آيات من القرآن الكريم

وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ۖ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ ۚ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا
ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ

وَجُمْلَةُ وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ، وَهِيَ مُتَفَرِّعَةٌ عَلَيْهَا، وَلَكِنَّهَا لَمْ تُعْطَفْ بِالْفَاءِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ جَعْلُ ذَلِكَ فِي الْإِخْبَارِ الْمُسْتَقِلِّ.
وَأَكَّدَ نَفْيَ اهْتِدَائِهِمْ بِحَرْفِ تَوْكِيدِ النَّفْيِ وَهُوَ (لَنْ)، وَبِلَفْظِ (أَبَدًا) الْمُؤَكِّدِ لِمَعْنَى (لَنْ)، وَبِحَرْفِ الْجَزَاءِ الْمُفِيدِ تَسَبُّبَ الْجَوَابِ عَلَى الشَّرْطِ.
وَإِنَّمَا حَصَلَ مَعْنَى الْجَزَاءِ بِاعْتِبَارِ تَفَرُّعِ جُمْلَةِ الشَّرْطِ عَلَى جُمْلَةِ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ، أَيْ ذَلِكَ مُسَبَّبٌ عَلَى فَطْرِ قُلُوبِهِمْ عَلَى عَدَمِ قبُول الْحق.
[٥٨]
[سُورَة الْكَهْف (١٨) : آيَة ٥٨]
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨)
جَرَى الْقُرْآنُ عَلَى عَادَتِهِ فِي تعقيب التَّرْهِيب بالترغيب وَالْعَكْسِ، فَلَمَّا رَمَاهُمْ بِقَوَارِعِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ عَطَفَ عَلَى ذَلِكَ التَّعْرِيضَ بِالتَّذْكِيرِ بِالْمَغْفِرَةِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فِي مَرْضَاتِهِ، ثُمَّ التَّذْكِيرَ بِأَنَّهُ يَشْمَلُ الْخَلْقَ بِرَحْمَتِهِ فِي حِينِ الْوَعِيدِ فَيُؤَخِّرُ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ إِلَى حَدٍّ مَعْلُومٍ إِمْهَالًا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنْ ضَلَالِهِمْ وَيَتَدَبَّرُونَ فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ، مُوَجِّهًا الْخِطَابَ إِلَى النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم مُفْتَتَحًا بِاسْتِحْضَارِ الْجَلَالَةِ بِعُنْوَانِ الربوبية للنبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم إِيمَاءً إِلَى أَنَّ مَضْمُونَ الْخَبَرِ تَكْرِيمٌ لَهُ، كَقَوْلِهِ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الْأَنْفَال: ٣٣].
وَالْوَجْهُ فِي نَظْمِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ الْغَفُورُ نَعْتًا لِلْمُبْتَدَأِ وَيَكُونَ ذُو الرَّحْمَةِ هُوَ الْخَبَرُ لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِلْمَقَامِ وَلِمَا بَعْدَهُ مِنْ جُمْلَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ، فَيَكُونُ ذِكْرُ الْغَفُورُ إِدْمَاجًا فِي خِلَالِ الْمَقْصُودِ. فَخَصَّ بِالذِّكْرِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى اسْمَ الْغَفُورُ تَعْرِيضًا بِالتَّرْغِيبِ فِي الِاسْتِغْفَارِ.

صفحة رقم 356

وَالْغَفُورُ: اسْمٌ يَتَضَمَّنُ مُبَالَغَةَ الغفران لِأَنَّهُ تَعَالَى وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ إِذْ يَغْفِرُ لِمَنْ لَا يُحْصَوْنَ وَيَغْفِرُ ذُنُوبًا لَا تُحْصَى إِنْ جَاءَهُ عَبده تَائِبًا مقلعا مُنْكَسِرًا، عَلَى أَنَّ إِمْهَالَهُ الْكُفَّارَ وَالْعُصَاةَ هُوَ أَيْضًا مِنْ أَثَرِ الْمَغْفِرَةِ إِذْ هُوَ مَغْفِرَةٌ مُؤَقَّتَةٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ذُو الرَّحْمَةِ فَهُوَ الْمَقْصُودُ تَمْهِيدًا لِجُمْلَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا، فَلِذَلِكَ كَانَتْ تِلْكَ الْجُمْلَةُ بَيَانًا لِجُمْلَةِ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ بِاعْتِبَارِ الْغَفُورُ الْخَبَرُ وَهُوَ الْوَصْفُ الثَّانِي.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ فِيمَا كَسَبُوهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْعِنَادِ أَحْرِيَاءُ بِتَعْجِيلِ الْعُقُوبَةِ لَكِن اللَّهَ يُمْهِلُهُمْ إِلَى أَمَدٍ مَعْلُومٍ مُقَدَّرٍ. وَفِي ذَلِكَ التَّأْجِيلِ رَحْمَةٌ بِالنَّاسِ بِتَمْكِينِ بَعْضِهِمْ مِنْ مُهْلَةِ التَّدَارُكِ وَإِعَادَةِ النَّظَرِ، وَفِيهِ اسْتِبْقَاؤُهُمْ عَلَى حَالِهِمْ زَمَنًا.
فَوَصْفُ ذُو الرَّحْمَةِ يُسَاوِي وَصْفَ (الرَّحِيمِ) لِأَن (ذُو) تَقْتَضِي رُسُوخُ النِّسْبَةِ بَيْنَ مَوْصُوفِهَا وَمَا تُضَافُ إِلَيْهِ.
وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ وَصْفِ (الرَّحِيمِ) إِلَى ذُو الرَّحْمَةِ لِلتَّنْبِيهِ على أَنه خبر لَا نَعْتَ تَنْبِيهًا بِطَرِيقَةِ تَغْيِيرِ الْأُسْلُوبِ، فَإِنَّ اسْمَ (الرَّحِيمِ) صَارَ شَبِيهًا بِالْأَسْمَاءِ الْجَامِدَةِ، لِأَنَّهُ صِيغَ بِصِيغَةِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ فَبَعُدَ عَنْ مُلَاحَظَةِ الِاشْتِقَاقِ فِيهِ وَاقْتَرَبَ مِنْ صِنْفِ الصِّفَةِ الذَّاتِيَّةِ.
وَ (بَلْ) لِلْإِضْرَابِ الْإِبْطَالِيِّ. عَنْ مَضْمُونِ جَوَابِ (لَوْ)، أَيْ لَمْ يُعَجِّلْ لَهُمُ الْعَذَابَ إِذْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لِلْعَذَابِ مُتَأَخِّرٌ، وَهَذَا تَهْدِيدٌ بِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَالْمَوْئِلُ: مَفْعِلٌ مِنْ وَأَلَ بِمَعْنَى لَجَأَ، فَهُوَ اسْمُ مَكَانٍ بِمَعْنَى الْمَلْجَأِ.
وَأَكَّدَ النَّفْيَ بِ (لَنْ) رَدًّا عَلَى إِنْكَارِهِمْ، إِذْ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُفْلِتُونَ مِنَ الْعَذَابِ حِينَ يَرَوْنَ أَنَّهُ تَأَخَّرَ مُدَّةً طَوِيلَةً، أَيْ لِأَنْ لَا مَلْجَأَ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ دُونَ وَقْتِ وَعْدِهِ أَوْ مَكَانِ وَعْدِهِ، فَهُوَ مَلْجَؤُهُمْ. وَهَذَا مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ، أَيْ هُمْ غَيْرُ مفلتين مِنْهُ.

صفحة رقم 357
تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الطاهر بن عاشور
الناشر
الدار التونسية للنشر
سنة النشر
1403
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية