آيات من القرآن الكريم

وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا
ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧ ﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀ

أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ وَيُعَذِّبَ مِنْ غَيْرِ جُرْمٍ لِأَنَّ الْخَلْقَ خَلْقُهُ إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا كَانَ لِنَفْيِ الظُّلْمِ عَنْهُ مَعْنًى لَأَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنَّهُ إِذَا فَعَلَ أَيَّ شَيْءٍ أَرَادَ لَمْ يَكُنْ ظُلْمًا مِنْهُ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ إِنَّهُ لَا يَظْلِمُ فَائِدَةٌ فَيُقَالُ لَهُ. أَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلَيْنِ فَهُوَ الْمُعَارَضَةُ بِالْعِلْمِ وَالدَّاعِي، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ هَذَا الثَّالِثِ فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ [مَرْيَمَ: ٣٥] وَلَمْ يَدُلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ اتِّخَاذَ الْوَلَدِ صَحِيحٌ عَلَيْهِ فَكَذَا هاهنا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يُحَاسَبُ النَّاسُ فِي الْقِيَامَةِ عَلَى ثَلَاثَةٍ «١» يُوسُفَ، وَأَيُّوبَ، وَسُلَيْمَانَ. فَيَدْعُو بِالْمَمْلُوكِ وَيَقُولُ لَهُ: مَا شَغَلَكَ عَنِّي فَيَقُولُ جَعَلْتَنِي عَبْدًا لِلْآدَمِيِّ فَلَمْ تُفَرِّغْنِي، فَيَدْعُو يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيَقُولُ: كَانَ هَذَا عَبْدًا مِثْلَكَ فَلَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ عَنْ عِبَادَتِي فَيُؤْمَرُ بِهِ إِلَى النَّارِ، / ثُمَّ يَدْعُو بِالْمُبْتَلِي فَإِذَا قَالَ شَغَلْتَنِي بِالْبَلَاءِ دَعَا بِأَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَقُولُ: قَدِ ابْتَلَيْتُ هَذَا بِأَشَدَّ مِنْ بَلَائِكَ فَلَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ عَنْ عِبَادَتِي فَيُؤْمَرُ بِهِ إِلَى النَّارِ، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْمَلِكِ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ الْغِنَى وَالسَّعَةِ فَيَقُولُ: مَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ فَيَقُولُ شَغَلَنِي الْمُلْكُ عَنْ ذَلِكَ فَيُدْعَى بِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَقُولُ: هَذَا عَبْدِي سُلَيْمَانُ آتَيْتُهُ أَكْثَرَ مَا آتَيْتُكَ فَلَمْ يَشْغَلْهُ ذَلِكَ عَنْ عِبَادَتِي اذْهَبْ فَلَا عُذْرَ لَكَ وَيُؤْمَرُ بِهِ إِلَى النَّارِ»،
وَعَنْ مُعَاذٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَنْ يَزُولَ قَدَمُ الْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ جسده فيم أبلاه، وعن عمره فيم أَفْنَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ كَيْفَ عَمِلَ بِهِ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى إِثْبَاتِ صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ فِي الذُّنُوبِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهِ فَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْكَبِيرَةُ مَا يَزِيدُ عِقَابُهُ عَلَى ثَوَابِ فَاعِلِهِ، وَالصَّغِيرَةُ مَا يَنْقُصُ عِقَابُهُ عَنْ ثَوَابِ فَاعِلِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدَّ إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ الْفِعْلَ يُوجِبُ ثَوَابًا وَعِقَابًا وَذَلِكَ عِنْدَنَا بَاطِلٌ لِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ ذَكَرْنَاهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فِي إِبْطَالِ الْقَوْلِ بِالْإِحْبَاطِ وَالتَّكْفِيرِ بَلِ الْحَقُّ عِنْدَنَا أَنَّ الطَّاعَاتِ مَحْصُورَةٌ فِي نَوْعَيْنِ:
التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ فَكُلُّ مَا كَانَ أَقْوَى فِي كَوْنِهِ جَهْلًا بِاللَّهِ كَانَ أَعْظَمَ فِي كَوْنِهِ كَبِيرَةً، وَكُلُّ مَا كَانَ أَقْوَى فِي كَوْنِهِ إِضْرَارًا بِالْغَيْرِ كَانَ أَكْثَرَ فِي كَوْنِهِ ذَنْبًا أَوْ مَعْصِيَةً فهذا هو الضبط.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٥٠ الى ٥٣]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ] وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ الرَّدُّ عَلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ افْتَخَرُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَعْوَانِهِمْ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَهَذِهِ الْآيَةُ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهَا عَيْنُ هَذَا الْمَعْنَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ إِبْلِيسَ إِنَّمَا تَكَبَّرَ عَلَى آدَمَ لِأَنَّهُ افْتَخَرَ بِأَصْلِهِ وَنَسَبِهِ وَقَالَ: خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ فَأَنَا أَشْرَفُ مِنْهُ فِي الْأَصْلِ وَالنَّسَبِ فَكَيْفَ أَسْجُدُ وَكَيْفَ أَتَوَاضَعُ لَهُ! وَهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ عَامَلُوا فُقَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ بِعَيْنِ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ فَقَالُوا: كَيْفَ نَجْلِسُ مَعَ

