آيات من القرآن الكريم

قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا
ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ ﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ

من شبهات المشركين بشرية الرسل وإنكار البعث
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٩٤ الى ١٠٠]
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠)
الإعراب:
فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ مَلائِكَةٌ: اسم كانَ المرفوع، ويَمْشُونَ: جملة فعلية صفة له. وفِي الْأَرْضِ خبر كانَ، ومُطْمَئِنِّينَ:
حال.
مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ مبتدأ وخبر كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً جملة حالية من جَهَنَّمُ ولا يجوز أن تكون صفة لأن جَهَنَّمُ معرفة، والجملة لا تكون إلا نكرة، والمعرفة لا توصف

صفحة رقم 168

بالنكرة. ويجوز ألا يكون لهذه الجملة موضع من الإعراب، وتكون الواو العاطفة مقدّرة، أي:
وكلما خبت.
ذلِكَ جَزاؤُهُمْ مبتدأ وخبر وبِأَنَّهُمْ في موضع نصب لأنه يتعلق بجزاؤهم لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ أَنْتُمْ: مرفوع بفعل مقدر، يفسره تَمْلِكُونَ أي لو تملكون، فلما حذف الفعل، صار الضمير المرفوع المتصل في تَمْلِكُونَ ضميرا منفصلا، وهو أَنْتُمْ ولا يجوز أن يكون أَنْتُمْ مبتدأ لأن لو حرف يختص بالأفعال كإن الشرطية.
وخَشْيَةَ الْإِنْفاقِ مفعول لأجله.
البلاغة:
أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا استفهام إنكاري.
وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ التفات من الغيبة إلى التكلم، اهتماما بأمر الحشر.
مَنْ يَهْدِ وَمَنْ يُضْلِلْ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى أي وما منعهم الإيمان بعد نزول الوحي وظهور الحق إِلَّا أَنْ قالُوا إلا قولهم منكرين أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا أي لم يبق لهم شبهة تمنعهم عن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والقرآن إلا إنكارهم أن يرسل الله بشرا، ولم يبعث ملكا.
قُلْ لهم جوابا لشبهتهم لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ بدل البشر مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ كما يمشي بنو آدم مُطْمَئِنِّينَ ساكنين فيها مقيمين لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا لتمكنهم من الاجتماع به والتلقي منه، فلم يرسل الله إلى قوم رسولا إلا من جنسهم يمكنهم مخاطبته والفهم عنه شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ على صدقي وعلى أني رسول إليكم، بإظهار المعجزة على وفق دعواي إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً عالما ببواطنهم وظواهرهم. وفيه تسلية للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وتهديد للكفار.
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ يهدونهم من دونه، والمعنى:
ومن يهديه الله إلى الخير فهو المهتدي الموفق لأن نفسه ميّالة إلى ذلك، ومن يضلله الله ويخذله، لإعراضه عن هداية ربه، فلن تجد له أولياء من دون الله يتولون أمره، ويدافعون عنه.
وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ أي يسحبون عليها تجرهم الزبانية من أرجلهم إلى جهنم، أو يمشون بها،
روى الشيخان عن أنس أنه قيل لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: كيف يمشون على

صفحة رقم 169

وجوههم؟ قال: «إن الذي أمشاهم على أقدامهم، قادر على أن يمشيهم على وجوههم».
وفيه التفات من الغيبة إلى التكلم.
عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا قال البيضاوي: لا يبصرون ما يقر أعينهم، ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم، ولا ينطقون بما يقبل منهم لأنهم في دنياهم لم يستبصروا بالآيات والعبر، وتصاموا عن استماع الحق، وأبوا أن ينطقوا بالصدق. ويجوز أن يحشروا بعد الحساب من الموقف إلى النار معطّلي القوى والحواس.
كُلَّما خَبَتْ سكن لهبها بأن أكلت جلودهم ولحومهم زِدْناهُمْ سَعِيراً توقدا وتلهبا واشتعالا، بأن تبدل جلودهم ولحومهم، فتعود ملتهبة مستعرة «ورفاتا» ما بلي من الشيء.
أَوَلَمْ يَرَوْا يعلموا فهي رؤية القلب، وهو استفهام إنكار وتوبيخ لهم على ما كانوا يستبعدونه من الإعادة بعد الإفناء قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ فإنهم ليسوا أشد خلقا منهم، وليست الإعادة أصعب عليه من الإبداء وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا للموت والبعث فَأَبَى الظَّالِمُونَ مع وضوح الحق إِلَّا كُفُوراً إلا جحودا خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي خزائن رزقه وسائر نعمه، والمطر من أهم المصادر لَأَمْسَكْتُمْ لبخلتم خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ خوف نفادها بالإنفاق قَتُوراً بخيلا.
المناسبة:
بعد أن أنكر المشركون الآية الباقية التي هي القرآن وسائر الآيات، وليست بدون ما اقترحوه، بل هي أعظم، أخبر الله تعالى عن السبب الواهي الضعيف الذي منعهم من الإيمان، وهو استبعاد أن يبعث الله رسولا إلى الناس واحدا بشرا منهم، ولم يكن ملكا. فهذه شبهة أخرى وهي استبعاد كون الرسل بشرا، بعد الرد عليهم بأن وظيفة الرسل إبلاغ الناس، وليس تلبية اقتراح الآيات، ثم الرد على شبهتهم بأن الرسول يكون عادة من جنس المرسل إليهم.
ثم ذكر شبهة أخرى أيضا وهي إنكار البعث، ولما أنكروا البعث، نبّههم تعالى على عظيم قدرته وباهر حكمته، بخلق السموات والأرض.
ولما طلب المشركون إجراء الأنهار والعيون في بلدهم لتكثر أقواتهم وتتسع عليهم، بيّن تعالى أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله، لبقوا على بخلهم وشحهم، ولما أقدموا على نفع أحد.

صفحة رقم 170

التفسير والبيان:
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا... أي وما منع أكثر الناس ومنهم مشركو مكة أن يؤمنوا بالله، ويتبعوا الرسل، حين مجيء الوحي المعجز الذي يستهدف الهداية والإسعاد والنجاة إلا استغرابهم وتعجبهم من بعثة البشر رسلا، غير متصورين كون الرسول من جنس البشر المرسل إليهم، وأنه كان لا بد من أن يكون من الملائكة، وهذا تحكم فاسد وتعنت باطل. والآية مثل قوله تعالى:
أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ [يونس ١٠/ ٢] وقوله سبحانه: ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَقالُوا: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا؟ [التغابن ٦٤/ ٦]. والآيات في هذا كثيرة.
ثم أجابهم الله تعالى منبها على لطفه ورحمته بعباده، وعلى منطق الأمور، فقال: قُلْ: لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ.. أي قل لهم يا محمد: إن مقتضى الحكمة ومنطق الأشياء والرحمة بالناس أن يبعث إليهم الرسول من جنسهم، ليناقشهم ويخاطبهم، ويفقهوا عنه ويفهموا منه، فليس إرسال الرسول لمجرد إلقاء الموحى به إليه، ولو كان الرسول ملكا لما استطاعوا مواجهته، ولا الأخذ عنه، فإن الشيء يألف لجنسه، ويأنس به، فطبيعة الملك لا تصلح للاجتماع بالبشر، وعقد حوار معه حول أحكام التشريع وتبيان أصول العقيدة، وأداء الرسالة، كما قال تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا، وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ [الأنعام ٦/ ٩].
بل إن إرسال الرسول من البشر نعمة وحكمة ومنّة عظمي، لذا قال تعالى:
كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ، يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا، وَيُزَكِّيكُمْ، وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة ٢/ ١٥١] وقال سبحانه: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران ٣/ ١٦٤] وقال عز وجل: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة ٩/ ١٢٨].

صفحة رقم 171

والخلاصة في معنى الآية: إنه لو كان في الأرض ملائكة يمشون عليها مطمئنين فيها، كما أنتم أيها البشر فيها، لنزلّنا عليهم من عالم السماء رسولا من جنسهم، وأنتم البشر رسولكم منكم، لكن يمكن أن يكون البشر رسولا لغير البشر، فإن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم رسول إلى الإنس والجن لأنه يمكنهم تلقي الوحي عنه وفهم الخطاب منه. وأما تلقي النبي الوحي من جبريل عليه السلام فهذا يتطلب استعدادا خاصا لا يتهيأ لغير نبي أو رسول.
ثم أرشد الحق تعالى إلى حجة أخرى هي:
قُلْ: كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أي إن القول الفصل بيني وبينكم، وإقامة الحجة الدامغة عليكم أن الله شاهد علي وعليكم، وحكم بيني وبينكم، عالم بما جئتكم به، فلو كنت كاذبا لانتقم مني أشد الانتقام، كما قال تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة ٦٩/ ٤٤- ٤٦] وقال: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الأنعام ٦/ ٢١].
إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً أي إن الله سبحانه عليم بأحوال عباده، يعلم ظواهرهم وبواطنهم، وخبير بمن يستحق الهداية، ممن يستحق الضلالة، مطلع على ما في قلوبهم، فهم لا يذكرون هذه الشبهات إلا حسدا وحبا للزعامة، وإعراضا عن قبول الحق. وفي ذلك تهديد ووعيد، وإيناس للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما يلقاه من صدود قومه وعنادهم.
ثم يخبر الله تعالى عن تصرفه في خلقه ونفوذ حكمه، وأنه لا معقب له، فقال:
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ.. أي من يهده الله للإيمان فهو المهتدي إلى الحق، ومن يضلل الله، فلن تجد لهم أنصارا يهدونهم من دون الله إلى الحق والصواب.
والمقصود إيناس الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، فمن سبق لهم حكم الله بالإيمان والهداية،

صفحة رقم 172

لعلمه السابق بأنهم صائرون لذلك لميل نفوسهم إلى الحق، وجب أن يصيروا مؤمنين لأن علم الله لا يتغير، ومن سبق لهم حكم الله بالضلال والجهل، لما علم الله منهم سوء الاختيار، والإصرار على الغواية والضلال، استحال أن ينقلبوا عن ذلك الضلال، كما قال تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً [الكهف ١٨/ ١٧].
ولا يقصد بوجود العلم والحكم السابق إجبار البشر على الإيمان والكفر، فإن الإنسان مختار في حدود ما اختاره الله له، أي إن الإنسان، وهو يختار بمشيئته فإنه في الحقيقة التي لا يعلمها لا يختار إلا ما اختاره الله له، فلا مشيئة للإنسان ولا لشيء إلا ما يشاؤه الله. وهذه المشيئة الكلية والشاملة لله في كل شيء كفلت للإنسان حرية الاختيار بقين الأمرين، كفلت مشيئة الله في عدله ورحمته أن يكون له «الخيار» بين الهدى والأمن مع الله، أو الضلال والشك، كما بيّن تعالى: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ: إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الدهر ٧٦/ ٣] وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد ٩٠/ ١٠].
وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا أي ونجمعهم يوم القيامة في موقف الحساب بعد الخروج من القبور، مسحوبين على وجوههم، كما قال تعالى: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ [القمر ٥٤/ ٤٨] عميا لا يبصرون، بكما لا ينطقون، صمّا لا يسمعون، أي أنهم كما كانوا في الدنيا معطلين هذه الحواس عن الانتفاع الحقيقي بها، وإن كانوا في الظاهر مبصرين ناطقين سامعين، فهم في الآخرة لا يبصرون طريق النجاة الذي يقر أعينهم، ولا ينطقون بما يقبل منهم، ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم، كما قال تعالى:
وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى، فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا [الإسراء ١٧/ ٧٢] قال ابن كثير: وهذا يكون في حال دون حال، جزاء لهم كما كانوا في الدنيا، بكما وعميا وصما عن الحق، فجوزوا في محشرهم بذلك.

صفحة رقم 173

أخرج الشيخان وأحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: «قيل:
يا رسول الله، كيف يحشر الناس على وجوههم؟ قال: الذي أمشاهم على أرجلهم، قادر على أن يمشيهم على وجوههم»
.
وأخرج الترمذي: «إن الناس يكونون ثلاثة أصناف في الحشر: مشاة، وركبانا، وعلى وجوههم»
وفي معناه
أخرج الإمام أحمد عن حذيفة بن أسيد، قال: قام أبو ذر فقال: يا بني غفار، قولوا ولا تحلفوا، فإن الصادق المصدوق حدثني: أن الناس يحشرون على ثلاثة أفواج: فوج راكبين طاعمين كاسين، وفوج يمشون ويسعون، وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم وتحشرهم إلى النار».
مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ، كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً أي منقلبهم ومصيرهم إلى جهنم، كلما سكن لهيبها زدناهم لهبا ووهجا وجمرا، بأن تأكل جلودهم ولحومهم وتفنيها، فيسكن لهبها، ثم يبدلون غيرها، فترجع ملتهبة مستعرة، ويتكرر الإفناء والإعادة، ليزيد ذلك في تحسرهم على تكذيبهم بالبعث، كما قال تعالى:
فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً [النبأ ٧٨/ ٣٠].
وعلة تعذيبهم ما قال تعالى: ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا.. أي إن ذلك الجزاء والعقاب الذي جازيناهم به من البعث عميا وبكما وصمّا هو جزاؤهم الذي يستحقونه على كفرهم بالله تعالى، وتكذيبهم آياته أي أدلته وحجته على وجوده ووحدانيته وعلى البعث، وعلى قولهم منكرين وقوع البعث: أإذا كنا عظاما نخرة ورفاتا بالية وترابا منتشرا، نعود خلقا جديدا آخر؟ أبعد ما صرنا إلى ما صرنا إليه من البلى والهلاك، والتفرق والذهاب في أنحاء الأرض، نعاد مرة ثانية؟
فنبههم الله على قدرته على البعث بأنه خلق السموات والأرض، فقال:

صفحة رقم 174

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.. أي ألم يعلموا ويتدبروا أن الذي أبدع خلق السموات والأرض على غير مثال سبق، قادر على أن يخلق أمثالهم، ويعيد أبدانهم، وينشئهم نشأة أخرى، كما بدأهم، فقدرته على إعادتهم أسهل من ذلك: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر ٤٠/ ٥٧]، أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها [النازعات ٧٩/ ٢٧] فدل هذا على أن خلق الإنسان أو إعادته أهون وأيسر من خلق السموات والأرض، وأن الإعادة أهون عليه من الابتداء.
لكن للبعث والقيامة أو الموت وقتا محددا، فقال تعالى: وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ أي وجعل لإعادتهم وإقامتهم من قبورهم أجلا معينا، ومدة مقدرة، لا بدّ من انقضائها، وبعد مضي تلك المدة تكون القيامة أمرا محتما لا شكّ فيه.
فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً أي وبالرغم من إقامة تلك الحجة الدامغة عليهم أبى الكافرون الظالمون أنفسهم إلا تماديا في باطلهم وضلالهم، وجحودا للثابت الصحيح، وإنكارا للبعث.
وسبب عدم إجابتهم لمطالبهم من القصور والجنات والعيون هو الشح، فقال الله تعالى: قُلْ: لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي.. أي قل لهم يا محمد:
لو أنكم ملكتم التصرف في خزائن أرزاق الله لبقيتم على الشح والبخل، ولأمسكتم عن الإنفاق، أي الفقر، كما قال ابن عباس، أي خشية الزوال والذهاب والنفاد والفراغ، مع أنها لا تفرغ ولا تنفذ أبدا لأن هذا من طباعكم وسجاياكم.
وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً أي بخيلا منوعا، كما قال سبحانه: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ، فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً [النساء ٤/ ٥٣]. أي لو أن لهم نصيبا في ملك الله تعالى، لما أعطوا أحدا شيئا، ولا مقدار نقير، وهو الخيط في

صفحة رقم 175

شق النواة، وقال الله تعالى أيضا: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً، إِلَّا الْمُصَلِّينَ [المعارج ٧٠/ ١٩- ٢٢].
والآية دليل واضح على شح الإنسان وكرم الله تعالى وجوده وإحسانه،
جاء في الصحيحين: «يد الله ملأى، لا يغيضها نفقة، سحّاء، الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يده».
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
١- إن كفار قريش قوم متكبرون معاندون، فقالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: أنت مثلنا، فلا يلزمنا الانقياد لك، وغفلوا عن القرآن المعجزة الذي يثبت صدقه في رسالته.
وادعاؤهم أن الرسول لا يصلح أن يكون بشرا: ادعاء مردود عليهم لأن أداء الرسالة وما تقتضيه من إقناع ونقاش، ومراعاة لموجب الحكمة والمصلحة أن يكون الرسول من جنس المرسل إليهم.
فالملك إنما يرسل إلى الملائكة لأنه لو أرسل الله تعالى ملكا إلى بني آدم لم يقدروا أن يروه على الهيئة التي خلق عليها، وإنما أقدر الأنبياء على رؤيته، وخلق فيهم ما يقدرون به ليكون ذلك آية لهم ومعجزة.
٢- كفى بالله شاهدا ومصدقا يشهد أن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم رسول الله، يروى أن كفار قريش قالوا حين سمعوا قوله تعالى: هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الإسراء ١٧/ ٩٣] : فمن يشهد لك أنك رسول الله؟ فنزل قُلْ: كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً.

صفحة رقم 176

٣- لو شاء الله أن يهدي الكفار لاهتدوا، فإن لم يهتدوا، فإن لم يهتدوا بهدي الله تعالى، لا يهديهم أحد.
٤- يحشر الكفار يوم القيامة على وجوههم، وفيه وجهان:
أحدهما- أن ذلك عبارة عن الإسراع بهم إلى جهنم، كما يقول العرب: قدم القوم على وجوههم: إذا أسرعوا.
والثاني- أنهم يسحبون يوم القيامة على وجوههم إلى جهنم، كما يفعل في الدنيا بمن يبالغ في هوانه وتعذيبه، قال القرطبي: وهذا هو الصحيح لحديث أنس المتقدم. فإنهم يحشرون عميا عما يسرّهم، بكما عن التكلم بحجة مقبولة، صما عما ينفعهم، وهذا يدل على أن حواسهم باقية على ما كانت عليه. وقيل: إنهم يحشرون على الصفة التي وصفهم الله بها، ليكون ذلك زيادة في عذابهم، ثم يخلق ذلك لهم في النار، فأبصروا لقوله تعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها [الكهف ١٨/ ٥٣]، وتكلموا لقوله تعالى: دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً [الفرقان ٢٥/ ١٣]، وسمعوا لقوله تعالى: سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً [الفرقان ٢٥/ ١٢].
٥- مأوى الكفار ومستقرهم ومقامهم جهنم، كلما سكنت نارها، زادها الله نارا تلتهب، وسكون التهابها من غير نقصان في آلامهم ولا تخفيف عنهم.
٦- ذلك العذاب جزاء كفرهم بآيات الله تعالى وحججه الدالة على وجوده وتوحيده، وجزاء جحودهم وإنكارهم البعث إنكار تعجب من إعادة ما بلي من العظام، وتفتت من الجسد، وزالت معالمه، وغفلوا عن أن الله هو الذي خلقهم أول مرة، والإعادة أهون عليه من الابتداء، كما قال الله تعالى: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء ٢١/ ١٠٤]، وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ، ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم ٣٠/ ٢٧].

صفحة رقم 177
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية