آيات من القرآن الكريم

قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا
ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ ﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢ ﰿ ﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ

قصة آدم مع إبليس- أمر الملائكة بالسّجود
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٦١ الى ٦٥]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥)
الإعراب:
لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً: طِيناً: إما تمييز منصوب، أو حال من هاء خَلَقْتَ المحذوفة، وإما منصوب بحذف حرف الجرّ (منصوب بنزع الخافض)، وتقديره: خلقت من طين، فلما حذف حرف الجرّ، اتّصل الفعل به، فنصبه.
لَئِنْ اللام: لام القسم. أَرَأَيْتَكَ هذَا الكاف لتأكيد الخطاب، لا محل له من الإعراب، وهذا مفعول به أول، والَّذِي صفته. والمفعول الثاني محذوف، لدلالة صلته عليه، أي أخبرني عن هذا الذي كرمته علي بأمري بالسّجود له، لم كرمته علي.
جَزاءً مَوْفُوراً منصوب على المصدر بإضمار فعله، أو حال موطئة لقوله تعالى:
مَوْفُوراً.
البلاغة:
وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ استعارة تمثيلية، شبّه حال الشيطان في تسلّطه على الغاوين بالفارس الذي يصيح بجنده للهجوم على الأعداء، للغلبة عليهم.

صفحة رقم 114

المفردات اللغوية:
وَإِذْ قُلْنا واذكر حين قلنا. اسْجُدُوا لِآدَمَ سجود تحيّة بالانحناء أَأَسْجُدُ استفهام إنكار وتعجّب. أَرَأَيْتَكَ أخبرني. كَرَّمْتَ فضّلت. عَلَيَّ بالأمر بالسّجود له، وأنا خير منه، خلقتني من نار. لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ لأستأصلنّهم بالإغواء إلا قليلا، لا أقدر أن أقاوم شكيمتهم، كأنه أصبح يملكهم. والظاهر أنه قال ذلك قبل أكل آدم من الشجرة.
إِلَّا قَلِيلًا منهم، ممن عصمته.
قالَ تعالى له. اذْهَبْ امض لشأنك، منظرا إلى وقت النّفخة الأولى، فقد خلّيتك وما سولت لك نفسك. جَزاءً مَوْفُوراً وافرا كاملا. وَاسْتَفْزِزْ واستخف وأزعج.
بِصَوْتِكَ بدعائك إلى معصية الله أو الفساد. وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ وصح عليهم، من الجلبة:
وهي الصياح. بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وهم الفرسان الركاب، والمشاقة في المعاصي. وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ المحرمة كالرّبا والغصب. وَالْأَوْلادِ من الزّنى. وَعِدْهُمْ بأن لا بعث ولا جزاء، وغير ذلك من المواعيد الباطلة كشفاعة الآلهة، والاتّكال على كرامة الآباء، وتأخير التوبة لطول الأمل. وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ بذلك. إِلَّا غُرُوراً باطلا. وهو اعتراض لبيان مواعيده، والغرور: تزيين الخطأ أو الباطل بما يوهم أنه صواب أو حقّ.
إِنَّ عِبادِي المؤمنين المخلصين. سُلْطانٌ تسلّط وقوة على إغوائهم. وَكِيلًا حافظا لهم منك، ورقيبا، فهم يتوكّلون على الله في الاستعاذة منك على الحقيقة.
المناسبة:
مناسبة هذه الآية لما قبلها من وجهين:
أحدهما- عقد مشابهة بين محنة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومحنة آدم عليه السّلام من إبليس، فلما نازع المشركون النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في النّبوة، وكذّبوه حين أخبرهم عن الإسراء وشجرة الزّقّوم، واقترحوا عليه الآيات، كبرا منهم وحسدا له على النّبوة، ناسب ذكر قصة آدم عليه السّلام وإبليس، حيث حمله الكبر والحسد على الامتناع من السجود، فالحسد داء قديم.
والثاني- أنه لما قال تعالى: فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً بيّن ما سبب هذا الطغيان، وهو قول إبليس: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا.

صفحة رقم 115

هذا.. وقد ذكرت قصة آدم في سبع سور: البقرة، الأعراف، الحجر، الإسراء، الكهف، طه، ص.
التفسير والبيان:
واذكر أيّها الرسول للنّاس عداوة إبليس لآدم وذريته، وأنها عداوة قديمة منذ خلق آدم، والدليل أنه تعالى أمر الملائكة بالسّجود لآدم سجود تحيّة ومحبّة وتكريم، لا سجود عبادة وخضوع، فسجدوا كلّهم إلا إبليس استكبر وأبى أن يسجد له، افتخارا عليه واحتقارا له، قائلا: أأسجد له وهو طين، وأنا مخلوق من النار، كما أخبر تعالى عنه: قالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص ٣٨/ ٧٦].
وقال هنا جرأة وكفرا: قالَ: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ أي أخبرني عن هذا الذي فضّلته: لم كرّمته علي، وأنا خير منه؟ فإنه نسب الجور إلى ربّه في زعمه أنه أفضل من آدم بسبب عنصر الخلق، فإن عنصر النار أسمى وأرفع، وعنصر الطين أدنى وأقرب للخمول، والحقيقة أن العناصر كلها من جنس واحد، أوجدها الله، بل إن الطين أنفع من النار، فبالأول البناء والعمران، وبالثاني الخراب والهدم والدّمار.
لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا أي قسما لئن أبقيتني إلى يوم القيامة لأستأصلنّ ذريته بالإغواء، ولأستولينّ عليهم بالإضلال جميعا، أو لأضلنّ ذريته إلا قليلا منهم، وهم العباد المخلصون الذين وصفهم الله تعالى بقوله: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر ١٥/ ٤٢] أي إن عبادي الصالحين لا تقدر أن تغويهم.
فأجابه الله إلى طلبه حين سأل التأخير وأخّره:
قالَ: اذْهَبْ، فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ.. أي امض لشأنك الذي اخترته

صفحة رقم 116

لنفسك خذلانا وتخلية، فمن أطاعك واتّبعك منهم، فإن جهنم مقرّكم ومأواكم وجزاؤكم جميعا تجازون فيها جزاء وافرا أو موفرا أي محفوظا كاملا لا ينقص لكم منه شيء، ونظير الآية: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ، إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [الحجر ١٥/ ٣٧- ٣٨].
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ أي استخف واستنفر بدعوتك إلى معصية الله، بكلّ ما أوتيت من قوة وإغراء ووسوسة، وصوته: دعاؤه إلى معصية الله تعالى.
وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ أي واجمع عليهم جندك فرسانا ومشاة، وهذا تمثيل، والمراد به: تسلّط عليهم بكلّ ما تقدر عليه، واجمع لهم كلّ مكايدك، ولا تدّخر وسعا في إغوائهم، مستخدما كلّ الأتباع والأعوان.
وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ أي بتحريضهم على كسب الأموال وإنفاقها في معاصي الله تعالى من ربا وسرقة وغصب وغش وخديعة، وعلى إنجاب الأولاد بالزّنى أو التّخلّص منهم بالقتل أو الوأد أو إدخالهم في غير الدّين الذي ارتضاه الله تعالى، وغير ذلك من تسميات غير شرعية، وتجاوز حدود الشّرع في الزّواج والطّلاق والرّضاع والنّسب والنّفقة وغيرها.
وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً أي عدهم المواعيد الكاذبة الباطلة من شفاعة الآلهة المزعومة، والكرامة على الله بالأنساب الشريفة، أو بالتّسويف في التوبة ومغفرة الذّنوب بدونها، والاتّكال على الرّحمة، وشفاعة الرّسول في الكبائر، وإيثار العاجل على الآجل، وألا جنّة ولا نار، ونحو ذلك، مما سيظهر بطلانه حينما يقول إبليس يوم القضاء بالحقّ: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ، وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ [إبراهيم ١٤/ ٢٢].

صفحة رقم 117

وقوله تعالى هنا:
وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً أي لا يعدهم الشيطان إلا كذبا وباطلا وإظهارا للباطل في صورة الحقّ، فمواعيده كلها خدعة وتزيين كاذب، وهذه الأوامر للشيطان واردة على سبيل التّهديد والخذلان والتّخلية، كما يقال للعصاة:
اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت ٤١/ ٤٠].
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أي إن عبادي المخلصين الصالحين لا تقدر أن تغويهم، فهم محفوظون محروسون من الشيطان الرّجيم.
وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا أي كفى بالله حافظا ومؤيّدا ونصيرا للمؤمنين الصالحين المتوكّلين عليه، الذين يستعينون به على التّخلّص من وساوس الشيطان.
وهذا دليل على أن المعصوم من عصمه الله، وأن الإنسان بحاجة إلى عون الله جلّ جلاله.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يلي:
١- إن تمادي المشركين وعتوهم على ربّهم يذكّر بقصة إبليس حين عصى ربّه وأبى السّجود، وقال: إن آدم من طين، وهو من نار، وجوهر النار خير من جوهر الطين، مع أن الجواهر متماثلة، وقال مخاطبا ربّه: أخبرني عن هذا الذي فضّلته عليّ، لم فضّلته؟ وقال أيضا متحدّيا: لأستأصلنّ ذرية آدم بالإغواء والإضلال، ولأجتاحنّهم ولأضلنّهم إلا القليل المعصومين منهم الذين ذكرهم الله في قوله: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ.
وإنما قال إبليس ذلك ظنّا، كما قال الله تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ

صفحة رقم 118

ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ
[سبأ ٣٤/ ٢٠]، أو علم من طبع البشر تركب الشهوة فيهم، أو بنى كلامه على قول الملائكة: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة ٢/ ٣٠].
والظاهر أن المأمور بالسجود لآدم هم جميع الملائكة في الأرض والسماء، وسجد الملائكة لآدم من أول ما كملت حياته.
٢- كان جواب الحقّ تبارك وتعالى في غاية الإهانة والتّحقير، فقال له:
اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ... الآية، أي اجهد جهدك فقد أنظرناك، فمن أطاعك من ذرية آدم، فجزاؤكم جميعا جهنّم.
واستزلّ واستخفّ بدعوتك إلى معصية الله تعالى، واجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكايدك، واجعل لنفسك شركة في الأموال بإنفاقها في معصية، وفي الأولاد بجعلهم أولاد الزّنى، وعدهم الأماني الكاذبة، وأنه لا قيامة ولا حساب.
ولكن عبادي المؤمنين الصالحين لا سلطان ولا تسلّط لك عليهم. وكفى بالله عاصما من القبول من دعاوى إبليس، وحافظا من كيده وسوء مكره.
٣- قال القرطبي: دلّت آية وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ على تحريم المزامير والغناء واللهو لأن صوته: كلّ داع يدعو إلى معصية الله تعالى، وكلّ ما كان من صوت الشيطان أو فعله وما يستحسنه فواجب التّنزه عنه.
وروى نافع عن ابن عمر أنه سمع صوت زمّارة، فوضع أصبعيه في أذنيه، وعدل راحلته عن الطريق وهو يقول: يا نافع، أتسمع؟ فأقول: نعم، فمضى حتى قلت له:
لا، فوضع يديه وأعاد راحلته إلى الطريق، وقال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سمع صوت زمّارة راع، فصنع مثل هذا «١».

(١) تفسير القرطبي: ١٠/ ٢٩٠

صفحة رقم 119
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية