
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٨٦ الى ٨٩]
وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩)تفسير المفردات
وكيلا: أي ملتزما استرداده بعد الذهاب به، كما يلتزم الوكيل ذلك فيما يتوكل عليه، وظهيرا: أي معينا فى تحقيق ما يتوخّونه من الإتيان بمثله، وصرفنا: كررنا وردّدنا، والكفور: الجحود.
المعنى الجملي
بعد أن امتن سبحانه على نبيه بما أنزل عليه من الكتاب، وذكر أنه شفاء للناس، وأنه ثبّته عليه حين كادوا يفتنونه عنه، ثم أردفه بمسألة الروح اعتراضا، لأن اليهود والمشركين اشتغلوا بها عن تدبر الكتاب والانتفاع به، وسألوا تعنتا عن شىء لم يأذن الله بالعلم به لعباده- امتن عليه ببقاء ذلك الكتاب وحذّره من فتنة الضالين، وإرجاف المرجفين، وهو المعصوم من الفتنة، فإنه لو شاء لأذهب ما بقلبه منه ولكن رحمة بالناس تركه فى الصدور.
وفى هذا تحذير عظيم للهداة والعلماء وهم غير معصومين من الفتنة، بأن يباعد بينهم وبين هدى الدين بمظاهرتهم للرؤساء والعامة، وتركهم العمل به اتباعا لأهوائهم، واستبقاء لودهم، وحفظا لزعامتهم على الناس.
ثم ذكر أن القرآن وحي يوحى فلا يستطيع الجن والإنس أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض معينا، وقد اشتمل على الحكم والأحكام والآداب التي يحتاج إليها البشر فى معاشهم ومعادهم، وكثير من الناس جحدوا فضله عتوا وكبرا. صفحة رقم 90

الإيضاح
لما ذكر سبحانه أنه ما آتاهم من العلم إلا قليلا، بين أنه لو شاء أن يأخذ منهم هذا القليل لفعل فقال:
(وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) أي والله لئن شئنا لنمحونّ القرآن من الصدور والمصاحف ولا نترك له أثرا، وتصيرنّ كما كنت لا تدرى ما الكتاب ولا الإيمان. أخرج سعيد بن منصور والحاكم وصححه والطبراني والبيهقي فى جماعة آخرين، عن ابن مسعود قال: «إن هذا القرآن سيرفع، قيل كيف يرفع وقد أثبته الله فى قلوبنا وأثبتناه فى المصاحف؟ قال يسرى عليه فى ليلة واحدة فلا تترك منه آية فى قلب ولا مصحف إلا رفعت، فتصبحون وليس فيكم منه شىء ثم قرأ هذه الآية».
وعنه أنه قال: ذهاب القرآن رفعه من صدور قارئيه.
(ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا) أي ثم لا تجد ناصرا ينصرك، فيحول بيننا وبين ما نريد بك، ولا قيّما لك يمنعنا من فعل ذلك بك.
(إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي ولكن رحمة من ربك تركه ولم يذهب به، وفى هذا امتنان من الله ببقاء القرآن. قال الرازي إنه تعالى امتن على جميع العلماء بنوعين من المنة، أحدهما: تسهيل ذلك العلم عليهم. ثانيهما: إبقاء حفظه (إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) إذ أرسلك للناس بشيرا ونذيرا، وأنزل عليك الكتاب، وأبقاه فى حفظك ومصاحفك، وفى حفظ أتباعك ومصاحفهم، وصيّرك سيد ولد آدم، وختم بك النبيين، وأعطاك المقام المحمود.
ثم نبه إلى شرف القرآن العظيم وكبير خطره فقال:
(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) أي قل لهم متحديا: والله لئن اجتمعت الإنس والجن كلهم واتفقوا على أن يأتوا بمثل ما أنزل على رسوله بلاغة وحسن معنى وتصرفا وأحكاما ونحو ذلك، لا يأتون بمثله وفيهم العرب الفصحاء وأرباب البيان، ولو تعاونوا وتظاهروا،