(١) أي ثلاثة صنوف ومثل.

صفحة رقم 471

هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ مَعَ أَنَّا مِنْ أَنْسَابٍ شَرِيفَةٍ وَهُمْ مِنْ أَنْسَابٍ نَازِلَةٍ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ وَهُمْ فقراء، فالله تعالى ذكر هذه القصة هاهنا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ هِيَ بِعَيْنِهَا طَرِيقَةُ إِبْلِيسَ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَذَّرَ عَنْهَا وَعَنِ الِاقْتِدَاءِ بِهَا فِي قَوْلِهِ:
أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ فَهَذَا هُوَ وَجْهُ النَّظْمِ وَهُوَ حَسَنٌ مُعْتَبَرٌ، وَذَكَرَ الْقَاضِي وَجْهًا آخَرَ فَقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مِنْ قَبْلُ أَمْرَ الْقِيَامَةِ وَمَا يَجْرِي عِنْدَ الْحَشْرِ وَوَضْعَ الْكِتَابِ وَكَأَنَّ الله تعالى يريد أن يذكر هاهنا أَنَّهُ يُنَادِي الْمُشْرِكِينَ وَيَقُولُ لَهُمْ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِي زَعَمْتُمْ وَكَانَ قَدْ عَلِمَ تَعَالَى أَنَّ إِبْلِيسَ هُوَ الَّذِي يَحْمِلُ الْإِنْسَانَ عَلَى إِثْبَاتِ هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءِ، لَا جَرَمَ قَدَّمَ قِصَّتَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِتْمَامًا لِذَلِكَ الْغَرَضِ ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي: وَهَذِهِ الْقِصَّةُ وَإِنْ كَانَ تَعَالَى قَدْ كَرَّرَهَا فِي سُوَرٍ كَثِيرَةٍ إِلَّا أَنَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْهَا فَائِدَةً مُجَدَّدَةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ وَلِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَكَوْنُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ مِنَ الْجِنِّ وَلَهُمْ فِيهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّ قَبِيلَةً مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُسَمَّوْنَ بِذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصَّافَّاتِ: ١٥٨] وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الْأَنْعَامِ: ١٠٠] وَالثَّانِي: أَنَّ الْجِنَّ سُمُّوا جِنًّا لِلِاسْتِتَارِ وَالْمَلَائِكَةُ كَذَلِكَ فَهُمْ دَاخِلُونَ فِي الْجِنِّ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ خَازِنَ الْجَنَّةِ وَنُسِبَ إِلَى الْجَنَّةِ كَقَوْلِهِمْ كُوفِيٌّ وَبَصْرِيٌّ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ كَانَ مَنِ الْجَنَّانِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْجَنَّاتِ حَيٌّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَصُوغُونَ حِلْيَةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ مُذْ خُلِقُوا رَوَاهُ الْقَاضِي فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ هِشَامٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ هُمُ الشَّيَاطِينُ وَالَّذِينَ خُلِقُوا مِنْ نَارٍ وَهُوَ أَبُوهُمْ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَوْلُ مَنْ قَالَ كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَمُسِخَ وَغُيِّرَ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ أَحْكَمْنَاهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَأَصْلُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ لَهُ ذُرِّيَّةً وَنَسْلًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَالْمَلَائِكَةُ لَيْسَ لَهُمْ ذُرِّيَّةٌ وَلَا نَسْلٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَكَيْفَ تَنَاوَلَهُ ذَلِكَ الْأَمْرُ، وَأَيْضًا/ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَكَيْفَ يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهُمْ، وَقَدْ أَجَبْنَا عَنْ كُلِّ ذَلِكَ بِالِاسْتِقْصَاءِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ وَفِي ظَاهِرِهِ إِشْكَالٌ لِأَنَّ الْفَاسِقَ لَا يَفْسُقُ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا. الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَيْ خَرَجَ عَنْ طَاعَتِهِ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ مِنْ قِشْرِهَا أَيْ خَرَجَتْ، وَسُمِّيَتِ الْفَأْرَةُ فُوَيْسِقَةً لِخُرُوجِهَا مِنْ جُحْرِهَا مِنَ الْبَابَيْنِ وَقَالَ رُؤْبَةُ:

