ولا يوجد ما يدلّ عليه، وكذلك قول من قال إن الشجرة مجاز عن اليهود الذين تظاهروا على حضرة الرسول، فلما بعث كذبوه وجاء لعنهم في القرآن صريحا ظاهرا، وإن فتنتهم هي أنهم كانوا ينتظرون بعثته عليه السلام فلما بعث كفروا به قائلين إنه غير النبي المنتظر، فثبطوا كثيرا من الناس بمقالتهم هذه عن الإيمان به السبب نفسه، ووجود لعنهم في القرآن وكونهم فتنة على الإسلام أمر واقع لا شك فيه ولا ريب، ولكن هذه الآيات لا تمسهم، ولا يخفى أن اليهود بالمدينة والآية نزلت بمكة قبل أن يكون لحضرة الرسول مساس بهم، هذا وقد نقلنا لك أيها القارئ كل ما نقله المفسرون بهذا الشأن ورددنا عليه لنكفيك مؤنة المطالعة وتقنع بما أثبتناه لك، والله من وراء القصد وله المنة والحمد.
قال تعالى «وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ» هذا تحقيق لقوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ) الآية المارة وهو ظاهر في الملائكة الذين ادعى بعض العرب عبادتهم وتضمن لغيرهم وإشارة إلى عاقبة الذين عاندوا الحق جل وعلا واقترحوا الآيات وكذبوا الرسل، لأنهم داخلون في الذرية التي احتنكهم إبليس لعنه الله واتبعوه اتباع الظل لذويه دخولا أوليا ومشاركون له في العناد أتم مشاركة، ألم تر إلى قولهم فيما حكى الله عنهم (قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) الآية ٣٣ من الأنفال في ج ٣ ولم يقولوا أللهم اهدنا إليه لسابق شقائهم، ووجه المناسبة بين هذه الآية والتي قبلها أن قريشا كذبوا حضرة الرسول حسدا وتعاظما على ما خصّه الله به دونهم، وما منع إبليس من السجود لآدم عليه السلام شيء من الأشياء إلا الحسد والتكابر عليه، والمعنى أذكر يا محمد لقومك إنما أمرنا الملائكة وقلنا لهم «اسْجُدُوا لِآدَمَ» تكريما وتحية له واحتراما، فسجدوا كلهم امتثالا لأمري دون تلعثم أو سؤال عن السبب بحق الانقياد والطاعة «إِلَّا إِبْلِيسَ» لم يسجد «قالَ» بعد أن وبخ على امتناعه «أَأَسْجُدُ» استفهام إنكاري وتعجب «لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً» ٦١ وقد خلقتني من النار وهي أفضل من الطين، فاستحق اللعن والطرد راجع قصته مفصلة في الآية ١٢ من الأعراف المارة، ثم قال «أَرَأَيْتَكَ» أيها الإله أخبرني من «هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ» وأمرتني بالسجود له أي شيء هو حتى أسجد له
فهو دوني وما هو بالشيء المستحق للسجود بالنسبة إلي لأنه شيء لا يتمالك وعزتك وجلالك وعلوك في مكانك الذي لا يتكيف «لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» ولم تمتني وجواب القسم قوله «لَأَحْتَنِكَنَّ» أستولين وأستأصلن «ذُرِّيَّتَهُ» مهما كانوا استئصال واستيلاء قويبن محكمين، لا أفلت وأترك «إِلَّا قَلِيلًا» ٦٢ منهم المخلصين والصادقين، ومعنى حنك واحتنك جعل الحبل في حنك الدابة الأسفل وقادها به كيفما شاء إلى ما أراد، وهو كناية عن إهلاكهم بإغوائه وطرقه الخبيثة، يقال احتنك الجراد الأرض إذا أهلك نباتها، واحتنك فلان مال فلان إذا أخذه وأكله، وعليه قوله:
فشكوا إليك سنة قد أجحفت | جهدا إلى جهد بنا فأضعفت |
وقد علم ذلك الملعون من قوة الوهم وتركيب الشهوة في بني آدم وهما سبب الميل عن الحق والركون إلى الباطل وقد برّ في قسمه الخبيث في بعض بني آدم قال تعالى (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) الآية ٢٠ من سورة سبأ في ج ٢. هذا ومن قال إن وسوسته خلصت إلى آدم نفسه فقاس الفرع على الأصل لا يصح لأن هذا القول وقع منه قبل الوسوسة لآدم التي كان بسببها ما كان، ومن زعم أن هناك وسوستين فعليه البيان ولن يأتي به البتة «قالَ» استهجانا له وتبكيتا به وإهانة له «اذْهَبْ» لشأنك وامض لما تريد إذ ليس المراد من الذهاب هنا ضد المجيء بل تخليته وما سولت له نفسه الخبيثة احتقارا له كما تقول لمن خالفك في النصح افعل ما تشاء يدل على هذا قوله جل قوله «فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ» وانقاد لخداعك من ذرية آدم وضل عن الحق ومات على ذلك «فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ» أنت ومن أضللت بتغليب المخاطب على الغائب رعاية لحق المتبوعية جَزاءً مَوْفُوراً» ٦٣ وافيا كاملا بغاية الشدة إذ تعقبه بالوعيد ولو كان المراد منه ضد المجيء لما عقب به ووفر كوعد بمعنى كمل والموفور الكامل وعليه قول أشعر الشعراء:
ومن يجعل المعروف من دون عرضه | يفره ومن لا يتق الشتم يشتم |
ركبنا خطايانا وسترك سبل؟؟؟ | وهل لشيء أنت ساتره كشف |
إذا نحن لم نهفوا وتعفو تكرما | فمن غيرنا يهفو وغيرك من يعفو |
هذا وليعلم السائل عن حكمة إنظار إبليس وتمكينه من الوسوسة من قبل الله تعالى وعدم منعه منها وعدم إنظاره مع قدرته على ذلك، هو أن الله تعالى فعل هذا تشديدا للتكليف على الخلق ليستحقّوا مزيد الثواب، على أن وجود إبليس ليس صفحة رقم 528
مانعا مما يريده الله جل مجده، فما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن، والله خلق الخلق طبق علمه، وعلم بهم طبق ما هو عليه في أنفسهم، وانه كان عليه اللعنة جازما بأن الذي تكلم معه بذلك الكلام وهدّده بذلك التهديد هو إله العالم جل وعلا، إلا أنه غلبت عليه شقوته التي استعدت لها ذاته الخبيثة، فلم يبصر وعيد الله مانعا له، ولذا حين يأت يوم هلاكه، ولم يبق له شيء من أجله، يقال له اسجد اليوم لآدم لتنجو، لا يسجد أيضا، ويقول لم أسجد له حيا فكيف أسجد له ميتا! كما ورد الأثر بذلك، فيظهر عناده وعتوه وجرأته على مولاه، فيهلك كافرا كما كان كافرا، وليس حاله بأعجب من حال الكفار، إذ يتمنون العود إلى الدنيا ليؤمنوا بالله، وقد أخبر الله عنهم بقوله: (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) الآية ١٩ من سورة الأنعام في ج ٢، فلا محل للقول بأن إبليس عليه اللعنة لم يكن عالما بأن الذي تكلم معه وهدده هو إله العالم، لأن السياق يأبي ذلك والخطاب شاهد عليه.
مطلب أمل إبليس في الجنة والاعتراف بوجود الإله:
وما قيل إن له أملا بالنّجاة قيل مسنده ما حكي أن مولانا عبد الله التستري سأل الله تعالى أن يريه إبليس فرآه فسأله هل تطمع في رحمة الله تعالى؟ فقال:
كيف لا أطمع فيها والله سبحانه يقول (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) الآية ١٥٦ من الأعراف المارة، وأنا شيء من الأشياء، فقال التستري، ويلك إن الله تعالى قيدها بقوله (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) إلخ تلك الآية، ثم وصفهم بقوله (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ) إلخ الآية ١٥٧ منها أيضا، فقال له إبليس ويحك ما أجهلك القيد لك لا له، فأسكت التستري لأمر لا نعلمه، ولم يقل له إنها عامة تقبل التخصيص كتسليطك على آدم وهو قادر على منعك منه، وكان ذلك قبل تشريفه بالنبوة إذ ما عموم إلا وخصص والمخصص بالاستثناء منها أنت يا ملعون، إذ نص الله تعالى على جزائك بآيات متعددة بلفظ اللعن الخاص بك والطرد من رحمته، والمبعد عنها لا تشمله هذه الرحمة. ومن هنا يضرب المثل لكل مؤمل أملا لا يدركه بالقول السائر (أمل إبليس بالجنة) ولهذا ولكونه مدونا في أزل الله بأنه يقع منه
ذلك وأن الله يلقنه طلب الإمهال ويمهله، وما كان في علم الله الأزلي لا يبدل ولا يغير، فقد أجاب طلبه وأمهله وأبقاه فتنة لبعض خلقه حتى يستكمل ما قدره الله له من غضب وعذاب، فيهلك كسائر الخلق. قال تعالى «رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي» يسير ويسوق ويجزي «لَكُمُ الْفُلْكَ» السفينة والقارب يطلق على الواحد والجمع، إذ لا واحد له من لفظه مثل عالم ونساء ونسوة ورهط «فِي الْبَحْرِ» فيجعلها سائرة على ظهره بالريح الليّنة، والآن به وبالآلات المح؟؟؟ ثة، لأنها داخلة في قوله تعالى (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) الآية ٨ من النحل في ج ٢ وذلك «لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ» الريح في تجاراتكم والزيارة للبلاد التي يشق عليكم الوصول إليها بالبر تتميما لمنافعكم، وهذا تذكير ببعض نعم الله على عباده التي هي من دلائل توحيده، وتفسير الفضل بالحجج والنقد، وعلى رأي بعض المفسرين لا يناسب المقام لأن الفضل عام لكل ما فيه نفع، فدخولهما في عمومه أولى من التقييد بها لأنه جاء مطلقا، فإبقاؤه على إطلاقه أولى «إِنَّهُ» جل شأنه في الأزل «كانَ» ولا يزال «بِكُمْ» أيها الناس «رَحِيماً» ٦٦ إلى انقضاء آجالكم في الدنيا وفي الآخرة إلى إدخالكم الجنة، وإذ ذاك تبقون خالدين فيها تحت ظلّه، وحمدوا هذا الإله الذي هيأ لكم ما تحتاجونه، وسهل لكم ما يعسر عليكم، (وربكم) في هذه الآية صفة، لقوله تعالى قبلا (الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) الآية ٥١ المارة أو بدل منه وهو جائز وإن تباعد ما بينها، قال تعالى «وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ» فأصابتكم شدة بعصف الرياح وتقاذف الأمواج وخفتم الغرق «ضَلَّ» ذهب عن خواطركم وغاب عن أوهامكم كل «مَنْ تَدْعُونَ» وتستعيثون به وترجون نفعه عنكم، ولم يبق في بالكم «إِلَّا إِيَّاهُ» جل وعلا فإنكم إذ ذاك تذكرونه وحده وتطلبون منه نجاتكم ممّا حل بكم لا من غيره، والحال أنكم في حال مرحكم وفي حالة السراء تدعون آلهتكم وحدها «فَلَمَّا نَجَّاكُمْ» ذلك الإله العظيم وأجاب دعاءكم وخرجتم «إِلَى الْبَرِّ» وأمنتم من الغرق «أَعْرَضْتُمْ» عن دعائه وحده وملتم عن الإخلاص بعد الخلاص ونسيتم حالة الشدة التي استعنتم به منها ورجعتم إلى شرككم، ويقال إن معنى أعرضتم توغلتم في التوسع في كفران النعمة على أنه من العرض بمقابل الطول وجعل كناية عن ذلك كما في قول ذي الرّمة:
صفحة رقم 530
عطاء فتى تمكن في المعالي | فأعرض في المكارم واستطالا |
قال نعم، قال فهل يئست من نفع من في السفينة من المخلوقين ونحوهم لك وإنجاءهم إياك مما أنت فيه؟ قال نعم، قال فهل بقي قلبك معلق بشيء آخر غيرهم ترجو منه الخلاص؟ قال نعم، قال ذلك هو الله عز وجل، فاستحسن ذلك منه وقنع، لأن الإنسان مهما عظم وقوعه في المهالك ولم يجد من ينفعه يبقى في قلبه أمل النجاة، وإذ لم يكن لهذا الأمل من يعلم تنفيذه، فيكون المراد به هو الله لا غير، قال تعالى «أَفَأَمِنْتُمْ» أيها المعرضون عمن نجاكم من الغرق في البحر «أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ» الذي هو مأمنكم وأنتم عليه كما خسف بقارون وذهب به في أعماق الأرض، فتغور بكم وتبتلعكم، لأن البر والبحر مسخران لله تعالى، فلا فرق عليه إن أغرقكم في البحر ويرسيكم في قعره أو خسف بكم الأرض، فيغيبكم في ثراها. فعلى العاقل أن يجعل مخافة الله دائما نصب عينيه وفي سويداء قلبه في أي مكان كان «أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً» حجارة صغيرة يرجمكم بها من السماء فيهلككم كما رجم قوم لوط وأبرهة وقومه في دياركم هذه، وقد شاهد آباؤكم حادثته وكثير منكم أيضا حضرها، راجع الآية ٨٢ من سورة القصص والآية ٨٤ من الأعراف وآخر سورة الفيل المارّات. قال الفراء (الحاصب) هو الريح التي ترمي بالحصباء. وقال الزجاج هو التراب الذي فيه الحصباء. وقيل ما تناثر من رقاق الثلج والبرد ومنه قول الفرزدق:
مستقبلين شمال الشام تضربهم | بحاصب كنديف القطن منثور |