
بِهَيْئَةِ إِقْبَالِ الْغَيْثِ مُنْبِتِ الزَّرْعِ وَنَشْأَتِهِ عَنْهُ وَنَضَارَتِهِ وَوَفْرَتِهِ ثُمَّ أَخْذِهِ فِي الِانْتِقَاصِ وَانْعِدَامِ التَّمَتُّعِ بِهِ ثُمَّ تَطَايُرِهِ أَشْتَاتًا فِي الْهَوَاءِ، تَشْبِيهًا لِمُرَكَّبٍ مَحْسُوسٍ بِمُرَكَّبٍ مَحْسُوسٍ وَوَجْهُ الشَّبَهِ كَمَا عَلِمْتَ.
وَجُمْلَةُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ. مَوْقِعُهَا التَّذْكِيرُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِ الْأَشْيَاءِ وَأَضْدَادِهَا، وَجَعْلُ أَوَائِلِهَا مُفْضِيَةً إِلَى أَوَاخِرِهَا، وَتَرْتِيبُهُ أَسْبَابَ الْفَنَاءِ عَلَى أَسْبَابِ الْبَقَاءِ، وَذَلِكَ اقْتِدَارٌ عَجِيبٌ. وَقَدْ أُفِيدَ ذَلِكَ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ بِالْعُمُومِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ بِذَلِكَ الْعُمُومِ أَشْبَهَ التَّذْيِيلَ. وَالْمُقْتَدِرُ:
الْقوي الْقُدْرَة.
[٤٦]
[سُورَة الْكَهْف (١٨) : آيَة ٤٦]
الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (٤٦)
اعْتِرَاضٌ أُرِيدَ بِهِ الْمَوْعِظَةُ وَالْعِبْرَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ مَا فِيهِ الْمُشْرِكُونَ مِنَ النِّعْمَةِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ مَا هُوَ إِلَّا زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الَّتِي عَلِمْتُمْ أَنَّهَا إِلَى زَوَالٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ [آل عمرَان: ١٩٦] وَأَنَّ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ خَيْرٌ عِنْدَ اللَّهِ وَخَيْرٌ أَمَلًا. وَالِاغْتِبَاطُ بِالْمَالِ وَالْبَنِينَ شَنْشَنَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي الْعَرَبِ، قَالَ طَرَفَةُ:
فَلَوْ شَاءَ رَبِّي كَنْتُ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ | وَلَوْ شَاءَ رَبِّي كَنْتُ عَمْرَو بْنَ مَرْثَدِ |
فَأَصْبَحْتُ ذَا مَالٍ كَثِيرٍ وَطَافَ بِي | بَنُونَ كِرَامٌ سادة لمسوّد |

وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فِي تَرْتِيبِ الْوَصْفَيْنِ أَنْ يُقَدَّمَ الصَّالِحاتُ عَلَى وَالْباقِياتُ لِأَنَّهُمَا وَإِنْ كَانَا وَصْفَيْنِ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ إِلَّا أَنَّ أَعْرَفَهُمَا فِي وَصْفِيَّةِ ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ هُوَ الصَّالِحَاتُ، لِأَنَّهُ قَدْ شَاعَ أَنْ يُقَالَ: الْأَعْمَالُ الصَّالِحَاتُ وَلَا يُقَالُ الْأَعْمَالُ الْبَاقِيَاتُ، وَلِأَنَّ بَقَاءَهَا مُتَرَتِّبٌ عَلَى صَلَاحِهَا، فَلَا جَرَمَ أَنَّ الصَّالِحَاتِ وَصْفٌ قَامَ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ وَأَغْنَى عَنْهُ كَثِيرًا فِي الْكَلَامِ حَتَّى صَارَ لَفْظُ (الصَّالِحَاتِ) بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ الدَّالِّ عَلَى عَمَلِ خَيْرٍ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الْكَهْف: ١٠٧]، وَفِي كَلَامِهِمْ قَالَ جَرِيرٌ:
كَيْفَ الْهِجَاءُ وَمَا تَنْفَكُّ صَالِحَةٌ | مِنْ آلِ لَأْمٍ بِظَهْرِ الْغَيْبِ تَأْتِينِي |
وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ آيَةُ سُورَةِ مَرْيَمَ قَوْلُهُ: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا [مَرْيَم: ٧٦] فَإِنَّهُ وَقَعَ إِثْرَ قَوْلِهِ: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً [مَرْيَم: ٧٣- ٧٤] الْآيَةَ.
وَتَقْدِيمُ الْمَالِ عَلَى الْبَنِينَ فِي الذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَسْبَقُ خُطُورًا لِأَذْهَانِ النَّاسِ، لِأَنَّهُ يَرْغَبُ فِيهِ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ وَالشَّابُّ وَالشَّيْخُ وَمَنْ لَهُ مِنَ الْأَوْلَادِ مَا قَدْ كَفَاهُ وَلِذَلِكَ أَيْضًا قُدِّمَ فِي بَيْتِ طَرَفَةَ الْمَذْكُورِ آنِفًا. صفحة رقم 333