يَهْوِينَ فِي نَجْدٍ وَغَوْرٍ غَائِرًا فَوَاسِقًا عَنْ قَصْدِهَا جَوَائِرَا
الثَّانِي: حَكَى الزَّجَّاجُ عَنِ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا أُمِرَ فَعَصَى كَانَ سَبَبُ فِسْقِهِ هُوَ ذَلِكَ الْأَمْرُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ الْأَمْرُ السَّابِقُ لَمَا حَصَلَ الْفِسْقُ، فَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى حَسُنَ أَنْ يُقَالَ: فَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ.
الثَّالِثُ: قَالَ قُطْرُبٌ: فَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ رَدَّهُ كَقَوْلِهِ وَاسْأَلِ القرية واسأل العير قَالَ تَعَالَى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ إِبْلِيسَ تَكَبَّرَ عَلَى آدَمَ وَتَرَفَّعَ عَلَيْهِ لَمَّا ادَّعَى أَنَّ أَصْلَهُ أشرف من أصل آدم فوجب أن يكون هُوَ أَشْرَفَ مِنْ آدَمَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِأُولَئِكَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ افْتَخَرُوا عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِشَرَفِ نَسَبِهِمْ وَعُلُوِّ مَنْصِبِهِمْ، إِنَّكُمْ فِي هَذَا الْقَوْلِ اقْتَدَيْتُمْ بِإِبْلِيسَ فِي تَكَبُّرِهِ عَلَى آدَمَ فَلَمَّا عَلِمْتُمْ أَنَّ إِبْلِيسَ عَدُوٌّ لَكُمْ فَكَيْفَ تَقْتَدُونَ بِهِ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الْمَذْمُومَةِ. هَذَا هُوَ تَقْرِيرُ الْكَلَامِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا الكلام لا

صفحة رقم 472

يَتِمُّ إِلَّا بِإِثْبَاتِ مُقَدِّمَاتٍ. فَأَوَّلُهَا: إِثْبَاتُ إِبْلِيسَ. وَثَانِيهَا: إِثْبَاتُ ذُرِّيَّةِ إِبْلِيسَ. وَثَالِثُهَا: إِثْبَاتُ عَدَاوَةٍ بَيْنَ إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتِهِ وَبَيْنَ أَوْلَادِ آدَمَ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي قَالَهُ أُولَئِكَ الْكُفَّارُ اقْتَدَوْا فِيهِ بِإِبْلِيسَ. وَكُلُّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ الْأَرْبَعَةِ لَا سَبِيلَ إِلَى إِثْبَاتِهَا إِلَّا بِقَوْلِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَالْجَاهِلُ بِصِدْقِ النَّبِيِّ جَاهِلٌ بِهَا. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ الْمُخَاطَبُونَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ هَلْ عَرَفُوا كَوْنَ مُحَمَّدٍ نَبِيًّا صَادِقًا أَوْ مَا عَرَفُوا ذَلِكَ؟ فَإِنْ عَرَفُوا كَوْنَهُ نَبِيًّا صَادِقًا قَبِلُوا قَوْلَهُ فِي كُلِّ مَا يَقُولُهُ فَكُلَّمَا نَهَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلٍ انْتَهَوْا عَنْهُ، وَحِينَئِذٍ فَلَا حَاجَةَ إِلَى قِصَّةِ إِبْلِيسَ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا كَوْنَهُ نَبِيًّا جَهِلُوا كُلَّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ الْأَرْبَعَةِ وَلَمْ يَعْرِفُوا صِحَّتَهَا فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ فِي إِيرَادِهَا عَلَيْهِمْ فَائِدَةٌ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا قَدْ سَمِعُوا قِصَّةَ إِبْلِيسَ وَآدَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَاعْتَقَدُوا صِحَّتَهَا وَعَلِمُوا أَنَّ إِبْلِيسَ إِنَّمَا تَكَبَّرَ عَلَى آدَمَ بِسَبَبِ نَسَبِهِ، فَإِذَا أَوْرَدْنَا عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْقِصَّةَ كَانَ ذَلِكَ زَاجِرًا لَهُمْ عَمَّا أَظْهَرُوهُ مَعَ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ التَّكَبُّرِ وَالتَّرَفُّعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ الْكُفْرَ وَلَا يَخْلُقُهُ فِي الْعَبْدِ، إِذْ لَوْ أَرَادَهُ وَخَلَقَهُ فِيهِ ثُمَّ عَاقَبَهُ عَلَيْهِ لَكَانَ ضَرَرُ إِبْلِيسَ أَقَلَّ مِنْ ضَرَرِ الله عليهم! فَكَيْفَ يُوَبِّخُهُمْ بِقَوْلِهِ: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا!؟ تَعَالَى اللَّهُ عَنْهُ عُلُوًّا كَبِيرًا. بَلْ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ لَا ضَرَرَ الْبَتَّةَ مِنْ إِبْلِيسَ بَلِ الضَّرَرُ كُلُّهُ مِنَ اللَّهِ.
وَالْجَوَابُ: الْمُعَارَضَةُ بِالدَّاعِي وَالْعِلْمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا قَالَ لِلْكُفَّارِ الْمُفْتَخِرِينَ بِأَنْسَابِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ/ أَفَتَتَّخِذُونَ إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، لِأَنَّ الدَّاعِيَ لَهُمْ إِلَى تَرْكِ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ النَّخْوَةُ وَإِظْهَارُ الْعَجَبِ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى عَمَلٍ أَوْ قَوْلٍ بِنَاءً عَلَى هَذَا الدَّاعِي فَهُوَ مُتَّبِعٌ لِإِبْلِيسَ حَتَّى أَنَّ مَنْ كَانَ غَرَضُهُ فِي إِظْهَارِ الْعِلْمِ وَالْمُنَاظَرَةِ التَّفَاخُرَ وَالتَّكَبُّرَ وَالتَّرَفُّعَ فَهُوَ مُقْتَدٍ بِإِبْلِيسَ وَهُوَ مَقَامٌ صَعْبٌ غَرِقَ فِيهِ أَكْثَرُ الْخَلْقِ فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْخَلَاصَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا أَيْ بِئْسَ الْبَدَلُ مِنَ اللَّهِ إِبْلِيسُ لِمَنِ اسْتَبْدَلَهُ بِهِ فَأَطَاعَهُ بَدَلَ طَاعَتِهِ، ثُمَّ قَالَ:
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: مَا أَشْهَدْتُهُمْ إِلَى مَنْ يَعُودُ؟ فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ الْمَعْنَى مَا أَشْهَدْتُ الذي اتخذتموهم أولياء خلق السموات وَالْأَرْضِ وَلَا أَشْهَدْتُ بَعْضَهُمْ خَلْقَ بَعْضٍ كَقَوْلِهِ: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاءِ: ٦٦] يَعْنِي مَا أَشْهَدْتُهُمْ لِأَعْتَضِدَ بِهِمْ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً أَيْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَهُمْ فَوُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ بَيَانًا لِإِضْلَالِهِمْ وَقَوْلُهُ:
عَضُداً أَيْ أَعْوَانًا. وَثَانِيهَا: وَهُوَ أَقْرَبُ عِنْدِي أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ قَالُوا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ لَمْ تَطْرُدْ مِنْ مَجْلِسِكَ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءَ لَمْ نُؤْمِنْ بِكَ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَتَوْا بِهَذَا الِاقْتِرَاحِ الْفَاسِدِ وَالتَّعَنُّتِ الْبَاطِلِ مَا كَانُوا شُرَكَاءَ لِي فِي تَدْبِيرِ الْعَالَمِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا اعْتَضَدْتُ بِهِمْ فِي تَدْبِيرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ كَسَائِرِ الْخَلْقِ، فَلِمَ أَقْدَمُوا عَلَى هَذَا الِاقْتِرَاحِ الْفَاسِدِ؟ وَنَظِيرُهُ أَنَّ مَنِ اقْتَرَحَ عَلَيْكَ اقْتِرَاحَاتٍ عَظِيمَةً فَإِنَّكَ تَقُولُ لَهُ لَسْتَ بِسُلْطَانِ الْبَلَدِ وَلَا ذُرِّيَّةِ الْمَمْلَكَةِ حَتَّى نَقْبَلَ مِنْكَ هَذِهِ الِاقْتِرَاحَاتِ الْهَائِلَةَ، فَلِمَ تُقْدِمُ عَلَيْهَا وَالَّذِي يُؤَكِّدُ هَذَا أَنَّ الضَّمِيرَ يَجِبُ عَوْدُهُ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ الْأَقْرَبُ هُوَ ذِكْرُ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ أُولَئِكَ الْكُفَّارُ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا

صفحة رقم 473

خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ
كَوْنَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ جَاهِلِينَ بِمَا جَرَى بِهِ الْقَلَمُ فِي الْأَزَلِ مِنْ أَحْوَالِ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ. فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ السَّعِيدُ مَنْ حَكَمَ اللَّهُ بِسَعَادَتِهِ فِي الْأَزَلِ وَالشَّقِيُّ مَنْ حَكَمَ اللَّهُ بِشَقَاوَتِهِ فِي الْأَزَلِ، وَأَنْتُمْ غَافِلُونَ عَنْ أَحْوَالِ الْأَزَلِ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَإِذَا جَهِلْتُمْ هَذِهِ الْحَالَةَ فَكَيْفَ يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَحْكُمُوا لِأَنْفُسِكُمْ بِالرِّفْعَةِ وَالْعُلُوِّ وَالْكَمَالِ وَلِغَيْرِكُمْ بِالدَّنَاءَةِ وَالذُّلِّ، بَلْ رُبَّمَا صَارَ الْأَمْرُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَلَى الْعَكْسِ فِيمَا حَكَمْتُمْ بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ وَمَا كُنْتَ بِالْفَتْحِ، وَالْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَعْنَى وَمَا صَحَّ لَكَ الِاعْتِضَادُ بِهِمْ، وَمَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَعْتَزَّ بِهِمْ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ. مُتَّخِذًا الْمُضِلِّينَ بِالتَّنْوِينِ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: عُضْدًا بِسُكُونِ الضَّادِ وَنَقْلِ ضَمَّتِهَا إِلَى الْعَيْنِ، وَقُرِئَ: عَضْدًا بِالْفَتْحِ وَسُكُونِ الضَّادِ وَعُضُدًا بِضَمَّتَيْنِ وَعَضَدًا/ بِفَتْحَتَيْنِ جَمْعُ عَاضِدٍ كَخَادِمٍ وَخَدَمٍ وَرَاصِدٍ وَرَصَدٍ مِنْ عَضَدَهُ إِذَا قَوَّاهُ وَأَعَانَهُ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَرَّرَ أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي قَالُوهُ فِي الِافْتِخَارِ عَلَى الْفُقَرَاءِ اقْتِدَاءً بِإِبْلِيسَ عَادَ بَعْدَهُ إِلَى التَّهْوِيلِ بِأَحْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَقَالَ: وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ وَفِيهِ أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ حَمْزَةُ: (نَقُولُ) بِالنُّونِ عَطْفًا عَلَى قوله: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ وأَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً وَالْبَاقُونَ قَرَءُوا بِالْيَاءِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: وَاذْكُرْ يَوْمَ نَقُولُ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: الْمَعْنَى وَاذْكُرْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ أَحْوَالَهُمْ وَأَحْوَالَ آلِهَتِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذْ يَقُولُ اللَّهُ لَهُمْ: نادُوا شُرَكائِيَ أَيِ ادْعُوا مَنْ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ شُرَكَاءُ لِي حَيْثُ أَهَّلْتُمُوهُمْ لِلْعِبَادَةِ، ادْعُوهُمْ يَشْفَعُوا لَكُمْ وَيَنْصُرُوكُمْ وَالْمُرَادُ بِالشُّرَكَاءِ الْجِنُّ فَدَعَوْهُمْ وَلَمْ يَذْكُرْ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ كَيْفَ دَعَوُا الشُّرَكَاءَ لِأَنَّهُ تَعَالَى «١» بَيَّنَ ذَلِكَ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا [غَافِرٍ: ٤٧] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ أَيْ لَمْ يُجِيبُوهُمْ إِلَى مَا دَعَوْهُمْ إِلَيْهِ وَلَمْ يَدْفَعُوا عَنْهُمْ ضَرَرًا وَمَا أَوْصَلُوا إِلَيْهِمْ نَفْعًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْمَوْبِقُ الْمَهْلِكُ مِنْ وَبِقَ يَبِقُ وُبُوقًا وَوَبَقًا.
إِذَا هَلَكَ وَأَوْبَقَهُ غَيْرُهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا كَالْمَوْرِدِ وَالْمَوْعِدِ وَتَقْرِيرُ هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً كَالْمَلَائِكَةِ وَعِيسَى دَعَوْا هَؤُلَاءِ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ثُمَّ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ فَأَدْخَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ جَهَنَّمَ وَأَدْخَلَ عِيسَى الْجَنَّةَ وَصَارَ الْمَلَائِكَةُ إِلَى حَيْثُ أَرَادَ اللَّهُ مِنْ دَارِ الْكَرَامَةِ وَحَصَلَ بَيْنَ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا الْمَوْبِقُ وَهُوَ ذَلِكَ الْوَادِي فِي جَهَنَّمَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ: (مَوْبِقًا) أَيْ عَدَاوَةً وَالْمَعْنَى عَدَاوَةٌ هِيَ فِي شِدَّتِهَا هَلَاكٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: لَا يَكُنْ حُبُّكَ كَلَفًا، وَلَا بُغْضُكَ تَلَفًا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ الْفَرَّاءُ الْبَيْنُ الْمُوَاصَلَةُ أَيْ جَعَلْنَا مُوَاصَلَتَهُمْ فِي الدُّنْيَا هَلَاكًا فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: الْمَوْبِقُ الْبَرْزَخُ الْبَعِيدُ أَيْ جَعَلْنَا بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَعِيسَى بَرْزَخًا بَعِيدًا يَهْلِكُ فِيهِ السَّارِي لِفَرْطِ بُعْدِهِ، لِأَنَّهُمْ فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ وَهُمْ فِي أَعْلَى الْجِنَانِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَفِي هَذَا الظَّنِّ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أن الظن هاهنا بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَقْرَبُ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ يَرَوْنَ النَّارَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ فَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ وَمُهْلَةٍ، لِشِدَّةِ مَا

(١) في الأصل النسخة الأميرية (لا أنه تعالى) ولعل ما أثبتناه هو الصواب إن شاء الله.

صفحة رقم 474
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية