
المراد بهذا العمى عمى القلب، وذلك يتزايد ويحدث منه شيء بعد شيء، فيخالف الخِلَقَ اللاّزِمة التي لا تزيد، نحو عمى العين، والبياض، والحمرة، ذكره ابن الأنباري.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٧٣ الى ٧٧]
وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧)
قوله تعالى: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ في سبب نزولها أربعة أقوال «١» :
(٩٠٦) أحدها: أن وفد ثَقيف أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالوا: متِّعنا باللات سَنة، وحرِّمْ وادينا كما حرَّمْتَ مكة، فأبى ذلك، فأقبلوا يُكثرون مسألتهم، وقالوا: إِنا نحب أن تعرِّف العرب فضلنا عليهم، فإن خشيتَ أن يقول العرب: أعطيتهم ما لم تعطنا، فقل: الله أمرني بذلك فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلّم عنهم ودخلهم الطمع، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس. وروى عطية عن ابن عباس أنهم قالوا: أجِّلنا سنة، ثم نُسلم ونكسر أصنامنا، فهمَّ أن يؤجِّلهم، فنزلت هذه الآية.
(٩٠٧) والثاني: أنّ المشركين قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلّم: لا نكفُّ عنك إِلا بأن تُلِمَّ بآلهتنا، ولو بأطراف أصابعك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ما علَيَّ لو فعلت والله يعلم إِني لَكاره» ؟ فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير، وهذا باطل لا يجوز أن يُظَنَّ برسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولا ما ذكرنا عن عطية من أنه همَّ أن يُنْظِرهم سنة، وكل ذلك مُحال في حَقِّه وفي حق الصحابة أنهم رَوَواْ عنه.
(٩٠٨) والثالث: أن قريشاً خَلَواْ برسول الله ليلةً إِلى الصباح يكلِّمونه ويفخِّمونه، ويقولون: أنت سيدنا وابن سيدنا، وما زالوا به حتى كاد يقاربهم في بعض ما يريدون، ثم عصمه الله من ذلك، ونزلت هذه الآية، قاله قتادة.
ضعيف جدا. أخرجه الطبري ٢٢٥٣٦ عن سعيد بن جبير مرسلا، ومع إرساله فيه يعقوب القمي، وشيخه جعفر بن أبي المغيرة، وكلاهما غير قوي.
باطل. أخرجه الطبري ٣٣٥٣٧ عن قتادة مرسلا، فهو ضعيف، والمتن باطل بهذا اللفظ فإن قريشا لم تقل للنبي صلى الله عليه وسلّم أنت سيدنا.
__________
(١) قال الطبري رحمه الله ٨/ ١١٩: والصواب من القول أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن نبيه صلى الله عليه وسلّم، أن المشركين كادوا أن يفتنوه عما أوحاه الله إليه ليعمل بغيره، وذلك هو الافتراء على الله. ولا بيان في الكتاب ولا في خبر يقطع العذر أي ذلك كان، والاختلاف فيه موجود فلا شيء فيه أصوب من الإيمان بظاهره. حتى يأتي خبر يجب التسليم له ببيان ما عني بذلك منه.

(٩٠٩) والرابع: أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: اطرد عنك سُقَاط الناس، ومواليهم، وهؤلاء الذين رائحتهم رائحة الضأن، وذلك أنهم كانوا يلبَسون الصوف، حتى نجالسَك ونسمعَ منك، فهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يفعل ما يستدعي به إِسلامهم، فنزلت هذه الآيات. حكاه الزجاج قال: ومعنى الكلام: كادوا يفتنونك، ودخلت «إِن» واللام للتوكيد. قال المفسرون: وإِنما قال: لَيَفْتِنُونَكَ، لأن في إِعطائهم ما سألوا مخالفةً لحكم القرآن.
قوله تعالى: لِتَفْتَرِيَ أي: لتختلقَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وهو قولهم: قل الله أمرني بذلك، وَإِذاً لو فعلت ذلك لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا أي: والَوْكَ وصافَوْكَ.
قوله تعالى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ على الحق، لِعِصمتنا إِياك لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ أي:
هممتَ وقاربتَ أن تَميل إِلى مرادهم شَيْئاً قَلِيلًا قال ابن عباس: وذلك حين سكت عن جوابهم، والله أعلم بنيَّته. وقال ابن الأنباري: الفعل في الظاهر للنّبيّ صلى الله عليه وسلّم، وفي الباطن للمشركين، وتقديره: لقد كادوا يُركنونك إِليهم، وينسبون إِليك ما يشتهونه مما تكرهه، فنسب الفعل إِلى غير فاعله عند أمن اللَّبْس، كما يقول الرجل للرجل: كدت تقتل نفسَك اليوم، يريد: كدت تفعل فعلاً يقتلك غيرك من أجله فهذا المجاز والاتساع وشبيه بهذا قوله تعالى: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ «١»، وقول القائل:
لا أرينّكَ في هذا الموضع.
قوله تعالى: إِذاً لَأَذَقْناكَ المعنى: لو فعلت ذلك الشيء القليل لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ أي: ضِعف عذاب الحياة وَضِعْفَ عذاب الْمَماتِ، ومثله قول الشاعر:
واستبَّ بَعْدَكَ يا كُلَيْبُ المَجْلِسُ «٢»
أي: أهل المجلس. وقال ابن عباس: ضِعْفَ عذاب الدنيا والآخرة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم معصوماً، ولكنه تخويف لأُمَّته، لئلا يركن أحد من المؤمنين إِلى أحد من المشركين في شيء من أحكام الله وشرائعه.
قوله تعالى: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ في سبب نزولها قولان «٣» :
(٩١٠) أحدهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما قَدِم المدينة، حسدته اليهود على مُقامه بالمدينة، وكرهوا
باطل. ذكره الواحدي عن ابن عباس في «أسباب النزول» ٥٨٤ بدون إسناد وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية:
وهذا القول ضعيف، لأن الآية مكية. اه والصواب أنه باطل، فالسورة مكية، وكيد اليهود وحسدهم كان في المدينة، وانظر «تفسير القرطبي» ١٠/ ٢٦١ بتخريجنا.
__________
(١) سورة البقرة: ١٣٢.
(٢) هو عجز بيت لعدي بن ربيعة وصدره: «نبئت أن النار بعدك أوقدت». كما في «الحماسة» ٢/ ٩٢٩. ومعنى قوله: أوقدت نيران الحرب لمقتل كليب.
(٣) قال الطبري رحمه الله ٨/ ١٢١: وأولى القولين عندي بالصواب، قول قتادة ومجاهد، وذلك أن قوله وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ في سياق خبر الله عزّ وجلّ عن قريش وذكره إياهم، ولم يجر لليهود قبل ذلك ذكر فيوجه قوله إِنْ كادُوا إلى أنه خبر عنهم.

قربه، فقالوا: يا محمد أنبيٌ أنت؟ قال: نعم، قالوا: فو الله لقد علمتَ ما هذه بأرض الأنبياء، وإن أرض الأنبياء الشام، فان كنتَ نبياً فائت الشام، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وقال سعيد بن جبير: همّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يشخص عن المدينة، فنزلت هذه الآية. وقال عبد الرحمن بن غَنْم: لمّا قالت له اليهود هذا، صدَّق ما قالوا، وغزا غزوة تبوك لا يريد إِلا الشام، فلما بلغ تبوكَ، نزلت هذه الآية «١».
(٩١١) والثاني: أنهم المشركون أهل مكة هَمُّوا باخراج رسول الله صلى الله عليه وسلّم من مكة، فأمره الله بالخروج، وأنزل هذه الآية إِخباراً عما هَمُّوا به، قاله الحسن، ومجاهد. وقال قتادة: هم أهل مكة باخراجه من مكة، ولو فعلوا ذلك ما نُوظِروا، ولكنَّ الله كفَّهم عن إِخراجه حتى أمره بالخروج. وقيل:
ما لبثوا بعد ذلك حتى بعث الله عليهم القتل ببدر.
فعلى القول الأول، المشار إِليهم: اليهود، والأرض: المدينة. وعلى الثاني: هم المشركون، والأرض: مكة، وقد ذكرنا معنى «الاستفزاز» آنفا «٢»، وقيل: المراد به ها هنا: القتل، ليخرجوه من الأرض كلِّها، روي عن الحسن.
قوله تعالى: وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ قرأ أبن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم:
«خلفك». وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «خلافك». قال الأخفش «خلافك» في معنى خلفك، والمعنى: لا يلبثون بعد خروجك إِلَّا قَلِيلًا أي: لو أخرجوك لا ستأصلناهم بعد خروجك بقليل، وقد جازاهم الله على ما همُّوا به، فقتل صناديد المشركين ببدر، وقتل من اليهود بني قريظة، وأجلى النضير. وقال ابن الأنباري: معنى الكلام: لا يَلْبَثون على خِلافك ومخالفتك، فسقط حرف الخفض. وقرأ أبو رزين، وأبو المتوكل: «خُلاَّفُكَ» بضم الخاء، وتشديد اللام، ورفع الفاء. قوله تعالى: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قال الفراء: نصب السُّنَّة على العذاب المُضْمَر، أي: يعذَّبوَن كسُنَّتنا فيمن أَرسلْنا. وقال الأخفش: المعنى: سَنّها سُنَّةً. وقال الزّجّاج: انتصب بمعنى
__________
(١) واه بمرة. أخرجه البيهقي في «الدلائل» ٥/ ٢٥٤- ٢٥٥ وابن أبي حاتم وابن عساكر كما في «الدر» ٤/ ٣٥٢ عن عبد الرحمن بن غنم، وهذا مرسل، وإسناده ضعيف لضعف أحمد بن عبد الجبار. وقال الحافظ ابن حجر في «تخريج الكشاف» ٢/ ٦٨٦: لم أجده، وذكره السهيلي في «الروض» عن عبد المجيد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم... فذكره اه. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥٨٥ بدون سند عن عبد الرحمن بن غنم. ورد الحافظ ابن كثير هذا في «تفسيره» ٣/ ٧٠ وقال: والأظهر أن هذا ليس بصحيح فإن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يغز تبوك عن قول اليهود، وإنما غزاها امتثالا لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وغزاها ليقتص وينتقم لأهل مؤتة من أصحابه والله أعلم.
قلت: الخبر منكر شبه موضوع. فالسورة مكية والخبر مدني، وبعيد أن يصغي رسول الله صلى الله عليه وسلّم لليهود.
(٢) سورة الإسراء: ٦٤.