعلق بيهيىء ومن لابتداء الغاية أو للتبعيض، وقال ابن الأنباري: للبدل والمعنى يهيىء لكم بدلا عن أمركم الصعب مرفقا كما في قوله تعالى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ [التوبة: ٣٨] وقوله:

فليت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على طهيان
وجوز أن يكون حالا من مِرفَقاً فيتعلق بمحذوف، وتقديم لَكُمْ لما مر مرارا من الإيذان من أول الأمر بكون المؤخر من منافعهم والتشويق إلى وروده، والظاهر أنهم قالوا هذا ثقة بفضل الله تعالى وقوة في رجائهم لتوكلهم عليه سبحانه ونصوع يقينهم فقد كانوا علماء بالله تعالى.
فقد أخرج الطبراني وابن المنذر وجماعة عن ابن عباس قال: ما بعث الله تعالى نبيا إلا وهو شاب ولا أوتي العلم عالم إلا وهو شاب وقرأ قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ [الأنبياء: ٦٠] وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ [الكهف:
٦٠] وإِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وجوز أن يكونوا قالوه عن أخبار نبي في عصرهم به وأن يكون بعضهم نبيا أوحى إليه ذلك فقاله، ولا يخفى أن ما ذكر مجرد احتمال من غير داع.
وقرأ أبو جعفر والأعرج وشيبة وحميد وابن سعدان ونافع وابن عامر وأبو بكر في رواية الأعشى والبرجمي والجعفي عنه وأبو عمرو في رواية هارون «مرفقا» بفتح الميم وكسر الفاء ولا فرق بينه وبين ما هو بكسر الميم وفتح الفاء معنى على ما حكاه الزجاج وثعلب فإن كلا منهما يقال في الأمر الذي يرتفق به وفي الجارحة، ونقل مكي عن الفراء أنه قال: لا أعرف في الأمر وفي اليد وفي كل شيء إلا كسر الميم، وأنكر الكسائي أن يكون المرفق من الجارحة إلا بفتح الميم وكسر الفاء وخالفه أبو حاتم وقال: المرفق بفتح الميم الموضع كالمسجد، وقال أبو زيد: هو مصدر جاء على مفعل كالمرجع، وقيل: هما لغتان فيما يرتفق به وأما من اليد فبكسر الميم وفتح الفاء لا غير، وعن الفراء أن أهل الحجاز يقولون: «مرفقا» بفتح الميم وكسر الفاء فيما ارتفقت به ويكسرون مرفق الإنسان، وأما العرب فقد يكسرون الميم منهما جميعا اه. وأجاز معاذ فتح الميم والفاء، هذا واستدل بالآية على حسن الهجرة لسلامة الدين وقبح المقام في دار الكفر إذا لم يمكن المقام فيها إلا بإظهار كلمة الكفر وبالله تعالى التوفيق.
وَتَرَى الشَّمْسَ بيان لحالهم بعد ما أووا إلى الكهف ولم يصرح سبحانه به تعويلا على ما سبق من قوله تعالى:
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ وما لحق من إضافة الكهف إليهم وكونهم في فجوة منه، وجوز أن يكون إيذانا بعدم الحاجة إلى التصريح لظهور جريانهم على موجب الأمر لكونه صادرا عن رأي صائب وقد حذف سبحانه وتعالى أيضا جملا أخرى لا تخفى، والخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو لكل أحد ممن يصلح له وهو للمبالغة في الظهور وليس المراد الإخبار بوقوع الرؤية بل الإنباء بكون الكهف لو رأيته ترى الشمس إِذا طَلَعَتْ تزاور أي تتنحى وأصله تتزاور بتاءين فحذف أحدهما تخفيفا وهي قراءة الكوفيين الأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وخلف وابن سعدان وأبي عبيدة وأحمد بن جبير الأنطاكي ومحمد بن عيسى الأصبهاني، وقرأ الحرميان وأبو عمرو «تزّاور» بفتح التاء وتشديد الزاي، وأصله أيضا تتزاور إلا أنه أدغمت التاء في الزاي بعد قلبها زايا، وقرأ ابن أبي إسحاق وابن عامر وقتادة وحميد ويعقوب عن العمري

صفحة رقم 211

«تزور» كتحمر وهو من بناء الأفعال من غير العيوب والألوان، وقد جاء ذلك نادرا وقرأ جابر والجحدري وأبو رجاء والسختياني وابن أبي عبلة ووردان عن أبي أيوب «تزوار» كتحمار وهو في البناء كسابقه، وقرأ ابن مسعود. وأبو المتوكل «تزوئّر» بهمزة قبل الراء المشددة كتطمئن، ولعله إنما جيء بالهمزة فرارا من التقاء الساكنين وإن كان جائزا في مثل ذلك مما كان الأول حرف مد والثاني مدغما في مثله وكلها من الزور بفتحتين مع التخفيف وهو الميل، وقيده بعضهم بالخلقي، والأكثرون على الإطلاق ومنه الأزور المائل بعينه إلى ناحية ويكون في غير العين قال ابن أبي ربيعة:
وجنبي خيفة القرم أزور وقال عنتزه:

فازور من وقع القنا بلبانه وشكا إلى بعبرة وتحمحم
وقال بشر بن أبي حازم:
تؤم بها الحداة مياه نخل وفيها عن أبانين ازورار
ومنه زاره إذا مال إليه، والزور أي الكذب لميله عن الواقع وعدم مطابقته، وكذا الزور بمعنى الصنم في قوله:
جاؤوا بزوريهم وجئنا بالأصم وقال الراغب: إن الزور بتحريك الواو ميل في الزور بتسكينها وهو أعلى الصدر، والأزور المائل الزور أي الصدر وزرت فلانا تلقيته بزوري أو قصدت زوره نحو وجهته أي قصدت وجهه، والمشهور ما قدمناه، وحكي عن أبي الحسن أنه قال: لا معنى لتزور في الآية لأن الازورار الانقباض، وهو طعن في قراءة ابن عامر ومن معه بما يوجب تغيير الكنية، وبالجملة المراد إذا طلعت تروغ وتميل عَنْ كَهْفِهِمْ الذي آووا إليه فالإضافة لأدنى ملابسة ذاتَ الْيَمِينِ أي جهة ذات يمين الكهف عند توجه الداخل إلى قعره أي جانبه الذي يلي المغرب أو جهة ذات يمين الفتية ومآله كسابقه، وهو نصب على الظرفية. قال المبرد: في المقتضب ذات اليمين وذات الشمال من الظروف المتصرفة كيمينا وشمالا.
وَإِذا غَرَبَتْ أي تراها عند غروبها تَقْرِضُهُمْ أي تعدل عنهم، قال الكسائي: يقال قرضت المكان إذا عدلت عنه ولم تقر به ذاتَ الشِّمالِ أي جهة ذات شمال الكهف أي جانبه الذي يلي المشرق، وقال غير واحد:
هو من القرض بمعنى القطع تقول العرب: قرضت موضع كذا أي قطعته. قال ذو الرمة:
إلى طعن يقرضن أقواز (١) مشرف شمالا وعن إيمانهن الفوارس
والمراد تتجاوزهم وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ أي في متسع من الكهف، وهي على ما قيل من الفجا وهو تباعد ما بين الفخذين يقال رجل أفجى وامرأة فجواء، وتجمع على فجاء وفجا وفجوات. وحاصل الجملتين أنهم كانوا لا تصيبهم الشمس أصلا فتؤذيهم وهم في وسط الكهف بحيث ينالهم روح الهواء، ولا يؤذيهم كرب الغار ولا حر الشمس، وذلك لأن باب الكهف كما قال عبد الله بن مسلم وابن عطية كان في مقابلة بنات نعش وأقرب المشارق والمغارب إلى محاذاته مشرق رأس السرطان ومغربه والشمس إذا كان مدارها مداره تطلع مائلة عنه مقابلة لجانبه الأيمن، وهو الذي يلي المغرب، وتغرب محاذية لجانبه الأيسر فيقع شعاعها على جنبه، وتحلل عفونته وتعدل هواه ولا تقع عليهم فتؤذي أجسادهم وتبلي ثيابهم، ولعل ميل الباب إلى جانب المغرب كان أكثر ولذلك وقع التزاور على كهفهم والقرض على أنفسهم وقال الزجاج: ليس ذلك لما ذكر بل لمحض صرف الله تعالى الشمس بيد قدرته عن
(١) القوز بالقاف والزاي المعجمة الكثيب الصغير، ويروى أجواز، والمشرف اسم رملة معروفة، والفوارس رمال معروفة بالدهناء اه منه.

صفحة رقم 212

أن تصيبهم على منهاج خرق العادة كرامة لهم وجيء بقوله تعالى: وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ حالا مبينة لكون ما ذكر أمرا بديعا كأنه قيل ترى الشمس تميل عنهم يمينا وشمالا ولا تحوم حولهم مع كونهم في متسع من الكهف معرض لإصابتها لولا أن كفها عنهم كف التقدير، واحتج عليه بقوله تعالى ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ حيث جعل ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من التزاور والقرض في الطلوع والغروب يمينا وشمالا، ولا يظهر كونه آية على القول السابق ظهوره على قوله فإن كونه آية دالة على كمال قدرة الله تعالى وحقية التوحيد وكرامة أهله عنده سبحانه على هذا أظهر من الشمس في رابعة النهار. وكان ذلك قبل سد باب الكهف على ما قيل، وقال أبو علي: معنى تقرضهم تعطيهم من ضوئها شيئا ثم تزول سريعا وتسترد ضوءها فهو كالقرض يسترده صاحبه، وحاصل الجملتين عنده أن الشمس تميل بالغدوة عن كهفهم وتصيبهم بالعشي إصابة خفيفة، ورد بأنه لم يسمع للقرض بهذا المعنى فعل ثلاثي ليفتح حرف المضارعة، واختار بعضهم كون المراد ما ذكر إلا أنه جعل تقرضهم من القرض لهم وأن المعنى وإذا غربت تقطع لهم من ضوئها شيئا، والسبب لاختياره ذلك توهمه أن الشمس لو لم تصب مكانهم أصلا لفسد هواؤه وتعفن ما فيه فيصير ذلك سببا لهلاكهم وفيه ما فيه، وأكثر المفسرين على أنهم لم تصبهم الشمس أصلا وإن اختلفوا في منشأ ذلك.
واختار جمع أنه لمحض حجب الله تعالى الشمس على خلاف ما جرت به العادة قالوا: والإشارة تؤيد ذلك أتم تأييد والاستبعاد مما لا يلتفت إليه لا سيما فيما نحن فيه فإن شأن أصحاب الكهف كله على خلاف العادة.
وبعض من ذهب إلى أن المنشأ كون باب الكهف في مقابلة بنات نعش جعل ذلك إشارة إلى إيوائهم إلى كهف هذا شأنه وبعض آخر جعله إشارة إلى حفظ الله تعالى إياهم في ذلك الكهف المدة الطويلة وآخر جعله إشارة إلى اطلاعه سبحانه رسوله صلّى الله عليه وسلّم على أخبارهم. واعترض على الأخيرين بأنه لا يساعدهما إيراد ذلك في تضاعيف القصة، وجعله بعضهم إشارة إلى هدايتهم إلى التوحيد ومخالفتهم قومهم وآباءهم وعدم الاكتراث بهم وبملكهم مع حداثتهم وإيوائهم إلى كهف شأنه ذلك ولا يخلو عن حسن وإليه أميل والله تعالى أعلم.
وقرئ «يقرضهم» بالياء آخر الحروف ولعل الضمير عائد على غروب الشمس.
وقال أبو حيان: أي يقرضهم الكهف مَنْ يَهْدِ اللَّهُ من يدله سبحانه دلالة موصولة إلى الحق ويوفقه لما يحبه ويرضاه فَهُوَ الْمُهْتَدِ الفائز بالحظ الأوفر في الدارين، والمراد إما الثناء على أصحاب الكهف والشهادة لهم بإصابة المطلوب والاخبار بتحقق ما أملوه من نشر الرحمة وتهيئة المرفق أو التنبيه على أن أمثال هذه الآيات كثيرة ولكن المشفع بها من وفقه الله تعالى للتأمل فيها والاستبصار بها فالمراد بمن إما الفتية أو ما يعمهم وغيرهم وفيه ثناء عليهم أيضا وهو كما ترى.
وجعله بعضهم ثناء على الله تعالى لمناسبة قوله سبحانه وَزِدْناهُمْ هُدىً وربطنا وملاءمة قوله عز وجل وَمَنْ يُضْلِلْ يخلق فيه الضلال لصرف اختياره إليه فَلَنْ تَجِدَ لَهُ أبدا وإن بالغت في التتبع والاستقصاء وَلِيًّا ناصرا مُرْشِداً يهديه إلى الحق ويخلصه من الضلال لاستحالة وجوده في نفسه لا أنك لا تجده مع وجوده أو إمكانه إذ لو أريد مدحهم لا كتفى بقوله تعالى «فهو المهتد» وفيه أنه لا يطابق المقام والمقابلة لا تنافي المدح بل تؤكده ففيه تعريض بأنهم أهل الولاية والرشاد لأن لهم الولي المرشد، ولعل في الآية صنعة الاحتباك.
وَتَحْسَبُهُمْ بفتح السين.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي بكسرها أي تظنهم، والخطاب فيه كما فيما سبق. والظاهر أن هذا

صفحة رقم 213

إخبار مستأنف وليس على تقدير شيء، وقيل في الكلام حذف والتقدير ولو رأيتهم تحسبهم أَيْقاظاً جمع يقظ بكسر القاف كأنكاد ونكد كما في الكشاف وبضمها كأعضاد وعضد كما في الدر المصون.
وفي القاموس رجل يقظ كندس وكتف فحكى اللغتين ضم العين وكسرها وهو اليقظان ومدار الحسبان انفتاح عيونهم على هيئة الناظر كما قال غير واحد. وقال ابن عطية: يحتمل أن يحسب الرائي ذلك لشدة الحفظ الذي كان عليهم وقلة التغير وذلك لأن الغالب على النيام استرخاء وهيئات يقتضيها النوم فإذا لم تكن لنائم يحسبه الرائي يقظان وإن كان مسدود العينين ولو صح فتح أعينهم بسند يقطع العذر كان أبين في هذا الحسبان.
وقال الزجاج: مداره كثرة تقلبهم، واستدل عليه بذكر ذلك بعد، وفيه أنه لا يلائمه وَهُمْ رُقُودٌ جمع راقد أي نائم، وما قيل إنه مصدر أطلق على الفاعل واستوى فيه القليل والكثير كركوع وقعود لأن فاعلا لا يجمع على فعول مردود لأنه نص على جمعه كذلك النحاة كما صرح به في المفصل والتسهيل، وهذا تقرير لما لم يذكر فيما سلف اعتمادا على ذكره السابق من الضرب على آذانهم وَنُقَلِّبُهُمْ في رقدتهم كثيرا ذاتَ الْيَمِينِ أي جهة تلي أيمانهم وَذاتَ الشِّمالِ أي جهة تلي شمائلهم كيلا تأكل الأرض ما عليها من أبدانهم كما أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن جبير، واستبعد ذلك وقال الإمام: إنه عجيب فإن الله تعالى الذي قدر على أن يبقيهم أحياء تلك المدة الطويلة هو عز وجل قادر على حفظ أبدانهم أيضا من غير تقليب، وأجيب بأنه اقتضت حكمته تعالى أن يكون حفظ أبدانهم بما جرت به العادة وإن لم نعلم وجه تلك الحكمة، ويجري نحو هذا فيما قيل في التزاور وأخيه، وقيل يمكن أن يكون تقليبهم حفظا لما هو عادتهم في نومهم من التقلب يمينا وشمالا اعتناء بشأنهم.
وقيل يحتمل أن يكون ذلك إظهارا لعظيم قدرته تعالى في شأنهم حيث جمع تعالى شأنه فيهم الإنامة الثقيلة المدلول عليها بقوله تعالى: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ [الكهف: ١١] والتقليب الكثير، ومما جرت به العادة أن النوم الثقيل لا يكون فيه تقلب كثير، ولا يخفى بعده. واختلف في أوقات تقليبهم فأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا يقلبون في كل ستة أشهر مرة، وأخرج غير واحد عن أبي عياض نحوه، وقيل يقلبون في كل سنة مرة، وذلك يوم عاشوراء، وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أن التقليب في التسع سنين الضميمة ليس فيما سواها، وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن هذا التقليب في رقدتهم الأولى يعني الثلاثمائة سنة، وكانوا يقلبون في كل عام مرة ولم يكن في مدة الرقدة الثانية يعني التسع.
وتعقب الإمام ذلك بأن هذه التقديرات لا سبيل للعقل إليها ولفظ القرآن لا يدل عليها وما جاء فيها خبر صحيح انتهى. فظاهر الآية يدل على الكثرة لمكان المضارع الدال على الاستمرار التجددي مع ما فيه من التثقيل، والظاهر أن وَنُقَلِّبُهُمْ إخبار مستأنف، وجوز الطيبي بناء على ما سمعت عن الزجاج كون الجملة في موضع الحال وهو كما ترى، وقرىء «ويقلبهم» بالياء آخر الحروف مع التشديد والضمير لله تعالى، وقيل للملك.
وقرأ الحسن فيما حكى الأهوازي في الإقناع «ويقلبهم» بياء مفتوحة وقاف ساكنة ولام مخففة، وقرأ فيما حكى ابن جني «وتقلبهم» على المصدر منصوبا، ووجهه أنه مفعول لفعل محذوف يدل عليه «وتحسبهم» أي وترى أو تشاهد تقلبهم، وروي عنه أيضا أنه قرأ كذلك إلا أنه رفع، وهو على الابتداء كما قال أبو حاتم والخبر ما بعد أو محذوف أي آية عظيمة أو من آيات الله تعالى، وحكى ابن خالويه هذه القراءة عن اليماني وذكر أن عكرمة قرأ «وتقلبهم» بالتاء ثالثة الحروف مضارع قلب مخففا، ووجه بأنه على تقدير وأنت تقلبهم وجعل الجملة حالا من فاعل تَحْسَبُهُمْ وفي إشارة إلى قوة اشتباههم بالإيقاظ بحيث إنهم يحسبون إيقاظا في حال سبر أحوالهم وقلبهم ذات اليمين وذات الشمال

صفحة رقم 214

وَكَلْبُهُمْ الظاهر أنه الحيوان المعروف النباح، وله أسماء كثيرة أفرد لها الجلال السيوطي رسالة،
قال كعب الأحبار: هو كلب مروا به فتبعهم فطردوه فعاد ففعلوا ذلك مرارا. فقال لهم: ما تريدون مني لا تخشوا جانبي أنا أحب أحياء الله تعالى فناموا وأنا أحرسكم
، وروي عن ابن عباس أنه كلب راع مروا به فتبع دينهم وذهب معهم وتبعهم الكلب، وقال عبيد بن عمير: هو كلب صيد أحدهم، وقيل: كلب غنمه ولا بأس في شريعتنا باقتناء الكلب لذلك وأما فيما عداه وما عدا ما ألحق به فمنهي عنه، ففي البخاري عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما من اقتنى كلبا ليس بكلب صيد أو ماشية نقص كل يوم من عمله قيراطان، وفي رواية قيراط، واختلف في لونه فأخرج ابن أبي حاتم من طريق سفيان قال: قال لي رجل بالكوفة يقال له عبيد وكان لا يتهم بكذب رأيت كلب أصحاب الكهف أحمر كأنه كساء أنبجاني، وأخرج عن كثير النواء قال: كان الكلب أصفر، وقيل كان أنمر (١) وروي ذلك عن ابن عباس، وقيل غير ذلك، وفي اسمه فأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قطمير، وأخرج عن مجاهد أنه قطمورا، وقيل ريان، وقيل ثور، وقيل غير ذلك، وهو في الكبر على ما روي عن ابن عباس فوق القلطي ودون الكردي.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عبيد أنه قال رأيته صغيرا زينينا. قال الجلال السيوطي: يعني صينيا، وفي التفسير الخازني تفسير القلطي بذلك، وزعم بعضهم أن المراد بالكلب هنا الأسد وهو على ما في القاموس أحد معانيه.
وقد جاء أنه صلّى الله عليه وسلّم دعا على كافر بقوله: اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فافترسه أسد
وهو خلاف الظاهر، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال: قلت لرجل من أهل العلم زعموا أن كلبهم كان أسدا فقال: لعمر الله ما كان أسدا ولكنه كان كلبا أحمر خرجوا به من بيوتهم يقال: له قطمورا وأبعد من هذا زعم من ذهب إلى أنه رجل طباخ لهم تبعهم أو أحدهم قعد عند الباب طليعة لهم، نعم حكى أبو عمرو الزاهدي غلام ثعلب أنه قرىء «وكالبهم» بهمزة مضمومة بدل الباء وألف بعد الكاف من كلأ إذا حفظ. ولا يبعد فيه أن يراد الرجل الربيئة لكن ظاهر القراءة المتواترة يقتضي إرادة الكلب المعروف منه أيضا وإطلاق ذلك عليه لحفظه ما استحفظ عليه وحراسته إياه. وقيل في هذه القراءة إنها تفسير أو تحريف،
وقرأ جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه «وكالبهم» بباء موحدة وزنة اسم الفاعل
والمراد صاحب كلبهم كما تقول لابن وتامر أي صاحب لبن وتمر وجاء في شأن كلبهم أنه يدخل الجنة يوم القيامة. فعن خالد ابن معدان ليس في الجنة من الدواب إلا كلب أصحاب الكهف وحمار بلعم، ورأيت في بعض الكتب أن ناقة صالح وكبش إسماعيل أيضا في الجنة ورأيت أيضا أن سائر الحيوانات المستحسنة في الدنيا كالظباء والطواويس وما ينتفع به المؤمن كالغنم تدخل الجنة على كيفية تليق بذلك المكان وتلك النشأة وليس فيما ذكر خبر يعول عليه فيما أعلم نعم في الجنة حيوانات مخلوقة فيها، وفي خبر يفهم من كلام الترمذي صحته التصريح بالخيل منها والله تعالى أعلم.
وقد اشتهر القول بدخول هذا الكلب الجنة حتى إن بعض الشيعة يسمون أبناءهم بكلب علي ويؤمل من سمي بذلك النجاة بالقياس الأولوي على ما ذكر وينشد:

فتية الكهف نجا كلبهم كيف لا ينجو غدا كلب علي
ولعمري إن قبله علي كرم الله تعالى وجهه كلبا له نجا ولكن لا أظن يقبله لأنه عقور باسِطٌ ذِراعَيْهِ مادهما، والذراع من المرفق إلى رأس الأصبع الوسطى ونصب ذِراعَيْهِ على أنه مفعول باسِطٌ وعمل مع أنه بمعنى الماضي واسم الفاعل لا يعمل إذا كان كذلك لأن المراد حكاية الحال الماضية. وذهب الكسائي وهشام وأبو جعفر
(١) أي فيه نمرة بيضاء ونمرة سوداء اه منه.

