
فَضْلِهَا وَبَرَكَتِهَا. وَأَيْضًا فَهِيَ يَحْضُرُهَا أَكْثَرُ الْمُصَلِّينَ لِأَنَّ وَقْتَهَا وَقْتُ النَّشَاطِ وَبَعْدَهَا يَنْتَظِرُ النَّاسُ طُلُوعَ الشَّمْسِ لِيَخْرُجُوا إِلَى أَعْمَالِهِمْ فَيَكْثُرَ سَمَاعُ الْقُرْآن حِينَئِذٍ.
[٧٩]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ٧٩]
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩)
عَطْفٌ عَلَى وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الْإِسْرَاء: ٧٨] فَإِنَّهُ فِي تَقْدِيرِ جُمْلَةٍ لِكَوْنِهِ مَعْمُولًا لفعل أَقِمِ [الْإِسْرَاء: ٧٨].
وَقُدِّمَ الْمَجْرُورُ الْمُتَعَلِّقُ بِ «تَهَجَّدْ» عَلَى مُتَعَلِّقِهِ اهْتِمَامًا بِهِ وَتَحْرِيضًا عَلَيْهِ. وَبِتَقْدِيمِهِ اكْتَسَبَ مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ فَجُعِلَ مُتَعَلِّقُهُ بِمَنْزِلَةِ الْجَزَاءِ فَأُدْخِلَتْ عَلَيْهِ فَاءُ الْجَزَاءِ. وَهَذَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الظُّرُوفِ وَالْمَجْرُورَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى مُتَعَلِّقَاتِهَا، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ فَصِيحٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ [المطففين: ٢٦]
وَقَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ»
، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [٧].
وَجَعَلَ الزَّجَّاجُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ: وَمِنَ اللَّيْلِ فِي مَعْنَى الْإِغْرَاءِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ نَصْبَ
وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الْإِسْرَاء: ٧٨] عَلَى الْإِغْرَاءِ فَيَكُونُ فَتَهَجَّدْ تَفْرِيعًا عَلَى الْإِغْرَاءِ تَفْرِيعَ مُفَصَّلٍ عَلَى مُجْمَلٍ، وَتَكُونُ (مِنْ) اسْمًا بِمَعْنَى (بَعْضٍ) كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ [النِّسَاء: ٤٦] وَهُوَ أَيْضًا حَسَنٌ.
وَضَمِيرُ بِهِ لِلْقُرْآنِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الْإِسْرَاء: ٧٨] وَإِنْ كَانَ الْمَعَادُ مُقَيَّدًا بِكَوْنِهِ فِي الْفَجْرِ وَالْمَذْكُورُ هُنَا مُرَادًا مُطْلَقُهُ، كَقَوْلِكَ. عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ، أَيْ نِصْفُ دِرْهَمٍ لَا نِصْفُ الدِّرْهَمِ الَّذِي عِنْدَكَ.
وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ.

وَالتَّهَجُّدُ: الصَّلَاةُ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ، وَهُوَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْهُجُودِ، وَهُوَ النَّوْمُ. فَمَادَّةُ التَّفَعُّلِ فِيهِ لِلْإِزَالَةِ مثل التحرج والتأثم.
وَالنَّافِلَةُ: الزِّيَادَةُ مِنَ الْأَمْرِ الْمَحْبُوبِ.
وَاللَّامُ فِي لَكَ متلعقة بِ نافِلَةً وَهِيَ لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ نَافِلَةً لِأَجْلِكَ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّهَجُّدِ خَاص بالنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ. وَبِذَلِكَ انْتَظَمَ فِي عِدَادِ الصَّلَوَاتِ الْوَاجِبَةِ فَبَعْضُهَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَعَلَى الْأُمَّةِ، وَبَعْضُهَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ خَاصَّةً وَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ مُرَغَّبٌ فِيهِ كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ آيَةُ سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ [٢٠] إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ إِلَى قَوْلِهِ: مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ. وَفِي هَذَا الْإِيجَابِ عَلَيْهِ زِيَادَةُ تَشْرِيفٍ لَهُ، وَلِهَذَا أُعْقِبَ بِوَعْدِ أَنْ يَبْعَثَهُ اللَّهُ مَقَامًا مَحْمُودًا. فَجُمْلَةُ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ تَعْلِيلٌ لِتَخْصِيصِهِ بِإِيجَابِ التَّهَجُّدِ عَلَيْهِ، وَالرَّجَاءُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَعْدٌ.
فَالْمَعْنَى: لِيَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا.
وَالْمَقَامُ: مَحَلُّ الْقِيَامِ. وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَكَانُ الْمَعْدُودُ لِأَمْرٍ عَظِيمٍ، لِأَنَّهُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقُومَ النَّاسُ فِيهِ وَلَا يَجْلِسُوا، وَإِلَّا فَهُوَ الْمَجْلِسُ.
وَانْتَصَبَ مَقاماً عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِ يَبْعَثَكَ.
وَوَصْفُ الْمَقَامِ بِالْمَحْمُودِ وَصْفٌ مَجَازِيٌّ. وَالْمَحْمُودُ مَنْ يَقُومُ فِيهِ، أَيْ يُحْمَدُ أَثَرُهُ فِيهِ، وَذَلِكَ لِغَنَائِهِ عَنْ أَصْحَابِ ذَلِكَ الْمَقَامِ، وَلِذَلِكَ فُسِّرَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ بِالشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى.
وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّاسَ يَصِيرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جُثًا- بِضَمِّ
الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الْمُثَلَّثَةِ- أَيْ جَمَاعَاتٍ كُلُّ أمة تتبع نبيئها يَقُولُونَ: يَا فُلَانُ اشْفَعْ! حَتَّى تَنْتَهِيَ الشَّفَاعَةُ إِلَى النَّبِيءِ فَذَلِكَ يَوْمَ يَبْعَثُهُ اللَّهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ».
وَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