
وتوافر المصلحة للناس، وما سألتموه أو طلبتموه أمره إلى الله عز وجل، إن شاء أجابكم، وإن شاء لم يجبكم.
والواقع أنهم قوم معاندون مكابرون، لن يؤمنوا برسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولو جاءت الآيات كما اقترحوا، كما ذكر الله تعالى في آية أخرى وهي: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧) [يونس: ١٠/ ٩٦- ٩٧].
وهكذا وضحت قضية هؤلاء المعاندين المشركين في مكة وغيرها، فإن من شرح الله صدره للإيمان لا يحتاج لهذه الأسباب، كلها أو بعضها، عافانا الله من التكبر والعناد.
استغراب المشركين من كون الرسل بشرا
المشركون الذين لم يجدوا حجة أو مسوغا مقبولا لشركهم وعنادهم، كلما حوصروا وأفحموا منطقيا وواقعيا، لجؤوا إلى تصيد الشبهات والذرائع لتسويغ شركهم ووثنيتهم، يتخبطون في دياجير الظلام، ويسقطون في متاهات الضلال، ومن شبهاتهم الواهية: أن الرسل لا يصح كونهم بشرا، وإنما ينبغي أن يكونوا ملائكة، وهذا يجافي العقل والمنطق، لأن من أهم شروط الرسول المبلّغ رسالة أو الناقل كلاما أن يكون من جنس المرسل إليه، حتى يأنس به ويفهم كلامه. وتحكي لنا الآيات الآتية شبهة بشرية الرسل، والرد على أفّاكيها:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٩٤ الى ٩٧]
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧)

«١» «٢» [الإسراء: ١٧/ ٩٤- ٩٧].
هذه الآيات واردة على سبيل التوبيخ والتعجب من النبي صلّى الله عليه وسلّم كأنه يقول مستغربا متعجبا من المشركين: ما شاء الله كان، ما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا هذه العلة التافهة (النّزرة) وهي كون الرسل بشرا، وهذا ليس أمرا بدعا ولا غريبا، فكون الرسل بشرا من جنس المرسل إليهم هو الأمر الصحيح، ليقع الإفهام وتحدث المناقشة المنطقية، والتمكن من النظر، فلو فرض أن في الأرض ملائكة يسكنونها مطمئنين، أي وادعين فيها مقيمين، لكان الرسول إليهم من الملائكة، ليحدث الإفهام بلغة المخاطبين، ولو بعث للبشر ملك، لنفرت طبائعهم من رؤيته، ولم تحتمله أبصارهم، وإنما أجرى الله الأمر على حسب المعتاد والمصلحة، واللطف والرحمة بالعباد.
وهذا ما أمر الله به نبيه أن يقول: إن مقتضى الحكمة ومنطق الأشياء والرحمة بالناس المدعوين للإيمان: أن يبعث إليهم الرسول من جنسهم، ليناقشهم ويخاطبهم، ويفهموا منه، فليس إرسال الرسول لمجرد إلقاء الموحى به إليه، ولو كان الرسول ملكا لما استطاعوا مواجهته، ولا الأخذ عنه، فإن الشيء يألف جنسه ويأنس به، فطبيعة الملك لا تصلح للاجتماع بالبشر، وعقد حوار معهم حول أحكام التشريع، وتبيان أصول العقيدة، وأداء الرسالة.
بل إن إرسال الرسول من البشر نعمة وحكمة ومنّة عظمي، كما قال الله تعالى:
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران: ٣/ ١٦٤] أي من جنسهم.
ثم أرشد الله تعالى إلى حجة أخرى في الموضوع حين قال المشركون للنبي: فمن
(٢) زدناهم توقدا ولهبا.

يشهد لك بصدق نبوتك؟ وتلك الحجة هي أن القول الفصل بيني وبينكم هو أن الله شاهد علي وعليكم، والحاكم بيني وبينكم، وهو العالم بما جئتكم به، فلو كنت كاذبا لانتقم مني أشد الانتقام، إن الله سبحانه عالم تامّ العلم بأحوال عباده الظاهرة والباطنة، وخبير بمن يستحق الهداية، ومن هو باق في الضلالة، فهم لا يذكرون شبهة بشرية الرسل وغيرها إلا حسدا وحبا للزعامة، وإعراضا عن دعوة الحق وقبولها.
وفي ذلك تهديد ووعيد وإيناس للنبي صلّى الله عليه وسلّم فيما يلقاه من صدود قومه وعنادهم.
ثم ذكر الله تعالى قانون الهداية والضلالة، ومضمونه: من يهده الله للإيمان فهو المهتدي إلى الحق، ومن يضلل الله بسبب بعده عن الهداية، فلن تجد لهم أنصارا يهدونهم من دون الله إلى الحق والصواب، ونحشر (نجمع) يوم القيامة في موقف الحساب هؤلاء الضالين عميا لا يبصرون بقلوبهم الحق، بكما لا ينطقون، صما لا يسمعون، أي فكما أنهم كانوا في الدنيا معطّلين هذه الحواس عن الانتفاع بها، فهم في الآخرة لا يبصرون طريق النجاة الذي يقر الأعين، ومصيرهم إلى جهنم، كلما سكن لهيبها، وفرغت النار من إحراقهم، زدناهم لهبا ووهجا وجمرا، فيثور اللهب من جديد، ويتكرر الإفناء والإعادة، زيادة في عقابهم وتحسرهم، فتلك زيادة السعير، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما. قال ابن عطية: فالزيادة في حيّزهم، وأما جهنم فعلى حالها من الشدة، لا يصيبها فتور.
إنكار المشركين البعث
تتركز عقيدة المشركين الوثنيين على أمرين: نسبة الشريك لله تعالى زورا وبهتانا، وإنكار البعث واليوم الآخر، بسبب تصوراتهم المادية المقصورة على الدنيا، وضعف عقولهم، وعدم إدراكهم لقدرة الله تعالى العظمى التي تختلف كل الاختلاف عن