صفحة رقم 215

ابن مضاء إلى جواز عمل اسم الفاعل كيفما كان فلا سؤال ولا جواب بِالْوَصِيدِ بموضع الباب ومحل العبور من الكهف وأنشدوا:

بأرض فضاء لا يسد وصيدها علي ومعروفي بها غير منكر
وهو المراد بالفناء في التفسير المروي عن ابن عباس ومجاهد وعطية، وقيل بالعتبة والمراد بها ما يحاذي ذلك من الأرض لا المتعارف، فلا يقال إن الكهف لا باب له ولا عتبة على أنه لا مانع من ذلك.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن جبير أن الوصيد الصعيد وليس بذاك وذكروا في حكمة كونه بالوصيد غيرنا ومعهم أن الملائكة عليهم السلام لا تدخل بيتا فيه كلب وقد يقال: إن ذلك لكونه حارسا كما يشير إليه ما أخرجه ابن المنذر عن ابن جريج قال: باسط ذراعيه بالوصيد يمسك عليهم باب الكهف وكان فيما قيل يكسر أذنه اليمنى وينام عليها إذا قلبوا ذات اليمين، ويكسر أذنه اليسرى وينام عليها إذا قلبوا ذات الشمال، والظاهر أنه نام كما ناموا لكن أخرج ابن أبي حاتم عن عبد الله بن حميد المكي أنه جعل رزقه في لحس ذراعيه فإنه كالظاهر أنه لم يستغرق نومه كما استغرق نومهم لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لو عاينتهم وشاهدتهم وأصل الاطلاع الوقوف على الشيء بالمعاينة والمشاهدة، وقرأ ابن وثاب والأعمش «لو اطلعت» بضم الواو تشبيها لها بواو الضمير فإنها قد تضم إذا لقيها ساكن نحو رموا السهام وروي أن ذلك عن شيبة وأبي جعفر.
لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً أي لأعرضت بوجهك عنهم وأوليتهم كشحك، ونصب فِراراً إما على المصدر لوليت إذ التولية، والفرار من واد واحد فهو كجلست قعودا أو لفررت محذوفا، وإما على الحالية بتأويله باسم الفاعل أو بجعله من باب فإنما هي إقبال وإدبار، وإما على أنه مفعول لأجله أي لرجعت لأجل الفرار وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً أي خوفا يملا الصدر، ونصب على أنه مفعول ثان، ويجوز أن يكون تمييزا وهو محول عن الفاعل، وكون الخوف يملأ مجاز في عظمه مشهور كما يقال في الحسن إنه يملأ العيون.
وفي البحر أبعد من ذهب إلى أنه تمييز محول عن المفعول كما في قوله تعالى شأنه: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً [القمر: ١٢] لأن الفعل لو سلط عليه ما تعدى إليه تعدي المفعول به بخلاف ما في الآية، وسبب ما ذكر أن الله عز وجل ألقى عليهم من الهيبة والجلال ما ألقى، وقيل سببه طول شعورهم وأظفارهم وصفرة وجوههم وتغير أطمارهم وقيل: إظلام المكان وإيحاشه.
وتعقب ذلك أبو حيان بأن القولين ليسا بشيء لأنهم لو كانوا بتلك الصفة أنكروا أحوالهم ولم يقولوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ولأن الذي بعث إلى المدينة لم ينكر إلا المعالم والبناء لا حال نفسه ولأنهم بحالة حسنة بحيث لا يفرق الرائي بينهم وبين الإيقاظ وهم في فجوة موصوفة بما مر فكيف يكون مكانهم موحشا اه.
وأجيب بأنهم لا يبعد عدم تيقظهم لحالهم فإن القائم من النوم قد يذهل عن كثير من أموره ويدعى استمرار الغفلة في الرسول وإنكاره للمعالم لا ينافي إنكار الناس لحاله وكونه على حالة منكرة لم يتنبه لها، وأيضا يجوز أنهم لم يطلعوا على حالهم ابتداء فقالوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ثم تنبهوا له فقالوا: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ، وأيضا يجوز أن يكون هذا الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم وذلك الحال إنما حدث بعد انتباههم الذي بعثوا فيه رسولهم إلى المدينة، وعلى هذا لا يضر عدم إنكار الرسول حال نفسه لأنه لم يحدث له ما ينكر بعد، وإيحاش المكان يجوز أن يكون حدث بعد على هذا أيضا، وذلك بتغيره بمرور الزمان اه، ولا يخفى على منصف ما في هذه الأجوبة فالذي ينبغي أن يعول عليه أن

صفحة رقم 216

السبب في ذلك ما ألقى الله تعالى عليهم من الهيبة وهم في كهفهم وأن شعورهم وأظفارهم إن كانت قد طالت فهي لم تطل إلى حد ينكره من يراه، واختار بعض المفسرين أن الله تعالى لم يغير حالهم وهيئتهم أصلا ليكون ذلك آية بينة، والخطاب هنا كالخطاب فيما سبق، وعلى احتمال أن يكون له صلّى الله عليه وسلّم يلزم أن يكونوا باقين على تلك الحالة التي توجب فرار المطلع عليهم ومزيد رعبه إلى ما بعد نزول الآية فمن لا يقول به لا يقول به.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: غزونا مع معاوية غزوة المضيق نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف الذين ذكر الله تعالى في القرآن فقال معاوية: لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال له ابن عباس: ليس ذلك لك قد منع الله تعالى ذلك من هو خير منك فقال: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً فقال معاوية: لا أنتهي حتى أعلم علمهم فبعث رجالا وقال: اذهبوا فادخلوا الكهف وانظروا فذهبوا فلما دخلوه بعث الله تعالى عليهم ريحا فأخرجتهم، قيل وكأن معاوية إنما لم يجر على مقتضى كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ظنا منه تغير حالهم عما كانوا عليه أو طلبا لعلمهم مهما أمكن.
وأخرج ابن أبي حاتم عن شهر بن حوشب قال: كان لي صاحب ماض شديد النفس فمر بجانب الكهف فقال:
لا أنتهي حتى أنظر إليهم فقيل له: لا تفعل أما تقرأ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ إلخ فأبى إلا أن ينظر فأشرف عليهم فابيضت عيناه وتغير شعره وكان يخبر الناس بأن عدتهم سبعة، وربما يستأنس بمثل هذه الأخبار لوجودهم اليوم بل لبقائهم على تلك الحالة التي لا يستطاع معها الوقوف على أحوالهم وفي ذلك خلاف.
فحكى السهيلي عن قوم القول به، وعن ابن عباس إنكاره فقد أخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن عكرمة أن ابن عباس غزا مع حبيب بن مسلمة فمروا بالكهف فإذا فيه عظام فقال رجل هذه عظام أهل الكهف فقال ابن عباس: لقد ذهبت عظامهم منذ أكثر من ثلاثمائة سنة، ولا يخفى ما بين هذا الخبر والخبر السابق عنه بل والآخر أيضا من المخالفة، والذي يميل القلب إليه عدم وجودهم اليوم وإنهم إن كانوا موجودين فليسوا على تلك الحالة التي أشار الله تعالى إليها وأن الخطاب الذي في الآية لغير معين وأن المراد منها الأخبار عن أنهم بتلك الحالة في ذلك الوقت، وما
أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أصحاب الكهف أعوان المهدي»
على تقدير صحته لا يدل على وجودهم اليوم على تلك الحالة وأنه عليه الصلاة والسلام على القول بعموم الخطاب ليس من الأفراد المعينة به لأنه صلّى الله عليه وسلّم اطلع على ما هو أعظم منهم من ملكوت السموات والأرض، ومن جعله صلّى الله عليه وسلّم معينا قال: المراد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا بحكم جري العادة والطبيعة البشرية وعدم ترتب الجزاء على اطلاعه صلّى الله عليه وسلّم على ما هو أعظم منهم أمر خارق للعادة ومنوط بقوة ملكية بل بما هو فوقها أو المراد لو اطلعت عليهم بنفسك من غير أن نطلعك عليهم لوليت منهم فرارا إلخ واطلاعه عليه الصلاة والسلام على ما اطلع عليه كان باطلاع الله عز وجل إياه وفرق بين الإطلاعين.
يحكى أن موسى عليه السلام وجعه بطنه فشكى إلى ربه سبحانه فقال له: اذهب إلى نبات كذا في موضع كذا فكل منه فذهب وأكل فذهب ما كان يجد ثم عاوده ذلك بعد سنوات فذهب إلى ذلك النبات فأكل منه فلم ينتفع به فقال يا رب أنت أعلم وجعني بطني في سنة كذا فأمرتني أن أذهب إلى نبات كذا فذهبت فأكلت فانتفعت ثم عاودني ما كنت أجد فذهبت إلى ذلك وأكلت فلم أنتفع فقال سبحانه: أتدري يا موسى ما سبب ذلك؟ قال: لا يا رب قال:
السبب أنك في المرة الأولى ذهبت منا إلى النبات وفي المرة الثانية ذهبت من نفسك إليه

صفحة رقم 217

ومما يستهجن من القول ما يحكى عن بعض المتصوفة أنه سمع قارئا يقرأ هذه الآية فقال: لو اطلعت أنا ما وليت منهم فرارا وما ملئت منهم رعبا.
وما نقل عن بعضهم من الجواب بأن مراد قائله إثبات مرتبة الطفولية لنفسه فإن الطفل لا يهاب الحية مثلا إذا رآها ولا يفرق بينها وبين الحبل على تقدير تسليم أن مراده ذلك لا يدفع الاستهجان، وذلك نظير قول من قال سبحانه وتعالى لا يعلم الغيب على معنى أنه لا غيب بالنسبة إليه عز وجل ليتعلق به علمه، ولنعم ما قال عمر رضي الله تعالى عنه: كلموا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذب الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.
هذا وقرأ ابن عباس والحرميان وأبو حيوة وابن أبي عبلة «ولملئت» بتشديد اللام والهمزة، وقرأ أبو جعفر وشيبة بتشديد اللام وقلب الهمزة ياء وقرأ الزهري بالتخفيف والقلب وقرأ أبو جعفر وعيسى «رعبا» بضم العين وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ أي كما أنمناهم هذه الإنامة الطويلة وهي المفهومة مما مر أيقظناهم فالمشبه الإيقاظ والمشبه به الإنامة المشار إليها ووجه الشبه كون كل منهما آية دالة على كمال قدرته الباهرة عز وجل.
لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ أي ليسأل بعضهم بعضا فيترتب عليه ما فصل من الحكم البالغة وجعل علة للبعث المعلل بما سبق فيما سبق قيل من حيث إنه من أحكامه المترتبة عليه والاقتصار على ذكره لاستتباعه لسائر آثاره، وجعل غير واحد اللام للعاقبة، واستظهره الخفاجي وادعى أن من فعل ذلك لاحظ أن الغرض من فعله تعالى شأنه إظهار كمال قدرته لا ما ذكر من التساؤل فتأمل.
قالَ استئناف لبيان تساؤلهم قائِلٌ مِنْهُمْ قيل هو كبيرهم مكسلمينا، وقيل صاحب نفقتهم يمليخا كَمْ لَبِثْتُمْ أي كم يوما أقمتم نائمين، وكأنه قال ذلك لما رأى من مخالفة حالهم لما هو المعتاد في الجملة، وقيل راعهم ما فاتهم من الصلاة فقالوا ذلك: قالُوا أي قال بعضهم: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ أو للشك كما قاله غير واحد، والمراد لم نتحقق مقدار لبثنا أي لا ندري أن مدة ذلك هل هي مقدار مدة يوم أو مقدار مدة بعض يوم منه، والظاهر أنهم قالوا ذلك لأن لوثة النوم لم تذهب من بصرهم وبصيرتهم فلم ينظروا إلى الأمارات، وهذا مما لا غبار عليه سواء كان نومهم وانتباههم جميعا أو أحدهما في النهار أم لا، والمشهور أن نومهم كان غدوة وانتباههم كان آخر النهار، وقيل فلم يدروا أن انتباههم في اليوم الذي ناموا فيه أم في اليوم الذي بعده فقالوا ما قالوا، واعترض بأن ذلك يقتضي أن يكون التردد في بعض يوم ويوم وبعض، ومن هنا قيل إن أو للإضراب، وذلك أنهم لما انتبهوا آخر النهار وكانوا في جوف الغار ولوثة النوم لم تفارقهم بعد قالوا قبل النظر لَبِثْنا يَوْماً ثم لما حققوا أن الشمس لم تغرب بعد قالوا: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وأنت تعلم أن الظاهر أنها لك والاعتراض مندفع بإرادة ما سمعت منه، نعم هو في ذلك مجاز، وحكى أبو حيان أنها للتفصيل على معنى قال بعضهم: لبثنا يوما، وقال آخرون: لبثنا بعض يوم وقول كل مبنى على غالب الظن على ما قيل فلا يكون كذبا ولا يخفى أن القول بأنها للتفصيل مما لا يكاد يذهب إليه الذهن، ولا حاجة إلى بناء الأمر على غالب الظن لنفي أن يكون كذبا بناء على ما ذكرنا من أن المراد لم نتحقق مقداره كما ذكره أهل المعاني في قول النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد سلم سهوا من صلاة رباعية فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ قال: كل ذلك لم يكن قالُوا أي قال بعض آخر منهم استدلالا أو إلهاما رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ أي أنتم لا تعلمون مدة لبثكم، وإنما يعلمها الله سبحانه، وهذا رد منهم على الأولين على أحسن ما يكون من مراعاة حسن الأدب وبه كما قيل يتحقق التحزب إلى الحزبين المعهودين فيما سبق، وقيل قائل القولين متحد لكن الحالة مختلفة.
وتعقب بأنه لا يساعده النظم الكريم فإن الاستئناف في الحكاية والخطاب في المحكي يقضي بأن الكلام جار

صفحة رقم 218

على منهاج المحاورة والمجاوبة وإلا لقيل ثم قالوا ربنا أعلم بما لبثنا فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ أي واحدا منكم ولم يقل واحدكم لإيهامه إرادة سيدكم فكثيرا ما يقال جاء واحد القوم ويراد سيدهم بِوَرِقِكُمْ أي بدراهمكم المضروبة كما هو مشهور بين اللغويين، وقيل الورق الفضة مضروبة أو غير مضروبة، واستدل عليه بما وقع في حديث عرفجة أنه لما قطع أنفه اتخذ أنفا من ورق فانتن فاتخذ أنفا من ذهب فإن الظاهر أنه أطلق فيه الورق على غير المضروب من الفضة، وقول الأصمعي كما حكى عنه القتيبي الورق في الحديث بفتح الراء، والمراد به الورق الذي يكتب فيه لأن الفضة لا تنتن لا يعول عليه والمنتن الذي ذكره لا صحة له، وقرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر والحسن والأعمش واليزيدي ويعقوب في رواية، وخلف وأبو عبيد وابن سعدان «بورقكم» بإسكان الراء، وقرأ أبو رجاء بكسر الواو وإسكان الراء وإدغام القاف في الكاف، وكذا إسماعيل عن ابن محيصن، وعنه أيضا أنه قرأ كذلك إلا أنه كسر الراء لئلا يلزم التقاء الساكنين على غير حده كما في الرواية الأخرى، وبهذا اعترض عليها، وأجيب بأن ذلك جائز وواقع في كلام العرب لكن على شذوذ، وقد قرىء «نعما» بسكون العين والإدغام، وما قيل إنه لا يمكن التلفظ به قيل عليه إنه سهو، وحكى الزجاج أنه قرىء بكسر الواو وسكون الراء من غير إدغام.
وقرأ على كرم الله تعالى وجهه «بوارقكم» على وزن فاعل
جعله اسم جمع كباقر وحامل، ووصف الورق بقوله تعالى: هذِهِ يشعر بأن القائل أحضرها ليناولها بعض أصحابه وإشعاره بأنه ناولها إياه بعيد، وفي حملهم لها دليل على أن التأهب لأسباب المعاش لمن خرج من منزله بحمل النفقة ونحوها لا ينافي التوكل على الله تعالى كما
في الحديث «اعقلها وتوكل»
نعم قال بعض الأجلة: إن توكل أبي وقاص وأبي مسلم الخولاني بالجيوش على متن البحر ودخول تميم في الغار التي خرجت منه نار الحرة ليردها بأمر عمر رضي الله تعالى عنه.
وقد نص الإمام أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة على جواز دخول المفاوز بغير زاد وترك التكسب والتطبب لمن قوي يقينه وتوكله، وفسر الإمام أحمد التوكل بقطع الاستشراف باليأس من المخلوقين، واستدل عليه
بقول إبراهيم عليه السلام حين عرض له جبريل عليه السلام يوم ألقي في النار وقال له: ألك حاجة؟ أما إليك فلا
، وليس طرح الأسباب سبيل توكل الخواص عند الصوفية فقط كما يشعر به كلام بعض الفضلاء بل جاء عن غيرهم أيضا إِلَى الْمَدِينَةِ المعهودة وهي المدينة التي خرجوا منها قيل وتسمى الآن طرسوس وكان اسمها يوم خرجوا منها أفسوس، وبهذا يجمع بين الروايتين السابقتين، وكان هذا القول صدر منهم إعراضا عن التعمق في البحث وإقبالا على ما يهمهم بحسب الحال كما ينبىء عنه الفاء، وذكر بعضهم أن ذلك من باب الأسلوب الحكيم كقوله:

أتت تشتكي عندي مزاولة القرى وقد رأت الضيفان ينحون منزلي
فقلت كأني ما سمعت كلامها هم الضيف جدي في قراهم وعجلي
فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً أي أحل فإن أهل المدينة كانوا في عهدهم يذبحون للطواغيت كما روى سعيد بن منصور وغيره عن ابن عباس، وفي رواية أخرى أنهم كانوا يذبحون الخنازير، وقال الضحاك: إن أكثر أموالهم كانت مغصوبة فأزكى من الزكاة وأصلها النمو والزيادة وهي تكون معنوية أخروية وحسية دنيوية وأريد بها الأولى لما في توخي الحلال من الثواب وحسن العاقبة، وقال ابن السائب. ومقاتل: أي أطيب فإن كان بمعنى أحل لأنه يطلق عليه رجع إلى الأول وإن كان بمعناه المتبادر فالزيادة قيل حسية دنيوية، وقال عكرمة: أي أكثر.
وقال يمان بن ريان: أي أرخص، وقال قتادة: أي أجود وهو أجود، وعليه وكذا على سابقيه على ما قيل تكون الزيادة حسية دنيوية أيضا زعم بعضهم أنهم عنوا بالأزكى الأرز وقيل التمر وقيل الزبيب، وحسن الظن بالفتية يقتضي

صفحة رقم 219

أنهم تحروا الحلال، والنظر يحتمل أن يكون من نظر القلب وأن يكون من نظر العين، وأي استفهام مبتدأ وأَزْكى خبره والجملة معلق عنها الفعل للاستفهام.
وجوز أن يكون أي موصولا مبنيا مفعولا لينظر وأَزْكى خبر مبتدأ محذوف هو صدر الصلة وضمير أيها إما للمدينة والكلام على تقدير مضاف أي أي أهلها وإما للمدينة مرادا بها أهلها مجازا، وفي الكلام استخدام ولا حذف، وإما لما يفهم من سياق الكلام كأنه قيل فلينظر أي الأطعمة أو المأكل أزكى طعاما فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ أي من ذلك الأزكى طعاما فمن لابتداء الغاية أو التبعيض، وقيل الضمير للورق فيكون من للبدل، ثم إن الفتية إن لم يكن تحروا الحلال سابقا فليكن مرادهم بالرزق هنا الحلال وإن لم يكن مختصا به عندنا.
واستدل بالآية وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يعلم منه ما فيه على صحة الوكالة والنيابة. قال ابن العربي: وهي أقوى آية في ذلك وفيها كما قال الكيا دليل على جواز خلط دراهم الجماعة والشراء بها والأكل من الطعام الذي بينهم بالشركة وإن تفاوتوا في الأكل نعم لا بأس للأكول أن يزيد حصته من الدراهم وَلْيَتَلَطَّفْ أي وليتكلف اللطف في المعاملة كيلا تقع خصومة تجر إلى معرفته أو ليتكلف اللطف في الاستخفاء دخولا وخروجا، وقيل ليتكلف ذلك كي لا يغبن فيكون قوله تعالى: وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً أي لا يفعلن ما يؤدي إلى شعور أحد من أهل المدينة بكم تأسيسا على هذا وهو على الأولين تأكيد للأمر بالتلطف وتفسيره بما ذكر من باب الكناية نحو لا أرينك هاهنا وفسره الإمام بلا يخبرن بكم أحدا فهو على ظاهره، وقرأ الحسن «وليتلطّف» بكسر لام الأمر، وعن قتيبة الميال «وليتلطف» بضم الياء مبنيا للمفعول. وقرأ هو وأبو صالح ويزيد بن القعقاع «ولا يشعرن بكم أحد» ببناء الفعل للفاعل ورفع أحد على أنه الفاعل إِنَّهُمْ تعليل لما سبق من الأمر والنهي والضمير للأهل المقدر في أيها أو للكفار الذي دل عليه المعنى على ما اختاره أبو حيان، وجوز أن يعود على (أحد) لأنه عام فيجوز أن يجمع ضميره كما في قوله تعالى:
فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة: ٤٧].
إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ أي يطلعوا عليكم ويعلموا بمكانكم أو يظفروا بكم، وأصل معنى ظهر صار على ظهر الأرض، ولما كان ما عليها يشاهد ويتمكن منه استعمل تارة في الإطلاع، وتارة في الظفر والغلبة وعدي بعلى، وقرأ زيد بن علي «يظهروا» بضم الياء مبنيا للمفعول يَرْجُمُوكُمْ إن لم تفعلوا ما يريدونه منكم وثبتم على ما أنتم عليه، والظاهر أن المراد القتل بالرجم بالحجارة، وكان ذلك عادة فيما سلف فيمن خالف في أمر عظيم إذ هو أشفى للقلوب وللناس فيه مشاركة. وقال الحجاج: المراد الرجم بالقول أي السب، وهو للنفوس الأبية أعظم من القتل أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ أي يصيروكم إليها ويدخلوكم فيها مكرهين، والعود في الشيء بهذا المعنى لا يقتضي التلبس به قبل وروي هذا عن ابن جبير، وقيل العود على ظاهره، وهو رجوع الشخص إلى ما كان عليه، وقد كان الفتية على ملة قومهم أولا، وإيثار كلمة في على كلمة إلى، قال بعض المحققين للدلالة على الاستقرار الذي هو أشد كراهة، وتقديم احتمال الرجم على احتمال الإعادة لأن الظاهر من حالهم هو الثبات على الدين المؤدي إليه، وضمير الخطاب في المواضع الأربعة للمبالغة في حمل المبعوث على ما أريد منه والباقين على الاهتمام بالتوصية فإن إمحاض النصح أدخل في القبول واهتمام الإنسان بشأن نفسه أكثر وأوفر.
وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً أي إن دخلتم فيها حقيقة ولو بالكره والإلجاء لن تفوزوا بخير لا في الدنيا ولا في الآخرة، ووجه الارتباط على هذا أن الإكراه على الكفر قد يكون سببا لا ستدراج الشيطان إلى استحسانه والاستمرار عليه، وبما ذكر سقط ما قيل إن إظهار الكفر بالإكراه مع إبطان الإيمان معفو في جميع الأزمان فكيف رتب عليه عدم

صفحة رقم 220

الفلاح أبدا، ولا حاجة إلى القول بأن إظهار الكفر مطلقا كان غير جائز عندهم، ولا إلى حمل يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ على يميلوكم إليها بالإكراه وغيره فتدبر، ثم إن الفتية بعثوا أحدهما وكان على ما قال غير واحد يمليخا فكان ما أشار الله تعالى إليه بقوله سبحانه وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ أي كما أنمناهم وبعثناهم فالإشارة إلى الإنامة والبعث والإفراد باعتبار ما ذكر ونحوه.
وقال العز بن عبد السلام في أماليه: الإشارة إلى البعث المخصوص وهو البعث بعد تلك الإنامة الطويلة، وأصل العثور كما قال الراغب السقوط للوجه يقال عثر عثورا وعثارا إذا سقط لوجهه، وعلى ذلك قولهم في المثل الجواد لا يكاد يعثر، وقولهم من سلك الجدد أمن العثار ثم تجوز به في الاطلاع على أمر من غير طلبه.
وقال الإمام المطرزي: لما كان كل عاثر ينظر إلى موضع عثرته ورد العثور بمعنى الاطلاع والعرفان فهو في ذلك مجاز مشهور بعلاقة السببية وإن أوهم ذكر اللغويين له أنه حقيقة في ذلك، وجعله الغوري حقيقة في الاطلاع على أمر كان خفيا وأمر التجوز على حاله، ومفعول أَعْثَرْنا الأول محذوف لقصد العموم أي وكذلك أطلعنا الناس عليهم.
وقال أبو حيان: أهل مدينتهم لِيَعْلَمُوا أي الذين أطلعناهم عليهم بما عاينوا من أحوالهم العجيبة أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ أي وعده سبحانه وتعالى بالبعث على أن الوعد بمعناه المصدري ومتعلقه مقدر أو موعوده تعالى شأنه الذي هو البعث على أن المصدر مؤول باسم المفعول المراد موعوده المعهود، ويجوز أن يراد كل وعده تعالى أو كل موعوده سبحانه ويدخل في ذلك ما ذكر دخولا أوليا حَقٌّ صادق لا خلف فيه أو ثابت متقحق سيقع ولا بد قيل لأن نومهم الطويل المخالف للمعتاد وانتباههم كالموت والبعث.
وَأَنَّ السَّاعَةَ أي القيامة التي هي في لسان الشرع عبارة عن وقت بعث الخلائق جميعا للحساب والجزاء.
لا رَيْبَ فِيها أي ينبغي أن لا يرتاب الآن في إمكان وقوعها لأنه لا يبقى بيد المرتابين في ذلك بعد النظر والبحث سوى الاستناد إلى الاستبعاد وعلمهم بوقوع ذلك الأمر الغريب والحال العجيب الذي لو سمعوه ولم يتحققوا وقوعه لاستبعدوه وارتابوا فيه ارتيابهم في ذلك يكسر شوكة ذلك الاستبعاد ويهدم ذلك الاستناد فينبغي حينئذ أن لا يرتابوا.
وقال بعض المحققين في توجيه ترتب العلم بما ذكر على الاطلاع: إن من شاهد أنه جل وعلا توفي نفوسهم وأمسكها ثلاثمائة سنة وأكثر حافظا أبدانها من التحلل والتفتت ثم أرسلها إليها لا يبقى معه شائبة شك في أن وعده تعالى حق وأنه تعالى يبعث من في القبور فيرد عليهم أرواحهم فيحاسبهم ويجازيهم بحسب أعمالهم اه.
وأنت تعلم أن في استفادة العلم بالمحاسبة والمجازاة من الإطلاع على حال القوم نظرا. واعترض بأن المطلوب في البعث إعادة الأبدان بعد تفرق أجزائها وما في القصة طول حفظ الأبدان وأين هذا من ذلك؟ والقول بأنه متى صح طول حفظ الأبدان المحتاجة إلى الطعام والشراب صح قدرته سبحانه على إعادتها بعد تفرق أجزائها بطريق الأولى غير مسلم. وأجيب بأن طول الحفظ المذكور يدل على قدرته تعالى على ما ذكر بطريق الحدس فليتدبر.
ولعل الأظهر توجيه الترتب بما ذكره أولا، وتوضيحه أن حال الفتية حيث ناموا في تلك المدة المديدة والسنين العديدة وحبست عن التصرف نفوسهم وتعطلت مشاعرهم وحواسهم من غير تصاعد أبخرة شراب وطعام أو نزول علل وأسقام وحفظت أبدانهم عن التحلل والتفتت وأبقيت على ما كانت عليه من الطراوة والشباب في سالف الأعوام حتى رجعت الحواس والمشاعر إلى حالها وأطلقت النفوس من عقالها وأرسلت إلى تدبير أبدانها والتصرف في خدامها

صفحة رقم 221

وأعوانها فرأت الأمر كما كان والأعوان هم الأعوان ولم تنكر شيئا عهدته في مدينتها ولم تتذكر طول حبسها عن التصرف في سرير سلطنتها، وحال الذين يقومون من قبورهم بعد ما تعطلت مشاعرهم وحبست نفوسهم ثم لما أطلقت وجدت ربوعا عامرة ومنازل كأنها لم تكن دائرة قائلين قبل أن يكشر عن أنيابه العنا من بعثنا من مرقدنا في الغرابة من صقع واحد ولا ينكر ذلك إلا جاهل أو معاند، ووقوع الأول يزيل الارتياب في إمكان وقوع الثاني حيث كان مستندا إلى الاستبعاد في الحقيقة كما سمعت فيما قبل لبطلان أدلة النافين للحشر الجسماني، نعم في ترتب العلم بأن البعث سيقع لا محالة على نفس الإطلاع على حال الفتية خفاء فإن الظاهر أن العلم المذكور إنما يترتب على إخبار الصادق بوقوعه وعلى إمكانه في نفسه لكن لما كان الاطلاع المذكور سببا للعلم بالإمكان وكان كالجزء الأخير من العلة بالنسبة للكفار الذين بلغهم خبر الصادق قيل بترتب العلم بذلك عليه، وكذا في ترتب العلم بأن كل ما وعده الله تعالى حق على نفس الاطلاع خفاء ولم أر من تعرض لتوجيهه من الفضلاء فتأمل، ثم لا يخفى أن ذكر قوله تعالى: وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها بعد قوله سبحانه أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ على التفسير الذي سمعت مما لا غبار عليه وليس ذلك من ذكر الإمكان بعد الوقوع ليلغو كما زعمه من زعمه.
وقال بعضهم: إن الظاهر أن يفسر قوله تعالى أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ بأن كل ما وعده سبحانه متحقق ويجعل قوله تعالى وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها تخصيصا بعد تعميم على معنى لا ريب في تحققها وهو وجه في الآية إلا أن في دعوى الظهور مقالا فلا تغفل إِذْ يَتَنازَعُونَ ظرف لأعثرنا عليهم قدم عليه الغاية إظهارا لكمال العناية بذكرها. وجوز أبو جيان وأبو البقاء وغيرهما كونه ظرفا لِيَعْلَمُوا وتعقب بأنه يدل على أن التنازع يحدث بعد الإعثار مع أنه ليس كذلك، وبأن التنازع كان قبل العلم وارتفع به فكيف يكون وقته وقته، وللمناقشة في ذلك مجال.
وجوز أن يكون ظرفا لحق أو لوعد وهو كما ترى. وأصل التنازع التجاذب ويعبر به عن التخاصم، وهو باعتبار أصل معناه يتعدى بنفسه وباعتبار التخاصم يتعدى بفي كقوله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ [النساء: ٥٩] وضمير يَتَنازَعُونَ لما عاد عليه ضمير لِيَعْلَمُوا أي وكذلك أعثرنا على أصحاب الكهف الناس أو أهل مدينتهم حين يتنازعون بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ويتخاصمون فيه ليرتفع الخلاف ويتبين الحق، وضمير أَمْرَهُمْ قيل عائد أيضا على مفعول أَعْثَرْنا والمراد بالأمر البعث، ومعنى إضافته إليهم اهتمامهم بشأنه والوقوف على حقيقة حاله.
وقد اختلفوا فيه فمن مقربه وجاحد وقائل يقول تبعث الأرواح دون الأجساد وآخر يقول ببعثهما معا كما هو المذهب الحق عند المسلمين.
روي أنه بعد أن ضرب الله تعالى على آذان الفتية ومضى دهر طويل لم يبق أحد من أمتهم الذين اعتزلوهم وجاء غيرهم وكان ملكهم مسلما فاختلف أهل مملكته في أمر البعث حسبما فصل فشق ذلك على الملك فانطلق فلبس المسوح وجلس على الرماد ثم دعا الله عز وجل فقال: أي رب قد ترى اختلاف هؤلاء فابعث لهم آية تبين لهم فقيض الله تعالى راعي غنم أدركه المطر فلم يزل يعالج ما سد به دقيانوس باب الكهف حتى فتحه وأدخل غنمه فلما كان الغد بعثوا من نومهم فبعثوا أحدهم ليشتري لهم طعاما فدخل السوق فجعل ينكر الوجوه ويعرف الطرق ورأى الإيمان ظاهرا بالمدينة فانطلق وهو مستخف حتى أتى رجلا يشتري منه طعاما فلما نظر الورق أنكرها حيث كانت من ضرب دقيانوس كأنها إخفاف الربع فاتهمه بكنز وقال: لتدلني عليه أو لأرفعنك إلى الملك فقال: هي من ضرب الملك أليس ملككم فلانا؟ فقال الرجل: لا بل ملكنا فلان وكان اسمه يندوسيس فاجتمع الناس وذهبوا به إلى الملك وهو خائف فسأله عن شأنه فقص عليه القصة وكان قد سمع أن فتية خرجوا على عهد دقيانوس فدعا مشيخة أهل مدينته وكان رجل منهم عنده أسماؤهم وأنسابهم فسأله فأخبره بذلك وسأل الفتى فقال: صدق ثم

صفحة رقم 222

قال الملك: أيها الناس هذه آية بعثها الله تعالى لكم ثم خرج هو وأهل المدينة ومعهم الفتى فلما رأى الملك الفتية اعتنقهم وفرح بهم ورآهم جلوسا مشرقة وجوههم لم تبل ثيابهم فتكلموا معه وأخبروه بما لقوا من دقيانوس فبينما هم بين يديه قالوا له: نستودعك الله تعالى والسلام عليك ورحمة الله تعالى حفظك الله تعالى وحفظ ملكك ونعيذك بالله تعالى من شر الإنس والجن ثم رجعوا إلى مضاجعهم فتوفاهم الله تعالى فقام الملك إليهم وجعل ثيابه عليهم وأمر أن يجعل كل منهم في تابوت من ذهب فلما كان الليل ونام أتوه في المنام فقالوا: أردت أن تجعل كلا منا في تابوت من ذهب فلا تفعل ودعنا في كهفنا فمن التراب خلقنا وإليه نعود فجعلهم في توابيت من ساج وبنى على باب الكهف مسجدا.
ويروى أن الفتى لما أتي به إلى الملك قال: من أنت؟ قال: أنا رجل من أهل هذه المدينة وذكر أنه خرج أمس أو منذ أيام وذكر منزله وأقواما لم يعرفهم أحد وكان الملك قد سمع أن فتية قد فقدوا في الزمان الأول وأن أسماءهم مكتوبة على لوح في الخزانة فدعا باللوح ونظر في أسمائهم فإذا هو من أولئك القوم فقال الفتى: وهؤلاء أصحابي فركب القوم ومن معه فلما أتوا باب الكهف قال الفتى: دعوني حتى أدخل على أصحابي فأبشرهم فإنهم إذا رأوكم معي رعبوا فدخل فبشرهم وقبض الله تعالى أرواحهم وعمي على الملك ومن معه أثرهم فلم يهتدوا إليهم فبنوا عليهم مسجدا وكان وقوفهم على حالهم بأخبار الفتى وقد اعتمدوا صدقه
وهذا هو المراد بالإعثار عليهم، وروي غير ذلك، وقيل: ضمير أَمْرَهُمْ للفتية والمراد بالأمر الشأن والحال الذي كان قبل الإعثار أي وكذلك أعثرنا الناس على أصحاب الكهف حين تذاكرهم بينهم أمرهم وما جرى لهم في عهد الملك الجبار من الأحوال والأهوال، ولعلهم قد تلقوا ذلك من الأساطير وأفواه الرجال لكنهم لم يعرفوا هل بقوا أحياء أم حل بهم الفناء، والفاء في قوله تعالى: فَقالُوا ابْنُوا بناء على القول الأول فصيحة بلا ريب على دأب اختصارات القرآن كأنه قيل: وكذلك أعثرنا الناس على أصحاب الكهف حين تنازعهم في أمر البعث فتحققوا ذلك وعلموا أن هؤلاء آية من آياتنا فتوفاهم الله تعالى بعد أن حصل الغرض من الإعثار فقالوا ابْنُوا إلى آخره، وكذلك على القول الثاني كأنه قيل وكذلك أعثرنا الناس على.
أصحاب الكهف حين تذاكرهم أمرهم وما جرى لهم في عهد الملك الجبار ولم يكونوا عارفين بما هم عليه فوقفوا من أحوالهم على ما وقفوا واتضح لهم ما كانوا قد جهلوا فتوفاهم الله تعالى بعد أن حصل الغرض من الإعثار فقالوا ابْنُوا إلى آخره أي قال بعضهم ابنوا عَلَيْهِمْ أي على باب كهفهم بُنْياناً نصب على أنه مفعول به، وهو كما قال الراغب واحد لا جمع له، وقال أبو البقاء: هو جمع بنيانة كشعير وشعيرة، وقيل: هو نصب على المصدرية، وهذا القول من البعض عند بعض كان عن اعتناء بالفتية وذلك أنهم ضنوا بتربتهم فطلبوا البناء على باب كهفهم لئلا يتطرق الناس إليهم.
وجوزوا في قوله تعالى: رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ بعد القول بأنه اعتراض أن يكون من كلام المتنازعين المعثرين كأنهم تذاكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أنسابهم وأحوالهم ومدة لبثهم فلما لم يهتدوا إلى حقيقة ذلك فوضوا العلم إلى الله تعالى علام الغيوب، وأن يكون من كلامه سبحانه ردا للخائضين في أمرهم إما من المعثرين أو ممن كان في عهده صلّى الله عليه وسلّم من أهل الكتاب وحينئذ يكون فيه التفات على أحد المذهبين، وقيل: ضمير «أمرهم» للفتية والمراد بالأمر الشأن والحال الذي كان بعد الإعثار على أن المعنى إذ يتنازعون بينهم تدبير أمرهم وحالهم حين توفوا كيف يفعلون بهم وبماذا يجلون قدرهم أو إذ يتنازعون بينهم أمرهم من الموت والحياة حيث خفي عليهم ذلك بعد الإعثار فلم يدروا هل ماتوا أو ناموا كما في أول مرة، وعلى هذا تكون إِذْ معمولا لاذكر مضمرا أو ظرفا لقوله تعالى: قالَ الَّذِينَ

صفحة رقم 223

غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً
ويكون قوله تعالى: فَقالُوا معطوفا على يَتَنازَعُونَ وإيثار صيغة الماضي للدلالة على أن هذا القول ليس مما يستمر ويتجدد كالتنازع. وصرح بعض الأجلة أن الفاء على أول المعنيين للتعقيب وعلى ثانيهما فصيحة كأنه قيل: اذكر حين يتنازعون في أنهم ماتوا أو ناموا ثم فرغوا من التنازع في ذلك واهتموا بإجلال قدرهم وتشهير أمرهم فقالوا ابْنُوا إلى آخره، وذكر الزمخشري احتمال كون ضمير أَمْرَهُمْ للمعثرين وأن المراد من أمرهم أمر دينهم وهو البعث واحتمال كون الضمير للفتية، والمعنى حينئذ إذ يتذاكر الناس بينهم أمر أصحاب الكهف ويتكلمون في قصتهم وما أظهر الله تعالى من الآية فيهم أو إذ يتنازعون بينهم تدبير أمرهم حين توفوا كيف يخفون مكانهم وكيف يسدون الطريق إليهم، وجعل إذ في الأوجه ظرفا لأعثرنا. وذكر صاحب الكشف أن الفاء على الأول فصيحة لا محالة وعلى الأخيرين للتعقيب، أما على الثاني منهما فظاهر، وأما على الأول فلأنهم لما تذاكروا قصتهم وحالهم وما أظهر الله تعالى من الآية فيهم قالوا: دعوا ذلك وابنوا عليهم بنيانا أي خذوا فيما هو أهم إلى آخر ما قال، واحتمال جعل الفاء فصيحة على هذا الأول غير بعيد، وتعلق الظرف بأعثرنا على الوجهين الأخيرين وكذا على ما نقلناه آنفا ليس بشيء لأن إعثارهم ليس في وقت التنازع فيما ذكر بل قبله.
وجعل وقت التنازع ممتدا يقع في بعضه الإعثار وفي بعضه التنازع تعسف لا يخفى مع أنه لا مخصص لإضافته إلى التنازع وهو مؤخر في الوقوع. وحكي في البحر أن ضمير لِيَعْلَمُوا عائد على أصحاب الكهف، والمراد أعثرنا عليهم ليزدادوا علما بأن وعد الله حق إلى آخره، وجعل ذلك غاية للإعثار بواسطة وقوفهم بسببه على مدة لبثهم بما تحققوه من تبدل القرون، وجعل إِذْ يَتَنازَعُونَ على هذا ابتداء أخبار عن القوم الذين بعثوا في عهدهم، وخص الأمر المتنازع فيه بأمر البناء والمسجد، ويختار حينئذ تعلق الظرف باذكر، ولا يخفى أن جعل ذلك الضمير للفتية وإن دعا لتأويل يعلموا بما سمعت ليس ببعيد الإرادة من النظم الكريم إذا قطع النظر عن الأمور الخارجية كالآثار، ولم يذهب أحد فيما أعلم إلى احتمال كون الضمائر في قوله تعالى: إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ عائدة على الفتية كضمير يعلموا، وإِذْ ظرف أَعْثَرْنا والمراد بالأمر المتنازع مقدار زمن لبثهم وتنازعهم فيه قول بعضهم لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وقول الآخر ردا عليه رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ وحيث لم يتضح الحال ولم يحصل الإجماع على مقدار معلوم كان التنازع في حكم الباقي فكان زمانه ممتدا فصح أن يكون ظرفا للإعثار وضمير فَقالُوا للمعثرين والفاء فصيحة أي وكذلك أعثرنا الناس على الفتية وقت تنازعهم في مدة لبثهم ليزدادوا علما بالبعث فكان ما كان وصار لهم بين الناس شأن أي شأن فقالوا ابْنُوا إلى آخره.
وكأن ذلك لما فيه من التكلف مع عدم مساعدة الآثار إياه، ثم ما ذكر من احتمال كون رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ من كلامه سبحانه جيء به لرد المتنازعين من المعثرين لا يخلو عن بعد، وأما الاحتمال الأخير فبعيد جدا، والظاهر أنه حكاية عن المعثرين وهو شديد الملاءمة جدا لكون التنازع في أمرهم من الموت والحياة، والذي يقتضيه كلام كثير من المفسرين أن غرض الطائفتين القائلين ابْنُوا إلى آخره والقائلين لَنَتَّخِذَنَّ إلى آخره تعظيمهم وإجلالهم، والمراد من الذين غلبوا على أمرهم كما أخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن قتادة الولاة، ويلائمه لَنَتَّخِذَنَّ دون اتخذوا بصيغة الطلب المعبر بها الطائفة الأولى فإن مثل هذا الفعل تنسبه الولاة إلى أنفسها، وضمير أَمْرَهُمْ هنا قيل للموصول المراد به الولاة، ومعنى غلبتهم على أمرهم أنهم إذا أرادوا أمرا لم يتعسر عليهم ولم يحل بينه وبينهم أحد كما قيل في قوله تعالى: وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ [يوسف: ٢١].
وذكر بعض الأفاضل أن الضمير لأصحاب الكهف، والمراد بالذين غلبوا قيل الملك المسلم، وقيل أولياء

صفحة رقم 224

أصحاب الكهف وقيل رؤساء البلد لأن من له الغلبة في هذا النزاع لا بد أن يكون أحد هؤلاء، والمذكور في القصة أن الملك جعل على باب الكهف مسجدا وجعل له في كل سنة عيدا عظيما. وعن الزجاج أن هذا يدل على أنه لما ظهر أمرهم غلب المؤمنون بالبعث لأن المساجد إنما تكون للمؤمنين به انتهى.
ويبعد الأول التعبير بما يدل على الجمع، والثاني إن أريد من الأولياء الأولياء من حيث النسب كما في قولهم أولياء المقتول أنه لم يوجد في أثر أن لأصحاب الكهف حين بعثوا أولياء كذلك. وفسر غير واحد الموصول بالملك والمسلمين ولا بعد في إطلاق الأولياء عليهم كما في قوله تعالى: الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التوبة: ٧١] ويدل هذا على أن الطائفة الأولى لم تكن كذلك، وقد روي أنها كانت كافرة وأنها أرادت بناء بيعة أو مصنع لكفرهم فمانعهم المؤمنون وبنوا عليهم مسجدا. وظاهر هذا الخبر أن المسجد مقابل البيعة، وما أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير من أن الملك بنى عليهم بيعة فكتب في أعلاها أبناء الأراكنة أبناء الدهاقين ظاهر في عدم المقابلة، ولعله الحق لأنه لا يصح أن يراد بالمسجد هنا ما يطلق عليه اليوم من مصلى المحمديين بل المراد به معبد المؤمنين من تلك الأمة وكانوا على ما سمعت أولا نصارى وإن كان في المسألة قول آخر ستسمعه إن شاء الله تعالى قريبا ومعبدهم يقال له بيعة، وظاهر ما تقدم أن المسجد اتخذ لأن يعبد الله تعالى فيه من شاء.
وأخرج أبو حاتم عن السدي أن الملك قال: لأتخذن عند هؤلاء القوم الصالحين مسجدا فلأعبدن الله تعالى فيه حتى أموت، وعن الحسن أنه اتخذ ليصلي فيه أصحاب الكهف إذا استيقظوا، وهذا مبني على أنهم لم يموتوا بل ناموا كما ناموا أولا وإليه ذهب بعضهم بل قيل إنهم لا يموتون حتى يظهر المهدي ويكونوا من أنصاره ولا معول على ذلك وهو عندي أشبه شيء بالخرافات. ثم لا يخفى أنه على القول بأن الطائفة الأولى الطالبة لبناء البنيان عليهم إذا كانت كافرة لم تكن غاية الإعثار متحققة في جميع المعثرين، ولا يتعين كون رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ مساقا لتنظيم أمر أصحاب الكهف، ولعل تلك الطائفة لم تتحقق حالهم وأنهم ناموا تلك المدة ثم بعثوا فطلبت انطماس الكهف عليهم وأحالت أمرهم إلى ربهم سبحانه والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. وقرأ الحسن وعيسى الثقفي غلبوا بضم الغين وكسر اللام على أن الفعل مبني للمفعول، ووجه بذلك بأن طائفة من المؤمنين المعثرين أرادت أن لا يبني عليهم شيء ولا يتعرض لموضعهم وطائفة أخرى منهم أرادت البناء وأن لا يطمس الكهف فلم يمكن للطائفة الأولى منعها ووجدت نفسها مغلوبة فقالت: إن كان بنيان ولا بد فلنتخذن عليهم مسجدا.
هذا واستدل بالآية على جواز البناء على قبور الصلحاء واتخاذ مسجد عليها وجواز الصلاة في ذلك، وممن ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في حواشيه على البيضاي وهو قول باطل عاطل فاسد كاسد،
فقد روى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لعن الله تعالى زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج»
ومسلم «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد فإني أنهاكم عن ذلك»
وأحمد عن أسامة وهو والشيخان والنسائي عن عائشة، ومسلم عن أبي هريرة «لعن الله تعالى اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»
وأحمد والشيخان والنسائي «إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق يوم القيامة»
وأحمد والطبراني «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء ومن يتخذ القبور مساجد»
وعبد الرزاق «من شرار أمتي من يتخذ القبور مساجد» وأيضا «كانت بنو إسرائيل اتخذوا القبور مساجد فلعنهم الله تعالى»
إلى غير ذلك من الأخبار الصحيحة والآثار الصريحة.
وذكر ابن حجر في الزواجر أنه وقع في كلام بعض الشافعية عد اتخاذ القبور مساجد والصلاة إليها واستلامها

صفحة رقم 225

والطواف بها ونحو ذلك من الكبائر، وكأنه أخذ ذلك مما ذكر من الأحاديث، ووجه اتخاذ القبر مسجدا واضح لأنه عليه الصلاة والسلام لعن من فعل ذلك في قبور الأنبياء عليهم السلام وجعل من فعل ذلك بقبور الصلحاء شرار الخلق عند الله تعالى يوم القيامة ففيه تحذير لنا، واتخاذ القبر مسجدا معناه الصلاة عليه أو إليه وحينئذ يكون قوله والصلاة إليها مكررا إلا أن يراد باتخاذها مساجد الصلاة عليها فقط، نعم إنما يتجه هذا الأخذ إن كان القبر قبر معظم من نبي أو ولي كما أشارت إليه
رواية «إذا كان فيهم الرجل الصالح»
ومن ثم قال أصحابنا: تحرم الصلاة إلى قبور الأنبياء والأولياء تبركا وإعظاما فاشترطوا شيئين أن يكون قبر معظم وأن يقصد الصلاة إليها، ومثل الصلاة عليه التبرك والإعظام، وكون هذا الفعل كبيرة ظاهر من الأحاديث، وكأنه قاس عليه كل تعظيم للقبر كإيقاد السرج عليه تعظيما له وتبركا به والطواف به كذلك وهو أخذ غير بعيد سيما وقد صرح في بعض الأحاديث المذكورة بلعن من اتخذ على القبر سراجا فيحمل قول الأصحاب بكراهة ذلك على ما إذا لم يقصد به تعظيما وتبركا بذي القبر.
وقال بعض الحنابلة: قصد الرجل الصلاة عند القبر متبركا به عين المحادة لله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم وإبداع دين لم يأذن به الله عز وجل للنهي عنها ثم إجماعا فإن أعظم المحرمات وأسباب الشرك الصلاة عندها واتخاذها مساجد أو بناؤها عليها، وتجب المبادرة لهدمها وهدم القباب التي على القبور إذ هي أضر من مسجد الضرار لأنها أسست على معصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنه عليه الصلاة والسلام نهي عن ذلك وأمر بهدم القبور المشرفة، وتجب إزالة كل قنديل وسراج على قبر ولا يصح وقفه ولا نذره اه.
وفي المنهاج وشرحه للعلامة المذكور ويكره تجصيص القبر والبناء عليه في حريمه وخارجه في غير المسبلة إلا إن خشي نبش أو حفر سبع أو هدم سيل ويحرم البناء في المسبلة، وكذا تكره الكتابة عليه للنهي الصحيح عن الثلاثة سواء كتابة اسمه وغيره في لوح عند رأسه أو في غيره، نعم بحث الأذرعي حرمة كتابة القرآن لتعريضه للامتهان بالدوس والتنجيس بصديد الموتى عند تكرر الدفن ووقوع المطر، وندب كتابة اسمه لمجرد التعريف به على طول السنين لا سيما قبور الأنبياء والصالحين لأنه طريق للإعلام المستحب. ولما روي الحاكم النهي قال: ليس العمل عليه الآن فإن أئمة المسلمين من المشرق والمغرب مكتوب على قبورهم فهو عمل أخذ به الخلف عن السلف. ويرد بمنع هذه الكلية وبفرضها فالبناء على قبورهم أكثر من الكتابة عليها في المقابر المسبلة كما هو مشاهد لا سيما بالحرمين ومصر ونحوها وقد علموا بالنهي عنه فكذا هي، فإن قلت: هو إجماع فعلي فهو حجة كما صرحوا به قلت: ممنوع بل هو أكثري فقط إذ لم يحفظ ذلك حتى عن العلماء الذين يرون منعه، وبفرض كونه إجماعا فعليا فمحل حجيته كما هو ظاهر إنما هو عند صلاح الأزمنة بحيث ينفذ فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد تعطل ذلك منذ أزمنة.
ولو بني نفس القبر لغير حاجة مما مر كما هو ظاهر أو نحو تحويط أو قبة عليه في مقبرة مسبلة كأرض موات اعتادوا الدفن فيها أو موقوفة لذلك بل هي أولى هدم وجوبا لحرمته كما في المجموع لما فيه من التضييق مع أن البناء يتأبد بعد انمحاق الميت فيحرم الناس تلك البقعة، وهل من البناء ما اعتيد من جعل أربعة أحجار مربعة محيطة بالقبر مع لصق كل رأس منها برأس الآخر بجص محكم أولا لأنه لا يسمى بناء عرفا؟ والذي يتجه الأول لأن العلة من التأبيد موجودة هنا، وقد أفتى جمع بهدم كل ما بقرافة مصر من الأبنية حتى قبة الإمام الشافعي عليه الرحمة التي بناها بعض الملوك، وينبغي لكل أحد هدم ذلك ما لم يخش منه مفسدة فيتعين الرفع للإمام أخذا من كلام ابن الرفعة في الصلح انتهى.
وفي صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي كرم الله تعالى وجهه أبعثك على ما بعثني عليه

صفحة رقم 226

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته،
قال ابن الهمام في فتح القدير: وهو محمول على ما كانوا يفعلونه من تعلية القبور بالبناء الحسن العالي، والأحاديث وكلام العلماء المنصفين المتبعين لما ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وجاء عن السلف الصالح أكثر من أن يحصى، لا يقال: إن الآية ظاهرة في كون ما ذكر من شرائع من قبلنا وقد استدل بها
فقد روي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «من نام عن صلاة أو نسيها» الحديث ثم تلا قوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي
[طه: ١٤] وهو مقول لموسى عليه السلام وسياقه الاستدلال.
واحتج محمد على جواز قسمة الماء بطريق المهيأة بقوله تعالى لَها شِرْبٌ [الشعراء: ١٥٥] الآية وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ [القمر: ٢٨] وأبو يوسف على جري القود بين الذكر والأنثى بآية وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ [المائدة:
٤٥] والكرخي على جريه بين الحر والعبد والمسلم والذمي بتلك الآية الواردة في بني إسرائيل إلى غير ذلك لأنا نقول:
مذهبنا في شرع من قبلنا وإن كان إنه يلزمنا على أنه شريعتنا لكن لا مطلقا بل إن قصه الله تعالى علينا بلا إنكار وإنكار رسوله صلّى الله عليه وسلّم كإنكاره عز وجل، وقد سمعت أنه عليه الصلاة والسلام لعن الذين يتخذون المساجد على القبور، على أن كون ما ذكر من شرائع من قبلنا ممنوع، وكيف يمكن أن يكون اتخاذ المساجد على القبور من الشرائع المتقدمة مع ما سمعت من لعن اليهود والنصارى حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. والآية ليست كالآيات التي ذكرنا آنفا احتجاج الأئمة بها وليس فيها أكثر من حكاية قول طائفة من الناس وعزمهم على فعل ذلك وليست خارجة مخرج المدح لهم والحض على التأسي بهم فمتى لم يثبت أن فيهم معصوما لا يدل فعلهم فضلا عن عزمهم على مشروعية ما كانوا بصدده، ومما يقوي قلة الوثوق بفعلهم القول بأن المراد بهم الأمراء والسلاطين كما روي عن قتادة.
وعلى هذا لقائل أن يقول: إن الطائفة الأولى كانوا مؤمنين عالمين بعدم مشروعية اتخاذ المساجد على القبور فأشاروا بالبناء على باب الكهف وسده وكف كف التعرض عن أصحابه فلم يقبل الأمراء منهم وغاظهم ذلك حتى أقسموا على اتخاذ المسجد، وكان الأولين إنما لم يشيروا بالدفن مع أن الظاهر أنه هو المشروع إذ ذاك في الموتى كما أنه هو المشروع عندنا فيهم لعدم تحققهم موتهم، ومنعهم من تحقيقه أنهم لم يقدروا كما أخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن وهب بن منبه على الدخول عليهم لما أفيض عليهم من الهيبة ولهذا قالوا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ وإن أبيت إلا حسن الظن بالطائفة الثانية فلك أن تقول: إن اتخاذهم المسجد عليهم ليس على طرز اتخاذ المساجد على القبور المنهي عنه الملعون فاعله وإنما هو اتخاذ مسجد عندهم وقريبا من كهفهم، وقد جاء التصريح بالعندية في رواية القصة عن السدي ووهب، ومثل هذا الاتخاذ ليس محظورا إذ غاية ما يلزم على ذلك أن يكون نسبة المسجد إلى الكهف الذي هم فيه كنسبة المسجد النبوي إلى المرقد المعظم صلّى الله عليه وسلّم، ويكون قولهم لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ على هذا لمشاكلة قول الطائفة ابْنُوا عَلَيْهِمْ وإن شئت قلت: إن ذلك الاتخاذ كان على الكهف فوق الجبل الذي هو فيه، وفي خبر مجاهد أن الملك تركهم في كهفهم وبنى على كهفهم مسجدا وهذا أقرب لظاهر اللفظ كما لا يخفى، وهذا كله إنما يحتاج إليه على القول بأن أصحاب الكهف ماتوا بعد الإعثار عليهم وأما على القول بأنهم ناموا كما ناموا أولا فلا يحتاج إليه على ما قيل، وبالجملة لا ينبغي لمن له أدنى رشد أن يذهب إلى خلاف ما نطقت به الأخبار الصحيحة والآثار الصريحة معولا على الاستدلال بهذه الآية فإن ذلك في الغواية غاية وفي قلة النهي نهاية، ولقد رأيت من يبيح ما يفعله الجهلة في قبور الصالحين من أشرافها وبنائها بالجص والآجر وتعليق القناديل عليها والصلاة إليها والطواف بها واستلامها والاجتماع عندها في أوقات مخصوصة إلى غير ذلك محتجا بهذه الآية الكريمة وبما جاء في بعض روايات القصة من جعل الملك لهم في كل سنة عيدا وجعله إياهم في توابيت من ساج ومقيسا البعض على البعض وكل ذلك

صفحة رقم 227

محادة لله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم وإبداع دين لم يأذن به الله عز وجل.
ويكفيك في معرفة الحق تتبع ما صنع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قبره عليه الصلاة والسلام وهو أفضل قبر على وجه الأرض بل أفضل من العرش، والوقوف على أفعالهم في زيارتهم له والسلام عليه عليه الصلاة والسلام فتتبع ذاك وتأمل ما هنا وما هناك والله سبحانه وتعالى يتولى هداك.
ثم اعلم أنهم اختلفوا في تعيين موضع المسجد والكهف وقد مرت عليك بعض الأقوال. وفي البحر أن في الشام كهفا فيه موتى ويزعم مجاوروه أنهم أصحاب الكهف وعليهم مسجد وبناء يسمى الرقيم ومعهم كلب رمة، وبالأندلس في جهة غرناطة بقرب قرية تسمى لوشة كهف فيه موتى ومعهم كلب رمة وأكثرهم قد انجرد لحمه وبعضهم متماسك وقد مضت القرون السالفة ولم نجد من علم شأنهم ويزعم ناس أنهم أصحاب الكهف قال ابن عطية. دخلت عليهم فرأيتهم سنة أربع وخمسمائة وهم بهذه الحالة وعليهم مسجد وقريب منهم بناء رومي يسمى الرقيم كأنه قصر مخلق قد بقي بعض جدرانه وهو في فلاة من الأرض خربة وبأعلى حصن غرناطة مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة يقال لها مدينة دقيوس وجدنا في آثارها غرائب انتهى، وحين كنا بالأندلس كان الناس يزورون هذا الكهف ويذكرون أنهم يغلطون في عدتهم إذا عدوهم وأن معهم كلبا ويرحل الناس إلى لوشة لزيارتهم، وأما ما ذكره من المدينة القديمة فقد مررت عليها مرارا لا تحصى وشاهدت فيها حجارة كبارا، ويترجح كون ذلك بالأندلس لكثرة دين النصارى بها حتى أنها هي بلاد مملكتهم العظمى ولأن الإخبار بما هو في أقصى مكان من أرض الحجاز أغرب وأبعد أن يعرف إلا بوحي من الله تعالى انتهى.
وما تقدم من خبر ابن عباس ومعاوية يضعف ما ادعي ترجحه لأن معاوية لم يدخل الأندلس، وتسمية الأندلسيين نصارى الأندلس بالروم في نثرهم ونظمهم ومخاطبة عامتهم كما في البحر أيضا لا يجدي نفعا، وقد عول الكثير على أن ذلك في طرسوس والله تعالى أعلم.
سَيَقُولُونَ الضمير فيه وفي الفعلين بعد كما اختاره ابن عطية وبعض المحققين لليهود المعاصرين له صلّى الله عليه وسلّم الخائضين في قصة أصحاب الكهف، وأيد بذلك قول الحسن وغيره: إنهم كانوا قبل بعث موسى عليه السلام لدلالته أن لهم علما في الجملة بأحوالهم وهو يستلزم أن يكون لهم ذكر في التوراة وفيه ما فيه.
والظاهر أن هذا إخبار بما لم يكن واقعا بعد كأنه قيل سيقولون إذا قصصت قصة أصحاب الكهف أو إذا سئلوا عن عدتهم هم ثَلاثَةٌ أي ثلاثة أشخاص رابِعُهُمْ أي جاعلهم أربعة بانضمامه إليهم كَلْبُهُمْ فثلاثة خبر مبتدأ محذوف ورابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ مبتدأ وخبر ولا عمل لاسم الفاعل لأنه ماض والجملة مي موضع النعت لثلاثة والضميران لها لا للمبتدأ ومن ثم استغنى عنه بالحذف وإلا كان الظاهر أن يقال: هم ثلاثة وكلب لكن بما أريد اختصاصها بحكم بديع الشأن عدل إلى ما ذكر لينبه بالنعت الدال على التفضلة والتمييز على أن أولئك الفتية ليسوا مثل كل ثلاثة اصطحبوا، ومن ثم قرن الله تعالى في كتابه العزيز أخس الحيوانات ببركة صحبتهم مع زمرة المتبتلين إليه المعتكفين في جواره سبحانه وكذا يقال فيما بعد، وإلى هذا الإعراب ذهب أبو البقاء واختاره العلامة الطيبي وهو الذي أشار إلى ما أشير إليه من النكتة ونظم في سلكها مع الآية
حديث «ما ظنك باثنين الله تعالى ثالثهما»
فأوجب ذلك أن شنع بعض أجلة الأفاضل عليه حتى أوصله إلى الكفر ونسبه إليه، ولعمري لقد ظلمه وخفي عليه مراده فلم يفهمه، ولم يجوز ابن الحاجب كون الجملة في موضع النعت كما لم يجوز هو ولا غيره كأبي البقاء جعلها حالا وجعلها خبرا بعد خبر للمبتدأ المحذوف، وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في ذلك.

صفحة رقم 228

وتقدير تمييز العدد أشخاص أولى من تقديره رجال لأنه لا تصير الثلاثة الرجال أربعة بكلبهم لاختلاف الجنسين، وعدم اشتراط اتحاد الجنس في مثل ذلك يأباه الاستعمال الشائع مع كونه خلاف ما ذكره النحاة. والقول بأن الكلب بشرف صحبتهم ألحق بالعقلاء تخيل شعري. وقرأ ابن محيصن «ثلاثة» بإدغام الثاء في التاء تقول أبعث تلك وحسن ذلك لقرب مخرجهما وكونهما مهموسين وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ عطف على سَيَقُولُونَ والمضارع وإن كان مشتركا بين الحال والاستقبال إلا أن المراد منه هنا الثاني بقرينة ما قبله فلذا اكتفي عن السين فيه وإذا عطفته على مدخول السين دخل معه في حكمها واختص بالاستقبال بواسطتها لكن قيل إن العطف على ذلك تكلف. وقرأ شبل بن عباد عن ابن كثير «خمسة» بفتح الميم وهو كالسكون لغة فيها نظير الفتح والسكون في العشرة. وقرأ ابن محيصن بكسر الخاء والميم وبإدغام التاء في السين وعنه أيضا إدغام التنوين في السين بغير غنة رَجْماً بِالْغَيْبِ أي رميا بالخبر الغائب الخفي عنهم الذي لا مطلع لهم عليه وإتيانا به أو ظنا بذلك، وعلى الأول استعير الرجم وهو الرمي بالحجارة التي لا تصيب غرضا ومرمى للمتكلم من غير علم وملاحظة بعد تشبيهه به. وفي الكشف أنه جعل الكلام الغائب عنهم علمه بمنزلة الرجام المرمي به لا يقصد به مخاطب معين ولو قصد لأخطأ لعدم بنائه على اليقين كما أن الرجام قلما يصيب المرجوم على السداد بخلاف السهم ونحوه ولهذا قالوا: قذفا بالغيب ورجما به ولم يقولوا رميا به، وأما الرمي في السب ونحوه فالنظر إلى تأثيره في عرض المرمي تأثير السهم في الرمية انتهى.
وعلى الثاني شبه ذكر أمر من غير علم يقيني واطمئنان قلب بقذف الحجر الذي لا فائدة في قذفه ولا يصيب مرماه ثم استعير له وضع الرجم موضع الظن حتى صار حقيقة عرفية فيه. وفي الكشف أيضا أنه لما كثر استعمال قولهم: رجما بالظن فهموا من المصدر معناه دون النظر إلى المتعلق فقالوا رجما بالغيب أي ظنا به وعلى ذلك جاء قول زهير:

وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم
حيث أراد المظنون، وانتصاب رَجْماً هنا على الوجهين إما على الحالية من الضمير في الفعلين أي راجمين أو على المصدرية منهما فإن الرجم والقول واحد.
وفي البحر أنه ضمن القول معنى الرجم أو من محذوف مستأنف أو واقع موقع الحال من ضمير الفعلين معا أي يرجمون رجما، وجوز أبو حيان كونه منصوبا على أنه مفعول من أجله أي يقولون ذلك لرميهم بالغيب أو لظنهم بذلك أي الحامل لهم على القول هو الرجم بالغيب وهو كما ترى.
وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ المراد الاستقبال أيضا، والكلام في عطفه كالكلام في عطف سابقه، والجملة الواقعة بعد العدد في موضع الصفة له كالجملتين السابقتين على ما نص عليه الزمخشري، ولم يجعل الواو مانعة عن ذلك بل ذكر أنها الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة حالا عن المعرفة في قولك: جاءني رجل ومعه آخر ومررت بزيد وفي يده سيف ومنه قوله عز وجل وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ [الحجر: ٤] وفائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر وهي التي أذنت هنا بأن قائلي ما ذكر قالوه عن ثبات علم وطمأنينة نفس ولم يرجموا بالظن كما رجم غيرهم فهو الحق دون القولين الأولين، والدليل على ذلك أنه سبحانه وتعالى أتبعهما قوله تبارك اسمه رَجْماً بِالْغَيْبِ واتبع هذا قوله عز وجل قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ أي أقوى وأقدم في العلم بها ما يَعْلَمُهُمْ أي ما يعلم عدتهم على ما ينساق إلى الذهن نظرا إلى المقام إِلَّا قَلِيلٌ وعلى إيذان الواو بما ذكر يدل كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقد روي

صفحة رقم 229

أنه قال: حين وقعت الواو انقطعت العدة أي لم يبق بعدها عدة عاد يلتفت إليها، وثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم على القطع والبتات.
وقد نص عطاء على أن هذا القليل من أهل الكتاب، وقيل من البشر مطلقا وهو الذي يقتضيه ما أخرجه الطبراني في الأوسط بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال: أنا من أولئك القليل، وأخرجه عنه غير واحد من طرق شتى، وأخرج نحوه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود.
وزعم بعضهم أن المراد إلا قليل من الملائكة عليهم السلام لا يرتضيه أحد من البشر، والمثبت في هذا الاستثناء هو العالمية وذلك لا يضر في كون الأعلمية له عز وجل، هذا وإلى كون الواو كما ذكر الزمخشري ذهب ابن المنير وقال بعد نقله: وهو الصواب لا كالقول بأنها واو الثمانية فإن ذلك أمر لا يستقر لمثبته قدم ورد ما ذكروه من ذلك، وسيأتي إن شاء الله تعالى في موضعه التنبيه عليه.
وقال أبو البقاء: الجملة إذا وقعت صفة للنكرة جاز أن يدخلها الواو وهذا هو الصحيح في إدخال الواو في ثامنهم واعترض على ذلك غير واحد فقال أبو حيان: كون الواو تدخل على الجملة الواقعة صفة دالة على لصوق الصفة بالموصوف وعلى ثبوت اتصاله بها شيء لا يعرفه النحويون بل قرروا أنه لا تعطف الصفة التي ليست بجملة على صفة أخرى إلا إذا اختلفت المعاني حتى يكون العطف دالا على المغايرة، وأما إذا لم تختلف فلا يجوز العطف، هذا في الأسماء المفردة، وأما الجمل التي تقع صفة فهي أبعد من أن يجوز ذلك فيها.
وقد ردوا على من ذهب إلى أن قول سيبويه: وأما ما جاء بالمعنى وليس باسم ولا فعل إلى أن وليس باسم إلخ صفة لمعنى وأن الواو دخلت في الجملة بأن ذلك ليس من كلام العرب وليس من كلامهم مررت برجل ويأكل على تقدير الصفة، وأما قوله تعالى إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ فالجملة فيه حالية ويكفي ردا لقول الزمخشري أنا لا نعلم أحدا من علماء النحو ذهب إليه اه.
وقال صاحب الفرائد: دخول الواو بين الصفة والموصوف غير مستقيم لاتحاد الصفة والموصوف ذاتا وحكما وتأكيدا للصوق يقتضي الاثنينية مع أنا نقول: لا نسلم أن الواو تفيد التأكيد وشدة اللصوق غاية ما في الباب أنها تفيد الجمع والجمع ينبىء عن الاثنينية واجتماع الصفة والموصوف ينبىء عن الاتحاد بالنظر إلى الذات. وقد ذكر صاحب المفتاح أن قول من قال: إن الواو في قوله تعالى وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ داخلة بين الصفة والموصوف سهو منه (١) وإنما هي واو الحال وذو الحال قَرْيَةٍ وهي موصوفة أي وما أهلكنا قرية من القرى إلا ولها إلخ، وأما جاءني رجل ومعه آخر ففيه وجهان، أحدهما أن يكون جملتين متعاطفتين وثانيهما أن يكون آخر معطوفا على رجل أي جاءني رجل ورجل آخر معه، وعدل عن جاءني رجلان ليفهم أنهما جاءا مصاحبين، وأما الواو في مررت بزيد وفي مررت بزيد وفي يده سيف فإنما جاز دخولها بين الحال وذيها لكون الحال في حكم جملة بخلاف الصفة بالنسبة إلى الموصوف فإن جاء زيد راكبا في حكم جاء وهو راكب بخلاف جاء زيد الراكب فافهمه.
سلمنا أنها داخلة بين الصفة والموصوف لتأكيد اللصوق لكن الدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر غير مسلم وأين الدليل عليه؟ وكون الواو هي التي آذنت بأن القول المذكور عن ثبات علم وطمأنينة نفس في غاية البعد، والقول بأن الاتباع يدل على ذلك إن أريد منه أنه يدل على إيذان الواو بما ذكر فبطلانه ظاهر وإن أريد منه أنه يدل على

(١) الحكم بأنه سهو سهو فقد تكرر من الزمخشري مع بسط وتفصيل فتدبر ما قلنا ولا تعجل اه منه.

صفحة رقم 230

صدق قائلي القول الأخير وعدم صدق قائلي القولين الأولين فمسلم أن اتباع القولين الأولين برجما بالغيب يدل على عدم الصدق دلالة لا شبهة فيها لكن لا نسلم أن عدم اتباع القول الأخير به واتباعه بما اتبع يدل على ذلك وإن سلمنا فهو يدل دلالة ضعيفة، ولا نسلم أيضا دلالة كلام ابن عباس على ما ذكر والظاهر أنه علم أن القول الأخير صادق من الصادق المصدوق صلّى الله عليه وسلّم وأن مراده من قوله حين وقعت الواو انقطعت العدة أن الذي هو صدق ما وقعت الواو فيه وانقطعت العدة به، فالحق أن الواو واو عطف والجملة بعده معطوفة على الجملة قبله. وانتصر العلامة الطيبي للزمخشري وأجاب عما اعترض به عليه فقال: اعلم أنه لا بد قبل الشروع في الجواب من تبيين المقصود تحريرا للبحث فالواو هنا ليست على الحقيقة ولا يعتبر في المجاز النقل الخصوصي بل المعتبر فيه اعتبار نوع العلاقة، وذكروا أن المجاز في عرف البلاغة أولى من الحقيقة وأبلغ وأن مدار علم البيان الذوق السليم الذي هو أنفع من ذوق التعليم ولا يتوقف على التوقيف وليس ذلك كعلم النحو، والمجاز لا يختص بالاسم والفعل بل قد يقع في الحروف.
وقد نقل شارح اللباب عن سيبويه أن الواو في قولهم: بعت الشاة ودرهما بمعنى الباء، وتحقيقه أن الواو للجمع والباء للإلصاق وهما من واد واحد فسلك به طريق الاستعارة وكم وكم، وإذا علم ذلك فليعلم أن معنى قوله: فائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف أن للصفة نوع اتصال بالموصوف فإذا أريد توكيد اللصوق وسط بينهما الواو ليؤذن أن هذه الصفة غير منفكة عن الموصوف وإليه الإشارة فيما بعد من كلامه، وأن الحال في الحقيقة صفة لا فرق إلا بالاعتبار ألا ترى أن صفة النكرة إذا تقدمت عليها وهي بعينها تصير حالا ولو لم يكونا متحدين لم يصح ذلك، ثم إن قولك: جاءني رجل ومعه آخر وقولك: مررت بزيد ومعه آخر لما كانا سواء في الصورة اللهم إلا في اعتبار المعرفة والنكرة كان حكمهما سواء في الواو وهو مراد الزمخشري من إيراد المثالين لا كما فهم بعضهم، وأما قول الفراهيدي في تعليل امتناع دخول الواو بين الصفة والموصوف لاتحادهما ذاتا وحكما وهو مناف لما يقتضيه دخول الواو من المغايرة فمبني على أن الواو عاطفة لأنها هي التي تقتضي المغايرة كما قال السكاكي وقد بين وجه مجازه لمجرد الربط.
وأما قوله في جاءني رجل ومعه آخر إنه جملتان فهو كما تراه، وأما قوله: إن جاء زيد راكبا في حكم جاء زيد وهو راكب فمن المعكوس فإن الأصل في الحال الافراد كما يدل عليه كلام ابن الحاجب وغيره من الأعيان، وأما تسليمه الدخول لتأكيد اللصوق ومنه الدلالة على أن الاتصاف أمر ثابت مستقر فمن العجائب فكيف يسلم التأكيد ولا يسلم فائدته، ويدفع الاعتراضات الباقية أن ما استند إليه الزمخشري ليس من باب الأدلة اليقينية بل هي من باب الأمارات وتكفي في هذه المقامات، وقال ابن الحاجب: لا يجوز أن يكون رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وسادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ صفة لما قبل ولا حالا لعدم العامل مع عدم الواو، ويجوز أن يكون كل منهما خبرا بعد خبر للمبتدأ المحذوف والأخبار إذا تعددت جاز في الثاني منها الاقتران بالواو وعدمه، وهذا إن سلم أن المعنى في الجمل واحد أما إذا قيل إن قوله تعالى: وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ استئناف منه سبحانه لا حكاية عنهم فيفهم أن القائلين سبعة أصابوا ولا يلزم أن يكون خبرا بعد خبر، ويقويه ذكر رَجْماً بِالْغَيْبِ قبل الثالثة فدل على أنها مخالفة لما قبلها في الرجم بالغيب فتكون صدقا البتة إلا أن هذا الوجه يضعف من حيث إن الله تعالى قال ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فلو جعل وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ تصديقا منه تعالى لمن قال سبعة لوجب أن يكون العالم بذلك كثيرا فإن أخبار الله تعالى صدق فدل على أنه لم يصدق منهم أحد، وإذا كان كذلك وجب أن تكون الجملة كلها متساوية في المعنى، وقد تعذر أن تكون الأخيرة وصفا فوجب أن يكون الجميع كذلك انتهى ويفهم أن الواو هي المانعة من الوصفية والداء هو الداء فالدواء هو الدواء.
وقوله: وإذا كان كذلك وجب إلخ كلام بمراحل عن مقتضى البلاغة لأن في كل اختلاف فوائد والبليغ من ينظر

صفحة رقم 231

إلى تلك الفوائد لا من يرده إلى التطويل والحشو في الكلام، وأيضا لا بد من قول صادق من الأقوال الثلاثة لينطبق قوله تعالى: ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ مع قوله سبحانه: رَجْماً بِالْغَيْبِ لأنه قد اندفع به القولان الأولان فيكون الصادق هذا.
وتعقيبه به أمارة على صدقه وذلك مفقود على ما ذهب إليه السائل، ومع هذا أين طلاوة الكلام وأين اللطف الذي تستلذه الأفهام. وما ذكره من لزوم كون العالم بذلك كثيرا على تقدير كون وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ استئنافا منه تعالى لأن اخبار الله تعالى صدق لا يخلو عن بحث لأن المصدق حينئذ هم المسلمون وهم قليل بالنسبة إلى غيرهم، ولا اختصاص للقليل بما دون العشرة وإن أخرج ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه أنه قال: كل قليل في القرآن فهو دون العشرة فإن ذلك في حيز المنع ودون إثباته التعب الكثير، على أنه يمكن أن يقال: المراد قلة العالمين بذلك قبل تصديقه تعالى، ولا يبعد أن يكونوا قليلين في حد أنفسهم من المسلمين كانوا أو من أهل الكتاب أو منهما، نعم القول بالاستئناف مما لا ينبغي أن يلتفت إليه وإن ذهب إليه بعض المفسرين. هذا ووافق في الانتصار جماعة منهم سيد المحققين وسند المدققين فقال:
الظاهر أن قوله تعالى: وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ صفة لسبعة كما يشهد به أخواه، وأيضا ليس سبعة في حكم الموصوفة كما قيل في قرية في قوله تعالى وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ [الحجر: ٤] حتى يصح الحمل على الحال اتفاقا، ولا شك أن معنى الجمع يناسب معنى اللصوق وباب المجاز مفتوح فلتحمل هذه الواو عليه تأكيدا للصوق الصفة بالموصوف فتكون هذه أيضا فرعا للعاطفة كالتي بمعنى مع والحالية والاعتراضية.
وأيد ذلك أيضا بما روي عن ابن عباس وأورد على تعليل منعه للحالية بعدم كون النكرة في حكم الموصوفة أنه لا ينحصر مسوغ مجيء الحال من النكرة في كونها موصوفة أو في حكم الموصوفة كما في الآية التي ذكرها فقد ذكر في المغني أن من المسوغات اقتران الجملة الحالية بالواو فليحفظ.
وقد وافق ابن مالك الرادين له فقال في شرح التسهيل: ما ذهب إليه صاحب الكشاف من توسط الواو بين الصفة والموصوف فاسد من خمسة أوجه، أحدها: أنه قاس في ذلك الصفة على الحال وبينهما فروق كثيرة لجواز تقدم الحال على صاحبها وجواز تخالفهما في الإعراب والتعريف والتنكير وجواز إغناء الواو عن الضمير في الجملة الحالية وامتناع ذلك في الواقعة نعتا فكما ثبت مخالفة الحال الصفة في هذه الأشياء ثبتت مخالفتها إياها بمقارنة الواو الجملة الحالية وامتناع ذلك في الجملة النعتية، الثاني أن مذهبه في هذه المسألة لا يعرف بين البصريين والكوفيين فوجب أن لا يلتفت إليه، الثالث أنه معلل بما لا يناسب وذلك أن الواو تدل على الجمع بين ما قبلها وما بعدها وذلك مستلزم لتغايرهما وهو ضد لما يراد من التوكيد فلا يصح أن يقال لعاطف مؤكد، الرابع أن الواو فصلت الأول من الثاني ولولاها لتلاصقا فكيف يقال إنها أكدت لصوقها، الخامس أن الواو لو صلحت لتأكيد لصوق الموصوف بالصفة لكان أولى المواضع بها موضعا لا يصلح للحال بخلاف جملة تصلح في موضعها الحال اه، ويعلم ما فيه بالتأمل الصادق فيما تقدم.
والعجب مما ذكره في الوجه الرابع فهو توهم يستغرب من الأطفال فضلا عن فحول الرجال فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك.
وقال بعضهم: إن ضمائر الأفعال الثلاثة للخائضين في قصة أصحاب الكهف في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم من أهل الكتاب والمسلمين لا على وجه إسناد كل من الأفعال إلى كلهم بل إلى بعضهم فالقول الأول لليهود على ما أخرجه ابن أبي

صفحة رقم 232

حاتم عن السدي، وقيل لسيد من سادات نصارى العرب النجرانيين وكان يعقوبيا وكان قد وفد مع جماعة منهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجرى ذكر أصحاب الكهف فذكر من عدتهم ما قصه الله تعالى شأنه، ولعل التعبير بضمير الجمع لموافقة من معه إياه في ذلك، والقول الثاني على ما روي عن السدي أيضا النصارى ولم يقيدهم وقيل العاقب ومن معه من نصارى نجران وكانوا وافدين أيضا وكان نسطوريا (١) والقول الثالث لبعض المسلمين، وكأنه عز اسمه لما حكى الأقوال قبل أن تقال على ذلك لقنهم الحق وأرشدهم إليه بعدم نظم ذلك القول في سلك الرجم بالغيب كما فعل بأخويه وتغيير سبكه بإقحام الواو وتعقيبه بما عقبه به على ما سمعت من كون ذلك أمارة على الحقية، والمراد بالقليل على هذا من وقفه الله تعالى للاسترشاد بهذه الأمارات كابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقد مر غير بعيد أنه عد من ذلك وذكر ما ظاهره الاستشهاد بالواو.
وقيل إنهم علموا تلك العدة من وحي غير ما ذكر بأن يكون قد أخبرهم صلّى الله عليه وسلّم بذلك عن إعلام الله تعالى إياه به.
وتعقبه بأنه لو كان كذلك لما خفي على الحبر ولما احتاج إلى الاستشهاد ولكان المسلمون أسوة له في العلم بذلك.
وأجيب بأنه لا مانع من وقوف الحبر على الخبر مع جماعة قليلة من المسلمين، ولا يلزم من إخباره صلّى الله عليه وسلّم بشيء وقوف جميع الصحابة عليه فكم من خبر تضمن حكما شرعيا تفرد بروايته عنه عليه الصلاة والسلام واحد منهم رضي الله تعالى عنهم فما ظنك بما هو من باب القصص التي لم تتضمن ذلك، واستشهاده رضي الله تعالى عنه نصا لا ينافي الوقوف بل قد يجامعه بناء على ما وقفت عليه آنفا فهو ليس نصا في عدم الوقوف.
وقد أورد على القول بأن منشأ العلم التلقن من هذا الوحي لما تضمن من الإمارات أنه يلزم من ذلك كون الصحابة السامعين للآية أسوة لابن عباس في العلم نحو ما ذكره المتعقب بل لأنهم العرب الذين أرضعوا ثدي البلاغة في مهد الفصاحة وأشرقت على آفاق قلوبهم وصفحات أذهانهم من مطالع إيمانهم الاستوائية أنوار النبوة المفاضة من شمس الحضرة الأحدية وقلما تنزل آية ولا تلقي عصاها في رباع أسماعهم لوفور رغبتهم في الاستماع ومزيد حرصه صلّى الله عليه وسلّم على إسماعهم، ومتى فهم الزمخشري واضرابه من هذه الآية ما فهموا فلم لم يفهم أصحابه عليه الصلاة والسلام ذلك وهم هم أيخطر ببال من له أدنى عقل أن الإعجام شعروا وأكثر أولئك العرب لم يشعروا؟ أم كيف يتصور تجلي أسرار بلاغة القرآن لمن لا يعرف إعجازه إلا بعد المشقة وتحجب عمن يعرف ذلك بمجرد السليقة؟ ولا يكاد يدفع هذا الإيراد إلا بالتزام أن السامعين لهذه الآية قليلون لأنها نزلت في مكة وفي المسلمين هناك قلة مع عدم تيسر الاجتماع لهم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكذا اجتماع بعضهم مع بعض نحو تيسر ذلك في المدينة أو بالتزام القول بأن الملتفتين إلى ما فيها من الشواهد كانوا قليلين وهذا كما ترى.
وقيل إن الضمائر لنصارى نجران تناظروا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في عدد أصحاب الكهف فقالت الملكانية الجملة الأولى واليعقوبية الجملة الثانية والنسطورية الجملة الثالثة، ويروى هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو أولى من القول السابق المحكي عن بعضهم.
وقال الماوردي واستظهره أبو حيان: إن الضمائر للمتنازعين في حديثهم قبل ظهورهم عليهم فيكون قد أخبر سبحانه نبيه صلّى الله عليه وسلّم بما كان من اختلاف قومهم في عددهم، ولا يخفى أنه يبعد هذا القول من حكاية تلك الأقوال بصيغة

(١) نسبة إلى نسطور كان زمن الفترة كما في الكامل وليس هو الذي في زمن المأمون كما توهم ليحتاج إلى التكلف في الجواب كما فعل في الكشف اه منه.

صفحة رقم 233

الاستقبال مع تعقيبها بقوله تعالى قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ وقد تقدم رواية أن القوم حين أتوا باب الكهف مع المبعوث لاشتراء الطعام قال: دعوني أدخل إلى أصحابي قبلكم فدخل وعمي على القوم أثرهم، وفي رواية أنهم كلما أراد أن يدخل عليهم أحد منهم رعبوا فتركوا وبني عليهم مسجد، فلو قيل على هذا: إن الضمائر للمعثرين اختلفوا في عددهم لعدم تمكنهم من رؤيتهم والاجتماع معهم فقالت كل طائفة منهم ما قالت، ولعل الطائفة الأخيرة استخبرت الفتى فأخبرها بتلك العدة فصدقته وأخذت كلامه بالقبول وتأيد بما عندهم من أخبار أسلافهم فقالت ذلك عن يقين ورجمت الطائفتان المتقدمتان لعدم ثبوت ما يفيد العلم عندهما ولعلهما كانتا كافرتين لم يبعد بعد ما نقل عن الماوردي فتدبر. ومن غريب ما قيل: إن الضمير في يَقُولُونَ سَبْعَةٌ لله عز وجل والجمع للتعظيم. وأسماؤهم على ما صح عن ابن عباس مكسلمينا ويمليخا ومرطولس وثبيونس ودردونس وكفاشيطيطوس ومنطنواسيس وهو الراعي والكلب اسمه قطمير،
وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أن أسماءهم يمليخا ومكشيلينيا ومثلينيا وهؤلاء أصحاب يمين الملك ومرنوش ودبرنوش وشاذنوش وهؤلاء أصحاب يساره وكان يستشير الستة والسابع الراعي، ولم يذكر في هذه الرواية اسمه، وذكر فيها أن اسم كلبهم قطمير
، وفي صحة نسبة هذه الرواية لعلي كرم الله تعالى وجهه مقال، وذكر العلامة السيوطي في حواشي البيضاوي أن الطبراني روى ذلك عن ابن عباس في معجمه الأوسط بإسناد صحيح.
والذي في الدر المنثور رواية الطبراني في الأوسط بإسناد صحيح ما قدمناه عن ابن عباس والله تعالى أعلم.
وقد سموا في بعض الروايات بغير هذه الأسماء، وذكر الحافظ ابن حجر في شرح البخاري أن في النطق بأسمائهم اختلافا كثيرا ولا يقع الوثوق من ضبطها. وفي البحر أن أسماء أصحاب الكهف أعجمية لا تنضبط بشكل ولا نقط والسند في معرفتها ضعيف، وذكروا لها خواصا فقال النيسابوري عن ابن عباس: إن أسماء أصحاب الكهف تصلح للطلب والهرب وإطفاء الحريق تكتب في خرقة ويرمى بها في وسط النار ولبكاء الطفل تكتب وتوضع تحت رأسه في المهد وللحرث تكتب على القرطاس ويرفع على خشب منصوب في وسط الزرع وللضربان وللحمى المثلثة والصداع والغنى والجاه والدخول على السلاطين تشد على الفخذ اليمنى ولعسر الولادة تشد على الفخذ الأيسر ولحفظ المال والركوب في البحر والنجاة من القتل انتهى، ولا يصح ذلك عن ابن عباس ولا عن غيره من السلف الصالح، ولعله شيء افتراه المتزيون بزي المشايخ لأخذ الدراهم من النساء وسخفة العقول، وأنا أعد هذا من خواص أسمائهم فإنه صحيح مجرب. وقرىء «وثامنهم كالبهم» أي صاحب كلبهم.
واستدل بعضهم بهذه القراءة على أنهم ثمانية رجال وأول القراءة المواترة بأنها على حذف مضاف أي وصاحب كلبهم وهو كما ترى فَلا تُمارِ الفاء لتفريع النهي على ما قبله، والمماراة على ما قال الراغب المحاجة فيما فيه مرية أي تردد، وأصل ذلك من مريت الناقة إذا مسحت ضرعها للحلب، وفسرها غير واحد بالمجادلة وهي المحاجة مطلقا أي إذا قد وقفت على أن في الخائضين مخطئا ومصيبا فلا تجادلهم فِيهِمْ أي في شأن الفتية إِلَّا مِراءً ظاهِراً غير متعمق فيه وذلك بالاقتصار على ما تعرض له الوحي المبين من غير تجهيل لجميعهم فإن فيهم مصيبا وإن قل ولا تفضيح وتعنيف للجاهل منهم فإن ذلك مما يخل بمكارم الأخلاق التي بعثت لإتمامها.
وقال ابن زيد: المراد الظاهر القول لهم ليس كما تعلمون.
وحكى الماوردي أن المراء الظاهر ما كان بحجة ظاهرة، وقال ابن الأنباري: هو جدال العالم المتيقن بحقيقة الخبر، وقال ابن بحر: هو ما يشهده الناس، وقال التبريزي: المراد من الظاهر الذاهب بحجة الخصم يقال ظهر إذا ذهب، وأنشد: وتلك شكاة ظاهر عنك عارها. أي ذاهب وَلا تَسْتَفْتِ ولا تطلب الفتيا فِيهِمْ في شأنهم

صفحة رقم 234

مِنْهُمْ من الخائضين أَحَداً فإن فيما أفتيناك غنى عن الاستفتاء فيحمل على التفتي المنافي لمكارم الأخلاق إذ الحال لا تقتضي تطيب الخواطر أو نحو ذلك، وقيل: المعنى لا ترجع إليهم في شأن الفتية ولا تصدق القول الثالث من حيث صدوره منهم بل من حيث التلقي من الوحي، وقيل: المعنى إذ قد عرفت جهل أصحاب القولين فلا تجادلهم في شأنهم إلا جدالا ظاهرا قدر ما تعرض له الوحي من وصفهم بالرجم بالغيب ولا تستفت فيهم من أولئك الطائفتين أحدا لاستغنائك بما أوتيت مع أنهم لا علم لهم بذلك وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ أي لأجل شيء تعزم عليه إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ الشيء غَداً أي فيما يستقبل من الزمان مطلقا وهو تأكيد لما يدل عليه اسم الفاعل بناء على أنه حقيقة في الاستقبال ويدخل فيه الغد بمعنى اليوم الذي يلي يومك وهو المتبادر دخولا أوليا،
فإن الآية نزلت حين سألت قريش النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين فقال عليه الصلاة والسلام: غدا أخبركم ولم يستثن فأبطأ عليه صلّى الله عليه وسلّم الوحي خمسة عشر يوما على ما روي عن ابن إسحاق
، وقيل: ثلاثة أيام، وقيل:
أربعين يوما فشق ذلك عليه الصلاة والسلام وكذبته قريش وحاشاه.
وجوز غير واحد أن يبقى على المعنى المتبادر وما بعده بذلك المعنى يعلم بطريق دلالة النص.
وتعقب بأن ما بعده ليس بمعناه في مناط النهي وهو احتمال المانع فإن الزمان إذا اتسع قد ترتفع فيه الموانع أو تخف وليس بشيء لأن المانع شامل للموت واحتمال في الزمان الواسع أقوى.
إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ استثناء متعلق بالنهي على ما اختاره جمع من المحققين، وقول ابن عطية اغترارا برد الطبري إنه من الفساد بحيث كان الواجب أن لا يحكى خروج عن الإنصاف، وهو مفرغ من أعم الأحوال.
وفي الكلام تقدير باء للملابسة داخلة على أن والجار والمجرور في موضع الحال أي لا تقولن ذلك في حال من الأحوال إلا حال ملابسته بمشيئة الله عز وجل بأن تذكر، قال في الكشف: إن التباس القول بحقيقة المشيئة محال فبقي أن يكون بذكرها وهو إن شاء الله تعالى ونحوه مما يدل على تعليقه الأمور بمشيئة الله تعالى.
ورد بما يصلح أن يكون تأييدا لا ردا، وجوز أن يكون المستثنى منه أعم الأوقات أي لا تقولن ذلك في وقت من الأوقات إلا في وقت مشيئة الله تعالى ذلك القول منك، وفسرت المشيئة على هذا بالإذن لأن وقت المشيئة لا يعلم إلا بإعلامه تعالى به وإذنه فيه فيكون مآل المعنى لا تقولن إلا بعد أن يؤذن لك بالقول. وجوز أيضا أن يكون الاستثناء منقطعا، والمقصود منه التأبيد أي ولا تقولن ذلك أبدا، ووجه ذلك في الكشف بأنه نهي عن القول إلا وقت مشيئة الله تعالى وهي مجهولة فيجب الانتهاء أبدا، وأشار إلى أنه هو مراد الزمخشري لا ما يتوهم من جعله مثل قوله تعالى: وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الأعراف: ٨٩] من أن التأبيد لعدم مشيئته تعالى فعل ذلك غدا لقبحه كالعود في ملة الكفر لأن القبح فيما نحن فيه على إطلاقه غير مسلم، والتخصيص بما يتعلق بالوحي على معنى لا تقولن فيما يتعلق بالوحي إني أخبركم به إلا أن يشاء الله تعالى والله تعالى لم يشأ أن تقوله من عندك فإذا لا تقولنه أبدا يأباه النكرة في سياق النهي المتضمن للنفي والتقييد بالمستقبل، وأن قوله: فاعِلٌ ذلِكَ غَداً أي مخبر عن أمر يتعلق بالوحي غدا غير مؤذن بأن قوله في الغد يكون من عنده لا عن وحي فالتشبيه في أن الاستثناء بالمشيئة استعمل في معرض التأبيد وإن كان وجه الدلالة مختلفا أخذا من متعلق المشيئة تارة ومن الجهل بها أخرى، ولا يخفى أن الظاهر في الآية الوجه الأول وأن أمته صلّى الله عليه وسلّم وهو في الخطاب الذي تضمنته سواء مخصوصا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا يجوز أن يكون الاستثناء متعلقا بقوله تعالى: إِنِّي فاعِلٌ بأن يكون استثناء مفرغا مما في حيزه من أعم الأحوال أو الأوقات لأنه حينئذ إما أن تعتبر تعلق المشيئة بالفعل فيكون المعنى إني فاعل في كل حال أو في كل وقت إلا في حال أو وقت

صفحة رقم 235

مشيئة الله تعالى الفعل وهو غير سديد أو يعتبر تعلقها بعدمه فيكون المعنى إني فاعل في كل حال أو في كل وقت إلا في حال أو وقت مشيئة الله مشيئة الله تعالى عدم الفعل، ولا شبهة في عدم مناسبته للنهي بل هو أمر مطلوب.
وقال الخفاجي: إذا كان الاستثناء متعلقا بأني فاعل والمشيئة متعلقة بالعدم صار المعنى إني فاعل في كل حال إلا إذا شاء الله تعالى عدم فعلي وهذا لا يصح النهي عنه، أما على مذهب أهل السنة فظاهر، وأما على مذهب المعتزلة فلأنهم لا يشكون في أن مشيئة الله تعالى لعدم فعل العبد الاختياري إذا عرضت دونه بإيجاد ما يعوق عنه من الموت ونحوه منعت عنه وإن لم تتعلق عندهم بإيجاده وإعدامه، وكذا لا يصح النهي إذا كانت المشيئة متعلقة بالفعل في المذهبين، فما قيل: إن تعلق الاستثناء بما ذكر صحيح والمعنى عليه النهي عن أن يذهب مذهب الاعتزال في خلق الأعمال فيضيفها لنفسه قائلا إن لم تقترن مشيئة الله تعالى بالفعل فأنا فاعله استقلالا فإن اقترنت فلا يخفى ما فيه على نبيه فتأمل. وقد شاع الاعتراض على المعتزلة في زعمهم أن المعاصي واقعة من غير إرادة الله تعالى ومشيئته وأنه تعالى لا يشاء إلا الطاعات بأنه لو كان كذلك لوجب فيما إذا قال: الذي عليه دين لغيره قد طالبه به والله لأعطينك حقك غدا إن شاء الله تعالى أن يكون حانثا إذا لم يفعل لأن الله تعالى قد شاء ذلك لكونه طاعة وإن لم يقع فتلزمه الكفارة عن يمينه ولم ينفعه الاستثناء كما لو قال: والله لأعطينك إن قام زيد فقام ولم يفعل، وفي التزام الحنث في ذلك خروج عن الإجماع. وقد أجاب عنه المرتضى بأن للاستثناء الداخل في الكلام وجوها مختلفة فقد يدخل في الأيمان والطلاق والعتاق وسائر العقود وما يجري مجراها من الأخبار وهذا يقتضي التوقف عن إمضاء الكلام والمنع من لزوم ما يلزم به ويصير له الكلام كأنه لا حكم له، ويصح في هذا الوجه الاستثناء في الماضي فيقال: قد دخلت الدار إن شاء الله تعالى ليخرج بذلك من أن يكون خبرا قاطعا أو يلزم به حكم، ولا يصح في المعاصي لأن فيه إظهار الانقطاع إلى الله تعالى والمعاصي لا يصلح ذلك فيها قال: وهذا الوجه أحد محتملات الآية، وقد يدخل في الكلام ويراد به التسهيل والاقدار والتخلية والبقاء على ما هو عليه من الأحوال وهذا هو المراد إذا دخل في المباحات وهو ممكن في الآية، وقد يدخل لمجرد غرض الانقطاع إلى الله تعالى ويكون على هذا غير معتد به في كون الكلام صادقا أو كاذبا وهو أيضا ممكن في الآية، وقد يدخل ويراد به اللطف والتسهيل وهذا يختص بالطاعات ولا يصح أن تحمل الآية عليه لأنها تتناول كل ما لم يكن قبيحا.
وقول المديون السابق إن قصد به هذا المعنى لا يلزم منه الحنث إذا لم يفعل، ويدين المديون. وغيره إن ادعى قصد ما لا يلزمه فيه شيء فلا ورود لما اعترضوا به، والإنصاف أن الاعتراض ليس بشيء والرد عليهم غني عن مثل ذلك، هذا ثم اعلم أن إطلاق الاستثناء على التقييد بإن شاء الله تعالى بل على التقييد بالشرط مطلقا ثابت في اللغة والاستعمال كما نص عليه السيرافي في شرح الكتاب.
وقال الراغب: الاستثناء دفع ما يوجبه عموم سابق كما في قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً [الأنعام: ١٤٥] إلخ أو دفع ما يوجبه اللفظ كقوله: امرأته طالق إن شاء الله تعالى انتهى.
وفي الحديث «من حلف على شيء فقال: إن شاء الله تعالى فقد استثنى»
فما قيل: إن كلمة إن شاء الله تعالى تسمى استثناء لأنه عبر عنها هنا بقوله سبحانه: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ليس بسديد فكذا ما قيل: إنها أشبهت الاستثناء في التخصيص فأطلق عليها اسمه كذا قال الخفاجي، ولا يخفى أن في الحديث نوع إباء لدعوى أن إطلاق الاستثناء على

صفحة رقم 236

التقييد بإن شاء الله تعالى لغوي لأنه صلّى الله عليه وسلّم لم يبعث لإفادة المدلولات اللغوية بل لتبليغ الأحكام الشرعية فتذكر.
وَاذْكُرْ رَبَّكَ تعالى أي مشيئة ربك فالكلام على حذف مضاف، وذكر مشيئة تعالى على ما يدل عليه ما قبل أن يقال إن شاء الله تعالى، وقد قال ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين نزلت إِذا نَسِيتَ أي إذا فرط منك نسيان ذلك ثم تذكرته فإنه ما دام ناسيا لا يؤمر بالذكر وهو أمر بالتدارك عند التذكر سواء قصر الفصل أم طال. وقد أخرج ابن جرير والطبراني وابن المنذر وغيرهم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يرى الاستثناء ولو بعد سنة ويقرأ الآية، وروي ذلك عن أئمة أهل البيت رضي الله تعالى عنهم وهو رواية عن الإمام أحمد عليه الرحمة، وأخرج ابن المنذر عن ابن جبير في رجل حلف ونسي أن يستثني قال: له ثنياه إلى شهر، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عمرو بن دينار عن عطاء أنه قال: من حلف على يمين فإن الثنيا حلب ناقة قال: وكان طاوس يقول ما دام في مجلسه، وأخرج ابن أبي حاتم أيضا عن إبراهيم قال: يستثني ما دام في كلامه، وعامة الفقهاء على اشتراط اتصال الاستثناء في عدم الحنث ولو صح جواز الفصل وعدم تأثيره في الأحكام لا سيما إلى الغاية المروية عن ابن عباس لما تقرر إقرار ولا طلاق ولا عتاق ولم يعلم صدق ولا كذب.
ويحكى أنه بلغ المنصور أن أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه خالف ابن عباس في هذه المسألة فاستحضره لينكر عليه فقال له أبو حنيفة: هذا يرجع إليك أنك تأخذ البيعة بالأيمان أفترضى أن يخرجوا من عندك فيستثنوا فيخرجوا عليك فاستحسن كلامه.
ومن غريب ما يحكى أن رجلا من علماء المغرب أحب أن يرى علماء بغداد ويتحقق مبلغ علمهم فشد الرحل للاجتماع معهم فدخل بغداد من باب الكرخ فصادف رجلين يمشيان أمامه يبيعان البقل في أطباق على رؤوسهما فسمع أحدهما يقول لصاحبه: يا فلان إني لأعجب من ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كيف جوز فصل الاستثناء، وقال بعدم تأثيره في الأحكام ولو كان الأمر كما يقول لأمر الله تعالى نبيه أيوب عليه السلام بالاستثناء لئلا يحنث فإنه أقل مؤنة مما أرشده سبحانه إليه بقوله تعالى: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ [ص: ٤٤] وليس بين حلفه وأمره بما ذكره أكثر من سنة فرجع ذلك الرجل إلى بلده واكتفى بما سمع ورأى فسئل كيف وجدت علماء بغداد؟ فقال:
رأيت من يبيع البقل على رأسه في الطرقات من أهلها بلغ مبلغا من العلم يعترض به على ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فما ظنك بأهل المدارس المنقطعين لخدمة العلم والإنصاف أن هذا الاعتراض على علامة يستكثر ممن يبيع البقل والله تعالى أعلم بصحة النقل، لا يقال: إن ظاهر الآية على ما سمعت يطابق ما ذهب إليه الحبر وإلا لم يكن للتدارك معنى وكذا ما جاء في الخبر لما قالوا: إن التدارك فيما يرجع إلى تفويض العبد يحصل بذكره بعد التنبه أما في التأثير في الحكم حتى يخرجه عن الجزم فليست الآية مسوقة له ولا دالة عليه بوجه.
وقال بعضهم: إن ذلك من خصائصه صلّى الله عليه وسلّم فله عليه الصلاة والسلام أن يستثني ولو بعد حين بخلاف غيره.
فقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني في الكبير بسند متصل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: إذا نسيت الاستثناء فاستثن إذا ذكرت ثم قال: هي خاصة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وليس لأحدنا أن يستثني إلا في صلة يمين، وقيل ليس في الآية والخبر أن الاستثناء المتدارك من القول السابق بل من مقدر مدلول به عليه والتقدير في الآية كلما نسيت ذكر الله تعالى اذكره حين التذكر إن شاء الله تعالى،
وفي الحديث لا أنسى المشيئة بعد اليوم ولا

صفحة رقم 237

أتركها إن شاء الله تعالى أو أقول إن شاء الله تعالى إذا قلت إني فاعل أمرا فيما بعد
، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر جدا.
وجوز أن يكون المعنى واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت الاستثناء، والمراد من ذلك المبالغة في الحث عليه بإيهام أن تركه من الذنوب التي يجب لها التوبة والاستغفار، وقيل المعنى واذكر ربك وعقابه إذا تركت بعض ما أمرك به ليبعثك ذلك على التدارك، وحمل النسيان على الترك مجاز لعلاقة السببية والمسببية أو اذكر ربك إذا عرض لك نسيان ليذكرك المنسي، ونَسِيتَ على هذا منزل منزلة اللازم، ولا يخفى بعد ارتباط الآية على هذين المعنيين بما سبق.
وحمل قتادة الآية على أداء الصلاة المنسية عند ذكرها فإذا أراد أن المراد من الآية واقض الصلاة المنسية إذ ذكرتها فهو كما ترى وأمر الارتباط كما في سابقه، وإن أراد أنها تدل على الأمر بقضاء الصلاة المنسية عند ذكرها لما أنها دلت على الأمر بذكر الاستثناء المنسي، وأمر الصلاة أشد والاهتمام بها أعظم فالأمر أسهل ولكن ظاهر كلامهم أنه أراد الأول.
وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهما عن عكرمة أنه قال في الآية: أي اذكر ربك إذا غضبت، ووجه تفسير النسيان بالغضب أنه سبب للنسيان، وأمر هذا القول نظير ما مر.
وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي أي يوفقني لِأَقْرَبَ مِنْ هذا أي لشيء أقرب وأظهر من نبأ أصحاب الكهف من الآيات والدلائل الدالة على نبوتي رَشَداً إرشادا للناس ودلالة على ذلك.
وإلى هذا ذهب الزجاج، وقد فعل ذلك عز وجل حيث آتاه من الآيات البينات ما هو أعظم من ذلك وأبين كقصص الأنبياء عليهم السلام المتباعدة أيامهم والحوادث النازلة في الأعصار المستقبلة إلى قيام الساعة، وكأنه تهوين منه عز وجل لأمر قصة أصحاب الكهف كما هونه جل وعلا أولا بقوله سبحانه «أم حسبت» إلخ، وهو متعلق بمجموع القصة، وعطفه بعض الأفاضل على العامل في قوله تعالى: «إذ أوى الفتية إلى الكهف» كأنه قيل اذكر إذ أوى الفتية إلخ وقل عسى أن يهديني ربي لما هو أظهر من ذلك دلالة على نبوتي.
وقال الجبائي: هو متعلق بقوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إلى آخره والمعنى عنده ادع ربك سبحانه وتعالى إذا نسيت شيئا أن يذكرك إياه وقل إن لم يذكرك سبحانه عسى أن يهديني لشيء أقرب من المنسي خيرا ومنفعة «فهذا» إشارة إلى المنسي والرشد الخير والمنفعة و (أقرب) على معناه الحقيقي، ولا يخفى أن هذا أقرب من جهة المتعلق وأبعد من جهات، وقيل: إنه متعلق بالمتعاطفات قبله وهذا إشارة إلى ما تضمنته من الخير أمرا ونهيا كأنه قيل افعل كذا ولا تفعل كذا وأطمع من ربك أن يهديك لأقرب مما أرشدت إليه في ضمن ما سمعت من الأمر والنهي خيرا ومنفعة، وقد هدى صلّى الله عليه وسلّم في ضمن ما أنزل عليه عليه الصلاة والسلام بعد ذلك من الأوامر والنواهي إلى ما هو أقرب من ذلك منفعة ولا يكاد يحصى وهو كما ترى، ولعله على علاته أقرب مما نقل عن الجبائي، وقال ابن الأنباري: معنى الآية عسى أن يعرفني ربي جواب مسائلكم قبل الوقت الذي حددته لكم ويعجل لي من جهته الرشاد، ولا يكاد يستفاد هذا المعنى من الآية، وعلى فرض الاستفادة تكون نظير استفادة المعاني المرادة من المعميات ويجل كتاب الله تعالى الكريم عن ذلك. وأخرج البيهقي من طريق المعتمر بن سليمان قال: سمعت أبي يحدث عن رجل من أهل الكوفة أنه كان يقول: إذا نسي الإنسان الاستثناء فتوبته أن يقول عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً وحكاه أبو حيان عن محمد الكوفي المفسر، والظاهر أنه الرجل الذي ذكره المعتمر، وهو قول لا دليل عليه وَلَبِثُوا فِي

صفحة رقم 238

كَهْفِهِمْ
أحياء مضروبا على آذانهم ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً وهي جملة مستأنفة مبينة كما قال مجاهد لما أجمل في قوله تعالى فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً [الكهف: ١١] واختار ذلك غير واحد، قال في الكشف: فعلى هذا قوله تعالى قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا تقرير لكون المدة المضروب فيها على آذانهم هي هذه المدة كأنه قيل قل الله أعلم بما لبثوا وقد أعلم فهو الحق الصحيح الذي لا يحوم حوله شك قط، وفائدة تأخير البيان التنبيه على أنهم تنازعوا في ذلك أيضا لذكره عقيب اختلافهم في عدة أشخاصهم وليكون التذييل بقل الله أعلم محاكيا للتذييل بقوله سبحانه قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ وللدلالة على أنه من الغيب الذي أخبر به عليه الصلاة والسلام ليكون معجزا له، ولو قيل: فضربنا على آذانهم سنين عددا وأتى به مبينا أولا لم يكن فيه هذه الدلالة البتة، فهذه عدة فوائد والأصل الأخيرة انتهى، ويحتاج على هذا إلى بيان وجه العدول عن المتبادر وهو ثلاثمائة وتسع سنين مع أنه أخصر وأظهر فقيل هو الإشارة إلى أنها ثلاثمائة بحساب أهل الكتاب واعتبار السنة الشمسية وثلاثمائة وتسع بحساب العرب واعتبار السنة القمرية
فالتسع مقدار التفاوت، وقد نقله بعضهم عن علي كرم الله تعالى وجهه.
واعترض بأن دلالة اللفظ على ما ذكر غير ظاهرة مع أنه لا يوافق ما عليه الحساب والمنجمون كما قاله الإمام لأن السنة الشمسية ثلاثمائة وخمس وستون يوما وخمس ساعات وتسع وأربعون دقيقة على مقتضى الرصد الإيلخاني والسنة القمرية ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما وثمان ساعات وثمان وأربعون دقيقة فيكون التفاوت بينهما عشرة أيام وإحدى وعشرين ساعة ودقيقة واحدة وإذا كان هذا تفاوت سنة كان تفاوت مائة ألف يوم وسبعة وثمانين يوما وثلاث عشرة ساعة وأربع دقائق وهي ثلاثة سنين وأربعة وعشرون يوما وإحدى عشرة ساعة وست عشرة دقيقة فيكون تفاوت ثلاثمائة سنة تسع سنين وثلاثا وسبعين يوما وتسع ساعات وثمانيا وأربعين دقيقة (١) ولذا قيل إن روايته عن علي كرم الله تعالى وجهه لم تثبت. وبحث فيه الخفاجي بأن وجه الدلالة فيه ظاهر لأن المعنى لبثوا ثلاثمائة سنة على حساب أهل الكتاب الذين علموا قومك السؤال عن شأنهم وتسعا زائدة على حساب قومك الذين سألوك عن ذلك، والعدول عن الظاهر يشعر به، ودعوى أن التفاوت تسع سنين مبنية على التقريب لأن الزائد لم يبلغ نصف سنة بل ولا فصلا من فصولها فلم يعبأ به، وكون التفاوت تسعا تقريبا جار على سائر الأقوال في مقدار السنة الشمسية والسنة القمرية إذ التفاوت في سائرها لا يكاد يبلغ ربعا فضلا عن نصف، وقال الطيبي في توجيه العدول: إنه يمكن أن يقال: لعلهم لما استكملوا ثلاثمائة سنة قربوا من الانتباه ثم اتفق ما أوجب بقاءهم نائمين تسع سنين. وتعقب بأن هذا يقتضي أن يكون المراد وازدادوا نوما أي قوي نومهم في تسع سنين ولا يخفى ما فيه.
وقال أيضا: يجوز أن يكون أهل الكتاب قد اختلفوا في مدة لبثهم كما اختلفوا في عدتهم فجاء قوله تعالى:
وَلَبِثُوا إلخ رافعا للاختلاف مبينا للحق ويكون وَازْدَادُوا تِسْعاً تقريرا ودفعا للاحتمال نظير الاستثناء في قوله تعالى فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً وسيجيء بيانه إن شاء الله تعالى ولا يخلو عن حسن.
وقيل إنهم انتبهوا قليلا ثم ردوا إلى حالتهم الأولى فلذا ذكر الازدياد وهو الذي يقتضية ما أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة المار في قوله تعالى وَنُقَلِّبُهُمْ إلخ وهو فيما أرى أقرب مما تقدم من حديث السنين الشمسية والقمرية.
وقال جمع: إن الجملة من كلام أهل الكتاب فهي من مقول سَيَقُولُونَ السابق وما بينهما اعتراض ونسب ذلك إلى ابن عباس، فقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن الرجل ليفسر الآية يرى

(١) وإذا اعتبر هذا سنين شمسية كان تسع سنين إلا أربعة وعشرين يوما وإحدى عشرة ساعة وإحدى وعشرين دقيقة اه منه.

صفحة رقم 239

أنها كذلك فيهوي أبعد ما بين السماء والأرض ثم تلا وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ الآية ثم قال: كم لبث القوم؟ قالوا:
ثلاثمائة وتسع سنين فقال: لو كانوا لبثوا كذلك لم يقل الله تعالى قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا ولكنه سبحانه حكى مقالة القوم فقال تعالى سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ إلى قوله تعالى رَجْماً بِالْغَيْبِ فأخبر أنهم لا يعلمون وقال: سيقولون لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا ولعل هذا لا يصح عن الحبر رضي الله تعالى عنه فقد صح عنه القول بأن عدة أصحاب الكهف سبعة وثامنهم كلبهم مع أنه تعالى عقب القول بذلك بقوله سبحانه قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ولا فرق بينه وبين قوله تعالى قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا فلم دل هذا على الرد ولم يدل ذاك.
نعم قرأ ابن مسعود «قالوا لبثوا كهفهم» وهو يقتضي أن يكون من كلام الخائضين في شأنهم إلا أن التعقيب بقوله تعالى قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا كتعقيب القول الثالث في العدة بما سمعت في عدم الدلالة على الرد.
والظاهر أن ضمير وَازْدَادُوا على هذا القول لأصحاب الكهف كما أنه كذلك على القول السابق، وقال الخفاجي: إن الضمير عليه لأهل الكتاب بخلافه على الأول، ويظهر فيه وجه العدول عن ثلاثمائة وتسع سنين لأن بعضهم قال: لبثوا ثلاثمائة وبعضهم قال: إنه أزيد بتسعة اه. ولا يخفى ما فيه، وعلى القولين الظاهر أن بِما لَبِثُوا إشارة إلى المدة السابق ذكرها، وزعم بعضهم أنه إشارة إلى المدة التي بعد الاطلاع عليهم إلى زمن الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو كما ترى، وقيل إنه تعالى لما قال وَازْدَادُوا تِسْعاً كانت التسع مبهمة لا يدري أنها سنون أم شهور أم أيام أم ساعات واختلف في ذلك بنو إسرائيل فأمر صلّى الله عليه وسلّم برد العلم إليه عز وجل في التسع فقط اه وليس بشيء فإنه إذا سبق عدد مفسر وعطف عليه ما لم يفسر حمل تفسيره على السابق فعندي مائة درهم وعشرة ظاهر في وعشرة دراهم وليس بمجمل كما لا يخفى.
هذا ونصب تِسْعاً على أنه مفعول ازْدَادُوا وهو مما يتعدى إلى واحد، وقال أبو البقاء: إن زاد يتعدى إلى اثنين وإذا بني على افتعل تعدى إلى واحد، وظاهر كلام الراغب وغيره أن زاد قد تتعدى إلى واحد يقال: زدته كذا فزاد هو وازداد كذا، ووجه ذلك ظاهر فلا تغفل، والجمهور على أن سِنِينَ في القراءة بتنوين «مائة» منصوب لكن اختلفوا في توجيه ذلك فقال أبو البقاء وابن الحاجب: هو منصوب على البدلية من ثَلاثَ مِائَةٍ.
وقال الزمخشري: على أنه عطف بيان لثلاثمائة، وتعقبه في البحر بأنه لا يجوز على مذهب البصريين.
وادعى بعضهم أنه أولى من البدلية لأنها تستلزم أن لا يكون العدد مقصودا، ويؤيده ما
أخرجه ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك قال: لما نزلت هذه الآية وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ قيل: يا رسول الله أياما أم أشهرا أم سنين؟ فأنزل الله تعالى سنين.
وجوز ابن عطية الوجهين، وقيل: على التمييز، وتعقب بأنه يلزم عليه الشذوذ من وجهين، وستعلم وجهه قريبا إن شاء الله تعالى، وبما نقل في المفصل عن الزجاج أنه يلزم أن يكونوا لبثوا تسعمائة سنة، قال ابن الحاجب: ووجهه أنه فهم من لغتهم أن مميز المائة واحد من مائة كما إذا قلت مائة رجل فرجل واحد من المائة فلو كان سنين تمييزا لكان واحدا من ثلاثمائة وأقل السنين ثلاثة فكان كأنه قيل ثلاثمائة ثلاث سنين فيكون تسعمائة سنة. ويرد بأن ما ذكر مخصوص بما إذا كان التمييز مفردا وأما إذا كان جمعا فالقصد فيه كالقصد في وقوع التمييز جمعا في نحو ثلاثة أثواب مع أن الأصل في الجميع الجمع، وإنما عدلوا إلى المفرد لعلة كما بين في محله فإذا استعمل التمييز جمعا استعمل على الأصل، وما قال إنما يلزم لو كان ما استعمل جمعا استعمل كما استعمل المفرد فأما إذا استعمل الجمع على أصله في ما وضع له العدد فلا انتهى.

صفحة رقم 240

وقد صرح الخفاجي أن ذلك كتقابل الجمع بالجمع، وجوز الزجاج كون سِنِينَ مجرورا على أنه نعت مِائَةٍ وهو راجع في المعنى إلى جملة العدد كما في قول عنترة:

فيها اثنتان وأربعون حلوبة سودا كخافية الغراب الأسحم
حيث جعل سودا نعتا لحلوبة وهي في المعنى نعت لجملة العدد، وقال أبو علي: لا يمتنع أن يكون الشاعر اعتبر حلوبة جمعا وجعل سودا وصفا لها وإذا كان المراد به الجمع فلا يمتنع أن يقع تفسيرا لهذا الضرب من العدد من حيث كان على لفظ الآحاد كما يقال عشرون نفرا وثلاثون قبيلا. وقرأ حمزة والكسائي وطلحة ويحيى والأعمش والحسن وابن أبي ليلى وخلف وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي «ثلاثمائة سنين» بإضافة مائة إلى سنين وما نقل عن الزجاج يرد هنا أيضا ويرد بما رد به هناك، ولا وجه لتخصيص الإيراد بنصب سنين على التمييز فإن منشأ اللزوم على فرض تسليمه كونه تمييزا وهو متحقق إذا جر أيضا وجر تمييز المائة بالإضافة أحد الأمرين المشهورين فيه استعمالا، وثانيهما كونه مفردا ولكون الإفراد مشهورا في الاستعمال أطلق عليه الأصل فهو أصل بحسب الاستعمال، ولا ينافي هذا قول ابن الحاجب: إن الأصل في التمييز مطلقا الجمع كما سمعت آنفا لأنه أراد أنه الأصل المرفوض قياسا نظرا إلى أن المائة جمع كثلاثة وأربعة ونحوهما كذا في الكشف، وقد يخرج عن الاستعمال المشهور فيأتي مفردا منصوبا كما في قوله:
إذا عاش الفتى مائتين عاما فقد ذهب اللذاذة والفتاء
وقد يأتي جمعا مجرورا بالإضافة كما في الآية على قراءة الكسائي وحمزة ومن معهما لكن قالوا: إن الجمع المذكور فيها قد أجري مجرى العاري عن علامة الجمع لما أن العلامة فيه ليست متمحضة للجمعية لأنها كالعوض عن لام مفرده المحذوفة حتى أن قوما لا يعربونه بالحروف بل يجرونه مجرى حين، ولم أجد فيما عندي من كتب العربية شاهدا من كلام العرب لإضافة المائة إلى جمع، وأكثر النحويين يوردون الآية على قراءة حمزة والكسائي شاهدا لذلك وكفى بكلام الله تعالى شاهدا. وقرأ أبي «ثلاثمائة سنة» بالإضافة والإفراد كما هو الاستعمال الشائع وكذا في مصحف ابن مسعود، وقرأ الضحاك «ثلاثمائة سنون» بالتنوين ورفع سنون على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي سنون، وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية اللؤلؤي عنه «تسعا» بفتح التاء وهو لغة فيه فاعلم والله تعالى أعلم لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي جميع ما غاب فيهما وخفي من أحوال أهلهما فالغيب مصدر بمعنى الغائب والخفي جعل عينه للمبالغة واللام للاختصاص العلمي أي له تعالى ذلك علما ويلزم منه ثبوت علمه سبحانه بسائر المخلوقات لأن من علم الخفي علم غيره بالطريق الأولى.
أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ صيغتا تعجب والهاء ضميره تعالى، والكلام مندرج تحت القول فليس التعجب منه سبحانه ليقال ليس المراد منه حقيقته لاستحالته عليه تعالى بل المراد أن ذلك أمر عظيم من شأنه أن يتعجب منه كما قيل ولا يمتنع صدور التعجب من بعض صفاته سبحانه وأفعاله عز وجل حقيقة من غيره تعالى.
وفي الحديث ما أحلمك عمن عصاك وأقربك ممن دعاك وأعطفك على من سألك،
ولهم في هذه المسألة كلام طويل فليرجع إليه من أراده، ولابن هشام رسالة في ذلك، وأيّا ما كان ففيه إشارة إلى أن شأن بصره تعالى وسمعه عز وجل وهما صفتان غير راجعتين إلى صفة العلم خارج عما عليه بصر المبصرين وسمع السامعين فإن اللطيف والكثيف والصغير والكبير والجلي والخفي والسر والعلن على حد سواء في عدم الاحتجاب عن بصره وسمعه تبارك وتعالى بل من الناس من قال: إن المعدوم والموجود في ذلك سواء وهو مبني على شيئية المعدوم والخلاف في ذلك

صفحة رقم 241

معلوم ولعل تقديم ما يدل على عظم شأن بصره عز وجل لما أن ما نحن بصدده من قبيل المبصرات والأصل أبصر وأسمع والهمزة للصيرورة لا للتعدية أي صار ذا بصر وصار ذا سمع ولا يقتضي ذلك عدم تحققهما له تعالى تعالى عن ذلك علوا كبيرا، وفيهما ضمير مستتر عائد عليه سبحانه ثم حولا إلى صيغة الأمر وبرز الضمير الفاعل لعدم لياقة صيغة الأمر لتحمل ضمير الغائب وجر بالباء الزائدة فكان له محلان الجر لمكان الباء والرفع لمكان كونه فاعلا، ولكونه صار فضلة صورة أعطي حكمها فصح حذفه من الجملة الثانية مع كونه فاعلا والفاعل لا يجوز حذفه عندهم، ولا تكاد تحذف هذه الباء في هذا الموضع إلا إذا كان المتعجب منه أن وصلتها نحو أحسن أن تقول، وهذا الفعل لكونه ماضيا معنى قيل إنه مبني على فتح مقدر منع من ظهوره مجيئه على صورة الأمر وهذا مذهب س في هذا التركيب، قال الرضي: وضعف ذلك بأن الأمر بمعنى الماضي مما لم يعهد بل جاء الماضي بمعنى الأمر كما
في حديث اتقى الله امرؤ فعل خيرا يثب عليه
، وبأن صار ذا كذا قليل ولو كان ما ذكر منه لجاز ألحم بزيد وأشحم بزيد، وبان زيادة الباء في الفاعل قليل والمطرد زيادتها في المفعول.
وتعقب بأن كون الأمر بمعنى الماضي مما لم يعهد غير مسلم ألا ترى أن كفى به بمعنى اكتف به عند الزجاج وقصد بهذا النقل الدلالة على أنه قصد به معنى إنشائي وهو التعجب، ولم يقصد ذلك من الماضي لأن الإنشاء أنسب بصيغة الأمر منه لأنه خبر في الأكثر، وبأن كثرة أفعل بمعنى صار ذا كذا لا تخفى على المتتبع، وجواز ألحم بزيد على معنى التعجب لازم ولا محذور فيه وعلى معنى آخر غير لازم، نعم ما ذكر من قلة زيادة الباء في الفاعل مما لا كلام فيه، والإنصاف أن مذهب س في هذه المسألة لا يخلو عن تعسف. ومذهب الأخفش وعزاه الرضي إلى الفراء أن أفعل في نحو هذا التركيب أمر لفظا ومعنى فإذا قلت أحسن بزيد فقد أمرت كل واحد بأن يجعل زيدا حسنا ومعنى جعله كذلك وصفه به فكأنك قلت صفه بالحسن كيف شئت فإن فيه منه كل ما يمكن أن يكون في شخص كما قال الشاعر:

لقد وجدت مكان القول ذا سعة فإن وجدت لسانا قائلا فقل
وهذا المعنى مناسب للتعجب بخلاف تقدير س، وأيضا همزة الجعل أكثر من همزة صار ذا كذا وإن لم يكن شيء منهما على ما قال الرضي قياسا مطردا، واعتبر الفاعل ضمير المأمور وهو كل أحد لأن المراد أنه لظهور الأمر يؤمر كل أحد لا على التعيين بوصفه بما ذكر، ولم يتصرف في أفعل على هذا المذهب فيسند إلى مثنى أو مجموع أو مؤنث لما ذكروا من علة كون فعل للتعجب غير متصرف وهي مشابهته الحروف في الإنشاء وكون كل لفظ من ألفاظه صار علما لمعنى من المعاني، وإن كان هناك جملة فالقياس أن لا يتصرف فيه احتياطا لتحصيل الفهم كأسماء الأعلام فلذا لم يتصرف في نعم وبئس في الأمثال، وسهل ذلك هنا انمحاء معنى الأمر فيه كما انمحى معنى الجعل وصار لمحض إنشاء التعجب ولم يبق فيه معنى الخطاب، والباء زائدة في المفعول، وأجاز الزجاج أن تكون الهمزة للصيرورة فتكون الباء للتعدية أي صيره ذا حسن، ثم إنه اعتذر لبقاء أحسن في الأحوال على صورة واحدة لكون الخطاب لمصدر الفعل أي يا حسن أحسن بزيد وفيه تكلف وسماجة. وأيضا نحن نقول أحسن بزيد يا عمرو ولا يخاطب شيئان في حالة إلا أن يقول: معنى خطاب الحسن قد انمحى، وثمرة الخلاف بين س وغيره تظهر فيما إذا اضطر إلى حذف الباء فعلى مذهب س يلزم رفع مجروره وعلى غيره يلزم نصبه، هذا وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون معنى الآية: أبصر بدين الله تعالى وأسمع به أي بصر بهدى الله تعالى وسمع به فترجع الهاء إما على الهدى وإما على الاسم الجليل ونقل ذلك عن ابن الأنباري وليس بشيء. وقرأ عيسى «أبصر به وأسمع» بصيغة الماضي فيهما وخرج

