
وقوله تعالى: ﴿أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا﴾ قال المفسرون وأهل المعنى: امتنع إبليس من السجود لآدم وأنكر أن يسجد له وقال: أنا ناري، وهذا طيني (١)، (وذلك أن الفروع ترجع إلى الأصول؛ فتكون على قدرها في التكبير أو التصغير، فلما اعتقد إبليس لعنه الله أن النار أكرم أصلاً من الطين خامنه أنه أكرم ممن خلق من طين، وذهب عليه بجهله أن الجواهر كلها من جنس واحد، وأن الله يُعرِّفُها بالأعراض كيف شاء، مع كرم جوهر الطين بكثرة ما فيه من المنافع التي تقاوم منافع النار أو تُوفِي عليها) (٢)، وقال أبو إسحاق: المعنى: لمن خلقته طينًا، وطينًا منصوب على الحال، المعنى: أنك أنشأته في حال كونه من طين (٣).
٦٢ - قوله تعالى: ﴿قَالَ﴾ يعني إبليس، ﴿أَرَأَيْتَكَ﴾ قال الزجاج: هو في معنى أخبرني، والكاف لا موضح لها؛ لأنها ذكرت في المخاطبة توكيدًا (٤)، وذكرنا الكلام في هذا الحرف مستقصى في سورة الأنعام (٥)، ﴿هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ﴾: لِمَ كرمته عليّ؟! قال: موضح هذا نصب بأَرَأَيْتَ، والجواب محذوف، والمعنى أخبرني عن هذا الذي كرمت عليّ لم كَرَّمْتَه عَليَّ، وقد خلقتني من نار وخلقته من طين؟! فَحُذف هذا؛ لأن في الكلام دليلًا عليه (٦)، ومعنى ﴿كَرَّمْتَ عَلَيَّ﴾: أي فَضَّلت، قال
(٢) ما بين القوسين ورد بنصه تقريبًا في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤٩٦.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤٩، بتصرف.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤٩، بنصه.
(٥) آية [٤٠].
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤٩، بنصه.

ابن عباس: والكرم اسم جامع لكل ما يحمد (١).
وقوله تعالى: ﴿لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ﴾ قال ابن عباس في رواية الوالبي: لأستولين (٢).
وقال الحسن: لأغوينَّ (٣)، وقال مجاهد: لأحتوينَّ (٤)، وروي عنه أنه قال مثل الزِّيَاق (٥)، هذا قول المفسرين.
وقال ابن زيد: لأضلنهم (٦)، وقيل: لأستأصلنَّهم بالإغواء (٧).
فأما كلام أهل اللغة في هذا الحرف، فروى محمد بن سَلاَّم أنه سأل يونس عن هذه الآية فقال: يقال: كأن في الأرض كلأً فاحتنكه الجراد؛ أي
(٢) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١١٧ بلفظه من طريق ابن أبي طلحة (صحيحة)، وورد بلفظه في "تفسير الماوردي" ٣/ ٢٥٤، و"الطوسي" ٦/ ٤٩٧، انظر: "تفسير ابن كثير" ٣/ ٥٦، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٤٧ وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٣) لم أقف على هذا القول، وورد عنه تفسيره بـ: لأستأصلن ذريته، في "تفسير هود الهواري" ٢/ ٤٢٩.
(٤) "تفسير مجاهد" ١/ ٣٦٥ بلفظه، وأخرجه "الطبري" ١٥/ ١١٧ بلفظه من طريقين، وورد بلفظه في "تفسير هود الهواري" ٢/ ٤٢٩، و"الطوسي" ٦/ ٤٩٧، أورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٤٧ وزاد نسبته إلى ابن المنذر.
(٥) لم أقف عليه، والزياق: هو ما أحاط بالعمق من القميص. انظر (زيق) في: "الصحاح" ٤/ ١٤٩٢، و"اللسان" ٣/ ١٩٠، و"متن اللغة" ٣/ ٨٠.
(٦) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١١٧ بنصه، وورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤٩٧ - بلفظه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٥٧، و"القرطبي" ١٠/ ٢٨٧، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٤٧ وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
(٧) ورد بنصه في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٣ ب، و"الماوردي" ٣/ ٢٥٤، انظر: "تفسير الزمخشري" ٢/ ٣٦٦، و"الفخر الرازي" ٢١/ ٤.

أتى عليه، ويقول أحدُهُم: لم أجد لِجاماً فاحْتَنَكْتُ دَابَّتي، أي ألقيتُ في حَنَكها حبلًا قُدْتُها به (١).
وتفسير هذا الحرف لا يخرج عن هذين الأصلين الذين ذكرهما يونس، فمن قال: لأستأصلنهم ولأستولين عليهم، فأصله من احتِناكِ الجرادِ الزرعَ، وهو أن يأكلها ويستأصلها باحتناكها فيفسدها، ومن هذا يقال للجماعة المنتجعين: الحنك، يقال: ما تركَ الأحْنَاكُ في أرضنا شيئًا، يعنون: الجماعات المارة، ومنه قول أبي نُخَيْلَة (٢):
إنا وكُنَّا حَنَكًا نَجْدِيًّا (٣) (٤)
هذا هو الأصل، ثم يُسمى الاستيلاء على الشيء وأخذ كله احتناكًا، حتى يقال: احتَنَكَ ما عند فلان، أي أخذه كله من علم أو مال أو غير ذلك (٥)، واحتنكت السَّنَةُ [أموالنا] (٦) إذا استأصلتها، وأنشد أهل اللغة:
(٢) الرَّاجز أبو نُخيلة، اسمه يَعْمر، وكني أبا نُخَيلة لأن أمه ولدته إلى جنب نخلة -كما قال ابن قتيبة- وفي "الأغاني" عن الأصمعي وابن حبيب أنه لا يعرف له اسم غيره، وله كنينان: أبو الجُنيد وأبو العِرماس، كان عاقًا لأبيه فنفاه أبوه عن نفسه، فخرج إلى الشام وأقام هناك إلى أن مات أبوه، ثم عاد وبقي مشكوكًا في نسبه، مطعونًا عليه، مات سنة (١٤٥ هـ) انظر: "الشعر والشعراء" ص ٣٩٩، و"الأغاني" ٢٠/ ٤٠٣، و"الخزانة" ١/ ١٦٥.
(٣) وعجزه:
لمَّا انْتَجَعْنا الورقَ المرْعِيَّا
ورد في "الأساس" ص ٢٠٣، و"اللسان" (حنك) ٢/ ١٠٢٨.
(٤) ورد في "تهذيب اللغة" (حنك) ١/ ٩٤٣، بنصه.
(٥) ورد نحوه في "مجاز القرآن" ١/ ٣٨٤.
(٦) زيادة يقتضيها السياق؛ كما في "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤٩.

نَشْكو إليْك سَنَةً قد أجْحَفَتْ
واحْتَنَكَتْ أموالَنَا وجلَّفَتْ (١)
ومن قال: لأغوينّهم ولأقودنّهم إلى المعاصي؛ كما روي عن مجاهد أنه قال: مثل الزِّياق، فأصله من قولهم: حَنَكَ الدابةَ يَحْنُكُها، إذا ربط في حنكِها الأسفل حَبْلًا يقودها به (٢)، ومثله: احتنك، وأنشد ابن الأعرابي (٣):
فإنَّ لدَينا مُلْجِمِينَ وحانِكًا (٤)
والمعنى على هذا الأصل: لأقودنّهم حيث شئت، كمن يُربط في حَنَكه الزياق فيقاد.
قال الأخفش في قوله: ﴿لَأَحْتَنِكَنَّ﴾: لأستأصلَنَّهم ولأستميلَنَّهم (٥)،
(٢) ذكره ابن السكيت في "الإصلاح" ص ٧١ بنصه، وورد بنحوه في "الغريب" لابن قتيبة ١/ ٢٥٨، و"معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٧١، انظر (حنك) في: "تهذيب اللغة" ١/ ٩٤٤، و"المحيط في اللغة" ٢/ ٣٨٣.
(٣) البيت لزَبَّان بن سَيَّار الفزَاري، كما في "تهذيب اللغة" (حنك) ١/ ٩٤٤، وتصحفت في اللسان إلى: زياد، والصحيح أنه زبان، كما في "الاشتقاق" ص ٢٨٣.
(٤) صدره:
فإن كنتَ تُشْكَى بالجِماع ابنَ جعفر
ورد في "تهذيب اللغة" (حنك) ١/ ٩٤٤، و"اللسان" (حنك) ٢/ ١٠٢٨.
(٥) ليس في معانيه، وورد في "تهذيب اللغة" (حنك) ١/ ٩٤٤، بنصه.

فذكر القولين، ونحوه قال أبو عبيدة سواءً (١)، واختار الفراء والزجاج وابن قتيبة الأول (٢)، وهو أنه مأخوذ من احتناك الجراد الزرع، وكلا القولين مأخوذ من الْحَنَك على ما بَيَّنَا.
وقوله تعالى ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ يعني المعصومين، قال ابن عباس: يريد بالقليل أولياء الله الذين عصمهم (٣)، وهم الذين استثناهم الله -عز وجل- في قوله: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ [الحجر: ٤٢]
فإن قيل: كيف ظن إبليس هذا الظن الصادق بذرية آدم؟ فالجواب عن هذا: أن الله تعالى كان قد أخبر الملائكة أنه سيجعل في الأرض من يفسد فيها ويسفك (٤) الدماء، على قول بعض المفسرين (٥)، وكان إبليس قد علم بذلك، وقيل: إنما قال ذلك لأنه وسوس إلى آدم فلم يجد له عزمًا، فقال بَنُو هذا مِثلُه في ضعف العزيمة، وهذا معنى قول الحسن (٦).
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٢٧، و"معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤٩، و"الغريب" لابن قتيبة ١/ ٢٦٠.
(٣) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٥٧، بنصه.
(٤) في (أ)، (د): (ولا يسفك) بزيادة (لا) والمثبت من (ش)، (ع) وهو الصحيح المتسق مع السياق.
(٥) ورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤٩٧، بنصه.
(٦) ورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤٩٨ بنصه، انظر: "تفسير القرطبي" ١٠/ ٢٨٧، و"أبي حيان" ٦/ ٥٨ وقال: وهذا ليس بظاهر؛ لأن قول ذلك كان قبل وسوسته لآدم في أكل الشجرة. وما قاله أبو حيات متوجه، إلا أن يكون الحسن أراد بقوله ما ورد عن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لما صوَّر الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطيف به ينظر ما هو، فلما رآه أجوف عرف أنه خلق خلقًا لا يتمالك" أخرجه مسلم (٢٦١١) كتاب: البر والصلة، باب. خلق الإنسان خلقًا لا يتمالك.