
شديدة تقصف الفلك وتغرقهم.
وقوله تعالى: ﴿فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ﴾، أي: بكفركم، حيث سَلِمتم ونجوتم في المرة الأولى، ويُقرأ قوله: ﴿أَنْ يَخْسِفَ﴾ وأخواته من الأفعال (١) بالياء والنون، فمن قرأ بالياء (٢) لأن ما قبله على الواحد الغائب، وهو قوله: ﴿إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ﴾، ومن قرأ بالنون (٣) فلأن هذا النحو قد ينقطع بعضه من بعض، وهو سهل؛ لأن المعنى واحد، ألا ترى أول قد جاء: ﴿وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا﴾ [الإسراء: ٢]، فانتقل من الجمع إلى الإفراد، كذلك ها هنا يجوز أن ينتقل من الغيبة إلى الخطاب، والمعنى واحدٌ، وكلٌّ حَسَنٌ (٤)، ويؤكد النون:
٧٠ - قوله: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ قال ابن عباس: يريد فضلنا (٥)، وهو كقوله: ﴿هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ﴾ [الإسراء: ٦٢] روى ميمون بن مهران عنه في قوله: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ قال ابن عباس: كل شيء يأكل بفيه إلا ابن آدم يأكل بيديه (٦).
(٢) هم: نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي. انظر: "السبعة" ص ٣٨٣، و"علل القراءات" ١/ ٣٢٥، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٧٧، و"الحجة للقراء" ٥/ ١١١، و"المبسوط في القراءات" ص ٢٢٩.
(٣) هم: ابن كثير أبو عمرو، انظر المصادر السابقة.
(٤) "الحجة للقراء" ٥/ ١١١ بتصرف يسير، وهناك توجيه آخر لابن خالويه: فالحجة لمن قرأه بالنون: أنه جعله من إخبار الله عن نفسه، والحجة لمن قرأه بالياء: أنه جعله من إخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ربه. "الحجة في القراءات" ص ٢١٩.
(٥) ورد في تفسير"الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٥٢٢.
(٦) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" ٥/ ٧٧ - مختصرًا، وهو في "تفسير الثعلبي" =

وروى عنه أيضًا أنه قال: بالعقل (١).
وقال الضحاك: بالنطق والتميز (٢).
وقال عطاء: بامتداد القامة وتعديلها (٣).
وقال يمان: بحسن الصورة (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ قال عطاء عن ابن عباس: يريد في البحر على السفن، وفي البر على الإبل والخيل والبغال والحمير (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ قال: يريد الثمار والحبوب والمواشي.
وقال مقاتل: السمن والزُّبْدُ والحلاوى، وجعل رزق غيرهم ما لا يخفى عليكم (٦).
(١) ورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٤ أ - بلفظه، انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٦٣، و"الخازن" ٣/ ١٧٢.
(٢) ورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٧٧، لكنه قال: بالعقل والتمييز، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٤ أ، بنصه، انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٦٣، و"الفخر الرازي" ٢١/ ١٣، و"القرطبي" ١٠/ ٢٩٤.
(٣) ورد في "تفسير الثعلبي" ١٤/ ١٧ أ. لكنه قال: بتعديل القامة وامتدادها، انظر المراجع السابقة.
(٤) ورد في "الثعلبي" ٧/ ١١٤ أ، بنصه، وانظر: "زاد المسير"، و"القرطبي".
(٥) ورد بنصه بلا نسبة في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٤ أ، وتفسير "الوسيط" ٢/ ٥٢٣.
(٦) ليس في تفسيره، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٤ أ، بنصه، انظر: "تفسيرالبغوي" ٥/ ١٠٨، و"القرطبي" ١٠/ ٢٩٥.

﴿وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾؛ روى مكحول عن ابن عباس في هذا، قال: البهائم تأكل بأفواهها، وابن آدم يأكل بيده (١)، ونحو هذا قال عكرمة (٢).
وقال محمد بن جرير: فضلناهم بتسليطهم على البهائم والوحوش، وكثيرٌ من خلق الله سخرناها لهم (٣). وقال السدي: فُضِّلوا على البهائم والدواب والوحوش، وهم الكثير (٤).
وقال الكلبي: فضلوا على الخلائق كلهم إلا (٥) عن طائفة من الملائكة؛ جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وأشباههم (٦).
وقال أبو إسحاق: قال ﴿عَلَى كَثِيرٍ﴾، ولم يقل: على كل من خلقنا؛ لأن الله فضل (٧) الملائكة (٨)، ولكن ابن آدم مفضل على سائر الحيوانات التي لا تعقل ولا يتميز.
(٢) أخرجه البيهقي في "الشعب" ٥/ ٧٧ مختصرًا، عن عكرمة عن ابن عباس.
(٣) "تفسير الطبري" ١٥/ ١٢٥، بنحوه.
(٤) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٥٢٣، بنصه.
(٥) ساقطة من (د)، وفي (ش)، (ع): (غير).
(٦) ورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٤ أ، بنصه، انظر: "تفسير السمعاني" ٣/ ٢٦٣، و"البغوي" ٥/ ١٠٨، و"الخازن" ٣/ ١٧٢، وورد عن ابن عباس في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٧٧، و"ابن الجوزي" ٥/ ٦٢.
(٧) في جميع النسخ: (لأن الله فضل الله الملائكة)، بزيادة لفظ الجلالة بعد فضّل.
(٨) لم ينقل الدليل على هذه الدعوى مع أنه أشار إليها في المصدر، وهو قوله: ﴿وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ [النساء: ١٧٢]، ودلالته ليست صريحة، ولعل هذا السبب في عدم نقله إيّاه، ولذلك حال ابن عطية في تفسيره ٩/ ١٤٦: وهذا غير لازم الآية، بل التفضيل بين الإنس والجن لم تعن له الآية، بل يحتمل أن الملائكة أفضل، ويحتمل التساوي.

ونحو هذا روى عطاء عن ابن عباس في قوله: ﴿عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا﴾، قال: يريد غير (١) الملائكة في هذا الموضع، لم يُفَضَّل ولدُ آدم عليهم.
وذهب قوم إلى تفضيل ولد آدم على الملائكة، واحتجوا بما روي عن زيد بن أسلم في هذه الآية، قال: قالت الملائكة: ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا؛ يأكلون فيها ويتمتعون، ولم تعطنا ذلك، فأعطناه في (٢) الآخرة فقال: "وعزتي وجلالي، لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له: كن فكان" (٣).
(٢) ساقطة من (د).
(٣) أخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٨٢، بنصه، و"الطبري" ١٥/ ١٢٦ بنصه، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٤ أ، بنصه، وانظر: "تفسير ابن كثير" ٣/ ٥٨، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٥٠، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. قال ابن كثير ٣/ ٥٨: وهذا الحديث مرسل من هذا الوجه، وقد روي من وجه آخر متصلًا وذكره، وكذلك أورده في "التاريخ" ١/ ٥٥، عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً، وقال: هو أصح، والحديث المرفوع رواه الطبراني بسنده عن عبد الله بن عمرو وهو بنحوه، وللحديث طريقان يلتقيان عند صفوان بن سليم فمن بعده، قال الطبراني [كما في مجمع البحرين (١/ ١١٩)]: لم يروه عن صفوان إلا طلحة وأبو غسان محمد بن مطرف. والحديث ضعيف بالروايتين؛ قال الهيتمي في "المجمع" ١/ ٨٢: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه إبراهيم بن عبد الله المصيصي، وهو كذاب متروك، وفي سند الأوسط طلحة بن زيد وهو كذاب أيضًا، وقال ابن حجر في "تخريج أحاديث الكشاف" بذيل الكشاف ٤/ ١٠٠: وقد لفقوا أخبارًا منها: أن الملائكة قالت.. الحديث. وذكر رواياته وعزاها إلى أصحابها. وللحديث شاهد عن ابن عمر، وأخرجه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" ١/ ٣٦، بنحوه وقال: هذا حديث لا يصح. والخلاصة أن الحديث بجميع رواياته وشواهده ضعيف لكونه مرسلاً -كما هنا- والموصول ضعيف لضعيف رواته، وحسبك إيراد ابن الجوزي له في العلل، وقول ابن حجر فيه.

قال أبو هريرة: المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده (١)، وهذا الخلاف في التفضيل إنما يجري بين الناس في تفضيل صالحي المؤمنين على الملائكة -ما عدا الرسل والأنبياء من بني آدم (وجبريل وميكائيل وإسرافيل (٢) وعزرائيل (٣) من الملائكة، فإن هؤلاء في الملائكة كالرسل من بني آدم) (٤) - وأصحابنا أيضًا مختلفون في هذه المسألة؛ فمنهم من قال بتفضيل المؤمنين على الملائكة، ومنهم من يأبى ذلك، كما ذكرنا عن ابن عباس والسدي، وهو اختيار أبي إسحاق.
قال العلماء من أصحابنا: هذه من المسائل التي لا يستحب الخوض فيها والإبلاغ، وكذلك الكلام في تفضيل الأنبياء على مشاهير الملائكة (٥)،
(٢) في (أ): (اسرآيل)، والمثبت من (د)
(٣) قال ابن كثير: وأما ملك الموت فليس بمصرح باسمه في القرآن ولا في الأحاديث الصحاح، وقد جاء تسميته في بعض الآثار بعزرائيل، والله أعلم. "البداية والنهاية" ١/ ٤٧.
(٤) ما بين القوسين ساقط من (ش)، (ع).
(٥) مسألة المفاضلة بين الملائكة والبشر مما تنازع فيها العلماء قديمًا، قال ابن كثير في "البداية والنهاية"١/ ٥٤: وقد اختلف الناس في تفضيل الملائكة على البشر على =

.........................

كما لا يستحب الكلام في المخايرة بين الأنبياء؛ لنهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقال: "لا تخايروا بين الأنبياء و (١) لا تفضلوني على يونس بن متى"،
وقال ابن القيم: سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن صالحي بني آدم أيهما أفضل؟ فأجاب بأن صالحي البشر أفضل باعتبار كمال النهاية، والملائكة أفضل باعتبار البداية؛ فإن الملائكة الآن في الرفيق الأعلى منزهون عما يلابسه بنو آدم مستغرقون في عبادة الرب، ولا ريب أن هذه الأحوال الآن أكمل من أحوال البشر، وأما يوم القيامة بعد دخول الجنة فتصير حال صالحي البشر أكمل من حال الملائكة. قال ابن القيم: وبهذا التفصيل يتبين سر التفضيل وتتفق أدلة الفريقين ويصالح كل منهم على حقه. انظر: "لوامع الأنوار البهية" ٢/ ٣٩٨ - ٤٠٩. نقلاً عن بدائع الفوائد. ويضاف إلى هذا أن الملائكة خلقوا للعبادة لذلك لا يعصون الله ما أمرهم، في حين أن البشر خلقوا للعبادة أيضًا مع ابتلائهم بالثمر والخير فتنة، فهم معرضون للشهوات والأهواء فلا يصل أحدهم إلى الطاعة إلا بجهد جهيد وصبر طويل، بخلاف الملائكة الذين جبلوا على الطاعة، فهل يستوي من طبع على الطاعة بمن يتكلف الطاعة وتتجاذبه الأهواء والشهوات الصارفة له عن الطاعة؟! أملاه عليّ شيخي.
(١) لم يتبين لي إن كانت هذه الواو عاطفة لمقطعين أو لحديثين، وهو الأرجح لعدم ورود حديث واحد يجمع بين النهي عن التخيير بين الأنبياء والنهي عن تفضيل رسولنا -صلى الله عليه وسلم- على يونس عليه السلام -فيما وقفت عليه في كتب التخريج- ولم أجد هذا التركيب إلا ما ذكر ابن كثير -على سبيل الحكاية- في "البداية والنهاية" ١/ ٢٣٧، قال: حيث قد ورد في بعض الأحاديث: "لا تفضلوني على الأنبياء ولا على يونس بن متى". أما على اعتبار أنهما مقطعين لحديثين فقد وردت عدة =

وحديث اليهودي الذي قال: لا والذي اصطفى موسى على البشر فَلُطم، ثم أتى النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، مشهور في الصحيح (١)، فالأحسن التأدب بأدب رسول الله
(١) ونصه؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تخيروني على موسى، فإن الناس يَصْعَقُون يوم القيامة، فأكون أول من يُفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صَعِق فأفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله"، ولهذا الحديث عدة روايات، أخرجه أحمد ٣/ ٤١، والبخاري في عدة أماكن، منها (٣٤٠٨) كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: وفاة موسى، الرقاق باب: نفخ الصور (٧٤٧٢) كتاب: التوحيد باب: في المشيئة والإرادة، ومسلم (٢٣٧٣/ ١٦٠) كتاب: الفضائل، فضائل موسى، وأبو داود: السنة: باب: في التخيير بين الأنبياء، و"دلائل النبوة" للبيهقي ٥/ ٤٩٣، وورد في "الشفا" ١/ ٤٣٩، و"الكنز" ١١/ ٥٠٧.