صفحة رقم 242

ذلك أبو حيان على أن المراد الإخبار لا التعجب، والضمير المجرور لله تعالى أي أبصر عباده بمعرفته سبحانه وأسمعهم، وجوز أن يكون أَبْصِرْ أفعل تفضيل وكذا أَسْمِعْ وهو منصوب على الحالية من ضمير له وضمير بِهِ عائد على الغيب وليس المراد حقيقة التفضيل بل عظم شأن بصره تعالى وسمعه عز وجل، ولعل هذا أقرب مما ذكره أبو حيان، وحاصل المعنى عليه أنه جل شأنه يعلم غيب السموات والأرض بصيرا به وسميعا على أتم وجه وأعظمه ما لَهُمْ أي لأهل السموات والأرض المدلول عليه بذكرهما مِنْ دُونِهِ تعالى مِنْ وَلِيٍّ من يتولى أمورهم وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ في قضائه تعالى أَحَداً كائنا من كان ولا يجعل له فيه مدخلا، وقيل يحتمل أن يعود الضمير لأصحاب الكهف وإضافة حكم للعهد على معنى ما لهم من يتولى أمرهم ويحفظهم غيره سبحانه ولا يشرك في حكمه الذي ظهر فيهم أحدا من الخلق.
وجوز ابن عطية أن يعود على معاصري رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الكفار المشاقين له عليه الصلاة والسلام وجعل الآية اعتراضا بتهديد، وقيل: يحتمل أن يعود على معنى مؤمني أهل السموات والأرض. والمراد أنهم لن يتخذوا من دونه تعالى وليا، وقيل: يعود على المختلفين في مدة لبث أصحاب الكهف أي لا يتولى أمرهم غير الله تعالى فهم لا يقدرون بغير إقداره سبحانه فكيف يعلمون بغير إعلامه عز وجل والكل كما ترى، ثم لا يخفى عليك أن ما في النظم الكريم أبلغ في نفي الشريك من أن يقال من ولي ولا شريك.
وقرأ مجاهد «ولا يشرك» بالياء آخر الحروف والجزم، قال يعقوب: لا أعرف وجه ذلك، ووجه بعضهم بأنه سكن بنية الوقف. وقرأ ابن عامر والحسن وأبو رجاء وقتادة والجحدري وأبو حيوة وزيد وحميد بن الوزير عن يعقوب والجعفي واللؤلؤي عن أبي بكر «ولا تشرك» بالتاء ثالث الحروف والجزم على أنه نهي لكل أحد عن الشرك لا نهي له صلّى الله عليه وسلّم ولو جعل له عليه الصلاة والسلام لجعل تعريضا بغيرة كقوله: إياك أعني واسمعي يا جارة. فيكون مآله إلى ذلك، وجوز أن يكون الخطاب له صلّى الله عليه وسلّم ويجعل معطوفا على لا تَقُولَنَّ والمعنى لا تسأل أحدا عما لا تعرفه من قصة أصحاب الكهف ولبثهم واقتصر على ما يأتيك في ذلك من الوحي أو لا تسأل أحدا عما أخبرك الله تعالى به من نبأ مدة لبثهم واقتصر على بيانه سبحانه ولا يخفى ما فيه من كثرة مخالفة الظاهر وإن كان أشد مناسبة لقوله تعالى:
وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ ووجه الربط على القراءة المشهورة حسبما تقدم من تفسيرها أنه سبحانه لما ذكر قصة أصحاب الكهف وكانت من المغيبات بالإضافة إليه صلّى الله عليه وسلّم ودل اشتمال القرآن عليها على أنه وحي معجز من حيثية الاشتمال وإن كانت جهة إعجازه غير منحصرة في ذلك أمره جل شأنه بالمواظبة على درسه بقوله سبحانه وَاتْلُ إلخ وهو أمر من التلاوة بمعنى القراءة أي لازم تلاوة ذلك على أصحابك أو مطلقا ولا تكترث بقول من يقول لك ائت بقرآن غير هذا أو بدله، وجوز أن يكون اتْلُ أمرا من التلو بمعنى الاتباع أي اتبع ما أوحي إليك والزم العمل به، وقيل وجه الربط أنه سبحانه لما نهاه عن المراء المتعمق فيه وعن الاستفتاء أمره سبحانه بأن يتلو ما أوحي إليه من أمرهم فكأنه قيل اقرأ ما أوحي إليك من أمرهم واستغن به ولا تتعرض لأكثر من ذلك أو اتبع ذلك وخذ به ولا تتعمق في جدالهم ولا تستفت أحدا منهم فالكلام متعلق بما تقدم من النواهي، والمراد بما أوحي إلخ هو الآيات المتضمنة شرح قصة أصحاب الكهف، وقيل: متعلق بقوله تعالى: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا أي قل لهم ذلك واتل عليهم أخباره عن مدة لبثهم فالمراد بما أوحي إلخ ما تضمن هذا الإخبار، وهذا دون ما قبله بكثير بل لا ينبغي أن يلتفت إليه، والمعول عليه أن المراد بما أوحي ما هو أعم مما تضمن القصة وغيره من كتابه تعالى.
لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ لا يقدر أحد على تبديلها وتغييرها غيره وأما هو سبحانه فقدرته شاملة لكل شيء يمحو ما

صفحة رقم 243

يشاء ويثبت، ويعلم مما ذكر اندفاع ما قيل: إن التبديل واقع لقوله تعالى: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً [النحل: ١٠١]، والظاهر عموم الكلمات الأخبار وغيرها، ومن هنا قال الطبرسي: المعنى لا مغير لما أخبر به تعالى ولا لما أمر والكلام على حذف مضاف أي لا مبدل لحكم كلماته انتهى، لكن أنت تعلم أن الخبر لا يقبل التبديل أي النسخ فلا تتعلق به الإرادة حتى تتعلق به القدرة لئلا يلزم الكذب المستحيل عليه عز شأنه. ومنهم من خص الكلمات بالإخبار لأن المقام للإخبار عن قصة أصحاب الكهف وعليه لا يحتاج إلى تخصيص النكرة المنفية لما سمعت من حال الخبر، وقول الإمام: إن النسخ في الحقيقة ليس بتبديل لأن المنسوخ ثابت في وقته إلى وقت طريان الناسخ فالناسخ كالمغاير فكيف يكون تبديلا توهم لا يقتدى به.
ومن الناس من خص الكلمات بمواعيده تعالى لعباده الموحدين فكأنه قيل اتل ما أوحي إليك ولا تبال بالكفرة المعاندين فإنه قد تضمن من وعد الموحدين ما تضمن ولا مبدل لذلك الوعد، ومآله اتل ولا تبال فإن الله تعالى ناصرك وناصر أصحابك وهو كما ترى وإن كان أشد مناسبة لما بعد، والضمير على ما يظهر من مجمع البيان للكتاب، ويجوز أن يكون للرب تعالى كما هو الظاهر في الضمير في قوله سبحانه:
وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً أي ملجأ تعدل إليه عند إلمام ملمة، وقال الإمام في البيان والإرشاد: وأصله من الالتحاد بمعنى الميل، وجوز الراغب فيه أن يكون اسم مكان وأن يكون مصدرا، وفسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هنا بالمدخل في الأرض وأنشد عليه حين سأله نافع بن الأرزق قول خصيب الضمري:

يا لهف نفسي ولهف غير مجدية عني وما عن قضاء الله ملتحد
ولا داعي فيه لتفسيره بالمدخل في الأرض ليلتجأ إليه، ثم إذا كان المعنى بالخطاب سيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم فالكلام مبني على الفرض والتقدير إذ هو عليه الصلاة والسلام بل خلص أمته لا تحدثهم أنفسهم بطلب ملجأ غيره تعالى، نسأله سبحانه أن يجعلنا ممن التجأ إليه وعول في جميع أموره عليه فكفاه جل وعلا ما أهمه وكشف عنه غياهب كل غمه.
هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ قد تقدم أن مقام العبودية لا يشابهه مقام ولا يدانيه ونبينا صلّى الله عليه وسلّم في أعلى مراقيه، وقد ذكر أن العبد الحقيقي من كان حرا عن الكونين وليس ذاك إلا سيدهما صلّى الله عليه وسلّم وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً قد تقدم في التفسير أن الضمير المجرور عائد على الْكِتابَ وجعله بعض أهل التأويل عائدا على عَبْدِهِ أي لم يجعل له عليه الصلاة والسلام انحرافا عن جنابه وميلا إلى ما سواه وجعله مستقيما في عبوديته سبحانه، وجعل الأمر في قوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ أمر تكوين لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وهو بأس الحجاب والبعد عن الجناب وذلك أشد العذاب كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين: ١٥] وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ [الإسراء: ٩] وهي الأعمال التي أريد بها وجه الله تعالى لا غير، وقيل العمل الصالح التبري من الوجود بوجود الحق أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً وهي رؤية المولى ومشاهدة الحق بلا حجاب فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً فيه إشارة إلى مزيد شفقته صلّى الله عليه وسلّم واهتمامه وحرصه على موافقة المخالفين وانتظامهم في سلك الموافقين إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ من الأنهار والأشجار والجبال والمعادن والحيوانات زِينَةً لَها أي لأهلها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فيجعل ذلك مرآة لمشاهدة أنوار جلاله وجماله سبحانه عز وجل، وقال ابن عطاء: حسن العمل الإعراض عن الكل، وقال الجنيد: حسن

صفحة رقم 244

العمل اتخاذ ذلك عبرة وعدم الاشتغال به. وقال بعضهم: أهل المعرفة بالله تعالى والمحبة له هم زينة الأرض وحسن العمل النظر إليهم بالحرمة.
وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً كناية عن ظهور فناء ذلك بظهور الوجود الحقاني والقيامة الكبرى أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً قال الجنيد قدس الله سره: أي لا تتعجب منهم فشأنك أعجب من شأنهم حيث أسري بك ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وبلغ بك سدرة المنتهى وكنت في القرب كقاب قوسين أو أدنى ثم ردك قبل انقضاء الليل إلى مضجعك.
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ قيل هم فتيان المعرفة الذين جبلوا على سجية الفتوة، وفتوتهم إعراضهم عن غير الله تعالى فأووا إلى الكهف الخلوة به سبحانه فَقالُوا حين استقاموا في منازل الأنس ومشاهد القدس وهيجهم ما ذاقوا إلى طلب الزيادة والترقي في مراقي السعادة رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً معرفة كاملة وتوحيدا عزيزا وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً بالوصول إليك والفناء فيك فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً كناية عن جعلهم مستغرقين فيه سبحانه فانين به تعالى عما سواه ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً إشارة إلى ردهم إلى الصحو بعد السكر والبقاء بعد الفناء، ويقال أيضا: هو إشارة إلى الجلوة بعد الخلوة وهما قولان متقاربان نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ الإيمان العلمي وَزِدْناهُمْ هُدىً بأن أحضرناهم وكاشفناهم وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ سكناها عن التزلزل بما أسكنا فيها من اليقين فلم يسنح فيها هواجس التخمين ولا وساوس الشياطين، ويقال أيضا: رفعناها من حضيض التلوين إلى أوج التمكين.
إِذْ قامُوا بنا لنا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مالك أمرهما ومدبرهما فلا قيام لهما إلا بوجوده المفاض من بحار جوده لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً إذ ما من شيء إلا وهو محتاج إليه سبحانه فلا يصلح لأن يدعى لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً كلاما بعيدا عن الحق مفرطا في الظلم، واستدل بعض المشايخ بهذه الآية على أنه ينبغي للسالكين إذا أرادوا الذكر وتحلقوا له أن يقوموا فيذكروا قائمين، قال ابن الغرس: وهو استدلال ضعيف لا يقوم به المدعي على ساق.
وأنت تعلم أنه لا بأس بالقيام والذكر لكن على ما يفعله المتشيخون اليوم فإن ذلك لم يكن في أمة من الأمم ولم يجىء في شريعة نبينا صلّى الله عليه وسلّم بل لعمري أن تلك الحلق حبائل الشيطان وذلك القيام قعود في بحبوحة الخذلان وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ أي وإذ خرجتم عن صحبة أهل الهوى وأعرضتم عن السوي فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ فاخلوا بمحبوبكم يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ مطوي معرفته وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً ما تنتفعون به من أنوار تجلياته ولطائف مشاهداته، قال بعض العارفين: العزلة عن غير الله تعالى توجب الوصلة بالله عز وجل بل لا تحصل الوصلة إلا بعد العزلة ألا ترى كيف كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتجنب بغار حراء حتى جاءه الوحي وهو فيه وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ لئلا يكثر الضوء في الكهف فيقل معه الحضور، فقد ذكروا أن الظلمة تعين على الفكر وجمع الحواس، ومن هنا ترى أهل الخلوة يختارون لخلوتهم مكانا قليل الضياء ومع هذا يغمضون أعينهم عند المراقبة.
وفي أسرار القرآن أن في الآية إشارة إلى أن الله تعالى حفظهم عن الاحتراق في السبحات فجعل شمس الكبرياء تزاور عن كهف قربهم ذات يمين الأزل وذات شمال الأبد وهم في فجوة وصال مشاهدة الجمال والجلال محروسون

صفحة رقم 245

محفوظون عن قهر سلطان صرف الذات الأزلية التي تتلاشى الأكوان في أول بوادي إشراقها.
وفي الحديث «حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره»
وقيل: في تأويله إن شمس الروح أو المعرفة والولاية إذا طلعت من أفق الهداية وأشرقت في سماء الواردات وهي حالة السكر وغلبة الوجد لا تنصرف في خلوتهم إلى أمر يتعلق بالعقبى وهو جانب اليمين وإذا غربت أي سكنت تلك الغلبة وظهرت حالة الصحو لا تلتفت همم أرواحهم إلى أمر يتعلق بالدنيا وهو جانب الشمال بل تنحرف عن الجهتين إلى المولى وهم في فراغ عما يشغلهم عن الله تعالى.
وذكر أن فيه إشارة إلى أن نور ولايتهم يغلب نور الشمس ويرده عن الكهف كما يغلب نور المؤمن نار جهنم وليس هذا بشيء وإن روي عن ابن عطاء مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ الذي رفعت عنه الحجب ففاز بما فاز وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً لأنه لا يخذله سبحانه إلا لسوء استعداده ومتى فقد الاستعداد تعذر الإرشاد وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ إشارة إلى أنهم مع الخلق بأبدانهم ومع الحق بأرواحهم، وقال ابن عطاء: هم مقيمون في الحضرة كالنومى لا علم لهم بزمان ولا مكان أحياء موتى صرعى مفيقون نومى منتبهون وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ أي ننقلهم من عالم إلى عالم وقال ابن عطاء: نقلبهم في حالتي القبض والبسط والجمع والفرق، وقال آخر: نقلبهم بين الفناء والبقاء والكشف والاحتجاب والتجلي والاستتار، وقيل في الآية إشارة إلى أنهم في التسليم كالميت في يد الغاسل وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ قال أبو بكر الوراق: مجالسة الصالحين ومجاورتهم غنيمة وإن اختلف الجنس ألا ترى كيف ذكر الله سبحانه كلب أصحاب الكهف معهم لمجاورته إياهم.
وقيل أشير بالآية إلى أن كلب نفوسهم نائمة معطلة عن الأعمال، وقيل يمكن أن يراد أن نفوسهم صارت بحيث تطيعهم جميع الأحوال وتحرسهم عما يضرهم لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ أي لو اطلعت من حيث أنت على ما ألبستهم من لباس قهر ربوبيتي وسطوات عظمتي لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ أي من رؤية ما عليهم من هيبتي وعظمتي فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً كما فر موسى كليمي من رؤية عصاه حين قلبتها حية وألبستها ثوبا من عظمتي وهيبتي، وهذا الفرار حقيقة منا لأنه من عظمتنا الظاهرة في هاتيك المرآة كذا قرره غير واحد وروي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه.
وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ رددناهم إلى الصحو بعد السكر لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ لأنهم كانوا مستغرقين لا يعرفون اليوم من الأمس ولا يميزون القمر من الشمس، وقيل: إنهم استقلوا أيام الوصال وهكذا شأن عشاق الجمال فسنة الوصل في سنتهم سنة وسنة الهجر سنة، ويقال: مقام المحب مع الحبيب وإن طال قصير وزمان الاجتماع وإن كثر يسير إذ لا يقضى من الحبيب وطر وإن فني الدهر ومر ولا يكاد يعد المحب الليال إذا كان قرير العين بالوصال كما قيل:

أعد الليالي ليلة بعد ليلة وقد عشت دهرا لا أعد اللياليا
ثم إنهم لما رجعوا من السكر إلى الصحو ومن الروحانية إلى البشرية طلبوا ما يعيش به الإنسان واستعملوا حقائق الطريقة وذلك قوله تعالى: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ والإشارة فيه أولا إلى أن اللائق بطالبي الله تعالى ترك السؤال، ويرد به على المتشيخين الذين دينهم وديدنهم السؤال وليته كان من الحلال. وثانيا إلى أن اللائق بهم أن لا يختص أحدهم بشيء دون صاحبه ألا ترى كيف قال قائلهم بِوَرِقِكُمْ هذِهِ فأضاف الورق إليهم جملة وقد كان فيما يروي فيهم الراعي ولعله لم يكن له ورق. وثالثا

صفحة رقم 246

إلى أن اللائق بهم استعمال الورع ألا ترى كيف طلب القائل الأزكى وهو على ما في بعض الروايات الأجل، ولذلك قال ذو النون: العارف من لا يطفىء نور معرفته نور ورعه، والعجب أن رجلا من المتشيخين كان يأخذ من بعض الظلمة دنانير مقطوعا بحرمتها فقيل له في ذلك فقال: نعم هي جمرات ولكن تطفئ حرارة جوع السالكين، ومع هذا وأمثاله له اليوم مرقد يطوف به من يزور وتوقد عليه السرج وتنذر له النذور، ورابعا إلى أنه ينبغي لهم التواصي بحسن الخلق وجميل الرفق ألا ترى كيف قال قائلهم وَلْيَتَلَطَّفْ بناء على أنه أمر بحسن المعاملة مع من يشتري منه.
وقال بعض أهل التأويل: إنه أمر باختيار اللطيف من الطعام لأنهم لم يأكلوا مدة فالكثيف يضر بأجسامهم، وقيل:
أرادوا اللطيف لأن أرواحهم من عالم القدس ولا يناسبها إلا اللطيف، وعن يوسف بن الحسين أنه كان يقول: إذا اشتريت لأهل المعرفة شيئا من الطعام فليكن لطيفا وإذا اشتريت للزهاد والعباد فاشتر كل ما تجد لأنهم بعد في تذليل أنفسهم، وقال بعضهم: طعام أهل المجاهدات وأصحاب الرياضات ولباسهم الخشن من المأكولات والملبوسات والذي بلغ المعرفة فلا يوافقه إلا كل لطيف، ويروى عن الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس الله سره أنه كان في آخر أمره يلبس ناعما ويأكل لطيفا. وعندي أن التزام ذلك يخل بالكمال، وما يروى عن الشيخ قدس سره وأمثاله إن صح يحتمل أن يكون أمرا اتفاقيا، وعلى فرض أنه كان عن التزام يحتمل أنه كان لغرض شرعي وإلا فهو خلاف المأثور عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وعن كبار أصحابه رضي الله تعالى عنهم، فقد بين في الكتب الصحيحة حالهم في المأكل والملبس وليس فيها ما يؤيد كلام يوسف بن الحسين وأضرابه والله تعالى أعلم وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً أي من الأغيار المحجوبين عن مطالعة الأنوار والوقوف على الأسرار إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ بأحجار الإنكار أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ التي اجتمعوا عليها ولم ينزل الله تعالى بها من سلطان وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً لأن الكفر حينئذ يكون كالكفر الإبليسي وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إرشاد إلى محض التجريد والتفريد، ويحكى عن بعض كبار الصوفية أنه أمر بعض تلامذته بفعل شيء فقال: أفعله إن شاء الله تعالى فقال له الشيخ بالفارسية ما معناه: يا مجنون فإذا من أنت، والآية تأبى هذا الكلام غاية الإباء وفيه على مذهب أهل الوحدة أيضا ما فيه، وقيل الآية نهي عن أن يحبر صلّى الله عليه وسلّم عن الحق بدون إذن الحق سبحانه. ففيه إرشاد للمشايخ إلى أنه لا ينبغي لهم التكلم بالحقائق بدون الإذن ولهم أمارات للإذن يعرفونها.
وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ قيل أي إذا نسيت الكون بأسره حتى نفسك فإن الذكر لا يصفو إلا حينئذ، وقيل إذا نسيت الذكر، ومن هنا قال الجنيد قدس سره: حقيقة الذكر الفناء بالمذكور عن الذكر، وقال قدس سره في قوله تعالى: وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً إن فوق الذكر منزلة هي أقرب منزلة من الذكر وهي تجديد النعوت بذكره سبحانه لك قبل أن تذكره جل وعلا وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً زعم بعض أهل التأويل أن مجموع ذلك خمس وعشرون سنة واعتبر السنة التي في الآية شهرا وهو زعم لا داعي إليه إلا ضعف الدين ومخالفة جماعة المسلمين وإلا فأي ضرر في إبقاء ذلك على ظاهره وهو أمر ممكن أخبر به الصادق، ومما يدل على إمكان هذا اللبث أن أبا علي بن سينا ذكر في باب الزمان من الشفاء أن أرسطو ذكر أنه عرض لقوم من المتألهين حالة شبيهة بحالة أصحاب الكهف قال أبو علي: ويدل التاريخ على أنهم قبل أصحاب الكهف انتهى.
وفي الآية على ما قيل إشارة إلى أن المريد الذي يربيه الله سبحانه بلا واسطة المشايخ يصل في مدة مديدة وسنين عديدة والذي يربيه جل جلاله بواسطتهم يتم أمره في أربعينيات وقد يتم في أيام معدودات، وأنا أقول لا حجر على الله سبحانه وقد أوصل جل وعلا كثيرا من عباده بلا واسطة في سويعات لَهُ تعالى شأنه غَيْبُ السَّماواتِ

صفحة رقم 247
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية