آيات من القرآن الكريم

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا
ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰ ﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪ ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ ﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚ ﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ

المجادلة، ومثلها الآية ٦٥ من المائدة، وقوله (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) الآية ٢٤ من سورة التوبة إلى غيرها من الآيات في ج ٣ كالآية ٨ من سورة الصف والآية ٥ من سورة النور وغيرها.
قال تعالى «وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ» الصريح من قبل الله تعالى وهو هذا الدين الراسخ المستمد من كلام الله المنزل عليّ لآمركم بالإيمان به «وَزَهَقَ الْباطِلُ» اضمحل وانمحق، وهلك الباطل الذي تدينون به والشرك الذي تزعمونه، وبطلت عبادة الأوثان والشيطان وغيرها. يقال زمقت نفسه إذا خرجت من الأسف. روي البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال: دخل النبي صلّى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وكان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما فجعل يطعنها بعود في يده ويقول (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) (جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) وفي رواية الطبراني في الصغير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أنه صلّى الله عليه وسلم جاء ومعه قضيب فجعل يهوي به إلى كل صنم منها فيخرّ لوجهه، فيقول (جاءَ الْحَقُّ) الآية «إِنَّ الْباطِلَ» مهما كان أمره «كانَ زَهُوقاً» ٨١ زائلا سريع الزوال، ومهما صارت له دولة وصولة، فإنه لا يدوم، لأنه ظلم والكفر مع العدل قد يدوم، والظلم مع الإيمان لا يدوم. قال تعالى (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) الآية ١١٧ من سورة هود في ج ٢، وهذا آخر الآيات المدنيات الثماني وفسرناها على كونها مدنيات وذكرنا ما يحتملها من التفسير على القول بأنها مكيات، وبينّا ما فيه.
مطلب الاستشفاء بالقرآن على نوعين وثالثهما العقيدة:
قال تعالى «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ» من أمراض القلوب وبيان من الضلالة والجهالة، يتبين به المختلف فيه، ويتضح به المشكل، ويستشفى به من الشبهات، ويهتدى به من الحيرة. وليعلم أن الأمراض التي يستشفى لها بالقرآن نوعان الأول الاعتقادات الفاسدة في الذات المقدسة والصفات المطهرة والنبوات المعظمة والقضاء والقدر والبعث بعد الموت، فالقرآن العظيم مشتمل على دلائل المذهب الحق فيها كلها ومصرح على إبطال المذاهب الفاسدة منها، فلا جرم أن القرآن الكريم خير

صفحة رقم 550

شاف لما يحوك في القلوب ويتردد في الصدر من هذه الأمراض ولا طب لهذه الظنون الخبيثة إلا الأخذ بكتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم وأقوال الفقهاء العارفين.
النوع الثاني الأخلاق المذمومة كالكذب والزنى والقمار والقتل والتعدي على الغير والربا وأكل الحرام وأكل مال اليتيم والغيبة والنميمة والتجسس والغمز واللمز وتطفيف الكيل والوزن والذرع والغضب والحدة والحمق وغيرها مما شاكلها، فإن القرآن الجليل لا شك أعظم شاف منها وخير منفّر عنها وأحسن مرشد لاجتنابها والأخذ بأضدادها من الأخلاق الفاضلة والآداب الكاملة والخصال المحمودة، كالوفاء والسماح والعفو ولين الجانب والتؤدة والصبر وخفض القول والعفاف والصفح والكظم وشبهها مما يضاهيها، فلا دواء لها أنفع من الأخذ بآيات القرآن وسنن المنزل عليه.
أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال إني أشتكي صدري فقال عليه الصلام والسلام اقرأ القرآن يقول الله تعالى (وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) الآية ٥٧ من يونس في ج ٢. وأخرج البيهقي في الشعب عن وائلة ابن الأسقع أن رجلا شكا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وجع حلقه فقال عليك بقراءة القرآن.
والأخبار في هذا كثيرة جدا وأقوال العارفين والعلماء العاملين تشير إلى ذلك أيضا، وقد جرّب هذا فنفع من كان له إيمان وعقيدة راسخة، أما من لم يعتقد به فهو عليه وبال، راجع الآية ٤٣ من سورة فصلت في ج ٢، أما الأمراض الجسمانية فهي نوعان أيضا: ظاهرة كالجروح والدماميل والكسور وما شابهها فهذه لا بدّ لها من التداوي بالعقاقير المجربة لمثلها والتضميد وغيره، وباطنة كمرض الأمعاء والرئة والمثانة والكلى والكبد والطحال وغيرها، فكذلك لا بد لها من النداوي عند الأطباء الحاذقين المجربين المؤمنين، ولا بأس من التداوي عند غيرهم من أهل الكتاب عند فقدهم لأن الضرورات تبيح المحظورات، ولكن الضرورة تقدر بقدرها لأن هذين النوعين مباينين للنوعين الأولين، أما الأمراض الأخرى كالفتور والخدر والفلج وضرب الرأس وبعض أنواع الجنون واعتراء الوهم والوسواس وما أشبه ذلك فيجوز أن يعرضها على الأطباء الحاذقين بها وعلى حملة كتاب الله العارفين الأمناء فإن قراءة القرآن والتعاويذ به تدفع وتنفع لأمراض كثيرة وتشفي من علل وافرة،

صفحة رقم 551

وهذا لا يمنع من التداوي لها بالعقاقير وما يصفه الأطباء، إذ قد يجوز بآن واحد أن يستعمل المريض الدواءين المادي والمعنوي الاعتقادي. ويؤمر المصاب بتعاطي الأسباب من الدواءين لأن الرسول حث على التداوي، فقال تداووا عباد الله فإن الله لم يخلق داء إلا وخلق له دواء. لا سيما الكسور والجروح والإمساك والانطلاق، وقد وصف صلّى الله عليه وسلم عسلا لمنطلق بطنه ولم يقل له اقرأ عليه القرآن مع أنه بتقدير الله شاف لكل شيء، وقد وقع من بعض الأنبياء والأولياء العارفين من ردّ العين بعد العمى وجبر اليد بعد الكسر وشفاء الأبرص والأكمه بل وإحياء الموتى على طريق خرق العادة وهو ممكن بإذن الله على يد من وفقه الله. والقاعدة أن ما جاء على خلاف القياس لا يقاس عليه وهذا منها، وما جاء من قوله صلّى الله عليه وسلم من لم يستشف بكتاب الله فلا شفاه الله. فليس على إطلاقه كما ذكرنا ومما يستشفى به من القرآن العظيم للدفع والرفع تلاوة الفاتحة لكثرة الأحاديث الواردة فيها وآية الكرسي لأنها أعظم آية في القرآن وآيات الشفاء الست وهي: (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) الآية ١٤ من سورة التوبة (وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) الآية ٥٦ من سورة يونس (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) الآية ٧٩ من سورة النحل في ج ٢ والآية المفسرة هذه (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) الآية ٨٠ من الشعراء المارة و (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) الآية ٤٤ من سورة فصلت في ج ٢ فقد قال السبكي جرّبت كثيرا من المرضى بتلاوتها عليهم فنقعت بإذن الله. وقال القشيري إنه مرض له مريض قد أيس من حياته فرأى الله عز وجل في منامه فشكا له سبحانه ذلك، فقال له اجمع آيات الشفاء واقرأها عليه أو اكتبها في إناء واسقه فيه ما محيت به ففعل فشفاه الله تعالى. ومنها قصة الأبوصيري صاحب البردة المشهورة، ومنها المغفور له الشيخ أمين الجندي الحمصي المتوفى في شوال سنة ١٢٥٧ تغمده الله برحمته إذ كان مبتلى بداء عضال أعيا الأطباء فنظم قصيدته المشهورة واستغاث فيها إليه تعالى وتوسل بجاه رسوله صلّى الله عليه وسلم فشفاه الله وكان مطلعها:

صفحة رقم 552

وكثير ممن ابتلي بداء أعجز الأطباء فيشفيه الله تعالى بالرقيا، والأطباء المنصفون يعترفون بأن من الأمراض ما يشفى بخاصة ما روحانية كما فصله الأندلسي في مفراداته وداود في الجلد الثاني من تذكرته ولا يعبا بمن ينكر ذلك، لأنه إنكار للمحسوس وجحد للظاهر. قال الراوي اشتكى محمد بن السماك فأخذنا ماءه وذهبنا به إلى طبيب نصراني فاستقبلنا رجل حسن الوجه طيب الرائحة، فقال لنا إلى أين؟
قلنا له إلى فلان الطبيب نريه ماء ابن السماك، فقال سبحان الله تستعينون على ولي الله بعدو الله اضربوه على الأرض وارجعوا إلى ابن السماك وقولوا له ضع يدك على موضع الوجع وقل (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) ثم غاب عنا فلم نره، فرجعنا إلى ابن السماك فأخبرناه بذلك فوضع يده على الوجع وقال ذلك فعوفي في الوقت، فقال لهم إن ذلك الرجل هو الخضر عليه السلام، أما ما رواه أبو داود من حديث جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلم سئل عن النشرة فقال هي من عمل الشيطان. فعلى فرض صحة هذا الحديث فإن النشرة التي قال فيها حضرة الرسول ما قال هي النشرة التي كانت تفعل في الجاهلية، وهي أنواع شتى منها ما يكون بالودع، ومنها ما يفعله أهل التعزيم من قراءة أشياء غير معلومة المعنى أو كتابتها أو سقيها مما لم يرد به شيء من السنة، لا مثل التي فعلها القشيري، لأنها عبارة عن آيات الله من كتابه المأمور بالاستشفاء به، قال مالك عليه الرحمة لا بأس بتعليق الكتب التي فيها أسماء الله تعالى على أعناق المرضى على وجه التبرك بها، وكلمة لا بأس لا تختص بخلاف الأولى بل قد تكون للاستحباب والوجوب أيضا كما صرح به العلامة ابن عابدين في حاشيته على الدر، وقد وردت السنة بالرقيا من العين كما مر تفصيله في الآية ٥١ من سورة القلم المارة وكما سيأتي في الآية ٦٦ من سورة يوسف في ج ٢، وقال ابن المسيب يجوز تعليق المعوذة من كتاب الله تعالى في قصبة ونحوها وتوضع عند الجماع وعند الغائط، ورخص الباقر في المعوّذة تعلق على الصبيان مطلقا.
وكان ابن سيرين لا يرى بأسا بالشيء من القرآن يعلقه الإنسان كبيرا كان أو صغيرا مطلقا. وعذا الذي توارثه الناس أبا عن جد من لدن حضرة المصطفى صلّى الله عليه وسلم وإلى يومنا هذا هم عليه دائبون وبه متمسكون في جميع الأمصار، ولم يعارض به إلا

صفحة رقم 553

كل متكبر جبار، ضعيف الإيمان قليل العقيدة بآيات الله التي هي فضل منه «وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» به وتفريج للكروب وتطهير للعيوب وتكفير للذنوب، وجدير بأن تكون كذلك لما فيها من شفاء الأمراض الباطنة والظاهرة المار تفصيلها وغيرها.
واعلم أنه كما يكون كتاب الله رحمة للمؤمنين فهو عذاب للكافرين بدليل قوله عز قوله «وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ» أنفسهم بالكفر به وجحوده وتكذيب المنزل عليه «إِلَّا خَساراً» ٨٢ في الدنيا وضلالا مزدوجا يرى سوء عاقبته في الآخرة، قال قتادة لم يجالس القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان قضاء الله الذي قضى، وتلا هذه الآية، ونظيرتاها في المعنى الآية ٤٥ من سورة فصلت في ج ٢ والآية ١٢ من الأحقاف أيضا، وفي هذه الآية تعجيب من أمر القرآن لكونه بآن واحد نور لقوم، ظلمة لآخرين، شفاء لأناس، هلاك لغيرهم، علم لأناس، جهل لآخرين، وقيل في المعني:

توسلت بالمختار أرجى الوسائل نبي لمثلي خير كاف وكافل
كماء المزن في الأصداف درا وفي ثغر الأفاعي صار سما
وسيأتي زيادة تفصيل في تفسير آية فصلت المنوه بها أعلاه، وقدم الشفاء في هذه الآية على الرحمة لأن الشفاء يكون للتخلية، والرحمة تكون للتحلية، والتخلية مقدمة على التحلية لأنها أهم منها، قال تعالى «وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ» من كمال فضلنا وعظيم جودنا وكثير عطائنا وفيض رحمتنا بأن وسعنا طرق خيرنا عليه، فأعطيناه رحمة كاملة ومالا كثيرا وجاها وسلطانا وأولادا وخدما وعقارات «أَعْرَضَ» عنا وغفل عن ذكرنا ولم يدعنا، وأظهر الاستغناء عنا كأن ما حصل عليه من ذلك من كسبه وتدبيره لا بتوفيقنا «وَنَأى» أعرض لفرط جهله وعتوه وعناده، فتراة طوى كشحه ولوى عنقه وأدبر موليا عنا، وهذا تأكيد للإعراض لأن المعرض عن الشيء يوليه ظهره ويصد بوجهه ويتباعد عنه «بِجانِبِهِ» مبالغة في عدم التقرب إلى الله تكبرا وتعاظما، وكان عليه أن يقوم بما أنعمنا به عليه من أداء الشكر الواجب عليه بمقابل فضلنا المترادف عليه، لكنه لم يفعل لانه مجبول على الكفران ومقطور على النسيان ومطبوع على النكران، وما ذكره بعض أهل المعاني من أن التأكيد يتعين فيه ترك العطف لكمال الاتصال غير مسلم، وقرأ ابن

صفحة رقم 554

عامر برواية ابن ذكوان/ وناء/ في هذه الآية والآية ٥٧ من فصلت في ج ٢، وهذا من باب القلب ووضع العين محل اللام مثل رأى وراء وناء بمعنى نهض كما في قوله:
حتى إذا ما التأمت مفاصله... وناء في شق الشمال كاهله
أي نهض متوكئا على شماله وتفسير نهض هنا بأسرع لمناسبة المقام، أي أسرع بصرف جانبه أو بمعنى تثاقل عن أداء شكرنا كأنه مستغن في ذاته مستقل في أمره بحيث لا يخطر على باله احتياجه إلى ربه «وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ» المرض والضيق والذل والإهانة والفقر والخذلان والرق والحرمان من المال والولد والخدم ونحو ذلك من أنواع الشدائد وأصناف النوازل «كانَ يَؤُساً» ٨٣ قنوطا آيسا من رحمة الله لقلة يقينه وضعف دينه، وذلك لأنه لم يحسن معاملته مع خالقه في الرخاء حتى يرجو فضله في الشدة. وقد جاء في الحديث تعرف إلى الله بالرخاء يعرفك في الشدة.
فلو عرف نعمة الله وأدى شكرها لما مسه ضره، ولدعاه فاستجاب دعاءه في كشفه، ولو رجع إليه مخلصا لقبله على ما كان منه، وقد جاء في الحديث القدسي رواه الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول الله تعالى:
يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة. وقيل في هذا المعنى:
أناس أعرضوا عنا... بلا جرم ولا معنى
أساءوا ظنهم فينا... فهلا أحسنوا الظنا
فإن عادوا لنا عدنا... وإن خانوا فما خنا
وإن كانوا قد استغنوا... فإنا عنهم أغنى
أما من تكاثفت ظلمات قلبه فقد حيل بينه وبين الرضاء، وحال عتوه وشقاؤه دون ما يطلبه ويتمناه، وهؤلاء قد ينطبق عليهم تفسير الآية الأخيرة من سورة سبأ في ج ٢ فراجعها، واعلموا أيها الناس أن الله تعالى هو الغني عنكم وأنتم الفقراء إليه، وان الله هو القوي عليكم وأنتم الضعفاء عنده، فاستكينوا إليه ووحدوه يرسل لكم خيره ويدفع عنكم شره، وإلا إذا كان شركم إليه صاعدا وخيره إليكم

صفحة رقم 555

نازلا ولم تقوموا بحقه فأبشروا بالدمار. وإن في إسناد المساس إلى الشر بعد إسناد الانعام إليه تعالى إيذان بأن الخير مراد بالذات والشر ليس كذلك، وهذا هو الذي يقتضيه الكرم المطلق والرحمة الواسعة واللطف الشامل وإليه الإشارة بقوله صلّى الله عليه وسلم أللهم إن الخير بيدك والشر ليس إليك. وإن كل نعمة لا يشكرها العبد أو يستعملها في معصية المنعم فمصيرها الزوال في الدنيا والعذاب في الآخرة.
مطلب الكفران يزيل النعم وذات الإنسان تقتضي الطاعة فطرة:
قال تعالى (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) الآية ٧ من سورة إبراهيم في ج ٢، وبعد أن ذكر سبحانه حال القرآن بالنسبة للمؤمن والكافر وبيّن حال الكافر في حالتي الإنعام وضده، ذكر ما يصلح جوابا لمن يقول لم كان كذلك بقوله جل قوله «قُلْ» يا سيد الرسل لهذا السائل أو قل أيها المسئول عن ذلك «كُلٌّ» من المؤمن والكافر والمعرض والمقبل والراجي واليائس «يَعْمَلُ» عملا «عَلى» حسب «شاكِلَتِهِ» حالته وطريقته ومذهبه وطبيعته التي جبل عليها بل التي خلق إليها لما جاء في الحديث الصحيح اعملوا فكل ميسر لما خلق له، فمن كان مخلوقا للشر فمهما عمل من طرق الخير فيما يبدو للناس فسيصير إلى عمل الشر ويموت عليه، لأن عمله الخير لم يكن خالصا لله تعالى مهما ادعى الإخلاص فيه، ومن كان مخلوقا للخير فمهما عمل من فنون الشر فيما يبدو للناس فسيصير إلى عمل الخير ويموت عليه، لأن عمله الشر كان في غير رغبة منه ورضى وكان يعقبه الندم والندم استغفار والاستغفار توبة (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) الآية ٢٥ من الشورى في ج ٢، حيث ختمها بقوله (وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) من خير أو شر ونياتكم فيهما وما يؤول عملكم فيهما إليه، فعمل الإنسان يشاكل نفسه ويشابهها في الحسن والقبح ويناسب جوهره فيهما، فإذا كان شريفا صدرت عنه الأعمال الجميلة والأخلاق النبيلة والآداب الكاملة والأطوار الذكية والأحوال المرضية والأفكار الزكية، وإن كانت نجسة خبيثة نشأ عنه الأفعال الردية والأخلاق الفاسدة والعوائد السيئة والأمور القبيحة والأطوار الرذيلة، وهذه اللفظة مأخوذة من الشكل بفتح الشين أي المثل والنظير، يقال لست من شكلي

صفحة رقم 556

ولا على شاكلتي، أما بكسر الشين فمعناه الهيئة يقال جارية حسنة الشكل أي الهيئة، وظاهر عبارة القاموس أن كلا منها يطلق على الآخر «فَرَبُّكُمْ» أيها الناس الذي برأكم وجعلكم هكذا متشابهين في الصور متخالفين في الطبائع والأعمال ورباكم على ما أنتم عليه وفق ما هو مدون في كتابه المحفوظ «أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى» أسد منكم وأوضح وأعدل «سَبِيلًا» ٨٤ وأحسن طريقا ومذهبا وأتباعا ومنهجا من غيره وأرضى عقلا وعملا عنده، قال تعالى (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) الآية ٥٨ من الأعراف المارة، وقد جاء في الحديث الصحيح السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه، قالوا فما فائدة العمل يا رسول الله؟ قال اعملوا فكل ميسر لما خلق له.
هذا، وقد فسر مجاهد الشاكلة بالطبيعة وهي رواية عن ابن عباس، وفسرها بعضهم بالعادة لأن الطبيعة مقيدة وسلطانها على ربها ظاهر، وهذا السلطان ضابط له وقاهر، ولأن العادة محكمة ومن المشهور على ألسنة الجمهور العادات قاهرات، وفسرها بعضهم بالدين وهو دون التفسيرين الأولين وهما دون الأول، قال الملا صدر الدين الشيرازي صاحب الأسفار لا صاحب حواشي شرح التجريد المشهور حاله مع ملا جلال وهو من فلاسفة الإسلام المتصدرين برأيهم للجمع بين الشريعة والفلسفة. إن ذات الإنسان بحسب الفطرة الأصلية لا تقتضي إلا الطاعة، واقتضاؤها المعصية بحسب العوارض الغريبة الجارية مجري المرض والخروج عن الحالة الطبيعية، فيكون ميلها للمعصية الكائنة على خلاف طبيعتها، مثل ميل منحرف المزاج الأصلي إلى أكل الطين.
وقد ثبت في الحكمة أن الطبيعة بسبب عارض غريب تحدث في جسم المريض مزاجا خاصّا يسمى مرضا فالمرض من الطبيعة بتوسط العارض الغريب، كما أن الصحة منها، ومن هذا المرأة الحامل زمن الوحام قد تأكل الطين وأشياء لا تؤكل عادة، وذلك بسبب ما يعتريها من انحراف المزاج في بداية حملها، وقد جاء في الحديث القدسي إني خلقت عبادي كلهم حنفاء وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم.
وجاء في الأثر كل مولود يولد على فطرة الإسلام ثم أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه. أي بواسطة الشياطين المخالطين له فعلا في الظاهر أو الموسوسين له معنى وخلسة

صفحة رقم 557

بما يعم شياطين الإنس والجن الذين أمرنا الله تعالى بأن نتعوذ منهم. قال تعالى (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ إلخ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) السورتين المارتين، وقال تعالى: (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) الآية ١١٢ من سورة الأنعام في ج ٢، أو أنها كناية عن العوارض الغريبة، فالخلق لو لم يحصل لهم مس من الشيطان ما عصوا الله تعالى، ولبقوا على فطرتهم، لكن مسهم الشيطان فأفسد عليهم فطرتهم الأصلية، فاقتفوا أشياء منافية لهم مضادة لجوهرهم البهيّ الإلهي من الهيئات الظلمانية ونسوا أنفسهم وما جبلوا عليه:

ولولا المزعجات من الليالي لما ترك القطا طيب المنام
وإذا احتاجوا إلى رسل يبلغونهم آيات الله ويسنون لهم ما يذكرهم عهد ذواتهم من نحو الصلاة والصيام والزكاة وصلة الأرحام ليعودوا إلى فطرتهم الأصلية، ومقتضى ذواتهم البهية، ويعتدل مزاجهم ويتقوم اعوجاجهم، ولهذا قيل الأنبياء أطباء، وهم أعرف بالداء والدواء. ثم إن ذلك المرض الذي عرض لذواتهم والحالة المنافية التي قامت بهم لولا أن وجدوا من ذواتهم قبولا بعروضها لهم ورخصة في لحوقها بهم لم يكونا يعرضان لهم ولا يلحقانهم، فإذا كان مما تقتضيه ذواتهم أن تلحقهم أمور منافية مضادة بجواهرهم فإذا لحقتهم تلك الأمور اجتمعت فيها جهتان الملاءمة والمنافاة، أما كونها ملائمة فلكون ذواتهم اقتضتها، وأما كونها منافية فلأنها اقتضتها على أن تكون منافيه لهم، فلو لم تكن منافية لم يكن ما فرض مقتضى لها بل أمر آخر. وانظر إلى طبيعة الأرض التي تقتضى يبوسة حافظة لأي شكل كان حتى صارت ممسكة للشكل القسري المنافي لكرويتها الطبيعية ومنعت عن العود إليها، فعروض ذلك الشكل للأرضية لكونها مقسورة من وجه ومطبوعة من آخر، والإنسان عند عروض فعل هذا المنافي ملتذّ متألم، سعيد شقي متلذذ، ولكن لذته ألمه، سعيد ولكن سعادته شقاؤه، وهذا لعمرك أمر عجيب لكنه أوضح بنمط غريب، ومن تأمل وأنصف ظهر له أن لا مخلص لكثير من الشبهات في هذا الفعل إلا بالذهاب إلى القول بالاستعداد الأزلي، وأن لكل شيء أصالة في

صفحة رقم 558

نفسه مع قطع النظر عن سائر الاعتيادات لا يقاضى عليه إلا هي، لئلا يلزم انقلاب العلم جهلا وهو من أعظم المستحيلات والإنابة والتعذيب تابعان لذلك، فسبحان الحكيم المالك، فتثبّت أيها الرجل وكن رجلا حازما فقد زلت أقدام أعلام كثيرين كالاعلام في هذا المقام الذي لا ينجو منه إلا التائبون الجازمون بما هو كائن عند الله من أعمال وأفعال وأقوال وأحوال، وإن ما هو مدون عنده أزلا للعبد لا بد وأن يدركه لا محالة، راغبا كان أو راهبا، راضيا أو ساخطا.
فنسأله تعالى أن ينور قلوبنا ويسدد أفهامنا ويثبت أقدامنا ويقنعنا بما كتب لنا ويرضينا بما قسمه لنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم روى البخاري ومسلم عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود من حديث صحيح: إن أحدكم يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها. فتأمل هذا حق التأمل وانظر كيف يقسم حضرة الرسول في حديثه هذا الذي صدره بقوله فو الله الذي لا إله إلا هو، ثم ساقه. فتمسك به وتلقّه بالقبول وسل الله الثبات والرسوخ في الإيمان.
مطلب أرجى آية في القرآن للمغفرة، وبحث الروح:
واعلم أن رؤساء الاصحاب رضي الله عنهم تذاكروا فيما بينهم عن أي آية في القرآن أرجى للغفران، فروي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: لم أر في القرآن أرجي من هذه الآية، أي التي نحن بصددها إذ لا يشاكل بالعبد إلا العصيان، ولا يشاكل بالرب إلا الغفران. وقال عمر رضي الله عنه: لم أر أرجى من الآية التي فيها قوله جل قوله (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) الآية الثانية من سورة المؤمن في ج ٢، إذ قدم الغفران قبل قبول التوبة. وقال عثمان رضي الله عنه: لم أر أرجى من قوله تعالى (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الآية ٥٠ من سورة الحجر في ج ٢، لما فيها من إعلان المغفرة للجميع وطلب إعلانها. وقال علي كرم الله وجهه: لم أر أرجى من آية (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا

صفحة رقم 559

مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً)
الآية ٥٤ من سورة الزمر ج ٢.
وقدمنا في سورة والضحى المارة عن جعفر الصادق أن أرجى آية في القرآن (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) إلا أنه خصّها بأهل البيت فراجعها، والمراد هنا ما يعم الكل غير المشرك لورود النص فيه في الآيتين ٤٧/ ١١٦ من سورة النساء في ج ٣، وهناك اقوال سنأتي بها عند تفسير الآيات المشار بها أعلاه فراجعها، قال تعالى «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ» الذي هو مبدأ البدن الإنساني ومبدأ حياته وقوام دوامها وملاك بقائها، وإنما سألوه عن الروح لأن معرفتها من أدق الأمور التي لا يسع أحد إنكارها ولا يقدر أحد على معرفتها، لذلك فإن كل أحد يشرئب إلى التعرف عليها، توفر دواعي العقلاء إليها، وكلل الأذهان عنها، ووقوف الفكر ببابها، فمن وفقه الله علم أنها لا تعلم إلا بوحي من الله، والوحي خاص بالأنبياء، وقد ختم الله إرسالهم بمحمد صلّى الله عليه وسلم، فيفوض أمر معرفتها إلى الله.
ويوقن ويسكت، ومن خذله الله تطرق إلى كل ما يتخيلة ليقف على صورتها ومادتها، فيرجع خاشئا، إذ لا طريق إلى ذلك. وقد زعم ابن القيم أن المسئول عنه في هذه الآية قوله تعالى (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ) الآية ٣٨ من سورة عم في ج ٢، وسيأتي في تفسيرها أن الروح هناك يطلق على القرآن وعلى اسم ملك خاص أو صنف من الملائكة أو جبريل عليه السلام، إذ لا يعلم الروح المسئول عنه في الآية المفسرة إلا الله لأنه من الغيب الذي علمه من خصائصه جل شأنه.
واعلم أن الروح كما يطلق على ما ذكر آنفا كما سيأتي في الآية الأخيرة من سورة الشورى في ج ٢، وكما مر في الآية ١٩٢ من الشعراء، يطلق على الروح المركبة في الجسم المرادة في هذه الآية ليس إلّا والله أعلم. أخرج أحمد والنسائي والترمذي والحاكم وصححاه وابن حبان وجماعة عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود أعطونا شيئا لنسأل هذا الرجل، فقالوا اسألوه عن الروح، فسألوه فنزلت هذه الآية.
وفي السير عن ابن عباس أيضا أن قريشا بعثت النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة، وقال لهم سلوهم ما نسأل محمدا فإنهم أهل كتاب، عندهم من العلم ما ليس عندنا، فخرجا حتى قدما المدينة فسألوهم، فقالوا اسألوه عن أصحاب

صفحة رقم 560

الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح، فإن أجاب عنها أو سكت فليس بنبي، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي، فجاءوا وسألوه، فبين لهم صلّى الله عليه وسلم القصتين الآتيتين في سورة الكهف في ج ٢ من الآية ٣ إلى ٢٦ ومن الآية ٨٢ إلى ٩٩، ولهذا نزلت هذه الآيات بمكة قبل سورتها، كما سيأتي فيها، وأبهم أمر الروح إذ لم ينزل عليه فيها شيء يبينها، وهي مبهمة في التوراة أيضا. واعلم أن ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود قال: كنت أمشي مع النبي صلّى الله عليه وسلم في خرب المدينة وهو متكىء على عسيب، فمرّ بقوم من اليهود، فقال بعضهم لبعض سلوه عن الروح، وقال بعضهم لا تسألوه، فقالوا يا محمد ما الروح؟ فما زال يتوكأ على العسيب، فظننت أنه يوحى إليه، فلما نزل الوحي قال (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) الآية، لا يصح سببا للنزول لأن الآية مكية ولم يستثنها أحد من العلماء، على أنه يصح أن النبي صلّى الله عليه وسلم أجابهم بهذه الآية لأنها كانت نازلة عليه وهو في مكة، على أنه يتمثل ببعض الآيات المكية في المدنية عند مناسبة تتعلق بها، أما سبب نزولها فهو ما سمعته عن ابن عباس الحديث الأول، ومما يدل على صحة عدم النزول في حديث ابن مسعود الآنف الذكر قوله فيه: فظننت أنه يوحى إليه، أي عند ما سكت حضرة الرسول، على أن حالة الوحي لا تخفى على أحد، ويوشك أن سكوته كان لتدبر الآية وهيبة لكلام الله، ويؤكد هذا عدم قوله في هذا الحديث فنزلت، بل قال فلما نزل الوحي قال (ويسألونك) إلخ، مما يدل على أن كلمة فلما نزل الوحي من عند ابن مسعود رضي الله عنه، وعليه يكون المراد من قوله (فلما نزل الوحي) فلما تذكره وتدبره والكلام يحتمل هذا. وما قاله بعض المفسرين من أن هذه الآية نزلت مرتين ليجمع بين الحديثين فغير سديد، إذ لم يثبت أن شيئا من القرآن نزل مرتين، وقدمنا في مطلع تفسير سورة الفاتحة المارّة وفي أول سورة المدثر المارة أيضا عدم صحة نزول شيء من القرآن مرتين، وفيه بحث نفيس فراجعه.
«قُلِ» يا سيد الرسل لهؤلاء السائلين وغيرهم «الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي» لم يعط علمها أحدا من خلقه، لأنها مما استأثر الله بعلمه كالخمسة المذكورة آخر سورة لقمان في ج ٢، وإن معلومات الله التي اختص بها نفسه لا يحيط بها علم البشر، إذ ليس

صفحة رقم 561

لها نهاية، راجع الآية ٢٧ من سورة لقمان أيضا، وإذا كان الله تعالى لم يطلع رسوله على معنى الروح وهو حبيبه وصفيّه من خلقه، فما بال الناس يبحثون عنها والتعرف إليها؟ وغاية عقول العوالم فيها عضال، ونهاية سعي الفلاسفة فيها ضلال، روي عن أبي هريرة أنه قال: لقد مضى النبي صلّى الله عليه وسلم وما يعلم الروح، وقد عجزت الأوائل عن إدراك ماهيتها بعد إنفاق الأعمار الطويلة على الخوض فيه، والحكمة في ذلك تعجيز العقل عن إدراك مخلوق مجاور له، فعليه أن يستدل به على أنه عن معرفة خالقه أعجز. ولما أيسوا من معرفة الرّوح اختلفوا في معناها، فقيل إنه جسم دقيق هوائي متشرب في كل جزء من الحيوان، وقيل هو عبارة عن هذه البنية المحسوسة والهيكل المجسم، وقيل هو الدم لأن الإنسان إذا مات لا يفوت منه شيء إلا الدم، وقيل هي النفس لأن الإنسان يموت بانحباس نفسه، وقيل هي اعرض، وقيل هي جسم لطيف بمثابة الإنسان، وقيل هي معنى اجتمع فيه النور والطيب والعلم والعلو والبقاء، ألا ترى أنه إذا كان موجودا يكون الإنسان موصوفا بهذه الصفات جميعها، وإذا خرج منه ذهب عنه الكل فلا يوصف بشيء منها، وسبب هذا الاختلاف ناشيء عن عدم المعرفة بحقيقتها، لأن المحدود إذا كان لا يعرف كيف يحد وغير المحدود بما يميّزه، لا يمكن أن يعرف، وإذا كان كذلك فالأولى أن يوكل علم حد الروح إلى الله تعانى كما وكل هو جل شأنه علمها إليه، وهذا هو ما أجمع عليه أهل السنة والجماعة «وَما أُوتِيتُمْ» أيها الناس «مِنَ الْعِلْمِ» بشيء من مكونات الله تعالى «إِلَّا» علما «قَلِيلًا» ٨٥ جدا لا يذكر في جنب معلوماته. واعلموا أن ما أوتيتم من العلم لا يمكن تعلقه باحتمال هذا الذي هو من خصائصه، وفي هذه الجملة معنى النهي عن السؤال عن الروح لعدم تعليمه إلى الرسول.
ومما يدلّ على أن هذه الآية مكّية لا مدنية، ما أخرجه ابن اسحق وابن جرير عن عطاء بن يسار قال نزلت هذه الآية بمكة، فلما هاجر الرسول إلى المدينة أتاه أحبار اليهود فقالوا يا محمد إنا نعجب من قولك، ألم يبلغنا عنك أنك تقول:
(وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ) الآية أفتعنينا أم قومك؟ قال كلا عنيت. قالوا إنك تتلو أنا أوتينا التوراة فيها تبيان لكل شيء، وتتلو (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ

صفحة رقم 562

خَيْراً كَثِيراً)
والحكمة هي التوراة وقد أوتيناها، فقال صلّى الله عليه وسلم هي من علم الله قليل، وقد آتاكم الله ما إن عملتم به انتفعتم. فأنزل الله (وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) الآيتين من سورة لقمان أيضا. ولهذه الحكمة أخّرت هذه الآيات عن سورتها بالنزول لأن السورة نزلت بمكة وهذه الآيات بالمدينة. واعلم أن معنى كون الروح من أمر الله أنها من الإبداعيات الكائنة بالأمر التكويني من غير تحصيل مادة وتولد من أصل كالجسد الإنساني، والمراد بالأمر واحد الأوامر وهو كن، والسؤال كما ذكرنا هو عن الحقيقة، والجواب إجمالي مآله أن الروح من عالم الأمر، مبدعة من غير مادة، لا من عالم الخلق المبتدع في المادة، وهو أي هذا الجواب من الأسلوب الحكيم كجواب سيدنا موسى عليه السلام إلى فرعون حينما قال له:
(وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) فأجابه (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) الآية ٢٥ من سورة الشعراء المارة مشيرا بجوابه هذا إلى أن كنه حقيقة المسئول عنه ما لا يحيط به دائرة إدراك البشر، وإنما الذي يعلمه البشر عن الإله هو هذا القدر الإجمالي المتدرج تحت ما استثنى مما استأثر به نفسه المقدسة. وقال ردّا على ما خطر في قلب السائل من اطلاع على معلوماته الضئيلة بقوله (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) (وتفسيره ما تقدم) تستفيدونه من طرق، فإن تعقل المعارف النظرية إنما هو في الأكثر من إحساس الجزئيات، ولذلك قيل من فقد حسا فقد علما. هذا، ولا شك أن الروح مجردة عن علائق الأجسام، وأنه جوهر ليس من جنس الأجسام بل هو جوهر قدسي مجرد، يدل عليه قوله تعالى (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) وقوله تعالى (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) الآية ٢٩ من سورة الحجر في ج ٢، وقوله تعالى (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) الآية ١٧٠ من سورة النساء في ج ٣، وان هذه الإضافات تنبه على شرف الجوهر الأسنى وكونه عريّا عن الملابس الحسية. ومن هذا القبيل قوله صلّى الله عليه وسلم (أنا النذير العريان) ففيه إشارة إلى تجرّد الروح عن علائق الأجرام، وكذلك قوله صلّى الله عليه وسلم (خلق الله آدم على صورة الرحمن) - وفي رواية على صورته- وقوله عليه السلام (أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني) ففيها إيذان بشرف الروح وقربه من ربه بالذات والصفات، قربا لا يعرف كيفيته، مجردا عن علائق الأجرام وعوائق

صفحة رقم 563

الأجسام. واعلم أنه ليس بوسع الإنسان وطاقته أن يعلم حقيقة الخردلة وكيفية حصولها ونوع تكوينها، فكيف يعلم حقيقة الروح المحببة للجسد بأمر الله المحركة له بالإرادة والاختيار التي إذا انفصل عنها مات وانقطعت شعوره وإدراكاته كلها؟
وكذلك لا يقدر أن يعرف كيفية تعلقها بالبدن ومفارقتها له حالة النوم، ثم لا بد لنا أن نبحث في حقيقة الإنسان والروح مما لخصه العلماء جزاهم الله عنا خيرا، ونأخذ أصح الأقوال في ذلك ونترك ما وقع من الأخذ والرّد فيها، وهذا البحث الأول في حقيقة الإنسان. اعلم وفقك الله أن الروح في الجسم الإنساني وغيره عبارة عن جسم نوراني علوي حي متحرك، مختلف بالماهية لهذا الجسم المحسوس، سار فيه سريان الماء في الورد، والدهن بالزيتون والسمسم، والزبد في اللبن، والدهن في الجواز واللوز والبطم وما أشبهها، والهواء في البدن والنار في الفحم، وسريان نور الشمس على مطلق الأضواء، لا يقبل التحلل والتبدل والتفرق والتمزق، مفيد للجسم المحسوس الحياة وتوابعها ما دام صالحا يقبل الفيض الإلهي لعدم حدوث ما يمنع من السريان كالأخلاط الغليظة. ومتى حدث ذلك حصل الموت لانقطاع السريان، إذ أن هذه السراية تفطن الإنسان بأن ظهور الأشياء وحياتها ومنبع نشأتها ونمائها منها ليس إلا، وهذا غاية نهاية ما يمكن أن يتكلم فيه عن الروح، إذ الاطلاع على كنهها أمر خارج علمه عن طوق البشر، وليس له أن يبحث عنه، لأن البحث بأكثر من هذا عقيم، وعليه فإن الروح عبارة عن ذلك الجسم الموصوف أعلاه.
البحث الثاني في حدوث الروح وقدمه، واعلم هداك الله أن المسلمين أجمعوا على أن الروح حادثة حدوثا زمانيا كسائر أجزاء العالم، والقول الصحيح أن حدوثها قبل حدوث البدن، لما جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف. فإن هذا الحديث يشير إلى الإخبار بأن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد، لأن معنى هذا الحديث الشريف أن ما تعارف منها عند خلقها الأول ائتلف عند خلق أجسادها، والعكس بالعكس. ومن قال إن الأرواح في برزخ منقطع العناصر، فإذا استعد جسد لشيء منها هبط اليه، وإنها تعود إلى ذلك البرزخ بعد الوفاة

صفحة رقم 564

كابن حزم، فلا دليل له على ذلك. وليس في قوله صراحة خلق الجسم قبل الروح، بل يفيد ظاهره أن الروح مخلوقة قبل، لقوله في برزخ. وإذا كان القول عاريا عن الدليل كهذا فلا محل للأخذ به، بل الأخذ بالقول الأول المعتمد على قول الرسول صلّى الله عليه وسلم. البحث الثالث، هل الروح والنفس شيء واحد أم لا؟ اعلم رعاك الله أن أكثر العلماء قالوا إن النفس والروح شيء واحد، لما جاء في الأخبار اطلاق أحدهما على الآخر، بدلالة ما أخرجه البزار بسند صحيح عن أبي هريرة أن المؤمن حينما ينزل به الموت ويعاين ما يعاين يودّ لو خرجت نفسه، والله تعالى يحب لقاءه، وإن المؤمن لتصعد روحه إلى السماء فتأتيه أرواح المؤمنين فيستخبرونه عن معارفه من أهل الدنيا. فهذا يدل دلالة ظاهرة على أن الروح والنفس شيء واحد، وقال ابن حبيب هما شيئان فالروح هو النفس المترددة في الإنسان، والنفس أمر غير ذلك، لها يدان ورجلان، ورأس وعينان، وهي التي تلتذّ وتتألم، وتفرح وتحزن، وتتوفى في المنام، فتخرج وتسرح وترأى الرؤيا، ويبقى الجسد دونها بالروح فقط لا يلتذ ولا يفرح حتى تعود إليه. واستدل بقوله تعالى (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) الآية ٤٣ من سورة الزمر في ج ٢، وسنأتي على ما يتعلق فيها عند تفسيرها في محلها إن شاء الله.
البحث الرابع: هل تموت الروح أم لا؟ اعلم علمك الله أن جماعة من العلماء الأعلام قالوا إنها لا تموت استنادا لما جاء في الأحاديث الصحيحة الدالة على نعيمها وعذابها بعد مفارقتها الجسد إلى أن يرجعها الله إليه عند البعث، لأن القول بموتها يلزم منه انقطاع النعيم والعذاب، وموت الروح المذكور في قوله تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) الآية ١٨٥ من البقرة في ج ٣، ومثلها في سورة الأنبياء الآية ٣٥ ج ٢ جار على القول بأن النفس هي الروح ويكون بمفارقتها الجسد، وعلى القول بأن النفس غير الروح كما علمت آنفا فلا دليل بالآية على موتها، وما جاء في تفسير قوله تعالى (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) الآية ١١ من سورة المؤمن في ج ٢ بأن الموتة الأولى للبدن، والثانية للروح على رأي من فسر بذلك، غير مسلم.
وسيأتي لبحثه بيان في تفسيرها إن شاء الله فراجعه. البحث الخامس في تمايز الأرواح

صفحة رقم 565

بعد مفارقتها الأبدان: اعلم نور الله قلبك أن الشيخ ابراهيم الكوراني قال في بعض رسائله إن الأرواح بعد مفارقتها أبدانها المخصوصة تتعلق بأبدان أخر مثالية حسبما يليق بها، وإلى هذا الإشارة بما جاء في صحيح مسلم عن ابن مسعود (إن أرواح الشهداء في جوف طير خضر)، وبما أخرج سعيد بن منصور عن مكحول عن النبي صلّى الله عليه وسلم (إن ذراري المؤمنين أرواحهم في عصافير الجنة)، أي أنها تكون في أبدان مثالية على تلك الصور، ويؤيد هذا رواية ابن ماجه عن ابن مسعود (أرواح الشهداء عند الله تعالى كطير خضر)، ولفظ ابن عمر في صورة طير بيض، وفي رواية علي بن عثمان اللاحقي عن مكحول (إن ذراري المؤمنين أرواحهم عصافير في الجنة)، وما جاء في إنكار بعض المتكلمين لهذا بزعمهم أنه يصير متعلق روحين ببدن واحد وهو محال. ناشيء من عدم التأمّل والتثبّت، لأن ما قررناه لا يصيّر للطائر روحا غير روح الشهيد، بل هي نفسها، لأن الأبدان المثالية ليست كالأبدان المحسوسة من كل وجه بل من حيث الصورة فقط، على أنه لم يلزم من ظاهر الأحاديث محال لجواز أن تكون الروح في جوف الطير على نحو كون الجنين في بطن أمه، تدبر.
السادس في مستقر الأرواح بعد مفارقة الأبدان: اعلم بارك الله فيك ونفع بك ذويك أنه قد صح أن حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم كان آخر كلامه: اللهم الرفيق الأعلى.
وقال تعالى (إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) الآية ١٨ من سورة المطففين في ج ٢، فعلى هذا يكون مستقر أرواح الأنبياء في عليين، وقد أخرج الإمام مالك رحمه الله عن كعب بن مالك مرفوعا إنما نسمة المؤمن (أي ذريته بدليل الأحاديث الصحيحة السابقة، لأن الأحاديث كالقرآن من حيث أنها يفسر بعضها بعضا) طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله تعالى في جسده حين يبعثه. وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد في مسنده، وخرجه النسائي من طريق مالك، وخرجه بن ماجه، وروى ابن منده من حديث أم بشر مرفوعا ما هو نص في أن مستقر أرواح المؤمنين نحو مستقر أرواح الشهداء المار ذكرهم في حديث مسلم عن ابن مسعود، ومستقر أرواح الكفار في سجّين، قال تعالى (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) الآية ٧ من المطففين أيضا. وما قاله ابن حزم من أن أرواح الموتى أقبية قبورهم

صفحة رقم 566

مستدلا بقوله صلّى الله عليه وسلم وهو ما رواء عنه عمر رضي الله عنه: إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله تعالى. وبأنه صلّى الله عليه وسلم حين زار الموتى قال السلام عليكم دار قوم مؤمنين، إلخ لا يتجه، لأن الأرواح حينما كانت لها اتصال بأجسادها لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى، وبهذا الاتصال تردّ السلام وتعرف المسلم عليها ويعرض عليها مقعدها من الجنة أو النار، راجع الآية ٤٦ من سورة الزمر في ج ٢، على أنه لا مانع من انتقالها من مستقرها وعودتها إليه في أسرع من البصر، وان حديث البراء بن عازب في صفة روح المؤمن الذي يقول فيه (فإذا انتهى إلى العرش كتب كتابه في عليين، ويقول الرّب ردّوا عبدي إلى مضجعه فإني وعدتهم أني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى. راجع تفسير الآية ٥٤ من سورة طه المارة. فهو ليس نص في جعل روحه في فناء قبره، وما فيه من الإشارة لا تعارض الأحاديث الكثيرة الصريحة بأن الأرواح في الجنة لا سيما الشهداء، وقوله تعالى منها خلقناكم إلخ الآية هو باعتبار الأبدان لا الأرواح، ولا شكّ أيضا أن أحوال الأرواح مختلفة، قال النسفي في بحر الكلام إن الأرواح على خمسة أقام الأول أرواح الأنبياء عليهم السلام تأكل وتشرب وتتنعّم في الجنة نهارا وتأوى ليلا إلى قناديل تحت العرش، الثاني أرواح الشهداء تكون في أجواف طير خضر في الجنة تأكل وتتنعم وتأوي أيضا إلى قناديل كأرواح الأنبياء، الثالث أرواح المطيعين من المؤمنين بربض الجنة لا تأكل ولا تتمتع ولكن تنظر إلى الجنة فقط، الرابع أرواح العصاة منهم تكون بين السماء والأرض في الهواء، الخامس أرواح الكفار في سجين في جوف طير سود تحت الأرض السابعة، وهي متصلة بأجسادها تعذّب وتتألم، أجارنا الله وحمانا. قال الإمام الفخر إني أعجب كل العجب ممن يقرأ هذه الآيات ويروي هذه الأحاديث ثم يقول توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وما كان يعرف الروح، وفي قوله هذا رحمه الله ردّ على حديث أبي هريرة المتقدم ذكره آنفا بعد تفسير (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ولهذا البحث صلة في الآية ٤٢ من سورة الزمر في ج ٢

صفحة رقم 567

هذا وقد علم مما تقدم أن أرواح الأنبياء والشهداء ممتازة على أرواح سائر البشر، وهو كذلك لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال إن أنبياء الله لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار ولقوله تعالى (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) الآية الاخيرة من سورة الفجر في ج ٢، وهذا الخطاب متوجّه إلى هذه الروح الزكية وقت الموت لكونها راضية مرضية بما يدل على أن هذا الخطاب لجسد حي حياة لانعرفها، وهذه الحياة مختص بها الأنبياء والشهداء لقوله تعالى (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) الآية ١٧٩ فما بعدها من آل عمران ج ٣ وسيأتي في تفسير هذه الآية ما به كفاية لتتميم هذا البحث إن شاء الله.
مطلب في حفظ القرآن ثم رفعه بالوقت الذي قدره له الله.
قال تعالى «وَلَئِنْ شِئْنا» يا سيد الرسل «لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» فنمحوه من قلبك ومما كتب عليه من قبل كتبة الوحي فلا نبقي له أثرا أبدا «ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ» بالقرآن الموحي إليك الذي هو شفاء ورحمة لأهل الأرض المصدقين به والذي ثبتناك به من أن تفتتن بأقوال قومك ولا يمكنك أن تحضر «عَلَيْنا وَكِيلًا» ٨٦ يستطيع استرداده منا وإعادته إليك ولا تقدر أن تجد من يتوكل لك علينا بذلك من متعهد أو ملزم البتة «إِلَّا» أن يتفضّل عليك ربّك فيرحمك «رَحْمَةً» عظيمة خاصة بك نازلة عليك «مِنْ رَبِّكَ» تتمكن بها من إبقائه وعدم نزعه من الصدور ومحوه من السطور وهذه منّة عظيمة جليلة منّ الله بها عليك، وجعل ما أوحاه إليك محفوظا، وتعهد لك بحفظه بقوله جل قوله (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) الآية ٩ من سورة الحجر في ج ٢، وتعهد لك أيضا بعدم إدخال زيادة عليه وحذف شيء منه بقوله عزّ قوله (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) الآية ٤٢ من سورة فصلت في ج ٢، روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال لا تقوم الساعة حتى يرفع القرآن من حيث نزل، له دويّ حول العرش كدويّ النحل، فيقول الرّب مالك؟ فيقول يا رب أتلى فلا يعمل بي. وقال عبد الله بن مسعود اقرأوا القرآن

صفحة رقم 568

قبل أن يرفع فإنه لا تقوم الساعة حتى يرفع. قيل هذه المصاحف ترفع فكيف بما في الصدور؟ قال يسري عليه ليلا فيرفع ما في صدورهم فيصبحون لا يحفظون شيئا ولا يجدون مما في المصاحف شيئا، ثم يفيضون في الشعر. يعارض هذا ما جاء في الحديث الآخر إن الله تعالى لا ينزع العلم انتزاعا من صدور الرجال، وإنما يفقد بموت العلماء، وهو أصوب، لأن الله أكرم من أن يمنّ على عبده بنعمة أنعمها عليه ثم ينزعها منه، لهذا فإن حمل الحديثين المارين على هذا أولى وأوفق. أللهم إلا أن يقال العلم غير القرآن فإنه يرفع رفعا على ما جاء في الحديثين، والعلم يكون رفعه بموت العلماء، وهو الأظهر والله أعلم، «إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ» يا أكرم الرسل الذي من جملته إبقاء القرآن راسخا في صدرك ثابتا في الصحف باقيا يتلى إلى الوقت الذي قدره لرفعه، وقد تفضل عليك به وبما سيبيته بعد وما لم يعلم فضلا «كَبِيراً» ٨٧، من ربّك الذي أنعم عليك به وجعلك خاتم أنبيائه وسيد ولد آدم، وأعلى كلمتك على جميع خلقه، وأيدك بنصره، وقواك بملائكته، وأعطاك الشفاعة الكبرى، وخصّك بالمقام المحمود والحوض المشهود، ونعما كثيرة تفضل بها عليك في الدنيا والآخرة. أخرج البيهقي والحاكم وصححه وابن ماجه بسند قوي عن حذيفة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يدرس الإسلام كما يدرس وشيء الثوب حتى لا يدرى ما صيام ولا صدقة ولا نسك، ويسرى على كتاب الله في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، ويبقى الشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله فتحن نقولها. ولا يبعد أن يكون هذا بموت العلماء والقراء وعدم معرفة الباقين القراءة، وكذلك تأويل ما يأتي بعد إذ ليس إزاء هذه الصراحة إلا التسليم واعتقادنا بأن الله لا يسلب نعمة من عبده بعد أن تفضّل بها عليه إلا إذا كان هذا العبد داخلا في قوله تعالى:
(ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) الآية ٥٢ من سورة الأنفال ج ٣، وقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) الآية ١٤ من سورة الرعد في ج ٣، وعليه يكون الجزاء من جنس العمل، لأنهم نسوا الله فأنساهم أنفسهم ونسيهم، فجعلهم متروكين لا يؤبه بهم. وأخرج ابن

صفحة رقم 569

مردويه عن ابن عباس وابن عمر قالا: خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس ما هذه الكتب التي بلغني أنكم تكتبونها مع كتاب الله يوشك أن يغضب الله تعالى لكتابه، فيسرى عليه ليلا لا يترك في قلب ولا رق منه حرف إلا ذهب به، فقيل يا رسول الله فكيف بالمؤمنين والمؤمنات؟ قال من أراد الله تعالى به خيرا أبقى في قلبه لا إله إلا الله. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال يسرى على كتاب الله فيرتفع إلى السماء فلا يبقى في الأرض آية من القرآن ولا من التوراة ولا من الإنجيل والزبور، فينزع من قلوب الرجال، فيصبحون في الضلال لا يدرون ما هم فيه. والسرى المشي آخر الليل، ومعنى يسرّى أي يرسل الله تعالى في آخر الليل ما به يرفع القرآن من صدور الناس، بدليل قوله فيصبحون في الضلال إلخ الحديث. هذا، وقدمنا في المقدمة بحثا يتعلق بحفظ القرآن وتهديد من ينساه فراجعه فلعل فيه إيماء إلى هذا. ولما قال النضر وأضرابه من مشركي مكة عند سماعهم تلاوة القرآن من سيدهم سيد ولد عدنان لو نشاء لقلنا مثل ما يقول محمد يعنون به القرآن، وقد أخبر الله نبيه بذلك بقوله جل قوله: (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) الآية ٣١ من الأنفال في ج ٣، وهذه آية مكية مستثناة من سورتها المدنية أكذبهم الله تعالى بقوله «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء الأفاكين المتهورين «لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ» المنزل عليك من لدنّا «لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ» أبدا ولا يقدرون على ذلك البتة «وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً» ٨٨ معاونا ومؤازرا في إرادة الإتيان بمثله، لأنه لا يشبه كلام الخلق وهو في أعلى طبقات البلاغة معجزا في نظمه معجزا في تأليفه، فضلا عن إعجازه بالإخبار عن الغيوب مما كون الله تعالى وأظهره للناس، ومما لم يظهره بعد. ولهذا البحث صلة في الآية ٧٨ من سورة يونس والآية ١٣ من سورة هود في ج ٢ والآية ٢٤ من سورة البقرة في ج ٣. وجملة لا يأتون جواب القسم الذي ينبىء عنه اللام الموطئة له، وسادّ مسدّ جزاء الشرط، ولو لاها لكان لا يأتون جزاء الشرط، وان كان مرفوعا بناء على القول بأن فعل الشرط إذا كان ماضيا جاز الرفع في الجواب، كما في قول زهير:

صفحة رقم 570
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية
وإن أتاه قليل يوم مسغبة يقول لا غائب مالي ولا حرم