آيات من القرآن الكريم

قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا
ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰ ﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬ ﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷ ﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸ ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ ﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ ﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎ ﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ ﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ ﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ ﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉ ﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖ ﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕ ﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷ ﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ ﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢ ﰿ ﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋ ﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜ

الذات والصفات فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ بالفساد والفناء وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً منيرة باقية بكمالها تبصر بنورها الحقائق لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وهو كمالكم الذي تستعدونه وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ أي لتحصوا عدد المراتب والمقامات من بدايتكم إلى نهايتكم بالترقي فيها وحساب أعمالكم وأخلاقكم وأحوالكم فتبدلوا السيء من ذلك بالحسن وَكُلَّ شَيْءٍ من العلوم والحكم فَصَّلْناهُ بنور عقولكم الفرقانية الحاصلة لكم عند الكمال تفصيلا لا إجمال فيه كما في مرتبة العقل القرآني الحاصل عند البداية وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ الآية تقدم ما يصلح أن يكون من باب الإشارة فيها وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا للصوفية في هذا الرسول كغيرهم قولان، فمنهم من قال إنه رسول العقل، ومنهم من قال رسول الشرع وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها
الآية فيها إشارة إلى أنه سبحانه إذا أراد أن يخرب قلب المريد سلط عليه عساكر هوى نفسه وجنود شياطينه فيخرب بسنابك خيول الشهوات وآفات الطبعيات نعوذ بالله تعالى من ذلك مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ لكدورة استعداده وغلبة هواه وطبيعته عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً عن ذوي العقول مَدْحُوراً في سخط الله تعالى وقهره وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ
لصفاء استعداده وسلامة فطرته وَسَعى لَها سَعْيَها اللائق بها وهو السعي على سبيل الاستقامة وما ترتضيه الشريعة، وقال بعضهم: السعي إلى الدنيا بالأبدان والسعي إلى الآخرة بالقلوب والسعي على الله تعالى بالهمم وَهُوَ مُؤْمِنٌ ثابت الإيمان لا تزعزعه عواصف الشبه فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً مقبولا مثابا عليه، وعن أبي حفص أن السعي المشكور ما لم يكن مشوبا برياء ولا بسمعة ولا برؤية نفس ولا بطلب عوض بل يكون خالصا لوجهه تعالى لا يشاركه في ذلك شيء فلا تغفل كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ لا تأثير لإرادتهم وسعيهم في ذلك وإنما هي معرفات وعلامات لما قدرنا لهم من العطاء، ورأيت في الفتوحات المكية أن هذه الآية نحو قوله تعالى: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها [الشمس: ٨] وهو نحو ما تقدم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقد سمعت ما فيه وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً عن أحد مطيعا كان أو عاصيا لأن شأنه تعالى شأنه الإفاضة حسبما تقتضيه الحكمة انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ في الدنيا بمقتضى المشيئة والحكمة وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا فهناك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر رزقنا الله تعالى وإياكم ذلك أنه سبحانه الجواد المالك.

صفحة رقم 50

لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلّم والمراد به أمته على حد إياك أعني فاسمعي يا جارة أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب على حد وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا [الأنعام: ٢٧، ٣٠] فَتَقْعُدَ بالنصب على النهي، والقعود قيل بمعنى المكث كما تقول هو قاعد في أسوأ حال أي ماكث ومقيم سواء كان قائما أم جالسا، وقيل بمعنى العجز والعرب تقول: ما أقعدك عن المكارم أي ما أعجزك عنها، وقيل: بمعنى الصيرورة من قولهم: شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة أي صارت، وتعقب هذا أبو حيان بأن مجيء قعد بمعنى صار مقصور عند الأصحاب على هذا المثل ولا يطرد، وقال بعضهم: إن اطرد فإنما يطرد في مثل الموضع الذي استعملته العرب فيه أولا يعني القول المذكور فلا

صفحة رقم 52

يقال: قعد كاتبا بمعنى صار بل قعد كأنه سلطان لكونه مثل قعدت كأنها حربة، ولعل من فسر القعود هنا بمعنى الصيرورة ذهب مذهب الفراء فإنه كما قال أبو حيان وغيره يقول باطراد ذلك وجعل منه قول الراجز المذكور في البحر والحواشي الشهابية ولا حجة فيه.
وحكى الكسائي قعد لا يسأل حاجة إلا قضاها واستعمال البغداديين على هذا، ثم إنهم اختلفوا في القعود بمعنى العجز فقيل هو مجاز من القعود ضد القيام كالمقعد بمعنى العاجز عن القيام ثم تجوز به عن مطلق العجز، وقيل هو كناية عن العجز فإن من أراد أخذ شيء يقوم له ومن عجز قعد وأما القعود بمعنى الزمانة فحقيقة والإقعاد مجاز كأن مرضه أقعده وجعل هذا القعود بمعنى المكث حقيقة، وتعقب بأن فيه نظرا إلا أن يريد حقيقة عرفية لا لغوية لأنه ضد القيام وإذا جعل القعود هنا بمعنى العجز فالفعل لازم ومتعلقه محذوف أي فتعجز عن الفوز بالمقصود مثلا ومَذْمُوماً مَخْذُولًا إما خبران لتقعد على القول الأخير وإما حالان مترادفان أي فتقعد جامعا على نفسك الخذلان من الله تعالى والذم من الملائكة والمؤمنين أو من ذوي العقول حيث اتخذت محتاجا مفتقرا مثلك لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا إلها ونسبت إليه ما لا يصلح له وجعلته شريكا لمن له الكمال الذاتي وهو الذي خلقك ورزقك وأنعم عليك على ما عداه، وجوز أبو حيان أن يراد بالقعود حقيقته لأن من شأن المذموم المخذول أن يقعد حائرا متفكرا وهو من باب التعبير بالحال الغالبة، وفي الآية إشعار بأن الموحد جامع بين المدح والنصرة وَقَضى رَبُّكَ أخرج ابن جرير وابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال: أي أمر أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ أي بأن لا تعبدوا إلخ على أن مصدرية والجار قبلها مقدر ولا نافية والمراد النهي، ويجوز أن تكون ناهية كما مر ولا ينافيه التأويل بالمصدر كما أسلفناه أو أي لا تعبدوا إلخ على أن أن مفسرة لتقدم ما تضمن معنى القول دون حروفه ولا ناهية لا غير، وجوز بعضهم أن تكون أن مخففة واسمها ضمير شأن محذوف ولا ناهية أيضا وهو كما ترى وجوز أبو البقاء أن تكون أن مصدرية ولا زائدة والمعنى الزم ربك عبادته وفيه أن الاستثناء يأبى ذلك وفي الكشاف تفسير قضى بأمر أمرا مقطوعا به وجعل ذلك غير واحد من باب التضمين وجعل المضمن أصلا والمتضمن قيدا وقال بعضهم: أراد أن القضاء مجاز عن الأمر المبتوت الذي لا يحتمل النسخ ولو كان ذلك من التضمين لكان متعلق القضاء الأمر دون المأمور به وإلا لزم أن لا يعبد أحد غير الله تعالى فيحتاج إلى تخصيص الخطاب بالمؤمنين فيرد عليه بأن جميع أوامر الله تعالى بقضائه فلا وجه للتخصيص.
وتعقب بأن ما ذكر متوجه لو أريد بالقضاء أخو القدر أما لو أريد به معناه اللغوي الذي هو البت والقطع المشار إليه فلا يرد ما ذكره، ثم إن لزوم أن لا يعبد أحد غير الله تعالى ادعاه ابن عباس فيما يروى للقضاء من غير تفصيل، فقد أخرج أبو عبيد وابن منيع وابن المنذر وابن مردويه من طريق ميمون بن مهران عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: أنزل الله تعالى هذا الحرف على لسان نبيكم «ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه» فلصقت إحدى الواوين بالصاد فقرأ الناس وَقَضى رَبُّكَ ولو نزلت على القضاء ما أشرك به أحد، وأخرج مثل ذلك عنه جماعة من طريق سعيد بن جبير وابن أبي حاتم من طريق الضحاك ورويت هذه القراءة عن ابن مسعود وأبي بن كعب رضي الله تعالى عنهما أيضا وهذا إن صح عجيب من ابن عباس لاندفاع المحذور بحمل القضاء على الأمر ولا أقل كما هو مروي عنه أيضا نعم قيل إن ذلك معنى مجازي للقضاء وقيل إنه حقيقي، وفي مفردات الراغب القضاء فصل الأمر قولا كان أو فعلا وكل منهما إلهي وبشري فمن القول الإلهي قوله تعالى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ أي أمر ربك إلى آخر ما قال، ثم إن هذا الأمر عند البعض بمعنى مطلق الطلب ليتناول طلب ترك العبادة لغيره تعالى، ويغني عن هذا التجوز كما قيل إن معنى لا تعبدوا غيره اعبدوه وحده فهو أمر باعتبار لازمه، وإنما اختير ذلك للإشارة إلى أن التخلية بترك ما سواه مقدمة مهمة هنا، وأمر سبحانه أن لا يعبدوا غيره تعالى لأن العبادة غاية التعظيم وهي لا تليق إلا لمن كان في غاية العظمة منعما بالنعم العظام

صفحة رقم 53

وما غير الله تعالى كذلك، وهذا وما عطف عليه من الأعمال الحسنة كالتفصيل للسعي للآخرة.
وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي وبأن تحسنوا بهما أو أحسنوا بهما إحسانا، ولعله إذا نظر إلى توحيد الخطاب فيما بعد قدر وأحسن بالتوحيد أيضا، والجار والمجرور متعلق بالفعل المقدر وهو الذي ذهب إليه الزمخشري ومنع تعلقه بالمصدر لأن صلته لا تتقدم عليه، وعلقه الواحدي به فقال الحلبي: إن كان المصدر منحلا بأن والفعل فالوجه ما ذهب إليه الزمخشري وإن جعل نائبا عن الفعل المحذوف فالوجه ما قاله الواحدي، ومذهب الكثير من النحاة جواز تقديم معموله إذا كان ظرفا مطلقا لتوسعهم فيه والجار والمجرور أخوه.
إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما إما مركبة من إن الشرطية وما المزيدة لتأكيدها.
قال الزمخشري: ولذا صح لحوق النون المؤكدة للفعل ولو أفردت إن لم يصح لحوقها واختلف في لحاقها بعد الزيادة فقال أبو إسحاق بوجوبه، وعن سيبويه القول بعدم الوجوب ويستشهد له بقول أبي حية النميري:
فإما ترى لمتي هكذا... قد أدرك الفتيات الخفارا
وعليه قول ابن دريد:
أما ترى رأسي حاكى لونه... طرة صبح تحت أذيال الدجى
ومعنى عِنْدَكَ في كنفك وكفالتك، وتقديمه على المفعول مع أن حقه التأخير عنه للتشويق إلى وروده فإنه مدار تضاعف الرعاية والإحسان، وأَحَدُهُما فاعل للفعل، وتأخيره عن الظرف والمفعول لئلا يطول الكلام به وبما عطف عليه وكِلاهُما معطوف عليه.
وقرأ حمزة والكسائي «إما يبلغان» فأحدهما على ما في الكشاف بدل من ألف الضمير لا فاعل والألف علامة التثنية على لغة أكلوني البراغيث فإنه رد بأن ذلك مشروط بأن يسند الفعل المثنى نحو قاما أخواك أو لمفرق بالعطف بالواو خاصة على خلاف فيه نحو قاما زيد وعمرو وما هنا ليس كذلك. واستشكلت البدلية بأن أَحَدُهُما على ذلك بدل بعض من كل لا كل من كل لأنه ليس عينه وكِلاهُما معطوف عليه فيكون بدل كل من كل لكنه خال عن الفائدة على أن عطف بدل الكل على غيره مما لم نجده. وأجيب بأنا نسلم أنه لم يفد البدل زيادة على المبدل منه لكنه لا يضر لأنه شأن التأكيد ولو سلم أنه لا بد من ذلك ففيه فائدة لأنه بدل مقسم كما قاله ابن عطية فهو كقوله:
فكنت كذي رجلين رجل صحيحة... وأخرى رمى فيها الزمان فشلت
وتعقب بأنه ليس من البدل المذكور لأنه شرطه العطف بالواو وأن لا يصدق المبدل منه على أحد قسميه وهنا قد صدق على أحدهما، وبالجملة هذا الوجه لا يخلو عن القيل والقال، وعن أبي علي الفارسي أن أَحَدُهُما بدل من ضمير التثنية وكِلاهُما تأكيد للضمير، وتعقب بأن التأكيد لا يعطف على البدل كما لا يعطف على غيره وبأن أحدهما لا يصلح تأكيدا للمثنى ولا غيره فكذا ما عطف عليه وبأن بين إبدال بدل البعض منه وتوكيده تدافعا لأن التأكيد يدفع إرادة البعض منه، ومن هنا قال في الدر المصون: لا بد من إصلاحه بأن يجعل أحدهما بدل بعض من كل ويضمر بعده فعل رافع لضمير تثنية وكِلاهُما توكيد له والتقدير أو يبلغان كلاهما وهو من عطف الجمل حينئذ لكن فيه حذف المؤكد وإبقاء تأكيده وقد منعه بعض النحاة وفيه كلام في مفصلات العربية، ولعل المختار إضمار فعل لم يتصل به ضمير التثنية وجعل كِلاهُما فاعلا له فإنه سالم عما سمعت في غيره ولذا اختاره في البحر، وتوحيد ضمير الخطاب في عِنْدَكَ وفيما بعده مع أن ما صرح به فيما سبق على الجمع للاحتراز عن التباس المراد وهو نهي كل أحد عن تأفيف والديه ونهرهما فإنه لو قوبل الجمع بالجمع أو التثنية بالتثنية لم يحصل ذلك، وذكر أنه وحد الخطاب

صفحة رقم 54

في لا تَجْعَلْ للمبالغة وجمع في أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ لأنه أوفق لتعظيم أمر القضاء فَلا تَقُلْ لَهُما أي لواحد منهما حالتي الانفراد والاجتماع أُفٍّ هو اسم صوت ينبىء عن التضجر أو اسم فعل هو أتضجر واسم الفعل بمعنى المضارع وكذا بمعنى الماضي قليل والكثير بمعنى الأمر وفيه نحو من أربعين لغة والوارد من ذلك في القراءات سبع ثلاث متواترة وأربع شاذة. فقرأ نافع وحفص بالكسر والتنوين وهو للتنكير فالمعنى أتضجر تضجرا ما وإذا لم ينون دل على تضجر مخصوص، وقرأ ابن كثير وابن عامر بالفتح دون تنوين، والباقون بالكسر دون تنوين وهو على أصل التقاء الساكنين والفتح للخفة ولا خلاف بينهم في تشديد الفاء، وقرأ نافع في رواية عنه بالرفع والتنوين، وأبو السمال بالضم للاتباع من غير تنوين، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنه بالنصب والتنوين، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالسكون، ومحصل المعنى لا تتضجر مما يستقذر منهما وتستثقل من مؤنهما، والنهي عن ذلك يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء قياسا جليا لأنه يفهم بطريق الأولى ويسمى مفهوم الموافقة ودلالة النص وفحوى الخطاب، وقيل يدل على ذلك حقيقة ومنطوقا في عرف اللغة كقولك: فلان لا يملك النقير والقطمير فإنه يدل كذلك على أنه لا يملك شيئا قليلا أو كثيرا، وخص بعض أنواع الإيذاء بالذكر في قوله تعالى: وَلا تَنْهَرْهُما للاعتناء بشأنه والنهر كما قال الراغب الزجر بإغلاظ، وفي الكشاف النهي والنهر والنهم أخوات أي لا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك.
وقال الإمام: المراد من قوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ المنع من إظهار الضجر القليل والكثير والمراد من قوله سبحانه وَلا تَنْهَرْهُما المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الرد عليهما والتكذيب لهما ولذا روعي هذا الترتيب وإلا فالمنع من التأفيف يدل على المنع من النهر بطريق الأولى فيكون ذكره بعده عبثا فتأمل.
وَقُلْ لَهُما بدل التأفيف والنهر قَوْلًا كَرِيماً أي جميلا لا شراسة فيه، قال الراغب: كل شيء يشرف في بابه فإنه يوصف بالكرم، وجعل ذلك بعض المحققين من وصف الشيء باسم صاحبه أي قولا صادرا عن كرم ولطف ويعود بالآخرة إلى القول الجميل الذي يقتضيه حسن الأدب ويستدعيه النزول على المروءة مثل أن يقول يا أبتاه ويا أماه ولا يدعوهما بأسمائهما فإنه من الجفاء وسوء الأدب، وليس القول الكريم مخصوصا بذلك كما يوهمه اقتصار الحسن فيما أخرجه عنه ابن أبي حاتم عليه فإنه من باب التمثيل، وكذا ما أخرج عن زهير بن محمد أنه قال فيه: إذا دعواك فقل لبيكما وسعديكما.
وأخرج هو وابن جرير وابن المنذر عن أبي الهداج أنه قال: قلت لسعيد بن المسيب كل ما ذكر الله تعالى في القرآن من بر الوالدين فقد عرفته إلا قوله سبحانه: وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً ما هذا القول الكريم، فقال ابن المسيب قول العبد المذنب للسيد الفظ.
وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ أي تواضع لهما وتذلل وفيه وجهان. الأول أن يكون على معنى جناحك الذليل ويكون جَناحَ الذُّلِّ بل خفض الجناح تمثيلا في التواضع وجاز أن يكون استعارة في المفرد وهو الجناح ويكون الخفض ترشيحا تبعيا أو مستقلا، الثاني أن يكون من قبيل قول لبيد:

وغداة ريح قد كشفت وقرة إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
فيكون في الكلام استعارة مكنية وتخييلية بأن يشبه الذل بطائر منحط من علو تشبيها مضمرا ويثبت له الجناح تخييلا والخفض ترشيحا فإن الطائر إذا أراد الطيران والعلو نشر جناحيه ورفعهما ليرتفع فإذا ترك ذلك خفضهما، وأيضا هو إذا رأى جارحا يخافه لصق بالأرض وألصق جناحيه وهي غاية خوفه وتذلله، وقيل المراد بخفضهما ما يفعله إذا ضم

صفحة رقم 55

فراخه للتربية وأنه أنسب بالمقام، وفي الكشف أن في الكلام استعارة بالكناية ناشئة من جعل الجناح الذل ثم المجموع كما هو مثل في غاية التواضع ولما أثبت لذله جناحا أمره بخفضه تكميلا وما عسى يختلج في بعض الخواطر من أنه لما أثبت لذله جناحا فالأمر برفع ذلك الجناح أبلغ في تقوية الذل من خفضه لأن كمال الطائر عند رفعه فهو ظاهر السقوط إذا جعل المجموع تمثيلا لأن الغرض تصوير الذل كأنه مشاهد محسوس، وأما على الترشيح فهو وهم لأن جعل الجناح المخفوض للذل يدل على التواضع وأما جعل الجناح وحده فليس بشيء ولهذا جعل تمثيلا فيما سلف.
وقرأ سعيد بن جبير «من الذل» بكسر الذال وهو الانقياد وأصله في الدواب والنعت فالمذلول وأما الذل بالضم فأصله في الإنسان وهو ضد العز والنعت منه ذليل مِنَ الرَّحْمَةِ أي من فرط رحمتك عليهما فمن ابتدائية على سبيل التعليل، قال في الكشف: ولا يحتمل البيان حتى يقال لو كان كذا لرجعت الاستعارة إلى التشبيه إذ جناح الذل ليس من الرحمة أبدا بل خفض جناح الذل جاز أن يقال إنه رحمة وهذا بين، واستفادة المبالغة من جعل جنس الرحمة مبدأ للتذلل فإنه لا ينشأ إلا من رحمة تامة، وقيل من كون التعريف للاستغراق وليس بذاك، وإنما احتاجا إلى ذلك لافتقارهما إلى من كان أفقر الخلق إليهما واحتياج المرء إلى من كان محتاجا إليه غاية الضراعة والمسكنة فيحتاج إلى أشد رحمة، ولله تعالى در الخفاجي حيث يقول:

يا من أتى يسأل عن فاقتي ما حال من يسأل من سائله
ما ذلة السلطان إلا إذا أصبح محتاجا إلى عامله
وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما وادع الله تعالى أن يرحمهما برحمته الباقية وهي رحمة الآخرة ولا تكتف برحمتك الفانية وهي ما تضمنها الأمر والنهي السالفان، وخصت الرحمة الأخروية بالإرادة لأنها الأعظم المناسب طلبه من العظيم ولأن الرحمة الدنيوية حاصلة عموما لكل أحد وجوز أن يراد ما يعم الرحمتين، وأيا ما كان فهذه الرحمة التي في الدعاء قيل إنها مخصوصة بالأبوين المسلمين، وقيل عامة منسوخة بآية النهي عن الاستغفار، وقيل عامة ولا نسخ لأن تلك الآية بعد الموت وهذه قبله ومن رحمة الله تعالى لهما أن يهديهما للإيمان فالدعاء بها مستلزم للدعاء به ولا ضير فيه، والقول بالنسخ أخرجه البخاري في الأدب المفرد. وأبو داود وابن جرير وابن المنذر من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كَما رَبَّيانِي الكاف للتشبيه، والجار والمجرور صفة مصدر مقدر أي رحمة مثل تربيتهما لي أو مثل رحمتهما لي على أن التربية رحمة، وجوز أن يكون لهما الرحمة والتربية معا وقد ذكر أحدهما في أحد الجانبين والآخر في الآخر كما يلوح به التعرض لعنوان الربوبية في مطلع الدعاء كأنه قيل: رب ارحمهما وربهما كما رحماني وربياني صَغِيراً وفيه بعد.
وجوز أن تكون الكاف للتعليل أي لأجل تربيتهما لي وتعقب بأنه مخالف لمعناها المشهور مع إفادة التشبيه ما أفاده التعليل، وقال الطيبي: إن الكاف لتأكيد الوجود كأنه قيل رب ارحمهما رحمة محققة مكشوفة لا ريب فيها كقوله تعالى: مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ [الذاريات: ٢٣] قال في الكشف وهو وجه حسن وأما الحمل عليّ أن ما المصدرية جعلت حينا أي ارحمهما في وقت أحوج ما يكونان إلى الرحمة كوقت رحمتهما علي في حال الصغر وأنا كلحم علي وضم وليس ذلك إلا في القيامة والرحمة هي الجنة والبت بأن هذا هو التحقيق فليت شعري الاستقامة وجهه في العربية ارتضاه أم لطباقه للمقام وفخامة معناه اه، وهو كما أشار إليه ليس بشيء يعول عليه، والظاهر أن الأمر للوجوب فيجب على الولد أن يدعو لوالديه بالرحمة، ومقتضى عدم إفادة الأمر التكرار أنه يكفي في الامتثال مرة

صفحة رقم 56

واحدة، وقد سئل سفيان كم يدعو الإنسان لوالديه في اليوم مرة أو في الشهر أو في السنة؟ فقال: نرجو أن يجزيه إذا دعا لهما في آخر التشهدات كما أن الله تعالى قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ [الأحزاب: ٥٦] فكانوا يرون التشهد يكفي في الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم وكما قال سبحانه: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ [البقرة: ٢٠٣] ثم يكبرون في أدبار الصلاة، هذا وقد بالغ عز وجل في التوصية بهما من وجوه لا تخفى ولو لم يكن سوى أن شفع الإحسان إليهما بتوحيده سبحانه ونظمهما في سلك القضاء بهما معا لكفى،
وقد روى ابن حبان والحاكم وقال:
صحيح على شرط مسلم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم (١) قال «رضا الله تعالى في رضا الوالدين وسخط الله تعالى في سخط الوالدين»
وصح أن رجلا جاء يستأذن النبي صلّى الله عليه وسلّم في الجهاد معه فقال: أحي والداك؟ قال: نعم قال: ففيهما فجاهد،
وجاء أنه عليه الصلاة والسلام قال: «لو علم الله تعالى شيئا أدنى من آلاف لنهى عنه فليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة وليعمل البار ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار».
ورأى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما رجلا يطوف بالكعبة حاملا أمه على رقبته فقال: يا ابن عمر أتراني جزيتها؟ قال: لا ولا بطلقة واحدة ولكنك أحسنت والله تعالى يثيبك على القليل كثيرا.
وروى مسلم وغيره «لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه»
وروى البيهقي في الدلائل والطبراني في الأوسط والصغير بسند فيه من لا يعرف عن جابر قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إن أبي أخذ مالي فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «فاذهب فأتني بأبيك فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال:
إن الله تعالى يقرئك السلام ويقول: إذا جاءك الشيخ فسله عن شيء قاله في نفسه ما سمعته أذناه فلما جاء الشيخ قال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما بال ابنك يشكوك تريد أن تأخذ ماله؟ قال: سله يا رسول الله هل أنفقته إلا على عماته وخالاته أو على نفسي فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ايه دعنا من هذا أخبرني عن شيء قلته في نفسك ما سمعته أذناك فقال الشيخ: والله يا رسول الله ما يزال الله تعالى يزيدنا بك يقينا لقد قلت في نفسي شيئا ما سمعته أذناي فقال: قل وأنا أسمع فقال: قلت:
غذوتك مولودا ومنتك يافعا تعل بما أجني عليك وتنهل إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا ساهرا أتملل كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيني تهمل تخاف الردى نفسي عليك وإنها لتعلم أن الموت وقت مؤجل فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما كنت فيها أؤمل جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل فليتك إذ لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل تراه معدا للخلاف كأنه برد على أهل الصواب موكل قال: فحينئذ أخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم بتلابيب ابنه وقال: «أنت ومالك لأبيك»

والأم مقدمة في البر على الأب
فقد روى الشيخان يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك قال:
ثم من؟ قال: أبوك».
ولا يختص البر بالحياة بل يكون بعد الموت أيضا،
فقد روى ابن ماجة «يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ فقال: نعم الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإيفاء عهدهما من بعدهما وصلة الرحم

(١) ورجح الترمذي وقفه اه منه.

صفحة رقم 57

التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما» ورواه ابن حبان في صحيحه بزيادة «قال الرجل: ما أكثر هذا يا رسول الله وأطيبه قال: فاعمل به».
وأخرج البيهقي عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن العبد ليموت والداه أو أحدهما وإنه لهما لعاق فلا يزال يدعو لهما ويستغفر لهما حتى يكتبه الله تعالى بارا، وأخرج عن الأوزاعي قال: بلغني أن من عق والديه في حياتهما ثم قضى دينا إن كان عليهما واستغفر لهما ولم يستسب لهما كتب بارا ومن بر والديه في حياتهما ثم لم يقض دينا إن كان عليهما ولم يستغفر لهما واستسب لهما كتب عاقا»
وأخرج هو أيضا وابن أبي الدنيا عن محمد بن النعمان يرفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من زار قبر أبويه أو أحدهما في كل جمعة غفر له وكتب برا».
وروى مسلم أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لقيه رجل بطريق مكة فسلم عليه ابن عمر وحمله على حمار كان يركبه وأعطاه عمامة كانت على رأسه فقال ابن دينار فقلت له: أصلحك الله تعالى إنهم الأعراب وهم يرضون باليسير فقال: إن أبا هذا كان ودا لعمر بن الخطاب وإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه».
وأخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي بردة رضي الله تعالى عنه قال: قدمت المدينة فأتاني عبد الله بن عمر فقال: أتدري لم أتيتك؟ قال: قلت لا قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من أحب أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه من بعده»
وإنه كان بين أبي عمر وبين أبيك إخاء وود فأحببت أن أصل ذلك. وقد ورد في فضل البر ما لا يحصى كثرة من الأحاديث، وصح عد العقوق من أكبر الكبائر وكونه منها هو ما اتفقوا عليه وظاهر كلام الأكثرين بل صريحه أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون الوالدان كافرين وإن يكونا مسلمين، والتقييد بالمسلمين
في الحديث الحسن أنه صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الكبائر فقال: تسع أعظمهن الإشراك وقتل النفس المؤمنة بغير حق والفرار من الزحف وقذف المحصنة والسحر وأكل مال اليتيم وأكل الربا وعقوق الوالدين المسلمين،
إما لأن عقوقهما أقبح والكلام هناك في ذكر الأعظم على أحد التقديرين في عطف وقتل المؤمن وما بعده وإما لأنهما ذكرا للغالب كما في نظائر أخر.
وللحليمي هاهنا تفصيل مبني على رأي له ضعيف وهو أن العقوق كبيرة فإن كان معه نحو سب ففاحشة وإن كان عقوقه هو استثقاله لأمرهما ونهيهما والعبوس في وجوهما والتبرم بهما مع بذل الطاعة ولزوم الصمت فصغيرة فإن كان ما يأتيه من ذلك يلجئهما إلى أن ينقبضا فيتركا أمره ونهيه ويلحقهما من ذلك ضرر فكبيرة.
وبينهم في حد العقوق خلاف ففي فتاوى البلقيني مسألة قد ابتلي الناس بها واحتيج إلى بسط الكلام عليها وإلى تفاريعها ليحصل المقصود في ضمن ذلك وهي السؤال عن ضابط الحد الذي يعرف به عقوق الوالدين إذ الإحالة على العرف من غير مثال لا يحصل المقصود إذ الناس تحملهم أغراضهم على أن يجعلوا ما ليس بعرف عرفا فلا بد من مثال ينسج على منواله وهو أنه مثلا لو كان له على أبيه حق شرعي فاختار أن يرفعه إلى الحاكم ليأخذ حقه منه ولو حبسه فهل يكون ذلك عقوقا أولا؟ أجاب هذا الموضع قال فيه بعض الأكابر: إنه يعسر ضبطه وقد فتح الله تعالى بضابط أرجو من فضل الفتاح العليم أن يكون حسنا فأقول: العقوق لأحد الوالدين هو أن يؤذيه بما لو فعله مع غيره كان محرما من جملة الصغائر فينتقل بالنسبة إليه إلى الكبائر أو أن يخالف أمره أو نهيه فيما يدخل منه الخوف على الولد من فوت نفسه أو عضو من أعضائه ما لم يتهم الوالد في ذلك أو أن يخالفه في سفر يشق على الوالد وليس بفرض على الولد أو في غيبة طويلة فيما ليس بعلم نافع ولا كسب فيه أو فيه وقيعة في العرض لها وقع.
وبيان هذا الضابط أن قولنا: أن يؤذي الولد أحد والديه بما لو فعله مع غير والديه كان محرما فمثاله لو شتم غير

صفحة رقم 58

أحد والديه أو ضربه بحيث لا ينتهي الشتم أو الضرب إلى الكبيرة فإنه يكون المحرم المذكور إذا فعله الولد مع أحد والديه كبيرة، وخرج بقولنا أن يؤذي ما لو أخذ فلسا أو شيئا يسيرا من مال أحد والديه فإنه لا يكون كبيرة وإن كان لو أخذه من مال غير والديه بغير طريق معتبرا كان حراما لأن أحد الوالدين لا يتأذى بمثل ذلك لما عنده من الشفقة والحنو فإن أخذ مالا كثيرا بحيث يتأذى المأخوذ منه من الوالدين بذلك فإنه يكون كبيرة في حق الأجنبي فكذلك هنا لكن الضابط فيما يكون حراما صغيرة بالنسبة إلى غير الوالدين، وخرج بقولنا: ما لو فعله مع غير أحد الوالدين كان محرما نحو ما إذا طالب بدين فإن هذا لا يكون عقوقا لأنه إذا فعله مع غير الوالدين لا يكون محرما فافهم ذلك فإنه من النفائس، وأما الحبس فإن فرعناه على جواز حبس الوالد بدين الولد كما صححه جماعة فقد طلب ما هو جائز فلا عقوق وإن فرعنا على منع حبسه المصحح عند آخرين فالحاكم إذا كان معتقده ذلك لا يجيب إليه ولا يكون الولد بطلب ذلك عاقا إذا كان معتقدا الوجه الأول فإن اعتقد المنع وأقدم عليه كان كما لو طلب حبس من لا يجوز حبسه من الأجانب لاعسار ونحوه فإذا حبسه الولد واعتقاده المنع كان عاقا لأنه لو فعله مع غير والده حيث لا يجوز كان حراما، وأما مجرد الشكوى الجائزة والطلب الجائز فليس من العقوق في شيء، وقد شكا بعض ولد الصحابة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم ينهه عليه الصلاة والسلام وهو الذي لا يقر على باطل، وأما إذا نهر أحد والديه فإنه إذا فعل ذلك مع غير الوالدين وكان محرما كان في حق أحد الوالدين كبيرة وإن لم يكن محرما، وكذا أف فإن ذلك يكون صغيرة في حق أحد الوالدين ولا يلزم من النهي عنهما والحال ما ذكر أن يكونا من الكبائر وقولنا أو أن يخالف أمره ونهيه فيما يدخل منه الخوف إلخ أردنا به السفر للجهاد ونحوه من الأسفار الخطرة لما يخاف من فوات نفس الولد أو عضو من أعضائه لشدة تفجع الوالدين على ذلك،
وقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من حديث عبد الله بن عمرو في الرجل الذي جاء يستأذن النبي صلّى الله عليه وسلّم للجهاد أنه عليه الصلاة والسلام قال له: أحي والداك؟ قال: نعم قال: ففيهما فجاهد
وفي رواية ارجع إليهما ففيهما المجاهدة
وفي أخرى جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان فقال: ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما،
وفي إسناده عطاء بن السائب لكن من رواية سفيان عنه.
وروى أبو سعيد الخدري أن رجلا هاجر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: هل لك أحد باليمن؟ قال: أبواي قال: أذنا لك قال: لا قال: فارجع فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما. ورواه أبو داود
وفي إسناده من اختلف في توثيقه، وقولنا: ما لم يتهم الوالد في ذلك أخرجنا به ما لو كان الوالد كافرا فإنه لا يحتاج الولد إلى إذنه في الجهاد ونحوه، وحيث اعتبرنا إذن الوالد فلا فرق بين أن يكون حرا أو عبدا، وقولنا: أو أن يخالفه في سفر إلخ أردنا به السفر لحج التطوع حيث كان فيه مشقة وأخرجنا بذلك حج الفرض وإذا كان فيه ركوب البحر يجب ركوبه عند غلبة السلامة فظاهر الفقه أنه لا يجب الاستئذان ولو قيل بوجوبه لما عند الوالد من الخوف في ركوب البحر وإن غلبت السلامة لم يكن بعيدا، وأما سفره للعلم المتعين أو لفرض الكفاية فلا منع منه وإن كان يمكنه التعلم في بلده خلافا لمن اشترط ذلك لأنه قد يتوقع في السفر فراغ قلب وإرشاد أستاذ ونحو ذلك فإن لم يتوقع شيئا من ذلك احتاج إلى الاستئذان وحيث وجبت النفقة للوالد على الولد وكان في سفره تضييع للواجب فللوالد المنع، وأما إذا كان الولد بسفره يحصل وقيعة في العرض لها وقع بأن يكون أمرد ويخاف من سفره تهمة فإنه يمنع من ذلك وذلك في الأنثى أولى، وأما مخالفة أمره ونهيه فيما لا يدخل على الولد فيه ضرر بالكلية وإنما هو مجرد إرشاد للولد فلا تكون عقوقا وعدم المخالفة أولى اه كلام البلقيني «وذكر بعض المحققين» أن العقوق فعل ما يحصل منه لهما أو لأحدهما إيذاء ليس بالهين عرفا. ويحتمل أن العبرة بالمتأذي لكن لو كان الوالد مثلا في غاية الحمق أو سفاهة العقل فأمر أو نهى ولده بما لا يعد مخالفته فيه في العرف عقوقا لا يفسق ولده بمخالفته حينئذ لعذره وعليه فلو كان متزوجا بمن يحبها فأمره بطلاقها ولو لعدم عفتها فلم يمتثل أمره لا إثم عليه، نعم الأفضل طلاقها امتثالا

صفحة رقم 59

لأمر والده،
فقد روى ابن حبان في صحيحه أن رجلا أتى أبا الدرداء فقال: إن أبي لم يزل بي حتى زوجني امرأة وإنه الآن يأمرني بفراقها قال: ما أنا بالذي آمرك أن تعق والديك ولا بالذي آمرك أن تطلق زوجتك غير أنك إن شئت حدثتك بما سمعت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سمعته يقول: «الوالد أوسط أبواب الجنة» فحافظ على ذلك إن شئت أو دع، وروى أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه
وقال الترمذي حديث حسن صحيح
عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال كان تحتي امرأة أحبها وكان عمر يكرهها فقال لي طلقها فأبيت فأتى عمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكر ذلك له فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: طلقها
، وكذا سائر أوامره التي لا حامل لها إلا ضعف عقله وسفاهة رأيه ولو عرضت على أرباب العقول لعدوها متساهلا فيها ولرأوا أنه لا إيذاء بمخالفتها ثم قال: هذا هو الذي يتجه في تقرير الحد. وتعقب ما نقل عن البلقيني بأن تخصيصه العقوق بفعل المحرم الصغيرة بالنسبة للغير فيه وقفة بل ينبغي أن المدار على ما ذكر من أنه لو فعل معه ما يتأذى به تأذيا ليس بالهين عرفا كان كبيرة وإن لم يكن محرما لو فعله مع الغير كأن يلقاه فيقطب في وجهه أو يقدم عليه في ملأ فلا يقوم إليه ولا يعبأ به ونحو ذلك مما يقضي أهل العقل والمروءة من أهل العرف بأنه مؤذ إيذاء عظيما فتأمل.
ثم إن السبب في تعظيم أمر الوالدين أنهما السبب الظاهري في إيجاده وتعيشه ولا يكاد تكون نعمة أحد من الخلق على الولد كنعمة الوالدين عليه، لا يقال عليه: إن الوالدين إنما طلبا تحصيل اللذة لأنفسهما فلزم منه دخول الولد في الوجود ودخوله في عالم الآفات والمخافات فأي إنعام لهما عليه، وقد حكي أن واحدا من المتسمين بالحكمة كان يضرب أباه ويقول: هو الذي أدخلني في عالم الكون والفساد وعرضني للموت والفقر والعمى والزمانة، وقيل لأبي العلاء المعري ولم يكن ذا ولد: ما نكتب على قبرك فقال: اكتبوا عليه:
هذا جناه أبي عليّ... وما جنيت على أحد
وقال في ترك التزوج وعدم الولد:
وتركت فيهم نعمة العدم التي... سبقت وصدت عن نعيم العاجل
ولو إنهم ولدوا لنالوا شدة... ترمي بهم في موبقات الآجل
وقال ابن رشيق:
قبح الله لذة لشقانا... نالها الأمهات والآباء
نحن لولا الوجود لم نألم الفق... د فإيجادنا علينا بلاء
وقيل للإسكندر: أستاذك أعظم منة عليك أم والدك؟ فقال: الأستاذ أعظم منة لأنه تحمل أنواع الشدائد والمحن عند تعليمي حتى أوقفني على نور العلم وأما الوالد فإنه طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه فأخرجني إلى عالم الكون والفساد لأنا نقول: هب أنه في أول الأمر كان المطلوب لذة الوقاع إلا أن الاهتمام بإيصال الخيرات ودفع الآفات من أول دخول الولد في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر أعظم من جميع ما يتخيل من جهات الخيرات ودفع الآفات من أول دخول الولد في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر أعظم من جميع ما يتخيل من جهات الخيرات والمبرات، وقد يقال: لو كان الإدخال في عالم الكون والفساد والتعريض للأكدار والأنكاد دافعا لحق الوالدين لزم أن يكون دافعا لحق الله تعالى لأنه سبحانه الفاعل الحقيقي، وأيضا يعارض ذلك التعريض للنعيم المقيم والثواب العظيم كما لا يخفى على ذي العقل السليم، ولعمري أن إنكار حقهما إنكار لأجل الأمور ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ من قصد البر إليهما وانعقاد ما يجب من التوقير لهما، وهو على ما قيل تهديد على أن يضمر لهما

صفحة رقم 60

كراهة واستثقالا، وفي الكشف أنه كالتعليل لما أكد عليهم من الإحسان إلى الوالدين بأن الله تعالى أعلم بما في ضمائرهم من ذلك فمجازيهم على حسبه، والظاهر أنه وعد لمن أضمر البر ووعيد لغيره لكن غلب ذلك الجانب لأن الكلام بالأصالة فيه إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ قاصدين الصلاح والبر دون العقوق والفساد فَإِنَّهُ تعالى شأنه كانَ لِلْأَوَّابِينَ أي الراجعين إليه تعالى التائبين عما فرط منهم مما لا يكاد يخلو من البشر غَفُوراً لما وقع منهم من نوع تقصير أو أذية، وهذا كما في الكشف تيسير بعد التأكيد والتعسير مع تضييق وتحذير وذلك أنه شرط في البادرة التي تقع على الندرة قصد الصلاح وعبر عنه بنفس الصلاح ولم يصرح بصدورها بل رمز إليه بقوله تعالى: فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً لدلالة المغفرة على الذنب والأواب أيضا فإن التوبة عن ذنب يكون بشرط قصد الصلاح وأن يتوب عنه مع ذلك التوبة البالغة، وهو استئناف ثان يقتضيه مقام التأكيد والتشديد كأنه قيل: كيف نقوم بحقهما وقد يندر بوادر؟ فقيل إذا بنيتم الأمر على الأساس وكان المستمر ذلك ثم اتفق بادرة من غير قصد إلى المساءة فلطف الله تعالى يحجز دون عذابه قائما بالكلاءة، وكون الآية في البادرة تكون من الرجل إلى والديه مروي عن ابن جبير، وجوز أن تكون عامة لكل تائب ويندرج الجاني على أبويه التائب من جنايته اندراجا أوليا وَآتِ ذَا الْقُرْبى أي ذا القرابة منك حَقَّهُ الثابت له، قيل ولعل المراد بذي القربى المحارم وبحقهم النفقة عليهم إذا كانوا فقراء عاجزين عن الكسب عما ينبىء عنه قوله تعالى: وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ فإن المأمور به في حقهما المساواة المالية أي وآتهما حقهما مما كان مفترضا بمكة بمنزلة الزكاة وكذا النهي عن التبذير وعن الإفراط في القبض والبسط فإن الكل من التصرفات المالية، واستدل بعضهم بالآية على إيجاب نفقة المحارم المحتاجين وإن لم يكونوا أصلا كالوالدين ولا فرعا كالولد، والكلام من باب التعميم بعد التخصيص فإن ذا القربى يتناول الوالدين لغة وإن لم يتناوله عرفا فلذا قالوا في باب الوصية المبنية على العرف: لو أوصى لذوي قرابته لا يدخلان،
وفي المعراج عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من قال لأبيه قريبي فقد عقه،
والغرض من ذلك تناول غيرهما من الأقارب والتوصية بشأنه.
وفي الكشف أن الحق أن إيتاء الحق عام والمقام يقتضي الشمول فيتناول الحق المالي وغيره من الصلة وحسن المعاشرة فلا تنتهض الآية دليلا على إيجاب نفقة المحارم، وتعقب أن قوله تعالى: حَقَّهُ يشعر باستحقاق ذلك لاحتياجه مع أنه إذا عم دخل فيه المالي وغيره فكيف لا تنتهض الآية دليلا وأنا ممن يقول بالعموم وعدم اختصاص ذي القربى بذي القرابة الولادية، والعطف وكذا ما بعده لا يدل على تخصيص قطعا فتدبر، وقيل: المراد بذي القربى أقارب الرسول صلّى الله عليه وسلّم وروي ذلك عن السدي،
وأخرج ابن جرير عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أنه قال لرجل من أهل الشام: أقرأت القرآن؟ قال: نعم قال: أفما قرأت في بني إسرائيل فآت ذا القربى حقه؟ قال: وإنكم القرابة الذي أمر الله تعالى أن يؤتى حقه؟ قال: نعم
ورواه الشيعة عن الصادق رضي الله تعالى عنه وحقهم توقيرهم وإعطاؤهم الخمس
، وضعف بأنه لا قرينة على التخصيص، وأجيب بأن الخطاب قرينة وفيه نظر، وما
أخرجه البزار وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري من أنه لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاطمة فأعطاها فدكا
لا يدل على تخصيص الخطاب به عليه الصلاة والسلام على أن القلب من صحة الخبر شيء بناء على أن السورة مكية وليست هذه الآية من المستثنيات وفدك لم تكن إذ ذاك تحت تصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بل طلبها رضي الله تعالى عنها ذلك إرثا بعد وفاته عليه الصلاة والسلام كما هو المشهور يأبى القول بالصحة كما لا يخفى وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً نهى عن صرف المال إلى من لا يستحقه فإن التبذير إنفاق في غير موضعه مأخوذ من تفريق البذر وإلقائه في الأرض كيفما كان من غير تعهد لمواقعه، وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن

صفحة رقم 61

ابن مسعود أنه قال: التبذير إنفاق المال في غير حقه، وفي مفردات الراغب وغيره أن أصله إلقاء البذر وطرحه ثم استعير لتضييع المال، وعد من ذلك بعضهم تشييد الدار ونحوه، وفرق الماوردي بينه وبين الإسراف بأن الإسراف تجاوز في الكمية وهو جهل بمقادير الحقوق والتبذير تجاوز في موقع الحق وهو جهل بالكيفية وبمواقعها وكلاهما مذموم والثاني أدخل في الذم.
وفسر الزمخشري التبذير هنا بتفريق المال فيما لا ينبغي وإنفاقه على وجه الإسراف، وذكر أن فيه إشارة إلى أن التبذير شامل للإسراف في عرف اللغة ويراد منه حقيقة وإن فرق بينهما بما فرق، وفي الكشف بعد نقل الفرق والنص على أن الثاني أدخل في الذم أن الزمخشري لم يغب ذلك عليه لأن الاشتقاق يرشد إليه وإنما أراد أنه في الآية يتناول الإسراف أيضا بطريق الدلالة إذ لا يفترقان في الأحكام لا سيما وقد عقبه سبحانه بالحث على الاقتصاد المناسب لاعتبار الكمية المرشد إلى إرادته من النص، وتعقب بأنه إذا كان التبذير أدخل في الذم من الإسراف كيف يتناوله بطريق الدلالة والنهي عن الإسراف فيما بعد يبعد إرادته هاهنا فتأمل.
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ تعليل للنهي عن التبذير ببيان أنه يجعل صاحبه ملزوزا في قرن الشياطين، والإخوان جمع أخ والمراد به الممائل مجازا أي إنهم مماثلون لهم في صفات السوء التي من جملتها التبذير أو الصديق والتابع مجازا أيضا أي إنهم أصدقاؤهم وأتباعهم فيما ذكر من التبذير والصرف في المعاصي فإنهم كانوا ينحرون الإبل ويتياسرون عليها ويبذرون أموالهم في السمعة وسائر ما لا خير فيه من المناهي والملاهي أو القرين كما سبق أيضا أي أنهم قرناؤهم في النار على سبيل الوعيد.
وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً من تتمة التعليل أي مبالغا في كفران نعمه تعالى لأن شأنه صرف جميع ما أعطاه الله تعالى من القوى والقدر إلى غير ما خلقت له من أنواع المعاصي والإفساد في الأرض وإضلال الناس وحملهم على الكفر بالله تعالى وكفران نعمه الفائضة عليهم وصرفها إلى غير ما أمر الله تعالى به.
وفي تخصيص هذا الوصف بالذكر من بين صفاته القبيحة إيذان بأن التبذير الذي هو عبارة عن صرف نعم الله تعالى إلى غير مصرفها من باب الكفران المقابل للشكر الذي هو صرفها إلى ما خلقت له، وفي التعرض لعنوان الربوبية إشعار بكمال عتوه كما لا يخفى. ويشعر كلام بعضهم بجواز حمل الكفر هنا على ما يقابل الإيمان وليس بذاك.
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ أي عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل على ما هو الظاهر، وقيل عن السائلين مطلقا، والإعراض في الأصل إظهار العرض أي الناحية فمعنى أعرض عنه ولى مبديا عرضه، والمراد به هنا حقيقته على ما قيل بناء على ما
روي من أنه صلّى الله عليه وسلّم كان إذا سئل شيئا ليس عنده صرف وجهه الشريف وسكت فنزلت وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها
والخطاب عام له صلّى الله عليه وسلّم ولغيره والمراد بالرحمة على ما أخرج ابن جرير عن ابن عباس ومجاهد والضحاك الرزق، ونصب ابْتِغاءَ على أنه مفعول له.
قال في الكشف قد أقيم ابتغاء الرزق مقام فقدانه وفيه لطف فكان ذلك الإعراض لأجل السعي لهم وهو من وضع المسبب موضع السبب كما أوضحه في الكشاف، وقد يفسر الابتغاء بالانتظار ويجوز جعله في موضع الحال من ضمير تُعْرِضَنَّ أي مبتغيا، وجعله حالا من الضمير المجرور بعيد.
وجوز أن يكون الإعراض كناية عن عدم النفع وترك الإعطاء لأنه لازمه عرفا والابتغاء مجازا عن عدم الاستطاعة والتعلق أيضا بالشرط وأيد ذلك بما
أخرجه سعيد بن منصور. وابن المنذر عن عطاء الخراساني قال: جاء ناس من مزينة يستحملون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا» ظنوا ذلك من غضب

صفحة رقم 62

رسول الله عليه الصلاة والسلام عليهم فأنزل الله سبحانه: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ الآية
وفسر الرحمة بالفيء لكن أنت تعلم أن هذا غير ظاهر بناء على ما سمعت من أن هذه السورة مكية والآية المذكورة ليست من المستثنيات، وكأنه لهذا قيل: إن المعنى إن ثبت وتحقق في المستقبل أنك أعرضت عنهم في الماضي ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل إلخ والمراد سببية الثبوت للأمر بالقول فتأمل.
وجوز أن يتعلق ابْتِغاءَ بجواب الشرط أعني قوله تعالى: فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً أي إما تعرضن عنهم فقل لهم ذلك ابتغاء رحمة من ربك، وقدم هذا الوجه على سائر الأوجه الزمخشري واعترض بأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها في غير باب إما وما يلحق بها. وأجيب بأنه ذكره على المذهب الكوفي المجوز للعمل مطلقا أو أراد التعلق المعنوي فيضمر ما ينصبه ويجعل المذكور جاريا مجرى التفسير، والإعراض على هذا على حقيقته، واحتمال كونه كناية مختص بتعلقه بالشرط على ما زعمه الطيبي والحق عدم الاختصاص كما لا يخفى.
وجملة تَرْجُوها على سائر الأوجه يحتمل أن تكون وصفا لرحمة وأن تكون حالا من الفاعل ومِنْ رَبِّكَ متعلق بترجوها.
وجوز أن يكون صفة لرحمة، والميسور اسم مفعول من يسر الأمر بالبناء للمجهول مثل سعد الرجل ومعناه السهل أي فقل لهم قولا سهلا لينا وعدهم وعدا جميلا، قال الحسن: أمر أن يقول لهم نعم وكرامة وليس عندنا اليوم فإن يأتنا شيء نعرف حقكم، وقيل الميسور مصدر وجعل صفة مبالغة أو بتقدير مضاف أي قولا ذا ميسور أي يسر والمراد به القول المشتمل على الدعاء باليسر مثل أغناكم الله تعالى ويسر لكم، وفسره ابن زيد برزقنا الله تعالى وإياكم بارك الله تعالى فيكم.
وتعقب ذلك بأن الميسور معناه ذا يسر ولهذا وقع صفة لقول فأي ضرورة في أن يجعل مصدرا ثم يؤول بذا ميسور، ودفع بأنه إذا أريد القول المشتمل على الدعاء لا يكون القول حينئذ ميسورا بل ميسر لما أرادوه.
وميسور مصدرا مما ثبت في اللغة من غير تكلف فجعله صفة مبالغة أو بتقدير مضاف له وجه وجيه وفيه تأمل.
والحق أن اعتباره مصدرا خلاف الظاهر، وفي الآية على القول الأخير دلالة على أن الدعاء للسائل مما لا بأس به، وعن الإمام مالك رحمه الله تعالى أنه كان لا يرى أن يقال للسائل إذا لم يعط شيئا: رزقك الله تعالى ونحوه قائلا إن ذلك مما يثقل عليه ويكره سماعه ولا ينبغي أن يذكر اسم الله تعالى لمن لا يهش له، ولعمري إنه مغزى بعيد، وأفاد بعضهم أن في الآية دليلا على النهي عن الإعراض بالمعنى الأول فإن المعنى إن أردت الإعراض عنهم فقل لهم قولا ميسورا ولا تعرض وله وجه وجيه لا يخفى على من له بصر حديد. واستشكل العز بن عبد السلام جعل ابْتِغاءَ من متعلقات الشرط بأنا مأمورون بالرد الجميل إن انتظرنا شيئا يحصل لنا أو لم ننتظر. وأجاب بأن المراد بالقول الميسور الوعد بالعطاء فيكون مفاد الآية لا تعدوا إلا إذا كنتم على رجاء من حصول ما تعدون به فالتقييد بالابتغاء في غاية المناسبة للشرط لأنه لا يحسن الوعد عند عدم الرجاء لما أنه يؤدي إلى الإخلاف وهو كما ترى.
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ تمثيلان لمنع الشحيح وإسراف المبذر زجرا لهما عنهما وحملا على ما بينهما من الاقتصاد والتوسط بين الإفراط والتفريط وذلك هو الجود الممدوح فخير الأمور أوساطها
وأخرج أحمد وغيره عن ابن عباس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما عال من اقتصد»
وأخرج البيهقي عن ابن عمر قال قال رسول الله عليه الصلاة والسلام «الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة»
وفي رواية عن أنس مرفوعا «التدبير نصف المعيشة والتودد نصف العقل والهم نصف الهرم وقلة العيال أحد اليسارين»
وكان يقال حسن التدبير مع العفاف خير

صفحة رقم 63

من الغنى مع الإسراف فَتَقْعُدَ مَلُوماً أي فتصير ملوما عند الله تعالى وعند الناس مَحْسُوراً نادما مغموما أو منقطعا بك لا شيء عندك من حسره السفر أعياه وأوقفه حتى انقطع عن رفقته، قال الراغب: يقال للمعيي حاسر ومحسور أما الحاسر فتصور أنه قد حسر بنفسه قواه وأما المحسور فتصور أن التعب قد حسره وهذا بيان قبح الإسراف المفهوم من النهي الأخير، وبين في أثره لأن غائلة الإسراف في آخره وحيث كان قبح الشح المفهوم من النهي الأول مقارنا له معلوما من أول الأمر روعي ذلك في التصوير بأقبح الصور ولم يسلك فيه مسلك ما بعده كذا قيل، وفي أثر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أخرجه عنه ابن جرير وابن أبي حاتم ما يقتضيه، وقال بعض المحققين: الأولى أن يكون ذلك بيانا لقبح الأمرين ويعتبر التوزيع «فتقعد» منصوب في جواب النهيين والملوم راجع إلى قوله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ كما قيل: إن البخيل ملوم حيثما كانا والمحسور راجع إلى قوله سبحانه: وَلا تَبْسُطْها وليس ببعيد.
وفي الكشاف عن جابر: «بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس إذ أتاه صبي فقال: إن أمي تستكسيك درعا فقال: من ساعة إلى ساعة يظهر فعد إلينا فذهب إلى أمه فقالت: قل له إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك فدخل صلّى الله عليه وسلّم داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عريانا وأذن بلال وانتظر فلم يخرج عليه الصلاة والسلام إلى الصلاة فنزلت»
وأنت تعلم أنه يأبى هذا كون السورة مكية والآية ليست من المستثنيات ولعل الخبر لم يثبت فعن ولي الدين العراقي أنه لم يجده في شيء من كتب الحديث أي بهذا اللفظ وإلا
فقد أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: جاء غلام إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن أمي تسألك كذا وكذا فقال: ما عندنا اليوم شيء قال: فتقول لك اكسني قميصك فخلع عليه الصلاة والسلام قميصه فدفعه إليه وجلس في البيت حاسرا فنزلت، وأخرج ابن أبي حاتم عن المنهال ابن عمرو نحوه
وليس في شيء منهما حديث أذان بلال وما بعده،
وقيل: إنه عليه الصلاة والسلام أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وعيينة بن حصن الفزاري فجاء عباس بن مرداس فأنشأ يقول:
أتجعل نهبي ونهب العبي د بين عيينة والأقرع وما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في مجمع وما كنت دون امرئ منهما ومن يخفض اليوم لم يرفع فقال صلّى الله عليه وسلّم: يا أبا بكر اقطع لسانه عني أعطه مائة من الإبل وكانوا جميعا من المؤلفة قلوبهم فنزلت
، وفيه الإباء السابق كما لا يخفى، وكذا ما
أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر عن سيار أبي الحكم قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بزمن العراق وكان معطاء كريما فقسمه بين الناس فبلغ ذلك قوما من العرب فقالوا: نأتي النبي صلّى الله عليه وسلّم نسأله فوجدوه قد فرغ منه فأنزل الله تعالى الآية.
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ تعليل لقوله سبحانه وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ إلخ كأنه قيل: إن أعرضت عنهم لفقد الرزق فقل لهم قولا ميسورا ولا تهتم لذلك فإن ذلك ليس لهوان منك عليه تعالى بل لأن بيده جل وعلا مقاليد الرزق وهو سبحانه يوسعه على بعض ويضيقه على بعض حسبما تتعلق به مشيئته التابعة للحكمة فما يعرض لك في بعض الأحيان من ضيق الحال الذي يحوجك إلى الإعراض ليس إلا لمصلحتك فيكون قوله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ إلخ معترضا تأكيدا لمعنى ما تقتضيه حكمته عز وجل من القبض والبسط، وقوله تعالى: إِنَّهُ سبحانه كانَ لم يزل ولا يزال بِعِبادِهِ جميعهم خَبِيراً عالما بسرهم بَصِيراً عالما بعلنهم فيعلم من مصالحهم ما يخفى عليهم تعليل لسابقه، وجوز أن يكون ذلك تعليلا للأمر بالاقتصاد المستفاد من النهيين إما على معنى أن البسط والقبض أمران مختصان بالله تعالى وأما أنت فاقتصد واترك ما هو مختص به جل وعلا أو على معنى أنكم إذا تحققتم

صفحة رقم 64

شأنه تعالى شأنه وأنه سبحانه يبسط ويقبض وأمعنتم النظر في ذلك وجدتموه تعالى مقتصدا فاقتصدوا أنتم واستنوا بسنته، وجعله بعضهم تعليلا لجميع ما مر وفيه خفاء كما لا يخفى، وجوز كونه تعليلا للنهي الأخير على معنى أنه تعالى يبسط ويقبض حسب مشيئته فلا تبسطوا على من قدر عليه رزقه وليس بشيء.
وجوز أيضا كونه تمهيدا لقوله سبحانه: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ واستبعد بأن الظاهر حينئذ فلا.
الإملاق الفقر كما روي عن ابن عباس وأنشد له قول الشاعر:

وإني على الإملاق يا قوم ماجد أعد لأضيافي الشواء المصهبا
وظاهر اللفظ النهي عن جميع أنواع قتل الأولاد ذكورا كانوا أو إناثا مخافة الفقر والفاقة لكن روي أن من أهل الجاهلية من كان يئد البنات مخافة العجز عن النفقة عليهن فنهى في الآية عن ذلك فيكون المراد بالأولاد البنات وبالقتل الوأد، والخشية في الأصل خوف يشوبه تعظيم، قال الراغب: وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه.
وقرىء بكسر الخاء، والظاهر أن هذا النهي معطوف على ما تقدم من نظيره، وجوز الطبرسي أن يكون عطفه على قوله سبحانه: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وحينئذ فيحتمل أن يكون الفعل منصوبا بأن كما في الفعل السابق.
نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ضمان لرزقهم وتعليل للنهي المذكور بإبطال موجبه في زعمهم أي نحن نرزقهم لا أنتم فلا تخافوا الفقر بناء على علمكم بعجزهم عن تحصيل رزقهم، وتقديم ضمير الأولاد على ضمير المخاطبين على عكس ما وقع في سورة الأنعام للإشعار بأصالتهم في إفاضة الرزق، وعارض هذه النكتة هناك تقدم ما يستدعي الاعتناء بشأن المخاطبين من الآيات كذا قيل. وجوز المولى شيخ الإسلام كون ذلك لأن الباعث على القتل هناك الإملاق الناجز ولذلك قيل من إملاق وهاهنا الإملاق المتوقع ولذلك قيل: خشية إملاق فكأنه قيل: نرزقهم من غير أن ينقص من رزقكم شيء فيعتريكم ما تخشونه وإياكم أيضا رزقا إلى رزقكم.
إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً تعليل آخر ببيان أن المنهي عنه في نفسه منكر عظيم لما فيه من قطع التناسل وقطع النوع، والخطأ كالإثم لفظا ومعنى وفعلهما من باب علم وقرأ أبو جعفر وابن ذكوان عن عامر (خطأ) بفتح الخاء والطاء من غير مد، وخرج ذلك الزجاج على وجهين، الأول أن يكون اسم مصدر من أخطأ يخطىء إذا لم يصب أي إن قتلهم كان غير صواب، والثاني أن يكون لغة في الخطأ بمعنى الإثم مثل مثل ومثل وحذر وحذر فمن استشكل هذه القراءة بأن الخطأ ما لم يتعمد وليس هذا محله فقد نادى على نفسه بقلة الاطلاع.
وقرأ ابن كثير «خطاء» بكسر الخاء وفتح الطاء والمد وخرج على وجهين أيضا. الأول أن يكون لغة في الخطء بمعنى الإثم مثل دبغ ودباغ ولبس ولباس، والثاني أن يكون مصدر خاطأ يخاطىء خطاء مثل قاتل يقاتل قتالا. قال أبو علي الفارسي: وإن كنا لم نجد خاطأ لكن وجد تخطأ مطاوعه فدلنا عليه وذلك في قولهم: تخطأت النبل أحشاءه، وأنشد محمد بن السوي في وصف كماءة كما في مجمع البيان:
وأشعث قد ناولته أحرش الفري أدرت عليه المدجنات الهواضب
تخطأه القناص حتى وجدته وخرطومه في منقع الماء راسب
والمعنى على هذا إن قتلهم كان عدولا عن الحق والصواب فقول أبي حاتم إن هذه القراءة غلط غلط. وقرأ الحسن «خطاء» بفتح الخاء والطاء مع المد وهو اسم مصدر أخطى كالعطاء اسم مصدر أعطى، وقرأ الزهري وأبو رجاء «خطأ» بكسر الخاء وفتح الطاء وألف في آخره مبدلة من الهمزة وليس من قصر الممدود لأنه ضرورة لا داعي إليه،

صفحة رقم 65

وفي رواية عن ابن عامر أنه قرأ «خطا» كعصا وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى بمباشرة مباديه القريبة أو البعيدة فضلا عن مباشرته، والنهي عن قربانه على خلاف ما سبق ولحق للمبالغة في النهي عن نفسه ولأن قربانه داع إلى مباشرته، وفسره الراغب بوطء المرأة من غير عقد شرعي، وجاء فيه المد والقصر وإذا مد يصح أن يكون مصدر المفاعلة، وتوسيط النهي عنه بين النهي عن قتل الأولاد والنهي عن قتل النفس المحرمة مطلقا كما قال شيخ الإسلام باعتبار أنه قتل للأولاد لما أنه تضييع للأنساب فإن من لم يثبت نسبه ميت حكما.
إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً فعلة ظاهرة القبح زائدته وَساءَ سَبِيلًا أي وبئس السبيل سبيلا لما فيه من اختلال أمر الأنساب وهيجان الفتن،
وقد روى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن»
وجاء في غير رواية أنه إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان فكان فوق رأسه كالظلة فإن تاب ونزع رجع إليه وهو من الكبائر، وفاحشة مطلقا على ما أجمع عليه المحققون بل في الحديث الصحيح أنه بحليلة الجار من أكبر الكبائر، وزعم الحليمي أنه فاحشة إن كان بحليلة الجار أو بذات الرحم أو بأجنبية في شهر رمضان أو في البلد الحرام وكبيرة وإن كان مع امرأة الأب أو حليلة الابن أو مع أجنبية على سبيل القهر والإكراه وإذا لم يوجب حدا يكون صغيرة، ولا يخفى رده وضعف مبناه، والآية ظاهرة في أنه فاحشة مطلقا نعم أفحش أنواعه الزنا بحليلة الجار، وقال بعضهم: أعظم الزنا على الإطلاق الزنا بالمحارم
فقد صحح الحاكم أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «من وقع على ذات محرم فاقتلوه
وزنا الثيب أقبح من زنا البكر بدليل اختلاف حديهما، وزنا الشيخ لكمال عقله أقبح من زنا الشاب، وزنا الحر والعالم لكمالهما أقبح من زنا القن والجاهل، وهل هو أكبر من اللواط أم لا؟ فيه خلاف وفي الإحياء أنه أكبر منه لأن الشهوة داعية إليه من الجانبين فيكثر وقوعه ويعظم الضرر، ومنه اختلاط الأنساب بكثرته، وقد يعارض بأن حده أغلظ بدليل قول مالك وآخرين برجم اللوطي ولو غير محصن بخلاف الزاني. وقد يجاب بأن المفضول قد يكون فيه مزية، وفيه ما فيه. وبالغ بعضهم فقال: إنه مطلقا يلي الشرك في الكبر، والأصح أن الذي يلي الشرك هو القتل ثم الزنا، وخبر الغيبة أشد من ثلاثين زنية في الإسلام الظاهر كما قال ابن حجر الهيتمي أنه لا أصل له، نعم
روى الطبراني والبيهقي وغيرهما الغيبة أشد من الزنا
إلا أن له ما يبين معناه وهو ما
رواه ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عن جابر وأبي سعيد رضي الله تعالى عنهما إياكم والغيبة فإن الغيبة أشد من الزنا إن الرجل ليزني فيتوب الله تعالى عليه وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه
فعلم منه أن أشدية الغيبة من الزنا ليست على الإطلاق بل من جهة أن التوبة الباطنة المستوفية لجميع شروطها من الندم من حيث المعصية والإقلاع وعزم أن لا يعود مع عدم الغرغرة وطلوع الشمس من مغربها مكفرة لإثم الزنا بمجردها بخلاف الغيبة فإن التوبة وإن وجدت فيها هذه الشروط لا تكفرها بل لا بد وأن ينضم إليها استحلال صاحبها مع عفوه فكانت الغيبة أشد من هذه الحيثية لا مطلقا فلا يعكر الحديث على الأصح، وعلم منه أيضا أن الزنا لا يحتاج في التوبة منه إلى استحلال وهو ما صرح به غير واحد من المحققين وهو مع ذلك من الحقوق المتعلقة بالآدمي كيف لا وهو من الجناية على الأعراض والأنساب. ومعنى قولهم إن الزنا لا يتعلق به حق آدمي أي من المال ونحوه وعدم اشتراط الاستحلال لا يدل على أنه ليس من الحقوق المتعلقة بالآدمي مطلقا، وإنما لم يشترط الاستحلال لما يترتب على ذكره من زيادة العار والظن الغالب بأن نحو الزوج أو القريب إذا ذكر له ذلك يبادر إلى قتل الزاني أو المزني بها أو إلى قتلهما معا ومع ما ذكر كيف يمكن القول باشتراطه، وقد صرح بنحو ذلك حجة الإسلام الغزالي في منهاج العابدين فقال في ضمن تفصيل قال الأذرعي: إنه في غاية الحسن والتحقيق أما الذنب في الحرم فإن خنته في أهله وولده فلا وجه للاستحلال والإظهار لأنه يولد فتنة وغيظا بل تتضرع إلى الله سبحانه ليرضيه عنك ويجعل له خيرا

صفحة رقم 66

كثيرا في مقابلته فإن أمنت الفتنة والهيج وهو نادر فتستحل منه، وقد قال الأذرعي في مواضع في الحسد والتوبة منه:
ويشبه أن يحرم الإخبار به إذا غلب على ظنه أن لا يحلله وأنه يتولد منه عداوة وحقد وأذى للمخبر، ثم قال: ويجوز أن ينظر إلى المحسود فإن كان حسن الخلق بحيث يظن أنه يحلله تعين أخباره ليخرج من ظلامته بيقين وأن غلب على ظنه أن إخباره يجر شرا وعداوة حرم إخباره قطعا وإن تردد فالظاهر ما ذكره النووي من عدم الوجوب والاستحباب فإن النفس الزكية نادرة وربما جر ذلك شرا وعداوة وإن حلله بلسانه اه، فإذا كان هذا في الحسد مع سهولته عند أكثر الناس وعدم مبالاتهم به ومن ثم أطلق النووي عدم الإخبار فقال: المختار بل الصواب أنه لا يجب إخبار المحسود بل لا يستحب ولو قيل يكره لم يبعد فما بالك في الزنا المستلزم أن الزوج والقريب يقتل فيه بمجرد التوهم فكيف مع التحقق ويعلم من الأخبار أن ثمرات الزنا قبيحة منها أنه يورد النار والعذاب الشديد وأنه يورث الفقر وذهاب البهاء وقصر العمر وأنه يؤخذ بمثله من ذرية الزاني، ولما قيل لبعض الملوك ذلك أراد تجربته بابنة له وكانت غاية في الحسن فأنزلها مع امرأة وأمرها أن لا تمنع أحدا أراد التعرض لها بأي شيء شاء وأمرها بكشف وجهها فطافت بها في الأسواق فما مرت على أحد إلا وأطرق حياء وخجلا منها فلما طافت بها المدينة كلها ولم يمد أحد نظره إليها رجعت بها إلى دار الملك فلما أرادت الدخول أمسكها إنسان وقبلها ثم ذهب عنها فأدخلتها على الملك وذكرت له القصة فسجد شكرا وقال:
الحمد لله تعالى ما وقع مني في عمري قط إلا قبلة وقد قوصصت بها نسأل الله سبحانه أن يعصمنا وذرارينا ومن ينسب إلينا من الفواحش ما ظهر منها وما بطن بحرمة النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقرأ أبي بن كعب كما أخرجه عنه ابن مردويه «ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا إلا من تاب فإن الله كان غفورا رحيما» فذكر لعمر رضي الله تعالى عنه فأتاه فسأله فقال أخذتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وليس لك عمل إلا الصفق بالنقيع وهذا إن صح كان قبل العرضة الأخيرة وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ أي حرمها الله تعالى، والمراد حرم قتلها بأن عصمها بالإسلام أو بالعهد إِلَّا بِالْحَقِّ متعلق بلا تقتلوا والباء للسببية والاستثناء مفرغ أي لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق، ويجوز أن يكون حالا من الفاعل أو المفعول أي لا تقتلوا إلا ملتبسين بالحق أو لا تقتلوها إلا ملتبسة بالحق، وجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف أي لا تقتلوها قتلا ما إلا قتلا ملتبسا بالحق والأول أظهر، وأما تعلقه بحرم فبعيد وإن صح، وفسر الحق بما
رواه الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود لا يحل دم امرئ يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني والتارك لدينه المفارق للجماعة
، ونقض الحصر بدفع الصائل فإن ذلك ربما أدى إلى القتل، ودفع بأن المراد ما يكون بنفسه مقصودا به القتل وما ذكر المقصود به الدفع وقد يفضي إليه في الجملة، والحق عدم انحصار الحق فيما ذكر وهو في الخبر ليس بحقيقي، وقد ذهب الشافعية إلى أن ترك الصلاة كسلا مبيح للقتل وكذا اللواطة عند جمع من الأجلة.
وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً بغير حق يوجب قتله أو يبيحه للقاتل حتى أنه لا يعتبر إباحته لغير القاتل فقد نص علماؤنا أن من عليه القصاص إذا قتله غير من له القصاص يقتص له ولا يفيده قول الولي أنا أمرته بذلك إلا أن يكون الأمر ظاهرا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ لمن يلي أمره من الوارث أو السلطان عند عدم الوارث، واقتصار البعض على الأول رعاية للأغب سُلْطاناً أي تسلطا واستيلاء على القاتل بمؤاخذته بأحد أمرين القصاص أو الدية، وقد تتعين الدية كما في القتل الخطأ والمقتول خطأ مقتول ظلما بالمعنى الذي أشير إليه وإن قلنا لا إثم في الخطأ
لحديث «رفع عن أمتي الخطأ»
وشرع الكفارة فيه لعدم التثبت واجتناب ما يؤدي إليه فليتأمل.
واستدل بتفسير الولي بالوارث على أن للمرأة دخلا في القصاص.

صفحة رقم 67

وقال القاضي إسماعيل: لا تدخل لأن لفظه مذكر فَلا يُسْرِفْ أي الولي فِي الْقَتْلِ أي فلا يتجاوز الحد المشروع فيه بأن يقتل اثنين مثلا والقاتل واحد كعادة الجاهلية فإنهم كانوا إذا قتل منهم واحد قتلوا قاتله وقتلوا معه غيره، ومن هنا قال مهلهل:

كل قتيل في كليب غره حتى ينال القتل آل مره
وإلى هذا ذهب ابن جبير وأخرجه المنذر من طريق أبي صالح عن ابن عباس أو بأن يقتل غير القاتل ويترك القاتل. وروي هذا عن زيد بن أسلم فقد أخرج البيهقي في سننه عنه أن الناس في الجاهلية إذا قتل من ليس شريفا شريفا لم يقتلوه به وقتلوا شريفا من قومه فنهى عن ذلك أو بأن يزيد على القتل المثلة كما قيل.
وأخرج ابن جرير وغيره عن طلق بن حبيب أنه قال: لا يقتل غير قاتله ولا يمثل به، وقيل بأن يقتل القاتل والمشروع عليه الدية، وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن قتادة أنه قال في الآية: من قتل بحديدة قتل بحديدة ومن قتل بخشبة قتل بخشبة ومن قتل بحجر قتل بحجر ولا يقتل غير القاتل. وفيه القول بأن القتل بالمثقل يوجب القصاص وهو خلاف مذهبنا.
وقرأ حمزة والكسائي «فلا تسرف» بالخطاب للولي التفاتا، وقرأ أبو مسلم صاحب الدولة «فلا يسرف» بالرفع على أنه خبر في معنى الأمر وفيه مبالغة ليست في الأمر إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً تعليل للنهي، والضمير للولي أيضا على معنى أنه تعالى نصره بأن أوجب القصاص أو الدية وأمر الحكام بمعونته في استيفاء حقه فلا يبغ ما وراء حقه ولا يخرج من دائرة إمرة الناصر.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أن الضمير للمقتول على معنى أن الله تعالى نصره في الدنيا بأخذ القصاص أو الدية وفي الأخرى بالثواب فلا يسرف وليه في شأنه، وجوز أن يعود على الذي أسرف به الولي أي إنه تعالى نصره بإيجاب القصاص والتعزيز والوزر على من أسرف في شأنه، وقيل ضمير يسرف للقاتل أي مريد القتل ومباشرة ابتداء ونسبه في الكشاف إلى مجاهد، والضميران في التعليل عائدان على الولي أو المقتول، وأيد بقراءة أبي «فلا تسرفوا» لأن القاتل متعدد في النظم في قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا والأصل توافق القراءتين، ولم تعينه لأن الولي عام في الآية فهو في معنى الأولياء فيجوز جمع ضميره بهذا الاعتبار ويكون التفاتا، وتوافق القراءتين ليس بلازم، والمعنى فلا يسرف على نفسه في شأن القتل بتعريضها للهلاك العاجل والآجل. وفي الكشف أنه ردع للقاتل على أسلوب وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [البقرة: ١٧٩] والنهي عن الإسراف لتصوير أن القتل بغير حق كيف ما قدر إسراف، ومعناه فلا يقتل بغير حق وأنت تعلم أن هذا الوجه غير وجيه فلا ينبغي التعويل عليه، وهذه الآية كما أخرج غير واحد عن الضحاك أول آية نزلت في شأن القتل وقد علمت أن الأصح أنه أكبر الكبائر بعد الشرك، وكون القتل العمد العدوان من الكبائر مجمع عليه، وعد شبه العمد منها هو ما صرح به الهروي وشريح الروياني، وأما الخطأ فالصواب أنه ليس بمعصية فضلا عن كونه ليس بكبيرة فليحفظ وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ نهى عن قربانه لما ذكر سابقا من المبالغة في النهي عن التعرض له وللتوسل إلى الاستثناء بقوله تعالى: إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي إلا بالخصلة والطريقة التي هي أحسن الخصال والطرائق وهي حفظه واستثماره حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ غاية لجواز التصرف على الوجه الأحسن المدلول عليه بالاستثناء لا للوجه المذكور فقط، والأشد قيل جمع شد كالأضر جمع ضر والشد القوة وهو استحكام قوة الشباب والسن كما أن شد النهار ارتفاعه، قال عنترة:

صفحة رقم 68

وقيل هو جمع شدة مثل نعمة وأنعم، وقال بعض البصريين، هو واحد مثل الآنك: والمراد ببلوغه الأشد بلوغه إلى حيث يمكنه بسبب عقله ورشده القيام بمصالح ماله ثم التصرف بمال اليتيم بنحو الأكل على غير الوجه المأذون فيه من الكبائر، وتردد ابن عبد السلام بتقييده بنصاب السرقة فقال في القواعد: قد نص الشرع على أن شهادة الزور وأكل مال اليتيم من الكبائر فإن وقعا في مال خطير فهو ظاهر وإن وقعا في مال حقير كزبيبة وتمرة فيجوز أن يجعلا من الكبائر فطاما عن جنس هذه المفسدة كالقطرة من الخمر وإن لم تتحقق المفسدة ويجوز أن يضبط ذلك بنصاب السرقة اه.
وقد يفرق بينهما بأن في شهادة الزور مع الجراءة على انتهاك حرمة المال المعصوم جراءة على الكذب في الشهادة بخلاف القليل من مال اليتيم فلا يستبعد التقييد به بخلافها كذا قيل.
والحق أن الآيات والأخبار الواردة في وعيد أكل مال اليتيم مطلقة فتتناول القليل والكثير فلا يجوز تخصيصها إلا بدليل سمعي وحيث لا دليل كذلك فالتخصيص غير مقبول فالوجه أنه لا فرق بين أكل القليل وأكل الكثير في كونه كبيرة يستحق فاعله الوعيد الشديد، نعم الشيء التافه الذي تقتضي العادة بالمسامحة به لا يبعد كون أكله ليس من الكبائر والله تعالى أعلم، وقد توصل القضاة اليوم إلى أكل مال اليتيم في صورة حفظه عاملهم الله تعالى بعد له وأذاق خائنهم في الدارين جزاء فعله وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ما عاهدتم الله تعالى عليه من التزام تكاليفه وما عاهدتم عليه غيركم من العباد ويدخل في ذلك العقود.
وجوز أن يكون المراد ما عاهدكم الله تعالى عليه وكلفكم به، والإيفاء بالعهد والوفاء به هو القيام بمقتضاه والمحافظة عليه وعدم نقضه واشتقاق ضده وهو الغدر يدل على ذلك وهو الترك ولا يكاد يستعمل إلا بالباء فرقا بينه وبين الإيفاء الحسي كإيفاء الكيل والوزن إِنَّ الْعَهْدَ أظهر في مقام الإضمار إظهارا لكمال العناية بشأنه وقيل دفعا لتوهم عود الضمير إلى الإيفاء المفهوم من أَوْفُوا كانَ مَسْؤُلًا أي مسؤولا عنه على حذف الجار وجعل الضمير بعد انقلابه مرفوعا مستكنا في اسم المفعول ويسمى الحذف والإيصال وهو شائع.
وجوز أن يكون الكلام على حذف مضاف أي إن صاحب العهد كان مسؤولا، وقيل لا حذف أصلا والكلام على التخييل كأنه يقال للعهد لم نكثت وهلا وفى بك تبكيتا للناكث كما يقال للموؤدة بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير:
٩] وقد يعتبر فيه الاستعارة الكنية والتخييلية، وزعم بعضهم أنه يجوز أن يجعل العهد متمثلا على هيئة من يتوجه عليه السؤال كما تجسم الحسنات والسيئات لتوزن.
وجوز أن يكون مَسْؤُلًا بمعنى مطلوبا من سألت كذا إذا طلبت، وإسناد المطلوبية إليه مجاز والمراد مطلوب عدم إضاعته، ويجوز أن يكون في الكلام مضاف محذوف ارتفع الضمير واستتر بعد حذفه، والأصل ما أشرنا إليه وقد سمعت آنفا أن مثل ذلك شائع، وليس في ذلك تعليل الشيء بنفسه فإن المآل إلى أن يقال: أوفوا بالعهد فإن عدم إضاعته لم تزل مطلوبة من كل أحد فتطلب منكم أيضا، ثم إن الإخلال بالوفاء بالعهد على ما تقتضيه الأحاديث الصحيحة قيل كبيرة،
وقد جاء عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه وعد من الكبائر نكث الصفقة
أي الغدر بالمعاهد بل صرح شيخ الإسلام العلائي بأنه جاء في الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه سماه كبيرة، وقال بعض المحققين: إن في إطلاق كون الإخلال المذكور كبيرة نظرا بناء على أن العهد هو التكليفات الشرعية فإن من الإخلال ما يكون كبيرة ومنه ما يكون صغيرة وينظر في ذلك إلى حال المكلف به، ولعل من قال: إن الإخلال بالعهد كبيرة أراد بالعهد مبايعة الإمام وبالإخلال بذلك نقض بيعته والخروج عليه لغير موجب ولا تأويل ولا شبهة في أن ذلك كبيرة فليتأمل وَأَوْفُوا الْكَيْلَ أتموه ولا تخسروه إِذا كِلْتُمْ أي وقت كيلكم للمشترين، وتقييد الأمر به لما أن التطفيف يكون هناك، وأما

صفحة رقم 69

وقت الاكتيال على الناس فلا حاجة إلى الأمر بالتعديل قال تعالى: إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ [المطففين: ٢] الآية وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ هو القبان على ما روي عن الضحاك ويقال له القرسطون بلغة أهل الشام كما قال الأزهري، وقال الزجاج: هو الميزان صغيرا كان أو كبيرا من موازين الدراهم وغيرها، وقال الليث: هو أقوم الموازين، وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أنه العدل، وعن الحسن أنه الحديد وهو رومي معرب كما قال ابن دريد لفقد مادته في العربية، وقيل: إنه عربي وروي القول بتعريبه وأنه الميزان في اللغة الرومية عن ابن جبير وجماعة، وقيل: هو مركب من كلمتين القسط وهو العدل وطاس وهو كفة الميزان لكنه حذف أحد الطاءين لأن التركيب محل تخفيف وهو كما ترى، وعلى القول بأنه رومي معرب وهو الصحيح لا يقدح استعماله في القرآن في عربيته المذكورة في قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [يوسف: ٢] لأنه بعد التعريب والسماع في فصيح الكلام يصير عربيا فلا حاجة إلى إنكار تعريبه أو ادعاء التغليب أو أن المراد عربي الأسلوب.
وقد قرأه الكوفيون بكسر القاف والباقون بضمها، وقد تبدل السين الأولى صادا كما أبدلت الصاد سينا في الصراط الْمُسْتَقِيمِ أي العدل السوي، وهو يبعد تفسير القسطاس بالعدل، ولعل الاكتفاء باستقامته عن الأمر بإيفاء الوزن كما قال شيخ الإسلام لما أن عند استقامته لا يتصور الجور غالبا بخلاف الكيل فإنه كثيرا ما يقع التطفيف مع استقامة الآلة كما أن الاكتفاء بإيفاء الكيل عن الأمر بتعديله لما أن إيفاءه لا يتصور بدون تعديل المكيال وقد أمر بتقويمه أيضا في قوله تعالى: أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ ذلِكَ أي إيفاء الكيل والوزن بالقسطاس المستقيم خَيْرٌ في الدنيا لأنه سبب لرغبة الناس في معاملة فاعله وجلب الثناء الجميل عليه وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي عاقبة لما يترتب عليه من الثواب في الآخرة، والتأويل تفعيل من آل إذا رجع وأصله رجوع الشيء إلى الغاية المرادة منه علما كما في قوله تعالى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران: ٧] أو فعلا كما في قوله سبحانه يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ [الأعراف:
٥٣] وقول الشاعر:
وللنوى قبل يوم البين تأويل، وقيل: المراد ذلك خير في نفسه لأنه أمانة وهي صفة كمال وأحسن عاقبة في الدنيا لأنه سبب لميل القلوب والرغبة في المعاملة والذكر الجميل بين الناس ويفضي ذلك إلى الغنى وفي الآخرة لأنه سبب للخلاص من العذاب والفوز بالثواب، وقيل: أحسن تأويلا أي أحسن معنى وترجمة، ثم إن إيفاء الكيل والوزن واجب إجماعا ونقص ذلك من الكبائر مطلقا على ما يقتضيه الوعيد الشديد لفاعله الوارد في الآيات والأحاديث الصحيحة ولا فرق بين القليل والكثير، نعم قال بعضهم: إن التطفيف بالشيء التافه الذي يسامح به أكثر الناس ينبغي أن يكون صغيرة، فإن قلت: ذكروا في الغصب أن غصب ما دون ربع دينار لا يكون كبيرة وقضيته أن يكون التطفيف كذلك قلت قيل ذلك مشكل فلا يقاس عليه بل حكي الإجماع على خلافه.
وقال الأذرعي: إنه تحديد لا مستند له انتهى، وعلى التنزيل فقد يفرق بأن الغصب ليس مما يدعو قليله إلى كثيره لأنه إنما يكون على سبيل القهر والغلبة بخلاف التطفيف فتعين التنفير عنه بأن كلا من قليله وكثيره كبيرة أخذا مما قالوه في شرب القطرة من الخمر من أنه كبيرة وأن لم يوجد فيها مفسدة الخمر لأن قليله يدعو إلى كثيره، ومثل التطفيف في الكيل والوزن النقص في الذرع ولا يكاد يسلم كيال أو وزان أو ذراع في هذه الأعطار من نقص الأمن عصمه الله تعالى وَلا تَقْفُ ولا تتبع، وأصل معنى قفا اتبع قفاه ثم استعمل في مطلق الاتباع وصار حقيقة فيه.
وقرىء «ولا تقفوا» بإثبات حرف العلة مع الجازم وهو شاذ، وقرىء أيضا «ولا تقف» بضم القاف وسكون الفاء كتقل

صفحة رقم 70

على أنه أجوف مجزوم بالسكون وماضيه قاف يقال قاف أثره يقوفه إذا قصه واتبعه ومنه القيافة وأصلها ما يعلم من الإقدام وأثرها، وعن أبي عبيدة أن قاف مقلوب قفا كجذب وجبذ. وتعقب بأن الصحيح خلافه.
ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي لا تتبع ما لا علم لك به من قول أو فعل، وحاصله يرجع إلى النهي عن الحكم بما لا يكون معلوما ويندرج في ذلك أمور. وكل من المفسرين اقتصر على شيء فقيل المراد نهي المشركين عن القول في الإلهيات والنبوات تقليدا للأسلاف واتباعا للهوى، وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن محمد بن الحنفية أن المراد النهي عن شهادة الزور، وقيل: المراد النهي عن القذف ورمي المحصنين والمحصنات ومن ذلك قول الكميت:

عهدي به شد النهار كأنما خضب البنان ورأسه بالعظلم
ولا أرمي البريء بغير ذنب ولا أقفو الحواصن إن رمينا
وروى البيهقي في شعب الإيمان وأبو نعيم في الحلية من حديث معاذ بن أنس «من قفا مؤمنا بما ليس فيه- يريد شينه به- حبسه الله تعالى على جسر جهنم حتى يخرج مما قال» وقيل: المراد النهي عن الكذب، أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة أنه قال في الآية: لا تقل سمعت ولم تسمع ورأيت ولم تر، واختار الإمام العموم قال: إن اللفظ عام يتناول الكل فلا معنى للتقييد، واحتج بالآية نفاة القياس لأنه قفو للظن وحكم به. وأجيب بأنهم أجمعوا على الحكم بالظن والعمل به في صور كثيرة فمن ذلك الصلاة على الميت ودفنه في مقابر المسلمين وتوريث المسلم منه بناء على أنه مسلم وهو مظنون والتوجه إلى القبلة في الصلاة وهو مبني على الاجتهاد بأمارات لا تفيد إلا الظن وأكل الذبيحة بناء على أنها ذبيحة مسلم وهو مظنون والشهادة فإنها ظنية وقيم المتلفات وأروش الجنايات فإنها لا سبيل إليها إلا الظن، ومن نظر ولو بمؤخر العين رأى أن جميع الأعمال المعتبرة في الدنيا من الأسفار وطلب الأرباح والمعاملات إلى الآجال المخصوصة والاعتماد على صداقة الأصدقاء وعداوة الأعداء كلها مظنونة
وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «نحن نحكم بالظاهر والله تعالى يتولى السرائر»
فالنهي عن اتباع ما ليس بعلم قطعي مخصوص بالعقائد وبأن الظن قد يسمى علما كما في قوله تعالى: إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ [الممتحنة: ١٠] فإن العلم بإيمانهن إنما يكون بإقرارهن وهو لا يفيد إلا الظن، وبأن الدليل القاطع لما دل على وجوب العمل بالقياس كان ذلك الدليل دليلا على أنه متى حصل ظن أن حكم الله تعالى في هذه الصورة يساوي حكمه في محل النص فأنتم مكلفون بالعمل على وفق ذلك الظن فها هنا الظن واقع في طريق الحكم وأما ذلك الحكم فهو معلوم متيقن. وأجاب النفاة عن الأول بأن قوله تعالى: لا تَقْفُ الآية عام دخله التخصيص فيما يذكرون فيه العمل بالظن فيبقى العموم فيما وراءه على أن بين ما يذكرونه من الصور وبين محل النزاع فرقا لأن الأحكام المتعلقة بالأول مختصة بأشخاص معينين في أوقات معينة فالتنصيص على ذلك متعذر فاكتفى بالظن للضرورة بخلاف الثاني فإن الأحكام المثبتة بالأقيسة كلية معتبرة في وقائع كلية وهي مضبوطة والتنصيص عليها ممكن فلم يجز الاكتفاء فيها بالظن، وعن الثاني بأن المغايرة بين العلم والظن مما لا شبهة فيه ويدل عليها قوله تعالى:
هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [الأنعام: ١٤٨] والمؤمن هو المقر وذلك الإقرار هو العلم فليس في الآية تسمية الظن علماء وعن الثالث بأنه إنما يتم لو ثبت حجية القياس بدليل قاطع وليس فليس، وأحسن ما يمكن أن يقال في الجواب على ما قال الإمام أن التمسك بالآية تمسك بعام مخصوص وهو لا يفيد إلا الظن فلو دلت على أن التمسك بالظن غير جائز لدلت على أن التمسك بها غير جائز فالقول بحجيتها يفضي إلى نفيه وهو باطل، وللمجيب أن يقول نعلم بالتواتر الظاهر من دين النبي صلّى الله عليه وسلّم أن التمسك بآيات القرآن حجة في الشريعة. ويمكن أن يجاب عن هذا بأن كون العام المخصوص حجة غير معلوم بالتواتر فتأمل إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ أي

صفحة رقم 71

كل هذه الأعضاء وأشير إليها بأولئك على القول بأنها مختصة بالعقلاء تنزيلا لها منزلتهم لما كانت مسؤولة عن أحوالها شاهدة على أصحابها.
وقال بعضهم: إنها غالبة في العقلاء وجاءت لغيرهم من حيث إنها اسم جمع لذا وهو يعم القبيلين ومن ذلك قول جرير على ما رواه غير واحد:

ذم المنازل بعد منزلة اللوى والعيش بعد أولئك الأيام
وعلى هذا لا حاجة إلى التنزيل وارتكاب الاستعارة فيما تقدم كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا كل الضمائر ضمائر «كل» أي كان كل من ذلك مسؤولا عن نفسه فيقال له: هل استعملك صاحبك فيما خلقت له أم لا؟ وذلك بعد جعله أهلا للخطاب والسؤال. وجوز أن يكون ضمير عَنْهُ لكل وما عداه للقافي فهناك التفات إذ الظاهر كنت عنه مسؤولا.
وقال الزمخشري: عَنْهُ نائب فاعل مَسْؤُلًا فهو مسند إليه ولا ضمير فيه نحو غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: ٧].
ورده أبو البقاء وغيره بأن القائم مقام الفاعل حكمه حكمه في أنه لا يجوز تقدمه على عامله كأصله. وذكر أنه حكى ابن النحاس الإجماع على عدم جواز تقديم القائم مقام الفاعل إذا كان جارا ومجرورا فليس ذلك نظير غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وليس لقائل أن يقول: إنه على رأي الكوفيين في تجويزهم تقديم الفاعل إلا أن ينازع في صحة الحكاية، ونقل عن صاحب التقريب أنه إنما جاز تقديم عَنْهُ مع أنه فاعل لمحا لأصالة ظرفيته لا لعروض فاعليته ولأن الفاعل لا يتقدم لالتباسه بالمبتدأ ولا التباس هاهنا ولأنه ليس بفاعل حقيقة اه. والإنصاف أنه مع هذا لا يقال لما ذهب إليه شيخ العربية إنه غلط.
وذكر في شرح نحو المفتاح أنه مرتفع بمضمر يفسره الظاهر، وجوز إخلاء المفسر عن الفاعل إذا لم يكن فعلا معللا بأصالة الفعل في رفع الفاعل فلا يجوز خلوه عنه بخلاف اسمي الفاعل والمفعول تشبيها بالجوامد.
وتعقبه في الكشف بأن فيه نظرا نقلا وقياسا أما الأول فلتفرده به، وأما الثاني فلأن الاحتياج إليه من حيث إنه إذا جرى على شيء لا بد من عائد إليه ليرتبط به ويكون هو الذات القائم هو بها إن كان فاعلا أو ملابسا لتلك الذات وليس كالجوامد في ارتباطها بالسوابق بنفس الحمل لأنها لا تدل على معنى متعلق بذات فالوجه أن يقال حذف الجار واستتر الضمير بعده في الصفة، وقد سمعت عن قرب أن هذا من باب الحذف والإيصال وأنه شائع، وجوز أن يكون مرفوع مَسْؤُلًا المصدر وهو السؤال وعَنْهُ في محل النصب. وسأل ابن جني أبا علي عن قولهم: فيك يرغب وقال لا يرتفع بما بعده فأين المرفوع؟ فقال: المصدر أي فيك يرغب الرغب بمعنى تفعل الرغبة كما في قولهم: يعطي يمنع أي يفعل الإعطاء والمنع، وجوز أن يكون اسم كان أو فاعله ضمير كُلُّ محذوف المضاف أي كان صاحبه عنه مسؤولا أو كان عنه مسؤولا صاحبه فيقال له لم استعملت السمع فيما لا يحل ولم صرفت البصر إلى كذا والفؤاد إلى كذا؟ وقرأ الجراح العقيلي «والفواد» بفتح الفاء وإبدال الهمزة واوا، وتوجيهها أنه أبدلت الهمزة واوا لوقوعها مع ضمة في المشهور ثم فتحت الفاء تخفيفا وهي لغة في ذلك، ولا عبرة بإنكار أبي حاتم لها، واستدل بالآية على أن العبد يؤاخذ بفعل القلب كالتصميم على المعصية والأدواء القلبية كالحقد والحسد والعجب وغير ذلك نعم صرحوا بأن الهم بالمعصية من غير تصميم لا يؤاخذ به للخبر الصحيح في ذلك. ثم إن اتباع الظن يكون كبيرة ويكون صغيرة حسب أنواعه وأصنافها ومنه ما هو أكبر الكبائر كما لا يخفى نسأل الله تعالى أن يعصمنا عن جميع ذلك.
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي فخرا وكبرا قاله قتادة، وقال الراغب: المرح شدة الفرح والتوسع فيه والأول

صفحة رقم 72

أنسب، وهو مصدر وقع موقع الحال والكلام في مثله إذا وقع حالا أو خبرا أو صفة شائع، وجوز أن يكون منصوبا على المصدرية لفعل محذوف أي تمرح مرحا وأن يكون مفعولا له أي لأجل المرح، وقرىء «مرحا» بكسر الراء عن أنه صفة مشبهة ونصبه على الحالية لا غير، قيل وهذه القراءة باعتبار الحكم أبلغ من قراءة المصدر المفيد للمبالغة بجعله عين المرح نظير ما قيل في زيد عدل لأن الوصف واقع في حيز النهي الذي هو في معنى النفي ونفى أصل الاتصاف أبلغ من نفي زيادته ومبالغته لأنه ربما يشعر ببقاء أصله في الجملة، وجعل المبالغة راجعة إلى النفي دون المنفي كما قيل في قوله تعالى: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: ٤٦] بعيد هنا، والقول بأن الصفة المشبهة تدل على الثبوت فلا يقتضي نفي ذلك نفي أصله كما قيل في المصدر مغالطة نشأت من عدم معرفة معنى الثبوت في الصفة فإن المراد به أنها لا تدل على تجدد وحدوث لا أنها تدل على الدوام، والأخفش فضل القراءة بالمصدر لما فيه من التأكيد ولم ينظر إلى أن ذلك في الإثبات لا في النفي أو ما في حكمه وأورد على ما قيل إن فيه تفضيل القراءة الشاذة على المتواترة وهو كما ترى.
ولذا فضل بعضهم القراءة بالمصدر كالأخفش وجعل المبالغة المستفادة منه راجعة إلى النهي ومنع كون ذلك بعيدا، وقيل إذا جعل التقدير في المتواترة ذا مرح تتحد مع الشاذة وتعقب بأن ذا مرح أبلغ من مرحا صفة لما فيه من الدلالة على أنه صاحب مرح وملازم له كأنه مالك إياه وفيه توقف كما لا يخفى، والتقييد بالأرض لا يصح أن يقال للاحتراز عن المشي في الهواء أو على الماء لأن هذا خارق ولا يحترز عنه بل للتذكير بالمبدأ والمعاد وهو أردع عن المشي مشية الفاخر المتكبر وادعى لقبول الموعظة كأنه قيل: لا تمش فيما هو عنصرك الغالب عليك الذي خلقت منه وإليه تعود والذي قد ضم من أمثالك كثيرا مشية الفاخر المتكبر، وقيل للتنصيص على أن النهي عن المشي مرحا في سائر البقع والأماكن لا يختص به أرض دون أرض، والأول ألطف.
إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ تعليل للنهي وفيه تهكم بالمختال أي إنك لن تقدر أن تجعل فيها خرقا بدوسك وشدة وطأتك وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ التي عليها طُولًا بتعاظمك ومد قامتك فأين أنت والتكبر عليها إذا التكبر إنما يكون بكثرة القوة وعظم الجثة وكلاهما مفقود فيك أو أنك لن تقدر على ذلك فأنت أضعف من كل واحد من هذين الجمادين فكيف يليق بك التكبر، وقال بعض المحققين: مآل النهي والتعليل لا تفعل ذلك فإنه لا جدوى فيه وهو وجه حسن، ونصب طُولًا على أنه تمييز، وجوز أن يكون مفعولا له، وقبل: يشير كلام بعضهم إلى أنه منصوب على نزع الخافض وهو بمعنى التطاول أي لن تبلغ الجبال بتطاولك ولا يخفى بعده، وإيثار الإظهار على الإضمار حيث لم يقل لن تخرقها لزيادة الإيقاظ والتقريع، ثم إن الاختيال في المشي كبيرة كما تدل عليه الأحاديث الصحيحة وهذا فيما عدا بين الصفين أما بينهما فهو مباح لخبر صح فيه، ويكفي ما في الآية من التهكم والتقريع زاجرا لمن اعتاده حيث لا يباح ككثير من الناس اليوم. وفي الانتصاف قد حفظ الله تعالى عوام زماننا من هذه المشية وتورط فيها قراؤنا وفقهاؤنا بينا أحدهم قد عرف مسألتين أو أجلس بين يديه طالبين أو نال طرفا من رياسة الدنيا إذ هو يمشي خيلاء ولا يرى أنه يطاول الجبال ولكن يرى أنه يحك بيافوخه عنان السماء كأنهم على هذه الآية لا يمرون أو يمرون عليها وهم عنها معرضون اه.
وإذا كان هذا حال قراء زمانه وفقهائه فماذا أقول أنا في قراء زماني وفقهائهم سوى لا كثّر الله تعالى أمثالهم ولا ابتلانا بشيء من أفعالهم وجعلها أفعى لهم كُلُّ ذلِكَ المذكور في تضاعيف الأوامر والنواهي السابقة من الخصال المنحلة إلى نيف وعشرين كانَ سَيِّئُهُ وهو ما نهى عنه منها من الجعل مع الله سبحانه إلها آخر وعبادة غيره تعالى والتأفيف والنهر والتبذير وجعل اليد مغلولة إلى العنق وبسطها كل البسط وقتل الأولاد خشية إملاق وقتل النفس التي

صفحة رقم 73

حرم الله تعالى إلا بالحق وإسراف الولي في القتل وقفو ما ليس بمعلوم والمشي في الأرض مرحا فالإضافة لامية من إضافة البعض إلى الكل عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً أي مبغضا وإن كان مرادا له تعالى بالإرادة التكوينية وإلا لما وقع كما يدل عليه قوله صلّى الله عليه وسلّم ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن وغير ذلك، وليست هذه الإرادة مرادفة أو ملازمة للرضا ليلزم اجتماع الضدين الإرادة المذكورة والكراهة كما يزعمه المعتزلة، وهذا تتميم لتعليل الأمور المنهي عنها جميعا، ووصف ذلك بمطلق الكراهة مع أن أكثره من الكبائر للإيذان بأن مجرد الكراهة عنده تعالى كافية في وجوب الكف عن ذلك، وتوجيه الإشارة إلى الكل ثم تعيين البعض دون توجيهها إليه ابتداء لما قيل: من أن البعض المذكور ليس بمذكور جملة بل على وجه الاختلاط لنكتة اقتضته، وفيه إشعار بكون ما عداه مرضيا عنده سبحانه وإنما لم يصرح بذلك إيذانا بالغنى عنه، وقيل اهتماما بشأن التنفير عن النواهي لما قالوا من أن التخلية أولى من التحلية ودرء المفاسد أهم من جلب المصالح، وجوز أن تكون الإضافة بيانية وذلِكَ إما إشارة إلى جميع ما تقدم ويؤخذ من المأمورات أضدادها وهي منهي عنها كما في قوله تعالى: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الأنعام: ١٥١] بعد قوله سبحانه قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام: ١٥١] وإما إشارة إلى ما نهى عنه صريحا فقط.
وقرأ الحجازيان والبصريان «سيئة» بفتح الهمزة وهاء التأنيث والنصب على أنه خبر كان، والإشارة إلى ما نهى عنه صريحا وضمنا أو صريحا فقط، ومَكْرُوهاً قيل بدل من سَيِّئُهُ والمطابقة بين البدل والمبدل منه غير معتبرة.
وضعف بأن بدل المشتق قليل، وقيل: صفة سَيِّئُهُ محمولة على المعنى فإنها بمعنى سيئا وقد قرىء به أو أن السيئة قد زال عنها معنى الوصفية وأجريت مجرى الجوامد فإنها بمعنى الذنب أو تجري الصفة على موصوف مذكر أي أمرا مكروها، وقيل: إنه خبر لكان أيضا ويجوز تعدد خبرها على الصحيح، وقيل: حال من المستكن في كانَ أو في الظرف بناء على جعله صفة سَيِّئُهُ لا متعلقا بمكروها فيستتر فيه ضميرها، والحال على هذا مؤكدة. وأنت تعلم أن ضمير السيئة المستتر مؤنث فجعل مكروها حالا منه كجعله صفة سَيِّئُهُ في الاحتياج إلى التأويل. وإضماره مذكرا في قوله: ولا أرض أبقل أبقالها لا يخفى ما فيه. وعن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قرأ: «شأنه» ذلِكَ المتقدم في التكاليف المفصلة مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ أي بعض منه أو من جنسه مِنَ الْحِكْمَةِ التي هي علم الشرائع أو معرفة الحق سبحانه لذاته والخير للعمل به أو الأحكام المحكمة التي لا يتطرق إليها النسخ والفساد، وفي الكشاف عن ابن عباس هذه الثماني عشرة آية يعني من لا تَجْعَلْ فيما مر إلى مَلُوماً مَدْحُوراً بعد كانت في ألواح موسى عليه السلام وهي عشر آيات في التوراة، وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن التوراة كلها في خمس عشرة آية من بني إسرائيل ثم تلا وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وهذا أعظم مدحا للقرآن الكريم مما في الكشاف، ومِنَ إما متعلقة بأوحى على أنها تبعيضية أو ابتدائية وإما بمحذوف وقع حالا من الموصول أو عائده المحذوف أي من الذي أوحاه إليك ربك كائنا من الحكمة، وجوز أن يكون الجار والمجرور بدلا من ما وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الخطاب نظير الخطاب السابق كرر للتنبيه على أن التوحيد مبدأ الأمر ومنتهاه وأنه رأس كل حكمة وملاكها، ورتب عليه أولا ما هو عائدة الشرك في الدنيا حيث قال فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا [الإسراء: ٢٢] ورتب عليه هاهنا نتيجته في العقبى فقيل فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً من جهة نفسك ومن جهة غيرك مَدْحُوراً مبعدا من رحمة الله تعالى. وفي التفسير الكبير الفرق بين المذموم والملوم أن المذموم هو الذي يذكر أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر والملوم هو الذي يقال له لم فعلت هذا الفعل وما الذي حملك عليه وما استفدت منه إلا إلحاق الضرر بنفسك. ومن هذا يعلم أن الذم يكون أولا واللوم آخرا، والفرق بين المخذول

صفحة رقم 74

والمدحور أن المخذول عبارة عن الضعيف يقال تخاذلت أعضاؤه أي ضعفت، والمراد به من تركت إعانته وفوض إلى نفسه والمدحور المطرود والمراد به المهان والمستخف به انتهى. وفي إيراد الإلقاء مبنيا للمفعول جرى على سنن الكبرياء وازدراء بالمشرك وجعل له كخشبة يأخذها من كان فيلقيها في التنور، هذا وقد وحد الخطاب في بعض هذه الأوامر والنواهي وجمع في بعض آخر منها ولم يظهر لي سر اختيار كل من التوحيد والجمع فيما اختير فيه على وجه يسلم من القيل والقال ويهش له كمل الرجال، وقد ذكرت ذلك لبعض أحبابي من أجلة المحققين ورؤساء المدرسين وطلبت منه أن يحرر ما يظهر له حيث إني محقق كماله وفضله فكتب ما نصه أقول معترفا بالقصور محترزا عن الغرور متعذرا بالقول المأثور المأمور معذور يخطر على خاطر الفقير لتغيير أسلوب الخطاب وجوه تسعة لا تدخل في الحساب. الأول الإشعار بانقسام هذه التكاليف إلى أقسام ثلاثة قسم أهل الكل خوطب به الأمة مرتين مرة تصريحا بخطاب أنفسهم ومرة تعريضا بخطاب رسولهم صلّى الله عليه وسلّم وهذا الأهم هو التوحيد، وقسم مهم جدا لكن دون الأول خوطبوا به واحدة تصريحا وهو أمور سبعة، الأول مطلق الإحسان بالوالدين فإن انتفاءه بأن لا يحسن إليهما أصلا من أشد مراتب العقوق، والثاني ترك قتل الأولاد، والثالث الزنا، والرابع ترك قتل النفس المحرمة إلا بالحق، والخامس ترك التصرف في مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، والسادس الإيفاء بالعهد، والسابع الوزن بالقسطاس المستقيم. وقسم ثالث دون الأولين في المهمية خوطبوا به واحدة تعريضا وهو أيضا أمور أحد عشر. الأول ترك قول أف للوالدين، والثاني ترك النهر فإن التأفيف والنهر من أهون مراتب العقوق بخلاف ترك الإحسان مطلقا، والثالث
قول القول الكريم لهما، والرابع خفض الجناح من الرحمة، والخامس الدعاء برحمة الله تعالى وهذه الثلاثة تركها ليس كترك مطلق الإحسان مثلا والسادس ترك إيتاء حق ذي القربى والمساكين وابن سبيل وظاهر أن عدم القيام بإيتاء مجموع الحقوق الثلاثة أهون من ترك الأمور المذكورة في القسم الثاني، والسابع ترك التبذير والثامن قول القول الميسور، والتاسع العدل في المنع والعطاء، والعاشر ترك القفو لما ليس به علم الصادق على القول بموجب الظن مثلا، والحادي عشر ترك المشي مرحا وترك واحد من هذه الخمسة أيها كان لا يبلغ ترك واحد من الأمور المكلف بها المذكورة في القسم الثاني كما لا يخفى. والثاني من تلك الوجوه الإيماء باقتران خطاب الأمة في النهي عن كبائر خطيرة مثلا بخطابه صلّى الله عليه وسلّم عما ليس في خطرها إلى أن الذنوب تزداد عظما بعظم مرتكبها فرضا كما يدل عليه آية لَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ [الإسراء: ٧٤، ٧٥] وكريمة يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب: ٣٠] وكما اشتهر أن حسنات الأبرار سيئات المقربين وأن المقربين على خطر عظيم لكن لم تراع هذه النكتة في النهي عن الشرك إشارة إلى أنه في غاية العظم بحيث لا ينبغي أن يتصور في عظمه ازدياد وتفاوت الأفراد، أو نقول: لما عارضت هذه النكتة نكتة أخرى رجحت لكونها بالرعاية أحرى وهي الإشارة إلى أن الشرك كان عند الله سبحانه عظيما فكرر الخطاب بالنهي عنه تخصيصا وتعميما، وهكذا نقول في عدم رعاية نكتة الوجوه الآتية في التكليف بالتوحيد ولا نعيد. والثالث من تلك الوجوه التنبيه بتعميم الخطاب في النهي عن بعض المعاصي والأمر ببعض الطاعات على أن فتنة فعل تلك المعاصي وترك تلك الطاعات لا تصيب الذين ظلموا خاصة. والرابع منها الإشارة بتعميم الخطاب فيما عمم فيه من المنهيات والمأمورات إلى أن تلك المنهيات كما يجب على كل مكلف الانكفاف عنها يجب عليه كف الغير بحيث لو تركه لكان كفاعلها في أنه اقترف كبيرة نهى عنها نهي تلك المنهيات وإلى أن تلك المأمورات كما يجب على الكل أداؤها يجب إجبار التارك على أداؤها بحيث لو لم يجبر لكان كتاركها في أنه ترك واجبا أمر به أمر تلك المأمورات وبتخصيص الخطاب فيما خصص فيه إلى أنه ليس بتلك المثابة فإنه وإن وجب إجبار الغير على بعض تكاليفه لكن عسى أن لا يكون تركه كبيرة والخامس الرمز بتوحيد

صفحة رقم 75

الخطاب فيما وحد فيه أن تلك الطاعة لا تصدر إلا من الآحاد لأنها لا يوفي حقها إلا المتورعون الصالحون وقليل ما هم بخلاف غيرها فإنه مضبوط.
والسادس الإشعار بأن التكاليف التي خوطب بها النبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد أمته لا يقوم بها حق القيام إلا هو أو من يقتدي بأنواره ويقتفي لآثاره ويسعى في اتباع سننه القويم ويجتهد في التخلق بخلقه الكريم بخلاف غيرها مما خوطبوا به صريحا فإنها تأتي من أغلبهم.
والسابع أنه صرف الخطاب عنه صلّى الله عليه وسلّم في النهي عن قتل الأولاد والزنا وقتل النفس المحرمة إلا بالحق والتصرف في مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن إشارة إلى أن تلك الشنائع لا يأتيها النبي عليه الصلاة والسلام وإن لم ينه عنها لأن فطرته وفطنته وسلامة طبعه اللطيف واستقامة مزاجه الشريف كانت كافية في كفه عنها، وكذا صرف عنه الخطاب في الأمر بالإحسان بالوالدين والإيفاء بالعهد والوزن بالقسطاس المستقيم إشارة إلى أنه صلّى الله عليه وسلّم يأتي بهذه الأمور وإن لم يؤمر بها لأن ترك مطلق الإحسان بالوالدين لو بلغا لديه الكبر مثلا يلزمه من الفظاظة وغلظة القلب وجفاء الطبع ما كان يأباه طبيعته صلّى الله عليه وسلّم وكذا الغدر والتطفيف كانا تأباهما أخلاقه الكريمة لكن خوطب بالنهي عن الشرك لأنه ليس للطبع والخلق في التوحيد والشرك دخل.
والثامن أنه تعالى إجلالا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم لم يخاطبه بنهيه عن فواحش قتل الولد والزنا وقتل النفس بغير حق لئلا يوهم أنه كان وحاشاه يأتيها قبل النهي، وكذا لم يخاطبه بأمر بالإيفاء بالعهد والوزن بالقسطاس المستقيم لئلا يوهم أنه كان وحاشاه يتركها قبل هذا، وهذا الإيهام ادعى للاعتناء بدفعه من الإيهام فيما خوطب به وحده، وخوطب بالنهي عن الشرك لأن معهودية دعوته صلّى الله عليه وسلّم للخاص والعام مدى الليالي والأيام كفته هذا الإيهام.
والتاسع لعل التكاليف التي خوطب صلّى الله عليه وسلّم بها كترك القفو لما ليس له به علم وترك المشي في الأرض مرحا لم تكن في غير دينه من سائر الأديان أو لم تكن مصرحا بها منصوصا عليها في الكتب السماوية ما عدا القرآن فوجه الخطاب إليه وحده تلويحا بأنها من خصائص دينه أو بأن التصريح بها والتنصيص عليها من خصائص كتابه، ويؤيد هذا الوجه قوله تعالى بعد النهي عن القفو بلا علم والمشي مرحا «ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة» ثم إني لا أدعي في هذا بل وفي سائر الوجوه البت والجزم ولا أقفو ما ليس لي به علم بل أقول هذا خطر ببالي الكسير والعلم عند اللطيف الخبير اه.
ويرد على قوله في الأول فإن انتفاءه بأن لا يحسن إليهما أصلا من أشد مراتب العقوق أن العقوق الذي هو كبيرة فعل ما يتأذى به من فعل معه من الوالدين تأذيا ليس بالهين عرفا كما سمعت وعدم الإحسان أصلا قد لا يكون من ذلك، قال العلامة ابن حجر في أثناء الكلام على الفرق بين العقوق وقطع الرحم إنه لو فرض أن قريبه لم يصل إليه إحسان ولا إساءة قط لم يفسق بذلك لأن الأبوين إذا فرض ذلك في حقهما من غير أن يفعل معهما ما يقتضي التأذي العظيم لغناهما مثلا لم يكن كبيرة فأولى بقية الأقارب اه. وكأنه أحسن الله تعالى إليه ظن أنه إذا تحقق عدم الإحسان تحققت الإساءة وهو بمعزل عن الصواب، ويرد أيضا على قوله: وظاهر أن عدم القيام بإيتاء مجموع الحقوق الثلاثة أهون من ترك الأمور المذكورة في القسم الثاني أنه إن أراد أنه أهون من ترك مجموع تلك الأمور فلا شك إن بعض ما عده في القسم الثالث كالوزن بالقسطاس المستقيم ترك القيام به أهون من ترك مجموع التكليفات فما معنى هذا التخصيص وإن أراد أنه أهون من ترك كل واحد من ترك الأمور المذكورة فهو ممنوع كيف لا ويكون في ذلك قطيعة رحم وقاطعها ملعون في كتاب الله تعالى في ثلاثة مواضع.

صفحة رقم 76

وروى أحمد بإسناد صحيح أن من أربا الربا الاستطالة بغير حق وإن هذه الرحم شجنة من الرحمن فمن قطعها حرم الله تعالى عليه الجنة ومنع زكاة أيضا
وقد قال تعالى في حم السجدة وهي مكية كهذه السورة وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ [فصلت: ٦، ٧] وإن نوقش فيما ذكر قلنا: إن عدم القيام بإيتاء ما ذكر صادق على منع حقوق ثلاثة أصناف ولا شك أن منع ذي الحق حقه ظلم له فيتعدد الظلم فيما نحن فيه ولا أظن أن ذلك أهون من التطفيف وإن كان ظلما أيضا:

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على القلب من وقع الحسام المهند
ومما ذكرنا يعلم أن قوله ظاهر غير ظاهر، ويرد أيضا على قوله: وترك واحد من هذه الخمسة إلخ أن قوله سبحانه وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ نهي على ما اختاره الإمام عن كبائر لا شك في أن بعضها أعظم بكثير من بعض ما في القسم الثاني كالقول في الإلهيات والنبوات نحو ما يقوله المشركون تقليدا للأسلاف واتباعا للهوى وإن أبيت إلا تخصيصه ببعض ما قاله المفسرون ونقله الإمام مما هو أهون أفراده كالكذب قيل لك إن في كونه أهون من انتفاء الإحسان مطلقا مع كونه قد لا يكون كبيرة منعا ظاهرا كما لا يخفى. وكذا في كون المشي مرحا دون كل واحد من الأمور السابقة بحث.
وقد أخرج الشيخان «بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مرجل مختال في مشيته إذ خسف الله تعالى به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة»
وروى أحمد وابن ماجة والحاكم «ما من رجل يتعاظم في نفسه ويختال في مشيته إلا لقي الله تعالى وهو عليه غضبان»
وصح «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر»
إلى غير ذلك من الأحاديث التي لم يجىء مثلها فيمن لم يحسن إلى والديه نعم جاء ذلك فيمن عق والديه، وبين عقوقهما وعدم الإحسان إليهما عموم وخصوص مطلق وعلى هذا فلا يخفى حال كما لا يخفى، ويرد على الوجه الثاني على ما فيه أنه غير واف بالغرض، وعلى الثالث أنه مجرد دعوى لم تساعدها الآثار، نعم ورد في بعض ما ذكر أن فتنته لا تصيب الظالم فقط ما يؤيده، ومن ذلك ما
أخرجه البيهقي وغيره «يا معشر المهاجرين خصال خمس إن ابتليتم بهن ونزلت بكم أعوذ بالله تعالى أن تدركوهن لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا المطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا ولا نقضوا عهد الله تعالى وعهد رسوله صلّى الله عليه وسلّم إلا سلط الله تعالى عليهم عدوا من غيرهم فيأخذوا بعض ما في أيديهم وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله تعالى إلا جعل الله تعالى بأسهم بينهم»
وإن كان في عدم إيتاء المسكين وابن السبيل حقهما منع الزكاة فأمر الإيماء المذكور ولا يخفى حاله فإن الأخبار قد تظافرت بعموم شؤم ذلك،
فقد صح «ما منع قوم الزكاة إلا حبس الله تعالى عنهم القطر»
وفي رواية صحيحة «إلا ابتلاهم الله تعالى بالسنين»
إلى غير ذلك، ويرد على الوجه الرابع أن بعضهم قد أطلق القول بأن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كبيرة.
وصرح صاحب العدة بأن الغيبة نفسها صغيرة وترك النهي عنها كبيرة، وقال بعض المتأخرين: ونقله الجلال البلقيني ينبغي أن يفصل في النهي عن المنكر فيقال: إن كان كبيرة فالسكوت عليه مع إمكان دفعه كبيرة وإن كان صغيرة فالسكوت عليه صغيرة، ويقاس ترك المأمور بهذا إذا قلنا: إن الواجبات تتفاوت وهو الظاهر اه.
وقد علمت أن فيما وحد الخطاب فيه من الأوامر ما تركه كبيرة ومن النواهي ما فعله كذلك فلم يتحقق ما رجا سلمه الله تعالى على أن في تعبيره بالإجبار فيما عبر فيه ما لا يخفى، ويرد على الخامس أن في كون الطاعات التي

صفحة رقم 77

وحد فيها الخطاب لا تصدر إلا من الآحاد لأنها لا يوفي حقها إلا المتورعون منعا ظاهرا فإن أكثر الناس صالحهم وطالحهم لا يمشي في الأرض مرحا ومثل ذلك الدعاء للوالدين بالرحمة فإنا نسمعه على أتم وجه من كثير ممن لا يعرف الورع أي شيء هو، وكذا في قوله: بخلاف غيرها فإنه مضبوط فإن ترك التصرف في مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ممن له ولاية عليه أمر شاق لا يكاد يقوم به إلا الأفراد، قال في رد المحتار حاشية الدر المختار: لا ينبغي للموصى إليه أن يقبل لصعوبة العدل جدا، ومن هنا قال أبو يوسف: الدخول في الوصاية أول مرة غلط وثاني مرة خيانة وثالث مرة سرقة، ومن هذا يعمل ما في الوجه السادس، ويرد على السابع أيضا أن المشي في الأرض مرحا كالأمور التي صرف الخطاب في النهي عنها عنه صلّى الله عليه وسلّم في أن فطرته وفطنته وسلامة طبعه اللطيف واستقامة مزاجه الشريف كافية في الكف عنه فإن الكبر من البشر لا ينشأ إلا عن جهل وبلادة وقد جبل عليه الصلاة والسلام على أكمل ما يكون من التواضع بل وسائر الصفات التي هي كمال في النوع الإنساني ويؤيد ذلك قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: ٤] مع أنه لم يصرف الخطاب فيه وأنه حيث اعتبر الفطنة في الكافي عن الكف لم ينفعه الاعتذار عن توحيد الخطاب في النهي عن الشرك بما اعتذر به فإن للفطنة دخلا تاما في التوحيد كما لا يخفى على فطن، ويرد على قوله في الثامن: وهذا الإيهام إلخ منع ظاهر فلا يخفى حاله كما لا يخفى، ويرد على التاسع أنه لا يساعده نقل ولا عقل بل جاء في النقل ما يخالفه كما سمعت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وإن اعتبر النهي عن الشرك من تلك التكليفات فهو كاف في تزييف هذا الوجه لأن النهي عن الشرك جاء به كل رسول ونطق به كل كتاب وما ذكره مؤيدا لغرضه بمعزل عن التأييد، هذا وبقيت إيرادات أخر على هذه الوجوه أعرضنا عنها وتركناها للذكي الفطن حذرا من التطويل فتأمل ذاك والله يتولى هداك.
أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً خطاب للقائلين بأن الملائكة بنات الله سبحانه، والإصفاء بالشيء جعله خالصا، والهمزة للإنكار وهي داخلة على مقدر على أحد الرأيين والفاء للعطف على ذلك المقدر أي أفضلكم على جنابه فخصكم بأفضل الأولاد على وجه الخلوص وآثر لذاته أخسها وأدناها، والتعرض لعنوان الربوبية لتشديد النكير وتأكيده، وعبر بالإناث إظهارا للخسة.
وقال شيخ الإسلام: أشير بذكر الملائكة عليهم السلام وإيراد الإناث مكان البنات إلى كفرة لهم أخرى وهي وصفهم لهم عليهم السلام بالأنوثة التي هي أخس صفات الحيوان كقوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف: ١٩] وفي الكشف أنه تعالى لما نهى عن الشرك ودل على فساده أتى بالفاء الواصلة وأنكر عليهم ذلك دليلا على مكان التعكيس وأنهم بعد ما عرفوا أنه سبحانه بريء من الشريك بدليل العقل والسمع نسبوا إليه تعالى ما هو شرك ونقص وازدراء بمن اصطفاه من عباده فيا له من كفرة شنيعة ولذا قيل:
إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ بمقتضى مذهبكم الباطل قَوْلًا عَظِيماً لا يقادر قدره في استتباع الإثم وخرقه لقضايا العقول بحيث لا يجترىء عليه ذو عقل حيث تجعلونه سبحانه من قبيل الأجسام السريعة الزوال المحتاجة إلى بقاء النوع بالتوالد وليس كمثله شيء وهو الواحد القهار الباقي بذاته ثم تضيفون إليه تعالى ما تكرهون من أخس الأولاد وتفضلون عليه سبحانه أنفسكم بالبنين ثم تصفون الملائكة عليهم السلام بما تصفون.
وَلَقَدْ صَرَّفْنا من التصريف وهو كثرة صرف الشيء من حال إلى حال، ومفعوله هنا محذوف للعلم به أي صرفناه أي هذا المعنى والمراد عبرنا عنه بعبارات وقررناه بوجوه من التقريرات فِي هذَا الْقُرْآنِ العظيم أي في مواضع منه فالمراد بالقرآن مجموع التنزيل وجوز أن يراد به البعض المشتمل على إبطال إضافة البنات إليه سبحانه

صفحة رقم 78

ومفعول صَرَّفْنا محذوف أيضا أي صرفنا القول المشتمل على إبطال الإضافة المذكورة في هذا المعنى، وإيقاع القرآن على المعنى وجعله ظرفا للقول إما بإطلاق اسم المحل على الحال لما اشتهر أن الألفاظ قوالب المعاني أو بالعكس كما يقال الباب الفلاني في كذا وهذه الآية في تحريم كذا أي في بيانه، ويجوز تنزيل الفعل منزلة اللازم وتعديته بفي كما في قوله: يجرح في عراقيبها نصلي. أي أوقعنا التصريف فيه. وقرىء «صرفنا» بالتخفيف والصرف كالتصريف إلا في التكثير لِيَذَّكَّرُوا أي ليتذكروا ويتعظوا ويطمئنوا له فإن التكرار يقتضي الإذعان واطمئنان النفس وَما يَزِيدُهُمْ ذلك التصريف إِلَّا نُفُوراً عن الحق وإعراضا عنه وهو تعكيس. وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي لِيَذَّكَّرُوا [الفرقان: ٥٠] من الذكر الذي هو بمعنى التذكر ضد النسيان والغفلة، والتذكر على القراءة الأولى بمعنى الاتعاظ كما أشير إليه، والالتفات إلى الغيبة للإيذان باقتضاء الحال أن يعرض عنهم ويحكي للسامعين هناتهم قُلْ في إظهار بطلان ذلك من جهة أخرى لَوْ كانَ مَعَهُ سبحانه وتعالى في الوجود آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ أي المشركون قاطبة. وقرأ حمزة والكسائي وخلف بالتاء ثالث الحروف خطابا لهم والأمران في مثل هذا المقام شائعان، وذلك أنه إذا أمر أحد بتبليغ كلام لأحد فالمبلغ له في حال تكلم الآمر غائب ويصير مخاطبا عند التبليغ فإذا لو حظ الأول حقه الغيبة وإذا لو حظ الثاني حقه الخطاب وكذا قرؤوا فيما بعد. وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم هنا بالتاء وهناك بالياء آخر الحروف على أنه تنزيه منه سبحانه لنفسه ابتداء من غير أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله لهم، والكاف في محل النصب على أنها نعت لمصدر محذوف أي كونا مشابها لما يقولون والمراد بالمشابهة على ما قيل الموافقة والمطابقة.
إِذاً لَابْتَغَوْا جواب عن قولهم: إن مع الله سبحانه آلهة وجزاء للو أي لطلب الآلهة إِلى ذِي الْعَرْشِ أي إلى من له الملك والربوبية على الإطلاق سَبِيلًا بالمغالبة والممانعة كما اطردت العادة بين الملوك، وهي إشارة إلى برهان التمانع كقوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: ٢٢] وذلك بتصوير قياس استثنائي استثنى فيه نقيض التالي لينتج نقيض المقدم المطلوب، وسيأتي إن شاء الله تعالى تقريره في محله، وإلى هذا ذهب سعيد ابن جبير كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم، وعن مجاهد وقتادة أن المعنى إذا لطلبوا الزلفى إليه تعالى والتقرب بالطاعة لعلمهم بعلوه سبحانه عليهم وعظمته وهذا كقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ [الإسراء: ٥٧] وهو إشارة إلى قياس اقتراني هكذا لو كان كما زعمتم آلهة لتقربوا إليه تعالى وكل من كان كذلك ليس إلها فهم ليسوا بآلهة. قيل ولَوْ على الأول امتناعية وعلى هذا شرطية، والقياس مركب من مقدمتين شرطية اتفاقية وحملية.
واختار المحققون الوجه الأول لأنه الأظهر الأنسب بقوله سبحانه: سُبْحانَهُ فإنه ظاهر في أن المراد بيان أنه يلزم ما يقولونه محذور عظيم من حيث لا يحتسبون.
وأما ابتغاء السبيل إليه تعالى بالتقرب فليس مما يختص بهذا التقدير ولا مما يلزمهم من حيث لا يشعرون بل هو أمر يعتقدونه رأسا أي ينزه بذاته تنزيها حقيقا به سبحانه وَتَعالى متباعدا عَمَّا يَقُولُونَ من العظيمة التي هي أن يكون معه تعالى آلهة وأن يكون له بنات عُلُوًّا أي تعاليا فهو مصدر من غير فعله كقوله تعالى أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: ١٧] كَبِيراً بعيد الغاية بل لا غاية وراءه كيف لا وأنه تعالى في أقصى غايات الوجود وهو الوجوب الذاتي وما يقولونه من أن معه آلهة وأن له أولادا في أدنى مراتب العدم وهو الامتناع الذاتي.

صفحة رقم 79

وقيل لأنه تعالى في أعلى مراتب الوجود وهو كونه واجب الوجود والبقاء لذاته واتخاذ الولد من أدنى مراتبه فإنه من خواص ما يمتنع بقاؤه.
وتعقب بأن ما يقولونه ليس مجرد اتخاذ الولد بل مع ما سمعت ولا ريب في أن ذلك ليس بداخل في حد الإمكان فضلا عن دخوله تحت الوجود، وكونه من أدنى مراتب الوجود إنما هو بالنسبة إلى من من شأنه ذلك، واعتذر بأنه من باب التنبيه بحال الأدنى على حال الأعلى ولا يخفى أن ذكر العلو بعد عنوانه بذي العرش في أعلى مراتب البلاغة تُسَبِّحُ بالفوقانية وهي قراءة أبي عمرو والأخوين وحفص، وقرأ الباقون بالتحتانية لأن تأنيث الفاعل مجازي مع الفصل وقرىء «سبحت» لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ أي من الملائكة والثقلين وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ من الأشياء حيوانا كان أو نباتا أو جمادا إِلَّا يُسَبِّحُ ملتبسا بِحَمْدِهِ تعالى، والمراد من التسبيح الدلالة بلسان الحال أي تدل بإمكانها وحدوثها دلالة واضحة على وجوب وجوده تعالى ووحدته وقدرته وتنزهه من لوازم الإمكان وتوابع الحدوث كما يدل الأثر على مؤثره ففي الكلام استعارة تبعية كما في نطقت الحال.
وجوز أن يعتبر فيه استعارة تمثيلية ولا يأبى حمل التسبيح على ذلك قوله تعالى: وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ بناء على أن كثيرا من العقلاء فهم تلك الدلالة لما أن الخطاب للمشركين والكفرة لا للناس على العموم لأنه تقدم ذكر قبائحهم من نسبتهم إليه تعالى شأنه ما لا يليق بحلاله فإن الله سبحانه وصف ذاته بالنزاهة عنه وبالغ فيه ما بالغ ثم عقبه بما ذكر دلالة على أن كل الأكوان شاهدة بتلك النزاهة مبالغة على مبالغة فلو كان الخطاب مع غير هؤلاء المنكرين وأضرابهم لم يتلاءم الكلام ويخرج عن النظام.
وقوله تعالى إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً تذييل من تتمة الإنكار على الوجه الأبلغ أي إنه سبحانه حليم ولذلك لم يعاجلكم بالعقوبة لإخلالكم بالنظر الصحيح الموصل إلى التوحيد ولو تبتم ونظرتم لغفر لكم ما صدر منكم من التقصير فإنه غفور لمن يتوب، وظن ابن المنير أن هذا التذييل يأبى كون الخطاب للمشركين قال: لأنه سبحانه لا يغفر لهم ولا يتجاوز عن جهلهم وإشراكهم، والظاهر أن المخاطب المؤمنون وعدم فقههم للتسبيح الصادر من الجمادات كناية والله تعالى أعلم عن عدم العمل بمقتضى ذلك فإن الإنسان لو تيقظ حق التيقظ إلى أن النملة والبعوضة وكل ذرة من ذرات الكون يقدس الله تعالى وينزهه ويشهد بحلاله وكبريائه وقهره وعمر خاطره بهذا الفهم لشغله ذلك عن الطعام فضلا عن فضول الأفعال والكلام والعاكف على الغيبة التي هي فاكهتنا في زماننا لو استشعر حال إفاضته فيها أن كل ذرة من ذرات لسانه الذي يلقلقه في سخط الله تعالى عليه مشغولة مملوءة بتقديس الله تعالى وتسبيحه وتخويف عقابه وإنذار جبروته وتيقظ لذلك حق التيقظ لكاد يبكم بقية عمره، فالظاهر أن الآية إنما وردت خطابا على الغالب من أحوال الغافلين وإن كانوا مؤمنين اه، وليس بسديد لخروج الكلام على ذلك من النظام، ووجه التذييل ما سمعت فلا إباء كما لا يخفى على ذوي الأفهام.
وجوز أن يراد بالتسبيح الدلالة على تنزيه الباري سبحانه عن لوازم الإمكان وتوابع الحدوث مطلقا سواء كانت حالية أو مقالية على أنه من عموم المجاز أو بالجمع بين المعنى الحقيقي والمجازي على رأي من يجوزه فتسبيح بعض قالي وتسبيح بعض آخر حالي. وتعقبه بأنه لا يلائمه لا تَفْقَهُونَ لأن من ذلك التسبيح ما يفقهه المشركون وغيرهم وهو التسبيح القالي. وأجيب بأن المشركين لعدم تدبرهم له وانتفاعهم به كان فهمهم بمنزلة العدم أو أنهم لعدم فهمهم بعض المراد من التسبيح جعلوا ممن لا يفهم الجميع تغليبا. وذهب بعض الظاهرية وارتضاه الراغب وقال في تفسير الخازن إنه الأصح على أن التسبيح على معناه الحقيقي فالكل يسبح بلسان القال حتى الجمادات ولم يرتض

صفحة رقم 80

ذلك الإمام لأن هذا التسبيح لا يحصل إلا مع العلم وهو مما لا يتصور في الجماد لفقد شرطه العقلي وهو الحياة ولو لم يكن ذلك شرطا عقليا لا نسد باب العلم بكونه سبحانه وتعالى حيا وأيضا التذييل السابق يأبى ذلك لدلالته على أن عدم فقه التسبيح المذكور جرم ولا شك أن عدم فقه تسبيح الجمادات بألفاظها ليس بجرم وإنما الجرم عدم فقه دلالتها للغفلة وقصور النظر ومن تتبع الأحاديث والآثار رأى فيها ما يشهد بما ذهب إليه هذا البعض شهادة لا تكاد تقبل التأويل فقد صح سماع تسبيح الحصا في كفه صلّى الله عليه وسلّم.
وأخرج أبو الشيخ عن أنس قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بطعام ثريد فقال: إن هذا الطعام يسبح فقالوا: يا رسول الله وتفقه تسبيحه؟ قال: نعم ثم قال لرجل أدن هذه القصعة من هذا الرجل فأدناها فقال: نعم يا رسول الله هذا الطعام يسبح فقال: أدنها من آخر فأدناها منه فقال: يا رسول الله هذا الطعام يسبح ثم قال: ردها فقال رجل: يا رسول الله لو أمرّت على القوم جميعا فقال: لا إنها لو سكتت عند رجل لقالوا: من ذنب ردها فردها.
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: كنا أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم نعد الآيات بركة وأنتم تعدونها تخويفا بينما نحن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليس معنا ماء فقال لنا: اطلبوا من معه فضل ماء فأتى بماء فوضعه في إناء ثم وضع يده فيه فجعل الماء يخرج من بين أصابعه ثم قال: حي على الطهور المبارك والبركة من الله تعالى فشربنا منه قال عبد الله: كنا نسمع صوت الماء وتسبيحه وهو يشرب.
وأخرج أحمد وابن مردويه عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إن نوحا عليه السلام لما حضرته الوفاة قال لابنيه:
آمر كما بسبحان الله وبحمده فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق كل شيء، وأخرج أحمد عن معاذ بن أنس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه مر على قوم وهم وقوف على دواب لهم ورواحل فقال لهم: اركبوها سالمة ودعوها سالمة ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق فرب مركوبة خير من راكبها وأكثر ذكر الله تعالى منه
وأخرج النسائي وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر قال: نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن قتل الضفدع وقال نقيقها تسبيح.
وأخرج ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن أنس بن مالك قال: ظن داود عليه السلام في نفسه أن أحدا لم يمدح خالقه بما مدحه وإن ملكا نزل وهو قاعد في المحراب والبركة إلى جانبه فقال يا داود افهم إلى ما تصوت به الضفدع فأنصت داود فإذا الضفدع تمدحه بمدحة لم يمدحه بها فقال له الملك: كيف ترى يا داود أفهمت ما قالت؟ قال: نعم قال: ماذا قالت؟ قالت: قال سبحانك وبحمدك منتهى علمك يا رب قال داود: لا والذي جعلني نبيه إن لم أمدحه بهذا.
وأخرج أحمد في الزهد وأبو الشيخ عن شهر بن حوسب من حديث طويل أن داود عليه السلام أتى البحر في ساعة فصلى فنادته ضفدعة يا داود إنك حدثت نفسك أنك قد سبحت في ساعة ليس يذكر الله تعالى فيها غيرك وإني في سبعين ألف ضفدع كلها قائمة على رجل نسبح الله تعالى ونقدسه.
وأخرج الخطيب عن أبي ضمرة قال: كنا عند علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما فمر بنا عصافير يصحن فقال: أتدرون ما تقول هذه العصافير؟ قلنا: لا قال: أما إني ما أقول أنا نعلم الغيب ولكن سمعت أبي يقول سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه يقول سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إن الطير إذا أصبحت سبحت ربها وسألته قوت يومها وإن هذه تسبح ربها وتسأله قوت يومها.
وأخرج ابن راهويه في مسنده من طريق الزهري قال: أتى أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه بغراب وافر الجناحين فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ما صيد صيد ولا عضدت عضاه ولا قطعت وشيجة إلا بقلة التسبيح.

صفحة رقم 81

وأخرج أبو نعيم في الحلية، وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما صيد من صيد ولا وشج من وشج إلا بتضييعه التسبيح.
وأخرج أبو الشيخ عن أبي الدرداء وابن مردويه عن ابن مسعود مثل ذلك مرفوعا
أيضا. وأخرج أبو الشيخ عن الحسن لولا ما غم عليكم من تسبيح ما معكم من البيوت ما تقاررتم. وأخرج ابن أبي حاتم عن لوط بن أبي لوط قال:
«بلغني أن تسبيح سماء الدنيا سبحان ربي الأعلى والثاني سبحانه وتعالى والثالثة سبحانه وبحمده والرابعة سبحانه لا حول ولا قوة إلا به والخامسة سبحان محيي الموتى وهو على كل شيء قدير والسادسة سبحان الملك القدوس والسابعة سبحان الذي ملأ السموات السبع والأرضين السبع عزة ووقارا» إلى ما لا يكاد يحصى من الأخبار والآثار وهي بمجموعها متعاضدة في الدلالة على أن التسبيح قالي كما لا يخفى وهو مذهب الصوفية، وذكروا أن السالك عند وصوله إلى بعض المقامات يسمع تسبيح الأشياء بلغات شتى.
وقد روي عن بعض السلف سماعه لتسبيح بعض الجمادات، واختلف القائلون بهذا التسبيح فقال بعضهم:
بثبوته للاشياء مطلقا، وقيل إن التراب يسبح ما لم يبتل فإذا ابتل ترك التسبيح وإن الخرزة تسبح ما لم ترفع من موضعها فإذا رفعت تركت وإن الورقة تسبح ما دامت على الشجرة فإذا سقطت تركت (١) وإن الثوب يسبح ما لم يتسخ فإذا اتسخ ترك وإن الوحش والطير تسبح إذا صاحت وإذا سكتت تركت، وعلى هذا ما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن شوذب قال: جلس الحسن مع أصحابه على مائدة فقال بعضهم: هذه المائدة تسبح الآن فقال الحسن: كلا إنما ذاك كل شيء على أصله.
وأخرج عن السدي أنه قال: ما من شيء على أصله الأول لم يمت إلا وهو يسبح بحمده تعالى، ولعله أراد بالموت خروجه عن أصله الأول.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن قتادة أنه قال في الآية: كل شيء فيه الروح يسبح من شجرة وحيوان، وكون الشجرة ذات روح مبني على قول الناس فيها إذا يبست ماتت، واستثنى بعضهم بعض الحيوانات من عموم كل شيء لما أخرجه أبو الشيخ عن ابن عباس أنه قال كل شيء يسبح إلا الحمار والكلب.
ولا أرى لاستثناء ما ذكر وجها وفي القلب من صحة الرواية عن الحبر شيء، وكذا للتقييد بعد أن لم تكن الجمادية مانعة عن التسبيح والأخبار الظاهرة في عدم التقييد أكثر، ولا أظن أن لما يخالفها امتيازا عليها في الصحة.
ويشكل على هذا القول ما تقدم عن الإمام من إباء التذييل عنه وعدم وجود العلم الذي يستدعيه التسبيح القالي في الجمادات، وتفصى بعضهم عن هذا بالتزام أن لكل شيء حياة وعلما لائقين به ولا يطلع على حقيقة ذلك إلا الله تعالى اللطيف الخبير فكل ما في العالم عند هذا الملتزم حي عالم لكنه متفاوت المراتب في العلم والحياة.
ونقل الشعراني عن الخواص أنه قال: كل جماد يفهم الخطاب ويتألم كما يتألم الحيوان، وقال الشيخ الأكبر قدس سره: إن المسمى بالجماد والنبات له عندنا أرواح بطنت عن إدراك غير الكشف إياها في العادة فالكل عندنا حي ناطق غير أن هذا المزاج الخاص يسمى إنسانا لا غير بالصورة ووقع التفاصل بين الخلائق في المزاج والكل يسبح الله تعالى كما نطقت الآية به ولا يسبح إلا حي عاقل عالم عارف بمسبحه،
وقد ورد أن المؤذن يشهد له مدى صوته من

(١) وفيه خبر عن عائشة رضي الله تعالى عنها رواه الخطيب في تاريخ مرفوعا اه منه. [.....]

صفحة رقم 82

رطب ويابس
، والشرائع والنبوات مشحونة بما هو من هذا القبيل ونحن زدنا مع الإيمان بالأخبار الكشف إلى آخر ما قال.
واستدل بعضهم في هذا المقام بما
روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في دعائه للحمى: يا أم ملدم إن كنت آمنت بالله تعالى فلا تأكلي اللحم ولا تشربي الدم ولا تفوري من الفم وانتقلي إلى من يزعم أن مع الله تعالى آلهة أخرى فإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلّى الله عليه وسلّم
، وجاء عن السجاد رضي الله تعالى عنه في الصحيفة في مخاطبة القمر ما هو ظاهر في أن له شعورا واستفاض عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كتب للنيل كتابا يخاطبه فيه بما يخاطبه وضرب الأرض بالدرة حين تزلزلت وقال لها: إني أعدل عليك، وكم وكم في الأخبار نحو ذلك قيل ولا داعي لتأويلها إذ لا أحد يقول: إن شعور الجمادات كشعور الحيوانات الظاهرة بحيث يدركه كل أحد حتى يكون العمل بظاهر اللفظ خلاف حس العقلاء فيجب ارتكاب التأويل والتجوز، ومن علم عظم قدرة الله عز وجل وأنه سبحانه لا يعجزه شيء وأن المخلوقين على اختلاف مراتبهم لا سيما المنغمسين في أو حال العلائق والعوائق الدنيوية والمسجونين في سجن الطبيعة الدنية لم يقفوا على عشر العشر مما أودع في عالم الإمكان ونقش بيد الحكمة على برود الأعيان سلم ما جاء به الصادق عليه الصلاة والسلام وإن خالف ما عنده نسب القصور إلى نفسه قرب فكر يظنه المرء حقا وهو من الأوهام كما لا يخفى على من أنصف ولم يتعسف.
وعلى هذا الذي ذكروه لا تحتاج إعادة ضمير ذوي العلم في تَسْبِيحَهُمْ على ما تقدم إلى توجيه وتفصي آخر عن الأول بأن قوله تعالى إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً متعلق بقوله سبحانه سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ ولا يخفى ما في التفصي، ولعل الأولى فيه أن يلتزم حمل التسبيح على ما هو الأعم من الحالي والقالي ويثبت كلا النوعين لكل شيء، والتذييل باعتبار القصور في فقه الآخر، ويشكل أيضا أن من أفراد من نسب إليه التسبيح الجحد فضلا عن الساكت فالحمل على المجاز واجب. وأجيب بأن استثناء أولئك معلوم بقرينة السباق واللحاق، وزعم من زعم أن الجاحد مقدس أيضا وأنشدوا للحلاج:
جحودي لك تقديس... وعقلي فيك منهوس
فما آدم إلاك... وما في الكون إبليس
وأنت تعلم أن مثل هذا الحلج والندف صار سببا لما لاقى من الحتف فماذا عسى أقول سوى حسبنا الله ونعم الوكيل. وقرىء لا يفقهون على صيغة المبني للمفعول من باب التفعيل وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ الناطق بالتسبيح والتنزيه ودعوتهم إلى العمل بما فيه جَعَلْنا بقدرتنا ومشيئتنا المبنية على الحكم الخفيفة.
بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وهم المشركون المتقدم ذكرهم، وأوثر الموصول على الضمير ذما لهم بما في حيز الصلة ويتم به مع ما سبق الإشارة إلى كفرهم بالمبدأ والمعاد.
وفي إرشاد العقل السليم إنما خص بالذكر كفرهم بالآخرة من بين سائر ما كفروا به من التوحيد ونحوه دلالة على أنها معظم ما أمروا بالإيمان به في القرآن وتمهيدا لما سينقل عنهم من إنكار البعث واستعجاله ونحو ذلك اه، وفي كون الآخرة معظم ما أمروا بالإيمان به في القرآن تردد وربما يدعى أن ذلك هو التوحيد فالأولى الاقتصار على أنه للتمهيد حِجاباً يحجبهم من أن يدركوك على ما أنت عليه من النبوة وجلالة القدر ولذلك اجترءوا على التفوه بالعظيمة وهي قولهم: «إن تتبعون إلا رجلا مسحورا» وأصل الحجاب كالحجب المنع من الوصول فهو مصدر وقد أريد به الوصف أي حاجبا مَسْتُوراً أي ذا ستر فهو للنسب كرجل مرطوب ومكان مهول وجارية مغنوجة ومنه وَعْدُهُ

صفحة رقم 83

مَأْتِيًّا
[مريم: ٦١] وكذا سيل مفعم بفتح العين والأكثر مجيء فاعل لذلك كلابن وتامر، وجوز أن يكون الإسناد مجازيا كما اشتهر في المثال الأخير، وعن الأخفش أن مفعول يرد بمعنى فاعل كميمون ومشؤوم بمعنى يأمن وشائم كما أن فاعل يرد بمعنى مفعول كماء دافق فمستور بمعنى ساتر أو مستورا عن الحس فهو على ظاهره ويكون بيانا لأنه حجاب معنوي لا حسي أو مستورا في نفسه بحجاب آخر فيكون إيذانا بتعدد الحجب أو مستورا كونه حجابا حيث لا يدرون أنهم لا يدرون، وقيل: إنه على الحذف والإيصال أي مستورا به الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أغطية جمع كنان، والمراد بمعونة المقام التكثير أي أكنة كثيرة.
أَنْ يَفْقَهُوهُ مفعول له بتقدير مضاف أي كراهة يقفوا على كنهه ويعرفوا أنه من عند الله تعالى أو مفعول به لفعل مقدر مفهوم من الجملة أو من أَكِنَّةً لا أن جَعَلْنا أو شيئا مما ذكر قد ضمنه كما يتوهم أي منعناهم فقهه والوقوف على كنهه وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً صمما وثقلا عظيما مانعا من سماعه اللائق به فإنهم كانوا يسمعونه من غير تدبر، وهذه كما قال بعض المحققين تمثيلات معربة عن كمال جهلهم بشؤون النبي صلّى الله عليه وسلّم وفرط نبو قلوبهم عن فهم القرآن الكريم ومج أسماعهم له جيء بها بيانا لعدم فقههم فصيح المقال إثر بيان عدم فقههم دلالة الحال وفيه إيذان بأن ما تضمنه القرآن من التسبيح في غاية الظهور بحيث لا يتصور عدم فهمه إلا لمانع قوي يعتري المشاعر فيبطلها وتنبيه على أن حالهم هذه أقبح من حالهم السابقة، وحمل الآية على ما ذكر من لم يجعل التسبيح فيما سبق لفظيا وعلى جعله لفظيا لا يحسن حملها على ذلك كما لا يخفى، هذا وقال بعضهم: المراد بالحجاب ما يحجبهم عن فهم ما يقرؤه عليه الصلاة والسلام فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال: الحجاب المستور أكنة على قلوبهم أن يفقهوه وأن ينتفعوا به وإلى ذلك ذهب الزجاج، وتعقب بأنه لا يلائم بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ إلخ إلا بتقدير مضافين أي جعلنا بين فهم قراءتك، وأيضا يلزم عليه التكرار من غير فائدة جديدة، وأجيب بأن الظاهر أنه لا يقدر فيه وإنما يلزم لو كان حقيقة وهذا تمثيل لهم في عدم إسماع الحق بمن كان وراء جدار وحجاب كما أن الأكنة كذلك، وأما حديث التكرار من غير فائدة فمدفوع بأن قوله تعالى: وَجَعَلْنا إلخ تصريح بما اقتضاه نفي فصيح المقال بعد نفي فهم دلالة الحال من كونهم مطبوعين على الضلال ولا يخفى على المنصف أولوية ما تقدم.
وعن الجبائي أن المراد بالحجاب ما يحجبهم عن إيذاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم وذلك أنهم كانوا يقصدونه إذا قرأ ليؤذوه فآمنه الله تعالى وذكر له عليه الصلاة والسلام أنه جل شأنه جعل بينه وبينهم حجابا عند القراءة فلا يمكنهم الوصول إليه، وهو عندي مما لا بأس به وأن ذكره في معرض التفصي عن استدلال أصحابنا بالآية على أن الله تعالى يمنع عن الإيمان من شاء كما يهدي إليه من شاء نعم هو دون الأول عند من يتأمل.
وقيل: المراد حجاب منعهم رؤية شخص النبي صلّى الله عليه وسلّم وذاته الكريمة.
فقد أخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي معا في الدلائل عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قالت: لما نزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [المسد: ١] أقبلت العوراء أم جميل ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول:
مذمما أبينا ودينه قلينا وأمره عصينا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس، وأبو بكر إلى جنبه فقال أبو بكر: لقد أقبلت هذه وأنا أخاف أن تراك فقال: إنها لن تراني، وقرأ قرآن اعتصم به كما قال تعالى: «وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا» فجاءت حتى قامت على أبي بكر فلم تر النبي عليه الصلاة والسلام فقالت: يا أبا بكر بلغني أن صاحبك هجاني فقال أبو بكر: لا ورب هذا البيت ما هجاك فانصرفت وهي تقول: قد علمت قريش أني بنت سيدها.

صفحة رقم 84

وجاء في رواية أنها حين ولت ذاهبة قال أبو بكر: يا رسول الله إنها لم ترك فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: حال بيني وبينها جبريل عليه السلام
، وذكر الإمام أنه كان صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد تلاوة القرآن تلا قبلها ثلاث آيات قوله تعالى: في سورة [الكهف:
٥٧] وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً.
وقوله سبحانه في [النحل: ١٠٨] أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وقوله جل وعلا في سورة [حم الجاثية: ٢٣] أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ الآية فكان الله تعالى يحجبه ببركات هذه الآيات عن عيون المشركين وهو المراد من قوله سبحانه وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا إلخ واحتج أصحابنا بذلك على أنه يجوز أن تكون الحاسة سليمة ويكون المرئي حاضرا مع أنه لا يرى بسبب أن الله تعالى يخلق في العين مانعا يمنع من الرؤية قالوا: إن النبي عليه الصلاة والسلام كان حاضرا أو حواس الكفار سليمة وكانوا لا يرونه وقد أخبر سبحانه أن ذلك لأجل أنه جعل بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم حجابا مستورا ولا معنى للحجاب المستور إلا المعنى الذي يخلقه في عيونهم ويكون مانعا لهم من الرؤية انتهى، وقال بعض المحققين: إن حمل الحجاب على ما روي من حديث أسماء مما لا يقبله الذوق السليم ولا يساعده النظم الكريم، وكأنه أراد أن حمله في الآية على الحجاب المانع من الرؤية كذلك فهو وارد على ما نقل عن الإمام أيضا ويعلم منه حال احتجاج الأصحاب مع ما يرد على قولهم فيه ولا معنى للحجاب إلخ من أنه مخالف لما في الرواية السابقة التي ذكر فيها حيلولة جبريل عليه السلام
والخبر الذي أخرجه الدارقطني وغيره عن ابن عباس أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: كان بيني وبينها ملك يسترني بجناحيه متى ذهبت
فإن كلا الخبرين ظاهر في أن المانع لم يكن في عيونهم بل هو إما جبريل عليه السلام أو ملك آخر حال بينه صلّى الله عليه وسلّم وبينهم فلم يروه لكن يبقى الكلام في أن منع اللطيف الرؤية خلاف العادة أيضا وهو بحث آخر فليتدبر، ثم إن ما روي عن أسماء ليس نصا في أن الحجاب في الآية هو الحجاب المانع عن الرؤية كما لا يخفى على من أمعن النظر وهذا القول إنما يحتاج إليه أن اعتبر تصحيح الحاكم أو نص على صحته من اعتبر تصحيحه من المحدثين أما إذا لم يكن ذلك فأمره سهل، وجعل الزمخشري ما تقدم حكاية لما قالوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ على معنى جعلنا على زعمهم ولم يرتضه شيخ الإسلام لأن قصدهم بذلك إنما هو الإخبار بما اعتقدوه في حق القرآن والنبي صلّى الله عليه وسلّم جهلا وكفرا من اتصافهم بأوصاف مانعة من التصديق والإيمان ككون القرآن سحرا وشعرا وأساطير وقس عليه حال النبي عليه الصلاة والسلام لا الأخبار بأن هناك أمرا وراء ما أدركوه قد حال بينهم وبين إدراكه حائل من قبلهم، ولا ريب في أن ذلك المعنى مما لا يكاد يلائم المقام انتهى، وقد يقال: حيث كان الكلام مسوقا لتعداد قبائحهم والإنكار عليهم فالملاءمة مما لا ريب فيها، نعم اختيار الزمخشري هذا الوجه مما لا يخلو عن دسيسة اعتزالية ولا أظنها تخفى عليك وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ أي غير مقرون بذكره ذكر شيء من آلهتهم التي يزعمونها كما كانوا يقولون بالله تعالى واللات مثلا ويصدق هذا بذكره سبحانه مع نفي الآلهة، ووَحْدَهُ عند الزمخشري مصدر الثلاثي يقال وحده يحده وحدا وحدة كوعده يعده وعدا وعدة وهو ساد مسدا لحال بمعنى واحدا، وقيل: هو مصدر أوحد على حذف الزوائد وأصله إيجاد، ومذهب سيبويه أنه ليس بمصدر بل هو اسم موضوع موضع المصدر وهو إيحاد الموضوع موضع الحال وهو موحد.
ومذهب يونس أنه منصوب على الظرفية، وتحقيق الأقوال فيه في الرفدة كما قدمنا، وذكر أنه على الحالية إذا وقع بعد فاعل ومفعول كما هنا جاز كونه حالا من كل منهما أي وإذا ذكرت ربك موحدا له أو موحدا بالذكر وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ هربوا أو نفروا نُفُوراً فهو مفعول مطلق منصوب بولوا لتقارب معناهما.

صفحة رقم 85

وجوز أن يكون مفعولا لأجله أي ولوا لأجل النفور والانزعاج وأن يكون حالا على أنه جمع نافر أي ولوا نافرين من ذلك والضمير للمشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة، وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس ما ظاهره أنه للشياطين ولا يكاد يصح عن الحبر إلا بتأويل نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ أي ملتبسين به من اللغو والاستخفاف والهزء بك وبالقرآن.
يروى أنه عليه الصلاة والسلام كان يقوم عن يمينه رجلان من عبد الدار وعن يساره رجلان منهم فيصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار
، ويجوز أن تكون الباء للسببية أو بمعنى اللام أي نحن أعلم بما يستمعون بسببه أو لأجله من الهزء وهي متعلقة بيستمعون، وجعلها على ظاهرها على معنى أيستمعون بقلوبهم أم بظاهر أسماعهم غير ظاهر، والباء الأولى متعلقة بأعلم، وأفعل التفضيل في العلم والجهل يتعدى بالباء وفي سوى ذلك يتعدى باللام فيقال هو أكسى للفقراء مثلا، والمراد من كونه تعالى أعلم بذلك الوعيد لهم.
إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ظرف لأعلم لا مفعول به، وفائدته كما قال شيخ الإسلام تأكيد الوعيد بالأخبار بأنه كما يقع الاستماع المزبور منهم يتعلق به العلم لا أن العلم المستفاد هناك من أحد، وليس المراد تقييد علمه تعالى بذلك الوقت وكذا قوله تعالى: وَإِذْ هُمْ نَجْوى لكن من حيث تعلقه بما به التناجي المدلول عليه بسياق النظم.
والمعنى نحن أعلم بما يستمعون به مما لا خير فيه مما سمعت وبما يتناجون به فيما بينهم، وجوز أن يكون الأول ظرفا ليستمعون والثاني ظرفا ليتناجون، والمعنى نحن أعلم بما به الاستماع وقت استماعهم من غير تأخير وبما به التناجي وقت تناجيهم والأول أظهر، ونَجْوى مصدر مرفوع على الخبرية وفي ذلك ما في زيد عدل، ويجوز أن يعتبر جمع نجى كقتلى وقتيل أي إذ هم متناجون إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ بدل من إذ الثانية وبيان لما يتناجون به فهو غير ما يستمعون به لا معمول لا ذكر محذوفا كما قيل. والظَّالِمُونَ من المظهر الذي أقيم مقام المضمر للدلالة على أن تناجيهم باب من الظلم أي يقول كل منهم للآخرين عند تناجيهم إِنْ تَتَّبِعُونَ أي ما تتبعون إن وجد منكم الإتباع فرضا، وجوز أن يكون المعنى ما تتبعون باللغو والهزء إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً أي سحر فجن فهو كقولهم: إن هو إلا رجل مجنون، وقيل: جعل له سحر يتوصل بلطفه ودقته إلى ما يأتي به ويدعيه فهو في معنى قولهم ساحر، وجعل بعضهم مَسْحُوراً بمعنى ساحرا كمستور بمعنى ساتر، وعن أبي عبيدة أن مسحورا بمعنى جعل له سحر أو ذا سحر (١) أي رئة، ومن هذا قول امرئ القيس:

أرانا موضعين لأمر غيب ونسحر بالطعام وبالشراب
وأراد نغذى، وقول لبيد أو أمية بن أبي الصلت:
فإن تسألينا فيم نحن فإننا عصافير من هذا الأنام المسحر
وكنوا بذلك عن كونه بشرا يتنفس ويأكل ويشرب لا يمتاز عنهم بشيء يقتضي اتباعه على زعمهم الفاسد، ولا يخفى ما فيه من البعد حتى قال ابن قتيبة: لا أدري ما الذي حمل أبا عبيدة على هذا التفسير المستكره مع أن السلف فسروه بالوجوه الواضحة. وقال ابن عطية: إنه لا يناسب قوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أي مثلوك فقالوا تارة شاعر وتارة ساحر وتارة مجنون مع علمهم بخلافه فَضَلُّوا في جميع ذلك عن منهاج الحاجة فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا طريقا ما إلى طعن يمكن أن يقبله أحد فيتهافتون ويخبطون ويأتون بما لا يرتاب في بطلانه من سمعه أو إلى سبيل الحق والرشاد، وفيه من الوعيد وتسلية الرسول صلّى الله عليه وسلّم ما لا يخفى.
(١) قوله أو ذا سحر بتثليث السين وسكون الحاء وقد تفتح الرئة اه منه.

صفحة رقم 86

وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً عطف على ضَرَبُوا ولما عجب من ضربهم الأمثال عطف عليه أمرا آخر يعجب منه أيضا. وفي الكشف الأظهر أن يكون هذا إلى تمام المقالات الثلاث تفسيرا لضربوا لك الأمثال ألا ترى إلى قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا وتفسيره بمثلوك غير ظاهر بل الظاهر مثلوا لك، ولا خفاء أن تجاوب الكلام على ما ذكرنا أتم، وذلك أنه لما ذكر استهزاءهم به صلّى الله عليه وسلّم وبالقرآن عجبه من استهزائهم بمضمونه من البعث دلالة على أنه أدخل في التعجب لأن العقل أيضا يدل عليه ولكن على سبيل الإجمال، وأما على تفسير ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ بمثلوك فوجهه أن يكون معطوفا على قوله سبحانه فَضَلُّوا لأنه باب من أبواب الضلال أو على مقدر دل عليه كيف ضربوا لأن معناه مثلوك وقالوا شاعر ساحر مجنون وقالوا: أَإِذا كُنَّا إلخ اه.
ولا يخفى أنه على التفسير الذي اختاره يكون قالُوا معطوفا على ضَرَبُوا أيضا عطفا تفسيريا لكن الظاهر فيه حينئذ الفاء وأنه لا يحتاج على ما ذكرنا إلى تكلف العطف على مقدر والارتباط عليه لا يقصر عن الارتباط الذي ذكره، وعطفه على فَضَلُّوا مما لا يحسن لعدم ظهور دخوله معه في حيز الفاء، والاعتراض على التفسير بمثلوك بأنهم ما مثلوه عليه الصلاة والسلام بالشاعر والساحر مثلا بل قالوا تارة كذا وأخرى كذا، وأيضا كان الظاهر أن يقال فيك بدل لك ليس بشيء لأن ما ذكروه على طريق التشبيه لتقريعه صلّى الله عليه وسلّم وعجزهم عن معارضته، ولَكَ أظهر من فيك لأنه عليه الصلاة والسلام الممثل له، هذا وأقول: انظر هل ثم مانع من عطف قالُوا على يَقُولُ الظَّالِمُونَ وجعل هذا القول مما يتناجون به أيضا وإعلانهم به أحيانا لا يمنع من هذا الجعل وكذا اختلاف المتعاطفين ماضوية ومضارعية لا يمنع من العطف، نعم يحتاج إلى نكتة ولا أظنها تخفى فتدبر.
والرفات ما تكسر وبلي من كل شيء، وكثر بناء فعال في كل ما تحطم وتفرق كدقاق وفتات.
وأخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد أنه التراب وهو قول الفراء، وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس أنه الغبار، وقال المبرد: هو كل شيء مدقوق مبالغ في دقه وهي أقوال متقاربة، والهمزة للاستفهام الإنكاري مفيدة لكمال الاستبعاد والاستنكار للبعث بعد ما آل الحال إلى هذا المآل كأنهم قالوا: إن ذلك لا يكون أصلا.
ومنشؤه أن بين غضاضة الحي وطراوته المقتضية للاتصال المقتضي للحياة وبين يبوسة الرميم المقتضية للتفرق المقتضي لعدم الحياة تنافيا، وإِذا هنا كما في الدر المصون متمحضة للظرفية والعامل فيها ما دل عليه.
قوله تعالى إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لأنفسه لأن إن لها الصدر فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها، وكذا الاستفهام وإن كان تأكيدا مع كون الاستفهام بالفعل أولى وهو نبعث أو نعاد وهو مصب الإنكار، وتقييده بالوقت المذكور لتقوية إنكار البعث بتوجيهه إليه في حالة منافية له وإلا فالظاهر من حالهم أنهم منكرون للإحياء بعد الموت وإن كان البدن على حاله.
وجوز أن تكون شرطية وجوابها مقدر أي نبعث أو نحوه وهو العامل فيها. وقيل الشرط والمعنى انبعث وقد كنا رفاتا في وقت وهو مذهب لبعض النحويين غير مشهور ولا معول عليه، وتحلية الجملة بأن واللام لتأكيد الإنكار لا لإنكار التأكيد كما عسى يتوهم من ظاهر النظم، وليس مدار إنكارهم كونهم ثابتين في المبعوثية بالفعل في حال كونهم عظاما ورفاتا كما يتراءى من ظاهر الجملة الاسمية بل كونهم بعرضية ذلك واستعدادهم له، ومرجعه إلى إنكار البعث بعد تلك الحالة، وفيه من الدلالة على غلوهم في الكفر وتماديهم في الضلال ما لا مزيد عليه قاله بعض المحققين خَلْقاً جَدِيداً نصب بمبعوثين على أنه مفعول مطلق له من غير لفظ فعله أو حال على أن الخلق بمعنى

صفحة رقم 87

المخلوق ووحد لاستواء الواحد في المصدر وإن أريد منه اسم المفعول أي مخلوقين قُلْ جوابا لهم وتقريبا لما استبعدوه.
كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً رد سبحانه قوله كُونُوا على قولهم كنا فهو من باب المشاكلة والمقابلة بالجنس، ومعنى الأمر كما قيل الاستهانة كما في قول موسى عليه السلام أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ [يونس: ٥٨، الشعراء: ٤٣] وجعله صاحب الإيضاح أمر إهانة والفاضل الطيبي أمر تسخير كما في قوله تعالى: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ [البقرة: ٦٥، الأعراف: ١٦٦] لكنه قال: إنه على الفرض، وفي الكشف أنه غير ظاهر ولو جعل من باب كن فلانا على معنى أنت فلان من استعمال الطلب في معنى الخبر أي أنتم حجارة ولستم عظاما ومع ذلك تبعثون لا محالة. لكان وجها قويما، وبحث فيه الشهاب بأنه كيف يقال أنتم حجارة على أنه خبر وهو غير مطابق للواقع فلا بد من قصد الإهانة وعدم المبالاة وجعل الأمر مجازا عن الخبر والخبر خبر فرضي وليس فيه ما يدل على الفرض كان ولو الشرطيتين فهو مما لا يخفى بعده وليس بأقرب مما استبعده فالصواب أنه للإهانة كما جنح إليه صاحب الإيضاح فتدبر، والحجارة جمع حجر كأحجار وهو معروف وكذا الحديد وهو مفرد وجمعه حدائد وحديدات.
والظاهر أن المراد كونوا من هذين الجنسين أَوْ خَلْقاً أي مخلوقا آخر مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ أي مما يستبعد عندكم قبوله الحياة لكونه أبعد شيء منها وتعيينه مفوض إليكم فإن الله تعالى لا يعجزه إحياؤكم لتساوي الأجسام في قبول الأعراض فكيف إذا كنتم عظاما بالية وقد كانت موصوفة بالحياة قبل والشيء أقبل لما عهد فيه مما لم يعهد، وقال مجاهد: الذي يكبر السموات والأرض والجبال.
وأخرج ابن جرير وجماعة عن ابن عباس. وابن عمر والحسن، وابن جبير أنهم قالوا: ما يكبر في صدورهم الموت فإنه ليس شيء أكبر في نفس ابن آدم من الموت، والمعنى لو كنتم مجسمين من نفس الموت لأعادكم فضلا عن أصل لا يضاد الحياة إن لم يقتضها، وفيه مبالغة حسنة وإن كان اللفظ غير ظاهر فيه فَسَيَقُولُونَ لك: مَنْ يُعِيدُنا مع ما بيننا وبين الإعادة من مثل هذه المباعدة والمباينة قُلِ لهم تحقيقا للحق وإزاحة للاستبعاد وإرشادا إلى طريقة الاستدلال الَّذِي فَطَرَكُمْ أي القادر العظيم الذي اخترعكم أَوَّلَ مَرَّةٍ من غير مثال يحتذيه ولا أسلوب ينتحيه وكنتم ترابا ما شم رائحة الحياة أليس الذي يقدر على ذلك بقادر على أن يفيض الحياة على العظام البالية ويعيدها إلى حالها المعهودة بلى إنه سبحانه على كل شيء قدير، والموصول مبتدأ خبره يعيدكم المحذوف لدلالة السؤال عليه أو فاعل به أو خبر مبتدأ محذوف على اختلاف في الأولى كما فصل في محله.
وأَوَّلَ مَرَّةٍ ظرف فطركم فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ أي سيحر كونها نحوك استهزاء كما روي عن ابن عباس وأنشد عليه قول الشاعر:

أتنغض لي يوم الفخار وقد ترى خيولا عليها كالأسود ضواريا
ومثله قول الآخر:
أنغض نحوي رأسه وأقنعا كأنه يطلب شيئا أطمعا
وفي القاموس نغض كنصر وضرب نغضا ونغوضا ونغضانا ونغضا محركتين تحرك واضطرب كأنغض وحرك كأنغض، وفسر الفراء الإنغاض بتحريك الرأس بارتفاع وانخفاض، وقال أبو الهيثم: من أخبر بشيء فحرك رأسه إنكارا له فقد أنغض رأسه فكأنه سيحركون رؤوسهم إنكارا وَيَقُولُونَ استهزاء مَتى هُوَ أي ما ذكرته من الإعادة، وجوز أن يكون الضمير للعود أو البعث المفهوم من الكلام قُلِ لهم عَسى أَنْ يَكُونَ ذلك قَرِيباً فإن ما هو محقق

صفحة رقم 88

إتيانه قريب، ولم يعين زمانه لأنه من المغيبات التي لا يطلع عليها غيره تعالى ولا يطلع عليها سبحانه أحدا، وقيل: قربه لأن ما بقي من زمان الدنيا أقل مما مضى منه وانتصاب قَرِيباً على أنه خبر كان الناقصة واسمها ضمير يعود على ما أشير إليه، وجوز أن يكون منصوبا على الظرفية والأصل زمانا قريبا فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه فانتصب انتصابه وكان على هذا تامة وفاعلها ذلك الضمير أي عسى أن يقع ذلك في زمان قريب وأن يكون في تأويل مصدر منصوب وقع خبرا لعسى واسمها ضمير يعود على ما عاد عليه اسم يكون، وجوز أن يكون مرفوعا بعسى وهي تامة لا خبر لها أي عسى كونه قريبا أو في وقت قريب.
واعترض بأن عسى للمقاربة فكأنه قيل: قرب أن يكون قريبا ولا فائدة فيه، وأجيب بأن نجم الأئمة لم يثبت معنى المقاربة في عسى لا وضعا ولا استعمالا، ويدل له ذكر قَرِيباً بعدها في الآية فلا حاجة إلى القول بأنها جردت عنه فالمعنى يرجى ويتوقع كونه قريبا يَوْمَ يَدْعُوكُمْ منصوب بفعل مضمر أي اذكروا أو بدل من قَرِيباً على أنه ظرف أو متعلق بيكون تامة بالاتفاق وناقصة عند من يجوز أعمال الناقصة في الظروف أو بتبعثون محذوفا أو بضمير المصدر المستتر في يكون أو عسى العائد على العود مثلا بناء على مذهب الكوفيين المجوزين أعمال ضمير المصدر كما في قوله:

وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم
وجعله بدلا من الضمير المستتر بدل اشتمال ولم يرفع لأنه إذا أضيف إلى مثل هذه الجملة قد يبنى على الفتح تكلف وادعاء ظهوره مكابرة، والدعاء قيل: مجاز عن البعث وكذا الاستجابة في قوله تعالى: فَتَسْتَجِيبُونَ مجاز عن الانبعاث أي يوم يبعثكم فتنبعثون فلا دعاء ولا استجابة وهو نظير قوله تعالى: كُنْ فَيَكُونُ [البقرة: ١١٧ وغيرها] في أنه لا خطاب ولا مخاطب في المشهور، وتجوز بالدعاء والاستجابة عن ذلك للتنبيه على السرعة والسهولة لأن قوله: قم يا فلان أمر سريع لأبطء فيه ومجرد النداء ليس كمزاولة الإيجاد بالنسبة إلينا، وعلى أن المقصود الإحضار للحساب والجزاء فإن دعوة السيد لعبده إنما تكون لاستخدامه أو للتفحص عن أمره والأول منتف لأن الآخرة لا تكليف فيها فتعين الثاني، وقال الإمام وأبو حيان: يدعوكم بالنداء الذي يسمعكم وهو النفخة الأخيرة كما قال سبحانه يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ [ق: ٤١] الآية، ويقال إن إسرافيل عليه السلام
وفي رواية جبرائيل عليه السلام ينادي على صخرة بيت المقدس أيتها الأجسام البالية والعظام النخرة والأجزاء المتفرقة عودي كما كنت.
وأخرج أبو داود وابن حبان عن أبي الدرداء أنه قال: «قال صلّى الله عليه وسلّم إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فحسنوا أسماءكم»
لعل هذا عند الدعاء للحساب وهو بعد البعث من القبور، واقتصر كثير على التجوز السابق فقيل إن فيه إشارة إلى امتناع الحمل على الحقيقة لما يلزم من الحمل عليها خطاب الجماد وهو الأجزاء المتفرقة ولو لم تمتنع إرادة الحقيقة لكان ذلك كناية عن البعث والانبعاث لا مجازا والمجوز لإرادتها يقول إن الدعوة بالأمر التكويني وهو مما يوجه إلى المعدوم وقد قال جمع به في قول كن ولم يتجوزوا في ذلك وأما أنه لو لم تمتنع إرادة الحقيقة لكان كناية لا مجازا فأمر سهل كما لا يخفى فتدبر.
بِحَمْدِهِ حال من ضمير المخاطبين وهم الكفار كما هو الظاهر، والباء للملابسة أي فتستجيبون ملتبسين بحمده أي حامدين له تعالى على كمال قدرته، وقيل المراد معترفين بأن الحمد له على النعم لا تنكرون ذلك لأن المعارف هناك ضرورية.
وأخرج عبد بن حميد وغيره عن ابن جرير أنه قال: يخرجون من قبورهم وهم يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك

صفحة رقم 89

ولا بعد في صدور ذلك من الكافر يوم القيامة وإن لم ينفعه وحمل الزمخشري ذلك على المجاز والمراد المبالغة في انقيادهم للبعث كقولك لمن تأمره بركوب ما يشق عليه فيتأبى ويمتنع ستركبه وأنت حامد شاكر يعني أنك تحمل عليه وتقسر قسرا حتى إنك تلين لين المسمح الراغب فيه الحامد عليه فكأنه قيل: منقادين لبعثه انقياد الحامدين له وتعلق الجار بيدعوكم ليس بشيء، وعن الطبري أن بِحَمْدِهِ معترض بين المتعاطفين اعتراضه بين اسم إن وخبرها في قوله:

فإني بحمد الله لا ثوب فاجر لبست ولا من غدرة أتقنع
ويكون الكلام على حد قولك لرجل وقد خصمته في مسألة أخطأت بحمد الله تعالى
فكان الرسول عليه الصلاة والسلام قال: عسى أن يكون البعث قريبا يوم تدعون فتقومون بخلاف ما تعتقدون اليوم وذلك بحمد الله سبحانه على صدق خبري
، وملخصه يكون ذلك على خلاف اعتقادكم والحمد لله تعالى، ولا يخفى أنه معنى متكلف لا يكاد يفهم من الكلام ونحن في غنى عن ارتكابه والحمد لله، وقيل: الخطاب للمؤمنين وانقطع خطاب الكافرين عند قوله تعالى: قَرِيباً فيستجيبون حامدين له سبحانه على إحسانه إليهم وتوفيقه إياهم للإيمان بالبعث،
وأخرج الترمذي والطبراني وغيرهما عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في منشرهم وكأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن»
وفي رواية عن أنس مرفوعا «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة عند الموت ولا في القبور ولا في الحشر وكأني بأهل لا إله إلا الله قد خرجوا من قبورهم ينفضون رؤوسهم من التراب يقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن»
وقيل: الخطاب للفريقين وكلهم يقولون ما روي عن ابن جبير.
وَتَظُنُّونَ الظاهر أنه عطف على (تستجيبون) وإليه ذهب الحوفي وغيره، وقال أبو البقاء: هو بتقدير مبتدأ والجملة في موضع الحال أي وأنتم تظنون إِنْ لَبِثْتُمْ أي ما لبثتم في القبور إِلَّا قَلِيلًا كالذي مر على قرية أو ما لبثتم في الدنيا كما روى غير واحد عن قتادة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يستقلّون لبثهم بين النفختين فإنه يزال عنهم العذاب في ذلك البين ولذا يقولون مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا [يس: ٥٢] وقيل يستقلون لبثهم في عرصة القيامة لما أن عاقبة أمرهم الدخول إلى النار، وهذا في غاية البعد كما لا يخفى، والظن يحتمل أن يكون على بابه ويحتمل أن يكون بمعنى اليقين وهو معلق عن العمل بأن النافية وقل من ذكرها من أدوات التعليق قاله أبو حيان وانتصاب قَلِيلًا على أنه نعت لزمان محذوف أي إلا زمانا قليلا، وجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف أي لبثا قليلا ودلالة الفعل على مصدره دلالة قوية وَقُلْ لِعِبادِي أي المؤمنين فالإضافة لتشريف المضاف يَقُولُوا عند محاورتهم مع المشركين الَّتِي أي الكلمة أو العبارة التي هِيَ أَحْسَنُ ولا يخاشنوهم كقوله تعالى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت: ٤٦] ومقول فعل الأمر محذوف أي قل لهم قولوا التي هي أحسن يقولوا ذلك فجزم يقولوا لأنه جواب الأمر وإلى هذا ذهب الأخفش، ولكون المقول لهم هم المؤمنون المسارعون لامتثال أمر الله تعالى وأمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم بمجرد ما يقال لهم لم يكن غبار في هذا الجزم.
وقال الزجاج: إن يقولوا هو المقول وجزمه بلام الأمر محذوفة أي قل لهم ليقولوا التي إلخ. وقال المازني: إنه المقول أيضا إلا أنه مضارع مبني لحلوله محل المبني وهو فعل الأمر، والمعنى قل لعبادي قولوا التي هي أحسن وهو كما ترى، ومقول يقولوا الَّتِي وإذا أريد به الكلمة حملت على معناها الشامل للكلام.
إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ أي يفسد ويهيج الشر بين المؤمنين والمشركين بالمخاشنة فلعل ذلك يؤدي إلى

صفحة رقم 90

تأكد العناد وتمادي الفساد فالجملة تعليل للأمر السابق، وقرأ طلحة «ينزغ» بكسر الزاي، قال أبو حاتم: لعلها لغة والقراءة بالفتح، وقال صاحب اللوامح: الفتح والكسر لغتان نحو يمنح ويمنح إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ قدما لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً ظاهر العداوة فهو من أبان اللازم والجملة تعليل لما سبق من أن الشيطان ينزغ بينهم رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ بالتوفيق للإيمان أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ بالإماتة على الكفر، وهذا تفسير التي هي أحسن والجملتان اعتراض بينهما والخطاب فيه للمشركين فكأنه قيل: قولوا لهم هذه الكلمة وما يشاكلها وعلقوا أمرهم على مشيئة الله تعالى ولا تصرحوا بأنهم من أهل النار فإنه مما يهيجهم على الشر مع أن الخاتمة مجهولة لا يعلمها غيره تعالى فلعله سبحانه يهديهم إلى الإيمان، والظاهر أن أو للانفصال الحقيقي. وقال الكرماني: هي للإضراب ولذا كررت معها أن، وقال ابن الأنباري: دخلت أو هنا لسعة الأمرين عند الله تعالى ويقال لها المبيحة كالتي في قولهم جالس الحسن أو ابن سيرين فإنهم يعنون قد وسعنا لك الأمر وهو كما ترى وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا أي موكولا ومفوضا إليك أمرهم تقسرهم على الإسلام وتجبرهم عليه إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً [البقرة: ١١٩، فاطر: ٢٤] فدارهم ومر أصحابك بمداراتهم وتحمل أذيتهم وترك المشاقة معهم، وهذا قبل نزول آية السيف وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وبأحوالهم الظاهرة والباطنة فيختار منهم لنبوته وولايته من يشاء ممن تراه حكمته أهلا لذلك وهو رد عليه إذ قالوا: بعيد أن يكون يتيم ابن أبي طالب نبيا وأن يكون العراة الجوع كصهيب وبلال وخباب وغيرهم أصحابه دون أن يكون ذلك من الأكابر والصناديد.
وذكر من في السموات لإبطال قولهم لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ [الفرقان: ٢١] وذكر من في الأرض لرد قولهم: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١] فلا يدل تخصيصهما بالذكر وتعلقهما بأعلم بعلى اختصاص أعلميته تعالى بما ذكر فما قاله أبو علي من أن الجار متعلق بعلم محذوفا ولا يجوز تعلقه بأعلم لاقتضائه أنه سبحانه ليس بأعلم بغير ذلك ناشىء عن عدم العلم بما ذكرنا على أن أبا حيان أنكر تعدي علم بالباء وإنما يتعدى لواحد بنفسه في مثل هذا الموضع وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ بالفضائل النفسانية والمزايا القدسية وإنزال الكتب السماوية لا بكثرة الأموال والأتباع وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً بيان لحيثية تفضيله عليه الصلاة والسلام وأنه بإيتائه الزبور لا بإيتائه الملك والسلطنة وفيه إيذان بتفضيل نبينا صلّى الله عليه وسلّم فإن كونه عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء وأمته خير الأمم مما تضمنه الزبور وقد أخبر سبحانه عن ذلك بقوله عز قائلا: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء: ١٠٥] يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وأمته ونص بعضهم أن هذا من باب التلميح نحو قصة المنصور وقد وعد الهذلي بعدة فنسيها فلما حجا وأتيا المدينة قال له يوما وهو يسايره يا أمير المؤمنين هذا بيت عاتكة الذي يقول: فيه الأحوص يا بيت عاتكة الذي أتغزل ففطن لمراده حيث قال ذلك ولم يسأله وعلم أنه يشير إلى قوله في هذه القصيدة:

وأراك تفعل ما تقول وبعضهم مذق اللسان يقول ما لا يفعل
فأنجز عدته، والزبور في الأصل وصف للمفعول كالحلوب أو مصدر كالقبول، نعم هذا الوزن في المصادر قليل والأكثر ضم الفاء وبه قرأ حمزة وجعله بعضهم على هذه القراءة جمع زبر بكسر الزاي بمعنى مزبور ثم جعل علما للكتاب المخصوص وليس فيه من الأحكام شيء. أخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس قال: الزبور ثناء على الله عز وجل ودعاء وتسبيح، وأخرج هو وابن جرير عن قتادة قال: كنا نحدث أن الزبور دعاء علمه داود عليه السلام وتحميد وتمجيد لله عز وجل ليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود.

صفحة رقم 91

والذي تدل عليه بعض الآثار اشتماله على بعض النواهي والأوامر،
فقد روى ابن أبي شيبة أنه مكتوب فيه أني أنا الله لا إله إلا أنا ملك الملوك قلوب الملوك بيدي فأيما قوم كانوا على طاعة جعلت الملوك عليهم رحمة وأيما قوم كانوا على معصية جعلت الملوك عليهم نقمة فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك ولا تتوبوا إليهم وتوبوا إلى أعطف قلوبهم عليكم
، والمزامير التي يفهم منها الأمر والنهي كثيرة فيه كما لا يخفى على من رآه، ومع هذا الفرق بينه وبين التوراة ظاهر، ودخول أل عليه في بعض الآيات للمح الأصل وذلك لا ينافي العلمية كما في العباس والفضل.
وجوز أن يكون نكرة غير علم ونكر ليفيد أنه بعض من الكتب الإلهية أو من مطلق الكتب ولا إشكال أيضا في دخول أل عليه أي آتيناه زبورا من الزبر وجوز أن يكون مختصا بكتاب داود عليه السلام وليس بعلم بل من غلبة اسم الجنس وهو كالقرآن يطلق على المجموع وعلى الأجزاء، وتقدم إفادة التنكير للبعضية في قوله تعالى: لَيْلًا فيجوز أن يكون المراد هنا آتيناه بعضا من الزبور فيه ذكره صلّى الله عليه وسلّم، هذا ووجه ربط الآيات بما تقدم على هذا التفسير على ما في الكشف أنه تعالى لما أرشد نبيه صلّى الله عليه وسلّم إلى جواب الكفار بجده في استهزائهم وتوقره في استخفافهم ليكون أغيظ لهم وأشجى لحلوقهم أرشده إلى أن يحمل أصحابه أيضا على ذلك وأن يستنوا بسنته وعلل ذلك بما اعترض به من أن الشيطان ينزغه يحمل على المخاشنة فعلى العاقل الحازم أن لا يغتر بوساوسه كيف وقد تبين له أنه عدو مبين، وقوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا متعلق بجميع السابق من قوله تعالى: قُلْ كُونُوا المشتمل على مجادلته بالتي هي أحسن وَقُلْ لِعِبادِي المشتمل على حملهم عليها إلى قوله سبحانه: أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وقوله عز وجل: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من تتمة إن تتبعون إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً فإنهم طعنوا فيه وحاشاه تارة بأنه شاعر ساحر مجنون وأخرى بنحو لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١] ولو كان خيرا ما سبقونا إليه فأجيب عن الأول بما أجيب وعن الثاني بقوله سبحانه: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ وجوز أن يكون الخطاب في قوله تعالى: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ إلخ للمؤمنين وروي ذلك عن الكلبي وأخرج الأول ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج والمعنى أنه تعالى إن يشأ يرحمكم أيها المؤمنون في الدنيا بإنجائكم من الكفرة ونصركم عليهم أو إن يشأ يعذبكم بتسليطهم عليكم والمراد بالتي هي أحسن المجادلة الحسنة فكأنه تعالى لما ذكر الحجة اليقينية في صحة المعاد أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول للمؤمنين إذا أردتم إيراد الحجة على المخالفين فاذكروا الدلائل بالطريق الأحسن وهو أن لا يكون ذلك ممزوجا بالشتم والسب لأنه لو اختلط به لا يبعد أن يقابل بمثله فيزداد الغضب ويهيج الشر فلا يحصل المقصود وأشار سبحانه إلى ذلك بقوله عز قائلا: إِنَّ الشَّيْطانَ إلخ وضمير بينهم أما للكفار أو للفريقين وروى أن المشركين أفرطوا في إيذاء المؤمنين فشكوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت وقيل شتم عمر رجل فهم رضي الله تعالى عنه به فأمره الله تعالى بالعفو. قال في الكشف إنه على هذين القولين الكلمة التي هي أحسن نحو يهديكم الله تعالى وليست مفسرة بربكم أعلم بكم وقوله سبحانه: إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ تعليل للأمر بالاحتمال بأن المخاشنة من فعل الشيطان والخطاب في قوله تعالى: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ للمؤمنين وفيه حث على المداراة أي فداروهم لأن ربكم أعلم بكم وبما يصلح لكم من أوامر إن يشأ يرحمكم بقبول أوامره ونواهيه أو إن يشأ يعذبكم بآبائكم أو إن يشأ يرحمكم بالملاينة والتراحم لأنه سبب السلامة عن أذى الكفار أو إن يشأ يعذبكم بمخاشنتكم في غير إبانها وما أرسلناك عليهم وكيلا فهؤلاء المؤمنون وهم أتباعك أولى وأولى بأن لا يكونوا وكيلا عليهم ثم قال والأول أوفق لتأليف النظم وفي إفادة رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ الحث على ما قرر تكلف ما اه، وقيل: المراد من عبادي الكفار وحيث كان المقصود من الآيات الدعوة لا يبعد أن يعبر عنهم بذلك ليصير سببا لجذب قلوبهم وميل طباعهم إلى قبول الدين

صفحة رقم 92

الحق فكأنه قيل قل يا محمد لعبادي الذين أقروا بكونهم عبادا لي يقولوا التي هي أحسن وهي الكلمة الحقة الدالة على التوحيد وإثبات القدرة على البعث وعرفهم أنه لا ينبغي لهم أن يصروا على المذهب الباطل تعصبا للأسلاف فإن ذلك من الشيطان وهو للإنسان عدو مبين فلا ينبغي أن يلتفت إلى قوله، والمراد من الأمر بالقول الأمر باعتقاد ذلك وذكر القول لما أنه دليل الاعتقاد ظاهرا ثم قال لهم سبحانه: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ بالهداية أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ بالإماتة على الكفر إلا أن تلك المشيئة غائبة عنكم فاجتهدوا أنتم في طلب الدين الحق ولا تصروا على الباطل لئلا تصيروا
محرومين عن السعادات الأبدية والخيرات السرمدية، ثم قال سبحانه: وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا أي لا تشدد الأمر عليهم ولا تغلظ لهم بالقول، والمقصود من كل ذلك إظهار اللين والرفق لهم عند الدعوة لأنه أقرب لحصول المقصود، ثم إنه تعالى عمم علمه بقوله: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ إلخ ويحسن على هذا ما روي عن ابن عباس وأخرجه ابن أبي حاتم عن ابن سيرين من تفسير الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ بلا إله إلا الله ونقل ذلك ابن عطية عن فرقة من العلماء ثم قال: ويلزم عليه أن يراد بعبادي جميع الخلق لأن جميعهم مدعو إلى قول لا إله إلا الله ويجيء قوله سبحانه: إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ غير مناسب إلا على معنى ينزغ خلالهم وأثناءهم ويفسر النزغ بالوسوسة والإملال ولا يخفى أنه في حيز المنع، وما ذكر من الدليل لا يتم إلا إذا لم يكن للتخصيص نكتة، وهي هاهنا ظاهرة ويكون قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ إلخ كالاستدلال على حقية ما دعاهم إليه من التوحيد وربطه بما تقدم على ما ذكرناه أولا لا أظنه يخفى، والزعم بتثليث الزاي قريب من الظن ويقال إنه القول المشكوك فيه ويستعمل بمعنى الكذب حتى قال ابن عباس: كل ما ورد في القرآن زعم فهو كذب وقد يطلق على القول المحقق والصدق الذي لا شك فيه.
فقد أخرج مسلم من حديث أنس أن رجلا من أهل البادية- واسمه ضمام بن ثعلبة- جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا محمد أتانا رسولك فزعم أنك تزعم أن الله تعالى أرسلك قال صدق الحديث
فإن تصديق النبي عليه الصلاة والسلام إياه مع قوله زعم وتزعم دليل على ما قلنا.
وورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: زعم جبريل عليه السلام كذا، وقد أكثر سيبويه وهو إمام العربية في كتابه من قوله:
زعم الخليل زعم أبو الخطاب يريد بذلك القول المحقق وقد نقل ذلك جماعات من أهل اللغة وغيرهم ونقله أبو عمر الزاهد في شرح الفصيح عن شيخه أبي العباس ثعلب عن العلماء باللغة من الكوفيين والبصريين، وهو مما يتعدى إلى مفعولين وقد حذفا هاهنا أو ما يسد مسدهما جائز والخلاف في حذف أحدهما، والظاهر أن المراد من الموصول كل من عبد من دون الله سبحانه من العقلاء.
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبخاري والنسائي والطبراني وجماعة عن ابن مسعود قال: كان نفر من الإنس يعبدون نفرا من الجن فأسلم النفر من الجن وتمسك الإنسيون بعبادتهم فنزلت هذه الآية، وكان هؤلاء الإنس من العرب كما صرح به في رواية البيهقي وغيره عنه، وفي أخرى التصريح بأنهم من خزاعة، وفي رواية ابن جرير أنه قال:
كان قبائل من العرب يعبدون صنفا من الملائكة يقال لهم الجن ويقولون هم بنات الله سبحانه فنزلت الآية. وعن ابن عباس أنها نزلت في الذين أشركوا بالله تعالى فعبدوا عيسى وأمه «عزيرا والشمس والقمر والكواكب وعلى هذا ففي الآية على ما في البحر تغليب العاقل على غيره، ومتى صح أدراج الشمس والقمر والكواكب على سبيل التغليب بناء على أنها ليست من ذوي العلم فليدرج سائر ما عبد الباطل من الأصنام ويرتكب التغليب، وتعقب بأن ما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى من ابتغاء الوسيلة ورجاء الرحمة والخوف من العذاب يؤيد إرادة العقلاء كعيسى وعزير عليهما السلام

صفحة رقم 93

بناء على أن الأصنام لا يعقل منها ذلك، وارتكاب التغليب هناك أيضا خلاف الظاهر جدا، والدعاء كالنداء لكن النداء قد يقال إذا قيل: يا أو أيا أو نحوهما من غير أن يضم إليه الاسم والدعاء لا يكاد يقال إلا إذا كان معه الاسم نحو يا فلان وقد يستعمل كل منهما موضع الآخر، والمراد ادعوهم لكشف الضر الذي هو أولى من جلب النفع وأهم وتوجه القلب إلى من يكشفه أكمل وأتم.
فَلا يَمْلِكُونَ فلا يستطيعون بأنفسهم كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ كالمرض والفقر والقحط وغيرها وَلا تَحْوِيلًا ولا نقله منكم إلى غيركم ممن لم يعبدهم أو ولا تبديله بنوع آخر ومن لا يملك ذلك لا يستحق العبادة إذ شرط استحقاقها القدرة الكاملة التامة على دفع الضر وجلب النفع ولا تكون كذلك إذا كانت مفاضة من الغير، وكأن المراد من نفي ملكهم ذلك نفي قدرتهم التامة الكاملة عليه وكون قدرة الآلهة الباطلة مفاضة منه تعالى مسلم عند الكفرة لأنهم لا ينكرون أنها مخلوقة لله تعالى بجميع صفاتها وأن الله سبحانه أقوى وأكمل صفة منها، وبهذا يتم الدليل ويحصل الإفحام وإلا فنفي قدرة نحو الجن والملائكة الذين عبدوا من دون الله تعالى مطلقا على كشف الضر مما لا يظهر دليله فإنه إن قيل: هو أنا نرى الكفرة يتضرعون إليهم ولا تحصل لهم الإجابة عورض بأنا نرى أيضا المسلمين يتضرعون إلى الله تعالى ولا تحصل لهم الإجابة، وقد يقال: المراد نفي قدرتهم على ذلك أصلا ويحتج له بدليل الأشعري على استناد جميع الممكنات إليه عز وجل ابتداء.
وفسر بعضهم الضر هنا بالقحط بناء على ما روي أن المشركين أصابهم قحط شديد أكلوا فيه الكلاب والجيف فاستغاثوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم ليدعو لهم فنزلت، وأنت تعلم أن هذا لا يوجب التخصيص. واستدل بهذه الرواية على أن نفي الاستطاعة مطلقا عن آلهتهم كان إذ ذاك مسلما عندهم وإلا لما تركوها واستغاثوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم ليدعو لهم وفيه نظر فانظر وتدبر.
أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ أي أولئك الآلهة الذين يدعونهم ويسمونهم آلهة أو يدعونهم وينادونهم لكشف الضر عنهم يَبْتَغُونَ يطلبون باجتهاد لأنفسهم إِلى رَبِّهِمُ ومالك أمرهم الْوَسِيلَةَ القربة بالطاعة والعبادة فضمير يدعون للمشركين وضمير يَبْتَغُونَ للمشار إليهم، وقال ابن فورك: الضمير أن للمشار إليهم والمراد بهم الأنبياء الذين عبدوا من دون الله تعالى، ومفعول يَدْعُونَ محذوف أي يدعون الناس إلى الحق أو يدعون الله سبحانه ويتضرعون إليه جل وعلا، وعلى هذا لا يتعين كون المراد بهم الأنبياء عليهم السلام كما لا يخفى وهو كما ترى.
وقرأ ابن مسعود وقتادة «تدعون» بالتاء ثالثة الحروف وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «يدعون» بالياء آخر الحروف مبنيا للمفعول، وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه «إلى ربك» بكاف الخطاب، واسم الإشارة مبتدأ والموصول أو بيان والخبر جملة يَبْتَغُونَ أو الموصول هو الخبر ويبتغون حال أو بدل من الصلة، وقوله تعالى:
أَيُّهُمْ أَقْرَبُ فيه وجوه من الإعراب فالزمخشري ذكر وجهين، الأول كون أي موصولة بدلا من ضمير يَبْتَغُونَ بدل بعض من كل وهي إما معربة أو مبنية على اختلاف الرأيين أي أولئك المعبودون يطلب من هو أقرب منهم الوسيلة إلى الله تعالى بطاعته فكيف بالأبعد وليس فيه إلا حذف صدر الصلة والتقدير أيهم هو أقرب وهو مما لا بأس، ولا ينافي ذلك جمع يَرْجُونَ ويَخافُونَ فيما بعد لعدم اختصاص ما ذكر بالأقرب أو لكون الأقرب متعددا، والثاني كون أي استفهامية وهي مبتدأ وأَقْرَبُ خبرها والجملة في محل نصب بيبتغون وضمن معنى يحرصون فكأنه قيل يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله تعالى وذلك بالطاعة وازدياد الخير والصلاح، قيل واعتبر التضمين ليصح التعليق فإنه مختص بأفعال القلوب خلافا ليونس

صفحة رقم 94

وقال الطيبي: لا بد من تقدير حرف الجر لأن حرص تتعدى بعلى كقوله تعالى: إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ [النحل: ٣٧] ولا بد من تأويل الإنشاء بأن يقال يحرصون على ما يقال فيه أيهم أقرب إلى الله تعالى بسببه من الطاعة، ويتعلق حينئذ قوله تعالى: إِلى رَبِّهِمُ بأقرب وهو كما ترى.
وقال صاحب الكشف في تحقيق هذا الوجه: إن المطالب إذا كانت مشتركة اقتضت التسارع إليها في العادة وهو نفس الحرص أو ما لا ينفك عنه فناسب أن يضمن الابتغاء معنى الحرص لا سيما وبعده استفهام لا يحسن موقعه دون تضمينه لأن قولك أيهم أقرب إلى فلان بكذا سؤال عن مميز أحدهم عن الباقين بما يتقرب به زيادة فضيلة مع الاستواء في أصل التقرب فإذا ورد استئنافا بعد فعل صالح لأن يكون معلوله وجب تقديره ذلك لأنك إذا قلت هؤلاء يحرصون على الهدى كان كلاما جاريا على الظاهر وإذا قلت هؤلاء يحرصون أيهم يكون أهدى أفاد أن حرصهم ذلك على الهدى مع مغالبة بعضهم بعضا فيه فيكون أتم في وصفهم بالحرص عليه.
ووجه الإفادة أنه تعقيبه على وجه التعليل وكأن كل واحد يسأل نفسه أهو أهدى أم غيره أي هو أشد حرصا عليه أم غيره إذ لا معنى لهذا السؤال عن النفس إلا الحث وتعرف أن ثمت تقصيرا في ذلك أو لا، وعلى هذا لو قلت يحرصون على الهدى أيكم يكون أهدى عد مستهجنا لأن الاستئناف سد مسد صلته كما في أمرته فقام ولو شاء ربك لآمن وود لو أنه أحسن وكم وكم، فعلى هذا الطلب واقع على الوسيلة وهي الطاعة والحرص على الأقربية بها والازدياد منها ولا يمكن أن يستغني عن يحرصون بإجراء أَيُّهُمْ أَقْرَبُ مجرى التعليل ليبتغون على ما أشير إليه لأن أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لا يصلح جوابا فارقا بين الطالبين وغيرهم إنما هو فارق بين الطالبين أعني المتقربين بعضهم مع بعض وهو يناسب الحرص والشغف ولأن صلة الطلب أعني الوسيلة مذكورة وقد عرفت أن الاستئناف مغن عن ذلك والجمع مستهجن اه.
ولعمري لم يبق في القوس منزعا في تحقيقه لكن الوجه مع هذا متكلف، وجوز الحوفي والزجاج أن يكون أَيُّهُمْ أَقْرَبُ مبتدأ وخبر الجملة في محل نصب بينظرون أي يفكرون، والمعنى ينظرون أيهم أقرب فيتوسلون به وكأن المراد يتوسلون بدعائه وإلا ففي التوسل بالذوات ما فيه. وتعقب ذلك في البحر بأن في إضمار الفعل المعلق نظرا ومع ذا هو وجه غير ظاهر، وجوز أبو البقاء كون أَيُّهُمْ أَقْرَبُ جملة استفهامية في موضع نصب بيدعون وكون أي موصولة بدلا من ضمير يَدْعُونَ وتعقب الأول بأن فيه تعليق ما ليس بفعل قلبي والجمهور على منعه، وأما الثاني فقال أبو حيان: فيه الفصل بين الصلة ومعمولها بالجملة الحالية لكنه لا يضر لأنها معمولة للصلة، وأنت إذا نظرت في المعنى على هذا لم ترض أن تحمل الآية عليه، وقوله تعالى: وَيَرْجُونَ عطف على يبتغون أي يبتغون القربة بالعبادة ويتوقعون رَحْمَتَهُ تعالى وَيَخافُونَ عَذابَهُ كدأب سائر العباد فأين هم من ملك كشف الضر فضلا عن كونهم آلهة إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً حقيقا بأن يحذره ويحترز عنه كل أحد من الملائكة والرسل عليهم السلام وغيرهم، والجملة تعليل لقوله سبحانه: وَيَخافُونَ عَذابَهُ وفي تخصيصه بالتعليل زيادة تحذير للكفرة من العذاب، وتقديم الرجاء على الخوف لما أن متعلقه أسبق من متعلقه
ففي الحديث القدسي «سبقت رحمتي غضبي»
وفي اتحاد أسلوبي الجملتين إيماء إلى تساوي رجاء أولئك الطالبين للوسيلة إليه تعالى بالطاعة والعبادة وخوفهم، وقد ذكر العلماء أنه ينبغي للمؤمن ذلك ما لم يحضره الموت فإذا حضره الموت ينبغي أن يغلّب رجاءه على خوفه، وفي الآية دليل على أن رجاء الرحمة وخوف العذاب مما لا يخل بكمال العابد، وشاع عن بعض العابدين أنه قال: لست أعبد الله تعالى رجاء جنته ولا خوفا من ناره والناس بين قادح لمن يقول ذلك ومادح، والحق التفصيل وهو أن من قاله إظهارا للاستغناء

صفحة رقم 95

عن فضل الله تعالى ورحمته فهو مخطئ كافر، ومن قاله لاعتقاد أن الله عز وجل أهل للعبادة لذاته حتى لو لم يكن هناك جنة ولا نار لكان أهلا لأن يعبد فهو محقق عارف كما لا يخفى.
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ الظاهر العموم لأن إن نافية ومن زائدة لاستغراق الجنس أي وما من قرية من القرى إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ بإماتة أهلها حتف أنوفهم أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً بالقتل وأنواع البلاء، وروي هذا عن مقاتل وهو ظاهر ما روي عن مجاهد وإليه ذهب الجبائي وجماعة، وروي عن الأول أنه قال: الهلاك للصالحة والعذاب للطالحة، وقال أيضا: وجدت في كتاب الضحاك بن مزاحم في تفسيرها أما مكة فتخربها الحبشة وتهلك المدينة بالجوع والبصرة بالغرق والكوفة بالترك والجبال بالصواعق والرواجف، وأما خراسان فهلاكها ضروب ثم ذكر بلدا بلدا.
وروي عن وهب بن منبه أن الجزيرة آمنة من الخراب حتى تخرب أرمينية وأرمينية آمنة حتى تخرب مصر ومصر آمنة حتى تخرب الكوفة ولا تكون الملحمة الكبرى حتى تخرب الكوفة فإذا كانت الملحمة الكبرى فتحت قسطنطينية على يد رجل من بني هاشم وخراب الأندلس من قبل الزنج وخراب إفريقية من قبل الأندلس وخراب مصر من انقطاع النيل واختلاف الجيوش فيها وخراب العراق من الجوع وخراب الكوفة من قبل عدو يحصرهم ويمنعهم الشرب من الفرات وخراب البصرة من قبل العراق وخراب الأبلة من عدو يحصرهم برا وبحرا وخرابا الري من الديلم وخراب خراسان من قبل النبت وخراب النبت من قبل الصين وخراب الهند واليمن من قبل الجراد والسلطان وخراب مكة من الحبشة وخراب المدينة من قبل الجوع،
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «آخر قرية من قرى الإسلام خرابا المدينة»
كذا نقله العلامة أبو السعود وما في كتاب الضحاك وكذا ما روي عن وهب لا يكاد يعول عليه، وما روي عن أبي هريرة مقبول وقد رواه عنه بهذا اللفظ النسائي ورواه أيضا الترمذي بنحوه وقال حسن غريب
ورواه أبو حيان بلفظ «آخر قرية في الإسلام خرابا المدينة»
وفي البحور الزاخرة أن سبب خرابها أن بعض أهلها يخرجون مع المهدي إلى الجهاد ثم ترجف بمنافقيها وترميهم إلى الدجال ويهاجر بعض المخلصين إلى بيت المقدس عند إمامهم، ومن بقي منهم تقبض الريح الطيبة روحه فتبقى خاوية، ويأبى كونها سبب خرابها الجوع حسبما سمعت عن الضحاك وابن منبه ظاهر ما
أخرجه الشيخان «لتتركن المدينة على خير ما كانت مذللة ثمارها لا يغشاها إلا العوافي الطير والسباع وآخر من يحشر راعيان من مزينة» الحديث.
وأخرج الإمام أحمد بسند رجاله ثقات «المدينة يتركها أهلها وهي مرطبة قالوا: فمن يأكلها؟ قال: السباع والعوافي»
وما ذكر من أن مكة تخربها الحبشة ثابت
في الصحيحين وغيرهما لكن بلفظ «يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة»
وفي حديث حذيفة مرفوعا «كأني أنظر إلى حبشي أحمر الساقين أزرق العينين أفطس الأنف كبير البطن وقد صف قدميه على الكعبة هو وأصحاب له ينقضونها حجرا حجرا ويتداولونها بينهم حتى يطرحوها في البحر»
وفي حديث أحمد عن أبي هريرة أنه تجيء الحبشة فيخربونه أي البيت خرابا لا يعمر بعده أبدا
، نعم اختلف في أنه متى يكون ذلك؟ فقيل: زمن عيسى عليه السلام، وقيل حين لا يبقى على الأرض من يقول الله وهو آخر الآيات، ومال إلى ذلك السفاريني، وظاهر ما تقدم في المدينة من الأخبار بأنها آخر قرى الإسلام خرابا يقتضي أن خراب مكة قبلها والله تعالى أعلم.
وما ذكر في خبر ابن منبه من أن مصر آمنة حتى تخرب الكوفة إن صح يقتضي أن الكوفة تعمر ثم تخرب وإلا فهي قد خربت منذ مئات من السنين وبقيت إلى الآن خرابا، ومصر آمنة عامرة على أحسن حال اليوم وبعمارتها حسبما يقتضيه الخبر جاءت آثار عديدة كما لا يخفى على من طالع الكتب المؤلفة في أمارات الساعة وأخبار المهدي

صفحة رقم 96

والسفياني إلا أن في أكثرها للمنقر مقالا. وزعم البوني وإضرابه أنها تعمر في أواخر القرن الثالث عشر وقد أخذوا ذلك من كلام الشيخ محيي الدين قدس سره، وأنت تعلم أنه أشبه شيء بالهندية ولا يكاد يعد من اللغة العربية، وما ذكر من أن خراب العراق من الجوع يعم بغداد فإنها قاعدته.
وقال القاضي عياض في الشفاء:
روي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «تبنى مدينة بين دجلة ودجيل وقطربل والصراة تنقل إليها الخزائن يخسف بها»
يعني بغداد وهذا صريح في أن هلاكها بالخسف لا بالجوع لكن ذكر المحدثون أن في سند الخبر مجهولا، ثم الظاهر على هذا التفسير أن قوله تعالى: أَوْ مُعَذِّبُوها إلخ مقيد بمثل ما قيد به المعطوف عليه فيكون كل من الإهلاك والتعذيب قبل يوم القيامة أي في الزمان القريب منه وقد شاع استعمال ذلك بهذا المعنى وستسمعه قريبا إن شاء الله تعالى في الحديث وإنكاره مكابرة غير مسموعة وكأنه سبحانه بعد أن ذكر من شأن البعث والتوحيد ما ذكر ذكر بعض ما يكون قبل يوم البعث مما يدل على عظمته سبحانه وفيه تأييد لما ذكر قبله، وقد صح أنه بعد موت عيسى عليه السلام تجيء ريح باردة من قبل الشام فلا تبقي على وجه الأرض أحدا في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته فيبقى شرار الناس وعليهم تقوم الساعة، وجاء في غير ما خبر ما يصيب الناس قبل قيامها من العذاب، فمن ذلك ما
أخرجه الطبراني وابن عساكر عن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه لتقصدنكم نار هي اليوم خامدة في واد يقال له برهوت يغشى الناس فيها عذاب أليم تأكل الأنفس والأموال تدور الدنيا كلها في ثمانية أيام تطير طيران الريح والسحاب حرها بالليل أشد من حرها بالنهار ولها بين السماء والأرض دوي كدوي الرعد القاصف قيل: يا رسول الله أسليمة يومئذ على المؤمنين والمؤمنات؟ قال: وأين المؤمنون والمؤمنات الناس يومئذ شر من الحمر يتسافدون كما يتسافد البهائم وليس فيهم رجل يقول مه مه
إلى غير ذلك من الأخبار، ولا يبعد بعد أن اعتبر العموم في القرية حمل الإهلاك والتعذيب على ما تضمنته تلك الأخبار من إماتة المؤمنين بالريح وتعذيب الباقين من شرار الناس بالنار المذكورة، وصح أنها تسوقهم إلى المحشر وورد أنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك وأنه تلقى الآفة على الظهر حتى لا تبقى ذات ظهر حتى إن الرجل ليعطى الحديقة المعجبة بالشارف ذات القتب ليفر عليها، وكون ذلك قبل يوم القيامة هو المعول عليه وقد اعتمده الحافظ ابن حجر وصوبه القاضي عياض وذهب إليه القرطبي والخطابي وجاء مصرحا به في بعض الأحاديث،
فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا ستخرج نار من حضرموت أو من بحر حضرموت قبل يوم القيامة تحشر للناس الحديث
ولا يبعد أن يعذبوا بغير ذلك أيضا بل في الآثار ما يقتضيه كانَ ذلِكَ أي ما ذكر من الإهلاك والتعذيب فِي الْكِتابِ أي في اللوح المحفوظ كما روي عن إبراهيم التيمي وغيره مَسْطُوراً مكتوبا، وذكر غير واحد أنه ما من شيء إلا بين فيه بكيفياته وأسبابه الموجبة له ووقته المضروب له. واستشكل العموم بأنه يقتضي عدم تناهي الأبعاد وقد قامت البراهين النقلية والعقلية على خلاف ذلك فلا بد أن يقال بالتخصيص بأن يحمل الشيء على ما يتعلق بهذه النشأة أو نحو ذلك، وقال بعضهم بالعموم إلا أنه التزم كون البيان على نحو يجتمع مع التناهي فاللوح المحفوظ في بيانه جميع الأشياء الدنيوية والأخروية وما كان وما يكون نظير الجفر الجامع في بيانه لما يبينه، وقد رأيت أنا صحيفة للشيخ الأكبر قدس سره ادعى أنه يعلم منها ما يقع في أرض المحشر يوم القيامة وأخرى ادعى أنه يعلم منها أسماء أهل الجنة والنار وأسماء آبائهم وأخرى ادعى أنه يعلم منها الحوادث التي تكون في الجنة، وقبول هذه الدعاوى وردها مفوض إليك، وفسر بعضهم الكتاب بالقضاء السابق ففي الكلام تجوز لا يخفى.
هذا وذهب أبو مسلم إلى أن المراد ما من قرية من قرى الكفار واختاره المولى أبو السعود وجعل الآية بيانا

صفحة رقم 97

لتحتم حلول عذابه تعالى بمن لا يحذره أثر بيان أنه حقيق بالحذر وأن أساطين الخلق من الملائكة والنبيين عليهم السلام على حذر من ذلك، وذكر أن المعنى ما من قرية من قرى الكفار إلا نحن مخربوها البتة بالخسف بها أو بإهلاك أهلها بالمرة لما ارتكبوا من عظائم الموبقات المستوجبة لذلك أو معذبو أهلها عذابا شديدا لا يكتنه كنهه والمراد به ما يعم البلايا الدنيوية من القتل والسبي ونحوهما والعقوبات الأخروية مما لا يعلمه إلا الله تعالى حسبما يفصح عنه إطلاق التعذيب عما قيد به الإهلاك من قبلية يوم القيامة ولا يخص بالبلايا الدنيوية كيف وكثير من القرى العاتية العاصية قد أخرت عقوبتها إلى يوم القيامة، ثم إنه يحتمل أن يقال في وجه الربط على تقدير التخصيص: أنه سبحانه بعد أن أشار إلى أن الكفرة المخاطبين في بلاء وضرّ وأنّ آلهتهم لا يملكون كشف ذلك عنهم، ولا تحويله أشار إلى أن مثل ذلك لا بد وأن يصيب الكفرة ولا يملك أحد كشفه ولا تحويله عنهم، وهذا ظاهر بناء على ما تقدم عن البعض في سبب النزول الذي بسببه فسر الضر بالقحط فتأمل.
وفي اختيار صيغة الفاعل في الموضعين وإن كانت بمعنى المستقبل من الدلالة على التحقق والتقرر ما فيه، والتقييد بيوم القيامة لأن الإهلاك يومئذ غير مختص بالقرى الكافرة ولا هو بطريق العقوبة وإنما هو لانقضاء عمر الدنيا، ثم قال: إن تعميم القرية لا يساعده السباق ولا السباق اه وفيه تأمل. ومن الناس من رجحه على ما سبق بأن فيه حمل الإهلاك على ما يتبادر منه وهو ما يكون عن عقوبة ولا كذلك فيما سبق.
وأجيب بأن ذلك سهل فقد استعمل في مقام التخويف فيما لم يكن عن عقوبة كقوله تعالى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ أي الآيات التي اقترحتها قريش،
فقد أخرج أحمد والنسائي والحاكم وصححه والطبراني وغيرهم عن ابن عباس قال: سأل أهل مكة النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن ينحي عنهم الجبال فيزرعوا فقيل له: إن شئت أن تستأني بهم وإن شئت أن تؤتيهم الذي سألوا فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت من قبلهم من الأمم فقال عليه الصلاة والسلام: لا بل استأني بهم فأنزل الله تعالى هذه الآية
، وأن ما بعدها في تأويل مصدر منصوب على أنه مفعول منع على ما صرح به الطبرسي أو منصوب بنزع الخافض كما قيل: لتعدي الفعل إلى مفعوله الثاني بالحرف كما في قوله تعالى:
أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: ١٤١] أي وما منعنا الإرسال أو من الإرسال بالآيات إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا أي بجنسها الْأَوَّلُونَ من الأمم السابقة المقترحة، والاستثناء مفرغ من أعم الأشياء وأن وما بعدها في تأويل مصدر فاعل منع أي ما منعنا شيء من الأشياء إلا تكذيب الأولين.
وزعم أبو البقاء أنه على تقدير مضاف أي إلا إهلاك تكذيب الأولين، ولا حاجة إليه عند الآخرين.
والمنع لغة كف الغير وقسره عن فعل يريد أن يفعله ولاستحالة ذلك في حقه سبحانه لاستلزامه العجز المحال المنافي للربوبية قالوا: إنه هنا مستعار للصرف وأن المعنى وما صرفنا عن إرسال الآيات المقترحة إلا تكذيب الأولين المقترحين المستتبع لاستئصالهم فإنه يؤدي إلى تكذيب الآخرين المقترحين بحكم اشتراكهم في العتو والعناد وهو مفض إلى أن يحل بهم مثل ما حل بهم بحكم الشركة في الجريرة والفساد وجريان السنة الإلهية والعادة الربانية بذلك وفعل ذلك بهم مخالف لما كتب في لوح القضاء بمداد الحكمة من تأخير عقوبتهم، وحاصله أنا تركنا إرسال الآيات لسبق مشيئتنا تأخير العذاب عنهم لحكم نعلمها، واستشعر بعضهم من الصرف نوع محذور فجعل المنع مجازا عن الترك. وتعقب بأنه لا يصح مع كون الفاعل التكذيب لأن التارك هو الله تعالى.
وأجيب بأن دعوى لزوم اتحاد الفاعل في المعنى الحقيقي والمستعار له مما لم يقم عليه دليل بل الظاهر خلافه.

صفحة رقم 98

وذكر بعض المحققين ولله تعالى أبوه وإن نوقش أن تكذيب الأولين المستتبع للاستئصال والمستلزم لتكذيب الآخرين المفضي لحلول الوبال مناف لإرسال الآيات المقترحة لتعين التكذيب المستدعي لما ينافي الحكمة في تأخير عقوبة هذه الأمة فعبر عن تلك المنافاة بالمنع على نهج الاستعارة إيذانا بتعاضد مبادئ الإرسال لا كما زعموا من عدم إرادته تعالى لتأييد رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالمعجزات وهو السر في إيثار الإرسال على الإيتاء لما فيه من الإشعار بتداعي الآيات إلى النزول لولا أن تمسكها يد التقدير، وإسناد المنع إلى تكذيب الأولين لا إلى علمه تعالى بما سيكون من المقترحين الآخرين كما في قوله تعالى: لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال: ٢٣] لإقامة الحجة عليهم بإبراز الأنموذج وللإيذان بأن مدار عدم الإجابة إلى إيتاء مقترحهم ليس إلا صنيعهم، ثم حكمة التأخير قيل إظهار مزيد شرف النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقيل العناية بمن سيولد من بعضهم من المؤمنين وبمن سيؤمن منهم، وينبغي أن يزاد في كل إلى غير ذلك مثلا وإلا فلا حصر، وقيل معنى الآية إنا لا نرسل الآيات المقترحة لعلمنا بأنهم لا يؤمنون عندها كما لم يؤمن بها من اقترحوها قبلهم فيكون إرسالها عبثا لا فائدة فيه والحكيم لا يفعله، وأنت تعلم أنه إذا كان إرسال المقترح إذا لم يؤمن عنده المقترح عبثا لا يفعله الحكيم أشكل فعله من أول مرة على أن ما روي في سبب النزول يقتضي التفسير الأول كما لا يخفى وفسرت الآيات بالمقترحة لأن ما بها إثبات دعوى الرسالة من مقتضيات الإرسال وما زاد على ذلك ولم يكن عن اقتراح لطف من الملك المتعال وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ عطف على ما يفصح عنه النظم الكريم كأنه قيل: وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون حيث أتيناهم ما اقترحوا على أنبيائهم عليهم السلام من الآيات الباهرة فكذبوها وآتينا ثمود الناقة باقتراحهم على نبيهم صالح عليه السلام وأخرجناها لهم من الصخرة مُبْصِرَةً على صيغة اسم الفاعل حال من الناقة، والمراد ذات إبصار أو ذات بصيرة يبصرها الغير ويتبصر بها فالصيغة للنسب أو جاعلة الناس ذوي بصائر على أنه اسم فاعل من أبصره والهمزة للتعدية أي جعله ذا بصيرة وإدراك ويحتمل أن يكون إسناد الأبصار إليها مجازا وهو في الحقيقة حال من يشاهدها وقرأ قوم «مبصرة» بزنة اسم المفعول أي يبصرها الناس ولا خفاء في ذلك. وقرأ قتادة «مبصرة» بفتح الميم والصاد أي محل إبصار بجعل الحامل على الشيء بمنزلة محله نحو الولد مبخلة مجبنة. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «مبصرة» بزنة اسم الفاعل والرفع على إضمار مبتدأ أي هي مبصرة، وقرأ الجمهور ثَمُودَ ممنوعا من الصرف، وقال هارون: أهل الكوفة ينونون في كل وجه وقال أبو حاتم لا تنون العامة، والعلماء بالقرآن ثَمُودَ في وجه من الوجوه وفي أربعة مواطن ألف مكتوبة ونحن نقرؤه بغير ألف اه. وهو كما قال الراغب عجمي، وقيل عربي وترك صرفه لكونه اسم قبيلة، وهو فعول من الثمد وهو الماء القليل الذي لا مادة له ومنه قيل: فلان مثمود ثمدته النساء أي قطعن مادة مائه لكثرة غشيانه لهن ومثمود إذا كثر عليه السؤال حتى نفدت مادة ماله وصحح كثير عربيته أي آتينا تلك القبيلة الناقة فَظَلَمُوا بِها أي فكفروا بها وجحدوا كونها من عند الله تعالى لتصديق رسوله أو فكفروا بها ظالمين أي لم يكتفوا بمجرد الكفر بها بل فعلوا بها ما فعلوا من العقر أو ظلموا أنفسهم وعرضوها للهلاك بسبب عقرها. ولعل تخصيص إيتائها بالذكر لما أن ثمود عرب مثل أهل مكة المقترحين وأن لهم من العلم بحالهم ما لا مزيد عليه حيث يشاهدون آثار هلاكهم لقرب ديارهم منهم ورودا وصدورا، وجوز أن يكون ذلك لأن الناقة من جهة أنها حيوان أخرج من الحجر أوضح دليل على تحقق مضمون قوله تعالى: قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً [الإسراء: ٥٠] إلخ والأول أقرب وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً أي لمن أرسلت عليهم، والمراد بها إما المقترحة فالتخويف بالاستئصال لإنذارها به في عادة الله تعالى أي ما نرسلها إلا تخويفا من العذاب المستأصل كالطليعة له فإن لم يخافوا فعل
بهم ما فعل، وإما غيرها كآيات القرآن والمعجزات فالتخويف بعذاب الآخرة دون العذاب الدنيوي بالاستئصال أي ما نرسلها إلا تخويفا وإنذارا بعذاب الآخرة. واستظهر أبو حيان

صفحة رقم 99

كون المراد بها الآيات التي معها إمهال كالخسوف والكسوف وشدة الرعد والبرق والرياح والزلازل وغور ماء العيون وزيادتها على الحد حتى يغرق منها بعض الأرضين، وعد الحسن من ذلك الموت الذريع أي ما نرسلها إلا تخويفا مما هو أعظم منها.
أخرج ابن جرير عن قتادة قال: إن الله تعالى يخوف الناس بما شاء من آياته لعلهم يعتبون أو يذكرون ويرجعون، وذكر ابن عطية أن آيات الله تعالى المعتبر بها ثلاثة أقسام، قسم عام في كل شيء. ففي كل شيء له آية، تدل على أنه واحد وهناك فكرة العلماء، وقسم معتاد كالرعد والكسوف وهناك فكرة الجهلة، وقسم خارق للعادة وقد انقضى بانقضاء النبوة وإنما يعتبر اليوم بتوهم مثله وتصوره اه.
وفيه غفلة عن الكرامة فإن أهل السنة يثبتونها للولي في كل عصر، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب، وجوز على الوجه الأول أن تكون حالا من ضمير ظلموا أي فظلموا بها ولم يخافوا العاقبة والحال إنا ما نرسل بالآيات التي هي من جملتها إلا تخويفا من العذاب الذي يعقبها فنزل بهم ما نزل، ونصب تَخْوِيفاً على أنه مفعول له.
وجوز أن يكون حالا أي مخوفين، والباء في الموضعين سيف خطيب، و (الآيات) مفعول نرسل أو للملابسة والمفعول محذوف أي ما نرسل نبيا ملتبسا بها، وقيل إنها للتعدية وأن أرسل يتعدى بنفسه وبالباء. ورد بأنه لم ينقل عن أحد من الثقات، قال الخفاجي: ولا حجة في قول كثير:

لقد كذب الواشون ما بحت عندهم بسرّ ولا أرسلتهم برسول
لاحتمال الزيادة فيه أيضا مع أن الرسول فيه بمعنى الرسالة فهو مفعول مطلق والكلام في دخولها على المفعول به، ولا يخفى أن جعل الرسول مفعولا به وزيادة الباء فيه مما لا يقدم عليه فاضل وَإِذْ قُلْنا أي واذكر زمان قولنا بواسطة الوحي لَكَ يا محمد إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ أي علما كما رواه غير واحد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه فلا يخفى عليه سبحانه شيء من أحوالهم وأفعالهم الماضية والمستقبلة من الكفر والتكذيب.
وقوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ إلى آخر الآية تنبيه على تحققها بالاستدلال عليها بما صدر عنهم عند مجيء بعض الآيات لاشتراك الكل في كونها أمورا خارقة للعادات منزلة من جناب رب العزة جل مجده لتصديق رسوله عليه الصلاة والسلام فتكذيبهم ببعضها يدل على تكذيب الباقي كما أن تكذيب الأولين بغير المقترحة يدل على تكذيبهم بالمقترحة، والمراد بالرؤيا ما عاينه صلّى الله عليه وسلّم ليلة أسري به من العجائب السماوية والأرضية كما أخرجه البخاري والترمذي والنسائي وجماعة عن ابن عباس وهي عند كثير بمعنى الرؤية مطلقا وهما مصدر رأى مثل القربى والقرابة.
وقال بعض: هي حقيقة في رؤيا المنام ورؤيا اليقظة ليلا والمشهور اختصاصها لغة بالمنامية وبذلك تمسك من زعم أن الإسراء كان مناما وفي الآية ما يرد عليه، والقائلون بهذا المشهور الذاهبون إلى أنه كان يقظة كما هو الصحيح قالوا: إن التعبير بها إما مشاكلة لتسميتهم له رؤيا أو جار على زعمهم كتسمية الأصنام آلهة فقد روي أن بعضهم قال له صلّى الله عليه وسلّم لما قص عليهم الإسراء لعله شيء رأيته في منامك أو على التشبيه بالرؤيا لما فيها من العجائب أو لوقوعها ليلا أو لسرعتها أي وما جعلنا الرؤيا التي أريناكها عيانا مع كونها آية عظيمة وأية آية وقد أقمت البرهان على صحتها إلا فتنة افتتن بها الناس حتى ارتد بعض من أسلم منهم وَالشَّجَرَةَ عطف على الرُّؤْيَا أي وما جعلنا الشجرة الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ إلا فتنة لهم أيضا.
والمراد بها كما روى البخاري وخلق كثير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما شجرة الزقوم، والمراد بلعنها

صفحة رقم 100

لعن طاعميها من الكفرة كما روي عنه أيضا، ووصفها بذلك من المجاز في الإسناد وفيه من المبالغة ما فيه أو لعنها نفسها ويراد باللعن معناه اللغوي وهو البعد فهي لكونها في أبعد مكان من الرحمة وهو أصل الجحيم الذي تنبت فيه ملعونة حقيقة.
وأخرج ابن المنذر عن الحبر أنها وصفت بالملعونة لتشبيه طلعها برؤوس الشياطين والشياطين ملعونون. وقيل تقول العرب لكل طعام مكروه ضار: ملعون، وروي في جعلها فتنة لهم أنه لما نزل في أمرها في الصافات وغيرها ما نزل. قال أبو جهل وغيره: هذا محمد صلّى الله عليه وسلّم يتوعدكم بنار تحرق الحجارة ثم يقول ينبت فيها الشجر وما نعرف الزقوم إلا بالتمر بالزبد، وأمر أبو جهل جارية له فأحضرت تمرا وزبدا وقال لأصحابه ترقموا.
وافتتن بهذه المقالة أيضا بعض الضعفاء ولقد ضلوا في ذلك ضلالا بعيدا حيث كابروا قضية عقولهم فإنهم يرون النعامة تبتلع الجمر وقطع الحديد المحماة الحمر فلا تضرها والسمندل يتخذ من وبره مناديل تلقى في النار إذا اتسخت فيذهب الوسخ وتبقى سالمة، ومن أمثالهم في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار.
وعن ابن عباس أنها الكشوث المذكورة في قوله تعالى: كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ [إبراهيم: ٢٦] ولعنها في القرآن وصفها فيه بما سمعت في هذه الآية ومر آنفا ما مر عن العرب، والافتتان بها أنهم قالوا عند سماع الآية: ما بال الحشائش تذكر القرآن، والمعمول عليه عند الجمهور رواية الصحيح عن الحبر.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وَالشَّجَرَةَ بالرفع على الابتداء وحذف الخبر أي والشجرة الملعونة في القرآن كذلك وَنُخَوِّفُهُمْ بذلك ونظائره من الآيات فإن الكل للتخويف، وإيثار صيغة الاستقبال للدلالة على الاستمرار التجددي.
وقرأ الأعمش «ويخوفهم» بالياء آخر الحروف فَما يَزِيدُهُمْ التخويف إِلَّا طُغْياناً تجاوزا عن الحد كَبِيراً لا يقادر قدره فلو أرسلنا بما اقترحوه من الآيات لفعلوا بها فعلهم بإخوانها وفعل بهم ما فعل بأمثالهم وقد سبقت كلمتنا بتأخير العقوبة العامة إلى الطامة الكبرى هذا فيما أرى هو الأوفق بالنظم الكريم واختاره في إرشاد العقل السليم.
وعن الحسن ومجاهد وقتادة وأكثر المفسرين تفسير الإحاطة بالقدرة، والكلام مسوق لتسلية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عما عسى يعتريه من عدم الإجابة إلى إنزال الآيات المقترحة لمخالفتها للحكمة من نوع حزن من طعن الكفرة حيث كانوا يقولون: لو كنت رسولا حقا لأتيت بهذه المعجزة كما أتى بها من قبلك من الأنبياء عليهم السلام فكأنه قيل اذكر وقت قولنا لك إن ربك اللطيف بك قد أحاط بالناس فهم في قبضة قدرته لا يقدرون على الخروج من ربقة مشيئته فهو يحفظك منهم فلا تهتم بهم وامض لما أمرتك به من تبليغ الرسالة ألا ترى أن الرؤيا التي أريناك من قبل جعلناها فتنة للناس مورثة للشبهة مع أنها ما أورثت ضعفا لأمرك وفتورا في حالك وبعضهم حمل الإحاطة على الإحاطة بالعلم إلا أنه ذكر في حاصل المعنى ما يقرب مما ذكر فقال: أي إنه سبحانه عالم بالناس على أتم وجه فيعلم قصدهم إلى إيذائك إذا لم تأتهم بما اقترحوا ويعصمك منهم فامض على ما أنت فيه من التبليغ والإنذار ألا ترى إلخ.
ولا يخفى أن ذكر الرب مضافا إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم وأمره عليه الصلاة والسلام بذكر ذلك القول أنسب بكون الآية مسوقة لتسليته على الوجه الذي نقل، وذكر التخويف وأنه ما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا أوفق بما فسرت به الآية أولا، وادعى بعضهم أنه لا يخلو عن نوع تسلية، وقيل: الإحاطة هنا الإهلاك كما في قوله تعالى: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ [الكهف: ٤٢] والناس قريش ووقت ذلك الإهلاك يوم بدر، وعبر عنه بالماضي مع كونه منتظرا حسبما ينبىء عنه قوله

صفحة رقم 101

تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر: ٤٥] وقوله سبحانه: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ [آل عمران: ١٢] وغير ذلك لتحقق الوقوع، وأولت الرؤيا بما رآه صلّى الله عليه وسلّم في المنام من مصارعهم كما صرح به في بعض الروايات،
وصح أنه صلّى الله عليه وسلّم لما ورد ماء بدر كان يقول: والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم وهو يضع يده الشريفة على الأرض هاهنا وهاهنا ويقول: هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان
، وهو ظاهر في كون ذلك مناما.
ويروى أن قريشا سمعت بما أوحي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في شأن بدر وما أري في منامه من مصارعهم فكانوا يضحكون ويسخرون وهو المراد بالفتنة، وبما رآه عليه الصلاة والسلام أنه سيدخل مكة وأخبر أصحابه فتوجه إليها فصده المشركون عام الحديبية وإليه ذهب أبو مسلم والجبائي، واعتذر عن كون ما ذكر مدنيا بأنه يجوز أن يكون الوحي بإهلاكهم وكذا الرؤيا واقعا بمكة وذكر الرؤيا وتعيين المصارع واقعين بعد الهجرة ويلزم منه أن يكون الافتتان بذلك بعد الهجرة وأن يكون ازديادهم طغيانا متوقعا غير واقع عند نزول الآية وكل ذلك خلاف الظاهر.
وأخرج ابن جرير عن سهل بن سعد قال: رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك فما استجمع ضاحكا حتى مات عليه الصلاة والسلام وأنزل الله تعالى هذه الآية وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا إلخ.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن سعيد بن المسيب قال: رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بني أمية على المنابر فساءه ذلك فأوحى الله تعالى إليه إنما هي دنيا أعطوها فقرت عينه وذلك قوله تعالى: وَما جَعَلْنَا إلخ.
وأخرج ابن أبي حاتم عن يعلى بن مرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: رأيت بني أمية على منابر الأرض وسيملكونكم فتجدونهم أرباب سوء واهتم عليه الصلاة والسلام لذلك فأنزل الله سبحانه وَما جَعَلْنَا الآية»
وأخرج عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «رأيت ولد الحكم بن أبي العاص على المنابر كأنهم القردة وأنزل الله تعالى في ذلك وَما جَعَلْنَا إلخ والشجرة الملعونة الحكم وولده»
وفي عبارة بعض المفسرين هي بنو أمية.
وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت لمروان بن الحكم: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لأبيك وجدك: إنكم الشجرة الملعونة في القرآن»
فعلى هذا معنى إحاطته تعالى بالناس إحاطة أقداره بهم، والكلام على ما قيل على حذف مضاف أي وما جعلنا تعبير الرؤيا أو الرؤيا فيه مجاز عن تعبيرها، ومعنى جعل ذلك فتنة للناس جعله بلاء لهم ومختبرا وبذلك فسره ابن المسيب، وكان هذا بالنسبة إلى خلفائهم الذين فعلوا ما فعلوا وعدلوا عن سنن الحق وما عدلوا وما بعده بالنسبة إلى ما عدا خلفاءهم منهم ممن كان عندهم عاملا وللخبائث عاملا أو ممن كان من أعوانهم كيفما كان، ويحتمل أن يكون المراد ما جعلنا خلافتهم وما جعلناهم أنفسهم إلا فتنة، وفيه من المبالغة في ذمهم ما فيه، وجعل ضمير نُخَوِّفُهُمْ على هذا لما كان له أولا أو للشجرة باعتبار أن المراد بها بنو أمية ولعنهم لما صدر منهم من استباحة الدماء المعصومة والفروج المحصنة وأخذ الأموال من غير حلها ومنع الحقوق عن أهلها وتبديل الأحكام والحكم بغير ما أنزل الله على نبيه عليه الصلاة والسلام إلى غير ذلك من القبائح العظام والمخازي الجسام التي لا تكاد تنسى ما دامت الليالي والأيام، وجاء لعنهم في القرآن إما على الخصوص كما زعمته الشيعة أو على العموم كما نقول فقد قال سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [الأحزاب:
٥٧] وقال عز وجل فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ [محمد: ٢٢، ٢٣] إلى آيات أخر ودخولهم في عموم ذلك يكاد يكون دخولا أوليا لكن لا يخفى أن هذا لا يسوغ عند أكثر أهل السنة لعن واحد منهم بخصوصه فقد صرحوا أنه لا يجوز لعن كافر بخصوصه ما لم

صفحة رقم 102

يتحقق موته على الكفر كفرعون ونمرود فكيف من ليس كافرا، وادعى السراج البلقيني جواز لعن العاصي المعين ونور دعواه
بحديث الصحيحين «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان لعنها الملائكة حتى تصبح».
وقال ولده الجلال بحثت مع والدي في ذلك باحتمال أن يكون لعن الملائكة لها بالعموم بأن يقول: لعن الله تعالى من باتت مهاجرة فراش زوجها ولو استدل لذلك
بخبر مسلم أنه صلّى الله عليه وسلّم مر بحمار وسم بوجهه فقال: لعن الله تعالى من فعل هذا لكان أظهر
إذ الإشارة بهذا صريحة في لعن معين إلا أن يؤول بأن المراد فاعل جنس ذلك لا فاعل هذا المعين وفيه ما فيه واستدل بعض من وافقه لذلك أيضا بما
صح أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «اللهم العن رعلا وذكوان وعصية عصوا الله تعالى ورسوله»
فإن فيه لعن أقوام بأعيانهم وأجيب بأنه يجوز أنه عليه الصلاة والسلام علم موتهم أو موت أكثرهم على الكفر فلم يلعن إلا من علم موته عليه وهو كما ترى، ولا يخفى أن تفسير الآية بما ذكر غير ظاهر الملاءمة للسياق والله تعالى أعلم بصحة الأحاديث، وقيل الشجرة الملعونة مجاز عن أبي جهل وكان فتنة وبلاء على المسلمين لعنه الله تعالى، وقيل مجاز عن اليهود الذين تظاهروا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولعنهم في القرآن ظاهر، وفتنتهم أنهم كانوا ينتظرون بعثته عليه الصلاة والسلام فلما بعث كفروا به وقالوا: ليس هو الذي كنا ننتظره فثبطوا كثيرا من الناس بمقالتهم عن الإسلام وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ تذكير لما جرى منه تعالى من الأمر ومن الملائكة من الامتثال والطاعة من غير تثبط وتحقيق لمضمون قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ إلخ، أما إن كان المراد من الموصول الملائكة فظاهر، وإما إن كان غيرهم فللمقايسة، وفيه إشارة إلى عاقبة أولئك الذين عاندوا الحق واقترحوا الآيات وكذبوا الرسول عليه الصلاة والسلام فإنهم داخلون في الذرية الذين احتنكهم إبليس عليه اللعنة واتبعوه إتباع الظل لذويه دخولا أوليا ومشاركون له في العناد أتم مشاركة حتى قالوا إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال: ٣٢] فوجه مناسبة الآية لما قبلها ظاهر، وقيل الوجه مشابهة قريش الذين كذبوا النبي صلّى الله عليه وسلّم لإبليس في أن كلّا منهما حمله الحسد والكبر على ما صدر منه أي واذكر وقت قولنا للملائكة اسْجُدُوا لِآدَمَ تحية وتكريما له عليه السلام، وقيل المعنى اجعلوه قبلة سجودكم لله تعالى فَسَجَدُوا من غير تلعثم امتثالا لأمره تعالى إِلَّا إِبْلِيسَ لم يكن من الساجدين وكان معدودا في عدادهم مندرجا تحت الأمر بالسجود قالَ استئناف بياني كأنه قيل فما كان منه بعد التخلف، فأجيب بأنه قال أي بعد أن وبخ بما وبخ مما قصه الله سبحانه في غير هذا الموضع على سبيل الإنكار والتعجب أَسْجُدُ وقد خلقتني من نار لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً نصب على نزع الخافض أي من طين كما صرح به في آية أخرى، وجوز الزجاج كونه حالا من العائد المحذوف والعامل خَلَقْتَ فيكون المعنى أأسجد لمن كان في وقت خلقه طينا فالطينية وإن كانت مقدمة على خلقه إنسانا لكنها مقارنة لابتداء تعلقه به، والزمخشري أيضا كونه حالا من نفس الموصول والعامل حينئذ أَأَسْجُدُ على معنى أأسجد له وهو طين أي أصله طين، قال في الكشف: وهو أبلغ لأنه مؤيد لمعنى الإنكار وفيه تحقير له عليه السلام وحاشاه بجعله نفس ما كان عليه لم تزل عنه تلك الذلة وليس في جعله حالا من العائد هذه المبالغة، وأنت تعلم أن الحالية على كل حال خلاف الظاهر لكون الطين جامدا ولذا أوله بعضهم بمتأصلا، وجوز الزجاج أيضا وتبعه ابن عطية كونه تمييزا ولا يظهر ذلك، وذكر الخلق مع أنه يكفي في المقصود أن يقال: لمن كان من طين أدخل في المقصود مع أنه فيه على ما قيل إيماء إلى علة أخرى وهي أنه مخلوق والسجود إنما هو للخالق تعالى مجده.
قالَ أي إبليس، وفي إعادة الفعل بين كلامي اللعين إيذان بعدم اتصال الثاني بالأول وعدم ابتنائه عليه بل على غيره وقد ذكر ذلك في مواضع أخرى أي قال بعد طرده من المحل الأعلى ولعنه واستنظاره وإنظاره أَرَأَيْتَكَ هذَا

صفحة رقم 103

الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ
الكاف حرف خطاب مؤكد لمعنى التاء قبله وهو من التأكيد اللغوي فلا محل له من الإعراب، ورأى علمية فتتعدى إلى مفعولين وهذَا مفعولها الأول والموصول صفته والمفعول الثاني محذوف لدلالة الصلة عليه، وهذا الإنشاء مجاز عن إنشاء آخر ومن هنا تسمعهم يقولون: المعنى أخبرني عن هذا الذي كرمته علي لم كرمته علي وأنا أكرم منه، والعلاقة ما بين العلم والإخبار من السببية والمسببية واللازمية والملزومية، وجملة لم كرمته واقعة على ما نص عليه أبو حيان موقع المفعول الثاني، وذهب بعض النحاة إلى أن رأى بصرية فتتعدى إلى واحد واختاره الرضي، ويجعلون الجملة الاستفهامية المذكورة مستأنفة.
وقال الفراء: الكاف ضمير في محل نصب أي أرأيت نفسك وهو كما تقول: أتدبرت آخر أمرك فإني صانع كذا، وهذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ مبتدأ وخبر وقد حذف منه الاستفهام أي أهذا إلخ، وقال بعضهم بهذا إلا أنه جعل الكاف حرف خطاب مؤكد أي أخبرني أهذا من كرمته عليّ، وقال ابن عطية: الكاف حرف كما قيل لكن معنى أرأيتك أتأملت كأن المتكلم ينبه المخاطب على استحضار ما يخاطبه به عقيبه، وكونه بمعنى أخبرني قول سيبويه.
والزجاج وتبعهما الحوفي والزمخشري وغيرهما، وزعم ابن عطية أن ذلك حيث يكون استفهام ولا استفهام في الآية.
وأنت تعلم أن المقرر في أرأيت بمعنى أخبرني أن تدخل على جملة ابتدائية يكون الخبر فيها استفهاما مذكورا أو مقدرا فمجرد عدم وجوده لا يأبى ذلك، وأيّا ما كان فاسم الإشارة للتحقير، والمراد من التكريم التفضيل.
وجملة لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ استئناف وابتداء كلام واللام موطئة للقسم وجوابه لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ.
وفي البحر لو ذهب ذاهب إلا أن هذا مفعول أول لأرأيتك بمعنى أخبرني والمفعول الثاني الجملة القسمية المذكورة لانعقادهما مبتدأ وخبرا قبل دخول أرأيتك لذهب مذهبا حسنا إذ لا يكون في الكلام على هذا إضمار وهو كما ترى، والمراد من أخرتني أبقيتني حيا أو أخرت موتي، ومعنى لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ لأستولين عليهم استيلاء قويا من قولهم: حنك الدابة واحتنكها إذا جعل في حنكها الأسفل حبلا يقودها به.
وأخرج هذا ابن جرير وغيره عن ابن عباس وإليه ذهب الفراء أو لأستأصلنهم وأهلكنهم بالإغواء من قولهم:
احتنك الجراد الأرض إذا أهلك نباتها وجرد ما عليها واحتنك فلان مال فلان إذا أخذه وأكله، وعلى ذلك قوله:
نشكو إليك سنة قد أجحفت جهدا إلى جهد بنا فأضعفت واحتنكت أموالنا وأجلفت.
وكأنه مأخوذ من الحنك وهو باطن أعلى الفم من داخل المنقار فهو اشتقاق من اسم عين، واختار هذا الطبري والجبائي وجماعة، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال يقول لأضلنهم وهو بيان لخلاصة المعنى، وهذا كقول اللعين لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: ٣٩] إِلَّا قَلِيلًا منهم وهو العباد المخلصون الذين جاء استثناؤهم في آية أخرى جعلنا الله تعالى وإياكم منهم. وعلم اللعين تسني هذا المطلب له حتى ذكره مؤكدا إما بواسطة التلقي من الملائكة سماعا وقد أخبرهم الله تعالى به أو رأوه في اللوح المحفوظ أو بواسطة استنباطه من قولهم أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة: ٣٠] مع تقرير الله تعالى له أو بالفراسة لما رأى فيه من قوة الوهم والشهوة والغضب المقتضية لذلك، ولا يبعد أن يكون استثناء القليل بالفراسة أيضا وكأنه لما رأى أن المانع من الاستيلاء في القليل مشتركا بينه وبين آدم عليه السلام ذكره من أول الأمر، وعن الحسن أنه ظن ذلك لأنه وسوس إلى آدم وغره حتى كان ما كان فقاس الفرع على الأصل وهو مشكل لأن هذا القول كان قبل الوسوسة التي كان بسببها ما

صفحة رقم 104

كان، ومن زعم أنه كان هناك وسوستان فعليه البيان ولا يأتي به حتى يؤوب القارظان أو يسجد لآدم عليه السلام الشيطان.
قالَ الله سبحانه وتعالى: اذْهَبْ ليس المراد به حقيقة الأمر بالذهاب ضد المجيء بل المراد تخليته وما سولته نفسه إهانة له كما تقول لمن يخالفك: افعل ما تريد، وقيل: يجوز أن يكون من الذهاب ضد المجيء فمعناه حينئذ كمعنى قوله تعالى: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [الحجر: ٣٤، ص: ٧٧]، وقيل: هو طرد وتخلية ويلزم على ظاهره الجمع بين الحقيقة والمجاز والقائل ممن يرى جوازه ويدل على أنه ليس المراد منه ضد المجيء تعقيبه بالوعيد في قوله سبحانه: فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ وضل عن الحق فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ أي جزاؤك وجزاؤهم فغلب المخاطب على الغائب رعاية لحق المتبوعية، وجوز الزمخشري وتبعه غير واحد أن يكون الخطاب للتابعين على الالتفات من غيبة المظهر إلى الخطاب، وتعقبه ابن هشام في تذكرته فقال: عندي أنه فاسد لخلو الجواب أو الخبر عن الرابط فإن ضمير الخطاب لا يكون رابطا وأجيب بأنه مؤول بتقدير فيقال لهم: إن جهنم جزاؤكم، ورد بأنه يخرج حينئذ عن الالتفات، وقال بعض المحققين: إن ضمير الخطاب إن سلم أنه لا يكون عائدا لا نسلم أنه إذا أريد به الغائب التفاتا لا يربط به لأنه ليس بأبعد من الربط بالاسم الظاهر فاحفظ.
جَزاءً مَوْفُوراً أي مكملا لا يدخر منه شيء كما قال ابن جبير من فر كعد لصاحبك عرضه فرة أي كمل لصاحبك عرضه، وعلى ذلك قوله:

ومن يجعل المعروف من دون عرضه يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
وجاء وفر لازما نحو وفر المال يفر وفورا أي كمل وكثر، وانتصب جَزاءً على المصدر بإضمار تجزون أو تجازون فإنهما بمعنى وهذا المصدر لهما.
وجوز أبو حيان وغيره كون العامل فيه جَزاؤُكُمْ بناء على أن المصدر ينصب المفعول المطلق، وجوز كونه حالا موطئة لصفتها التي هي حال في الحقيقة ولذا جاءت جامدة كقوله تعالى: قُرْآناً عَرَبِيًّا [يوسف: ، طه: ١١٣، الزمر: ٢٨، فصلت: ٣، الشورى: ٧، الزخرف: ٣] ولا حاجة لتقدير ذوي فيه حينئذ وصاحب الحال مفعول تجزونه محذوفا والعالم الفعل، وقيل إنه حال من فاعله بتقدير ذوي جزاء، وقال الطيبي: قيل المعنى ذوي جزاء ليكون حالا عن ضمير المخاطبين ويكون المصدر عاملا وإلا فالعامل مفقود ثم قال: الأظهر أنه حال مؤكدة لمضمون الجملة نحو زيد حاتم جوادا، وفي الكشف أن هذا متعين وليس الأول بالوجه، ومثله جعله حالا عن الفاعل، وقيل هو تمييز ولا يقبل عند ذويه وَاسْتَفْزِزْ أي واستخف يقال استفزه إذا استخفه فخدعه وأوقعه فيما أراده منه، وأصل معنى الفز القطع ومنه تفزز الثوب إذا انقطع ويقال للخفيف فز ولذا سمي به ولد البقرة الوحشية كما في قول زهير:
إذا استغاث بشيء فز غيطلة خاف العيون فلم تنظر به الحشك
والواو على ما في البحر للعطف على اذهب، والمراد من الأمر التهديد وكذا من الأوامر الآتية، ويمنع من إرادة الحقيقة أن الله تعالى لا يأمر بالفحشاء مَنِ اسْتَطَعْتَ أي الذي استطعت أن تستفزه مِنْهُمْ فمن موصول مفعول اسْتَفْزِزْ ومفعول اسْتَطَعْتَ محذوف هو ما أشرنا إليه. واختار أبو البقاء كون من استفهامية في موضع نصب باستطعت وهو خلاف الظاهر جدا ولا داعي إلى ارتكابه بِصَوْتِكَ أي بدعائك إلى معصية الله تعالى ووسوستك، وعبر عن الدعاء بالصوت تحقيرا له حتى كأنه لا معنى له كصوت الحمار.

صفحة رقم 105

وأخرج ابن المنذر وابن جرير وغيرهما عن مجاهد تفسيره بالغناء والمزامير واللهو والباطل، وذكر الغزنوي أنه آدم عليه السلام أسكن ولد هابيل أعلى جبل وولد قابيل أسفله وفيهم بنات حسان فزمر الشيطان فلم يتمالكوا أن انحدروا واقترنوا وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ أي صح عليهم من الجلبة وهي الصياح قاله الفراء وأبو عبيدة، وذكر أن جلب وأجلب بمعنى. وقال الزجاج: أجلب على العدو جمع عليه الخيل.
وقال ابن السكيت: جلب عليه أعان عليه، وقال ابن الأعرابي: أجلب على الرجل إذا توعده الشر وجمع عليه الجمع، وفسر بعضهم أَجْلِبْ هنا بأجمع فالباء في قوله تعالى: بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ مزيدة كما في لا يقرأن بالسور وقرأ الحسن «وآجلب» بوصل الألف وضم اللام من جلب ثلاثيا، والخيل يطلق على الأفراس حقيقة ولا واحد له من لفظه، وقيل إن واحده خائل لاختياله في مشيه وعلى الفرسان مجازا وهو المراد هنا، ومنه
قوله صلّى الله عليه وسلّم في بعض غزواته لأصحابه رضي الله تعالى عنهم «يا خيل الله اركبي»
والرجل بكسر الجيم فعل بمعنى فاعل فهو صفة كحذر بمعنى حاذر يقال: فلان يمشي رجلا أي غير راكب.
وقال صاحب اللوامح: هو بمعنى الرجال يعني أنه مفرد أريد به الجمع لأنه المناسب للمقام وما عطف عليه، وبهذا قرأ حفص وأبو عمر في رواية والحسن، وظاهر الآية يقتضي أن للعين خيلا ورجلا وبه قال جمع فقيل هم من الجن، وقيل منهم ومن الإنس وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ومجاهد وقتادة قالوا: إن له خيلا ورجلا من الجن والإنس فما كان من راكب يقاتل في معصية الله تعالى فهو من خيل إبليس وما كان من راجل يقاتل في معصية الله تعالى فهو من رجل إبليس، وقال آخرون: ليس للشيطان خيل ولا رجالة وإنما هما كناية عن الأعوان والأتباع من غير ملاحظة لكون بعضهم راكبا وبعضهم ماشيا.
وجوز بعضهم أن يكون استفزازه بصوته واجلابه بخيله ورجله تمثيلا لتسلطه على من يغويه فكأن مغوارا وقع على قوم فصوت بهم صوتا يزعجهم من أماكنهم وأجلب عليهم بجنده من خيالة ورجالة حتى استأصلهم، ومراده أن يكون في الكلام استعارة تمثيلية ولا يضر فيها اعتبار مجاز أو كناية في المفردات فلا تغفل.
وقرأ الجمهور «رجلك» بفتح الراء وسكون الجيم وهو اسم جمع راجل كركب وراكب لا جمع لغلبة هذا الوزن في المفردات، وقرىء «رجل» بفتح الراء وضم الجيم وهو مفرد كما في قراءة حفص وقد جاءت ألفاظ من الصفة المشبهة على فعل وفعل كسرا وضما كحدث وندس وغيرهما.
وقرأ عكرمة وقتادة «رجالك» كنبالك، وقرى «رجالك» ككفارك وكلاهما جمع رجلان وراجل كما في الكشف، وفي بعض نسخ الكشاف أنه قرىء «رجّالك» بفتح الراء وتشديد الجيم على أن أصله رجالة فحذف تاؤه تخفيفا وهي نسخة ضعيفة وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ بحملهم على كسبها مما لا ينبغي وصرفها فيما لا ينبغي.
وقيل بحملهم على صرفها في الزنا، وعن الضحاك بحملهم على الذبح للآلهة، وعن قتادة بحملهم على تسييب السوائب وبحر البحائر والتعميم أولى وَالْأَوْلادِ بالحث على التوصل إليهم بالأسباب المحرمة وارتكاب ما لا يرضي الله تعالى فيهم.
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المشاركة في الأولاد حملهم على تسميتهم بعبد الحرث. وعبد شمس، وفي رواية حملهم على أن يرغبوهم في الأديان الباطلة ويصبغوهم بغير صبغة الإسلام.
وفي أخرى حملهم على تحصيلهم بالزنا، وأخرى تزيين قتلهم إياهم خشية الإملاق أو العار، وقيل حملهم على أن يرغبوهم في القتال وحفظ الشعر المشتمل على الفحش والحرف الخسيسة الخبيثة، وعن مجاهد أن الرجل إذا لم

صفحة رقم 106

يسم عند الجماع فالجان ينطوي على إحليله فيجامع معه وذلك هي المشاركة في الأولاد، والأولى ما ذكرنا.
وَعِدْهُمْ المواعيد الباطلة كشفاعة الآلهة ونفع الأنساب الشريفة من لم يطع الله تعالى أصلا وعدم خلود أحد في النار لمنافاة ذلك عظم الرحمة وطول أمل البقاء في الدنيا ومن الوعد الكاذب وعده إياهم أنهم إذا ماتوا لا يبعثون وغير ذلك مما لا يحصى كثرة، ثم هذا من قبيل المشاركة في النفس كما في البحر.
وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً اعتراض بين ما خوطب به الشيطان لبيان حال مواعيده والالتفات إلى الغيبة لتقوية معنى الاعتراض مع ما فيه من صرف الكلام عن خطابه وبيان حاله للناس ومن الإشعار بعلية شيطنته للغرور وهو تزيين الخطأ بما يوهم أنه صواب ويقال: غر فلانا إذا أصاب غرته أي غفلته ونال منه ما يريد، وأصل ذلك على ما قال الراغب من الغر وهو الأثر الظاهر من الشيء، ونصبه على أنه وصف مصدر محذوف أي وعدا غرورا على الأوجه التي في رجل عدل.
وجوز أن يكون مفعولا من أجله أي وما يعدهم ويمينهم ما لا يتم ولا يقع إلا لأن يغرهم والأول أظهر.
وذكر الإمام في سبب كون وعد الشيطان غرورا لا غير أنه إنما يدعو إلى أحد ثلاثة أمور قضاء الشهوة. وإمضاء الغضب وطلب الرياسة والرفعة ولا يدعو البتة إلى معرفة الله تعالى وخدمته وتلك الأشياء الثلاثة ليست لذائذ في الحقيقة بل دفع آلام وإن سلم أنها لذائذ لكنها خسيسة يشترك فيها الناقص والكامل بل الإنسان والكلب ومع ذلك وهي وشيكة الزوال ولا تحصل إلا بمتاعب كثيرة ومشاق عظيمة ويتبعها الموت والهرم واشتغال البال بالخوف من زوالها والحرص على بقائها، ولذات البطن والفرج منها لا تتم إلا بمزاولة رطوبات متعفنة مستقذرة فتزيين ذلك لا يكاد يكون إلا بما هو أكذب من دعوى اجتماع النقيضين وهو الغرور.
إِنَّ عِبادِي الإضافة للتعظيم فتدل على تخصيص العباد بالمخلصين كما وقع التصريح به في الآية الأخرى ولقرينة كون الله تعالى وكيلا لهم يحميهم من شر الشيطان فإن من هو كذلك لا يكون إلا عبدا مكرما مختصا به تعالى، وكثيرا ما يقال لمن يستولي عليه حب شيء فينقاد له عبد ذلك الشيء ومنه عبد الدينار والدرهم وعبد الخميصة وعبد بطنه، ومن هنا يقال لمن يتبع الشيطان عبد الشيطان فلا حاجة إلى القول بأن في الكلام صفة محذوفة أي إن عبادي المخلصين.
وزعم الجبائي أن عِبادِي عام لجميع المكلفين وليس هناك صفة محذوفة لكن ترك الاستثناء اعتمادا على التصريح به في موضع آخر وليس بشيء، وفي هذه الإضافة إيذان بعلة ثبوت الحكم في قوله سبحانه:
لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أي تسلط وقدرة على إغوائهم، وتأكيد الحكم مع اعتراف الخصم به لمزيد الاعتناء.
وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا لهم يتوكلون عليه جل وعلا ويستمدون منه تعالى في الخلاص عن إغوائك فيحميهم سبحانه منه، والخطاب في هذه الجملة قيل للشيطان كما في الجملة السابقة ففي التعرض لوصف الربوبية المنبئة عن المالكية المطلقة والتصرف الكلي مع الإضافة إلى ضميره إشعار بكيفية كفايته تعالى لهم وحمايته إياهم منه أعني سلب قدرته على إغوائهم، وقيل للنبي عليه الصلاة والسلام أو للإنسان كأنه لما بين سبحانه من حال الشيطان ما بين صار ذلك لحصول الخوف في القلوب فقال سبحانه: وَكَفى بِرَبِّكَ أيها النبي أو أيها الإنسان وكيلا فهو جل

صفحة رقم 107

جلاله يدفع كيد الشيطان ويحفظ منه، والقلب يميل إلى عدم كونه خطابا للشيطان وإن كان في السابق له. واستدل بالآية على أن المعصوم من عصمه الله تعالى وإن الإنسان لا يمكنه أن يحترز بنفسه عن مواقع الضلال وإلا لقيل وكفى بالإنسان وكيلا لنفسه، هذا وهاهنا سؤالان ذكرهما الإمام مع جوابيهما، الأول أن إبليس هل كان عالما بأن الذي تكلم معه بهذه التهديدات هو إله العالم أو لم يكن عالما فإن كان الأول فكيف يصر الوعيد الشديد بقوله سبحانه:
فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً مانعا له من المعصية مع أنه سمعه من الله جل جلاله من غير واسطة، وإن كان الثاني فكيف قال: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ والجواب لعله كان شاكا في الكل وكان يقول في كل قسم ما يخطر بباله على سبيل الظن، وأقول لا يخفى ما في هذا الجواب.
والحق فيه أنه كان جازما بأن الذي تكلم معه بذلك هو إله العالم جل وعلا إلا أنه غلبت عليه شقوته التي استعدت لها ذاته فلم يصر الوعيد مانعا له ولدا حين تنصب لهلاكه الحبائل إذا جاء وقته ويعاين من العذاب ما يعاين وتضيق عليه الأرض بما رحبت
فيقال له: اسجد اليوم لآدم عليه السلام لتنجو لا يسجد ويقول: لم أسجد له حيا فكيف أسجد له ميتا كما ورد في بعض الآثار
، وليس هذا بأعجب من حال الكفار الذين يعذبون يوم القيامة أشد العذاب على كفرهم ويطلبون العود ليؤمنوا حيث أخبر الله تعالى بأنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه. وربما يقال: إن اللعين مع هذا الوعيد له أمل بالنجاة، فقد حكي أن مولانا عبد الله التستري سأل الله تعالى أن يريه إبليس فرآه فسأله هل تطمع في رحمة الله تعالى؟ فقال: كيف لا أطمع فيها والله سبحانه يقول: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف: ١٥٦] وأنا شيء من الأشياء فقال التستري: ويلك إن الله تعالى قيد في آخر الآية فقال إبليس له: ويحك ما أجهلك القيد لك لا له، ولعله يزعم أن آيات الوعيد مطلقا مقيدة بالمشيئة وإن لم تذكر كما يقوله بعض الأشاعرة في آيات الوعيد للعصاة من المؤمنين.
السؤال الثاني ما الحكمة في أن الله تعالى أنظره إلى يوم القيامة ومكنه من الوسوسة؟ والحكيم إذا أراد أمرا وعلم أن له مانعا يمنع من حصوله لا يسعى في تحصيل ذلك المانع، والجواب أما على مذهبنا فظاهر، وأما المعتزلة فقال الجبائي منهم: إن الله تعالى علم أن الذين يكفرون عند وسوسة إبليس يكفرون بتقدير أن لا يوجد وحينئذ لم يكن في وجوده مزيد مفسدة، وقال أبو هاشم: لا يبعد أن يحصل من وجوده مزيد مفسدة إلا أنه تعالى أبقاه تشديدا للتكليف على الخلق ليستحقوا بذلك مزيد الثواب، وأنا أقول: إن إبليس ليس مانعا مما يريده الله جل مجده وتعالى جده فما شاء الله سبحانه كان وما لم يشأ لم يكن والله تبارك وتعالى خلق الخلق طبق علمه وعلم به طبق ما هو عليه في نفسه فافهم والله تعالى أعلم.
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ مبتدأ وخبر، وقيل الموصول صفة رَبُّكُمُ وهو صفة لقوله تعالى الَّذِي فَطَرَكُمْ أو بدل منه وذلك جائز وإن تباعد ما بينهما اه، وفيه ما فيه، وأصل الإزجاء السوق حالا بعد حال والمراد به الإجزاء وكأن اختياره عليه لما أنه أدل منه على القسر وهو أوفق بالمقام وأعظم في الأنعام أي هو سبحانه وتعالى القادر الحكيم الذي يجري لنفعكم السفن في البحر بالريح اللينة وبالآلات حسبما جرت به عادته تعالى لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ تصريح بالنفع أي لتطلبوا من رزقه الذي هو فضل من قبله سبحانه أو من الربح الذي هو جل شأنه معطيه، ومن تبعيضية وتفسير الفضل بالحج أو الغزو غير مناسب، وهذا تذكير لبعض النعم التي هي دلائل التوحيد الذي هو المراد الأصلي من البعثة وتمهيد لذكر توحيدهم عند مساس الضر تكملة لما مر من قوله سبحانه: فَلا يَمْلِكُونَ

صفحة رقم 108

الآية إِنَّهُ كانَ أزلا وأبدا بِكُمْ رَحِيماً حيث هيأ لكم ما تحتاجون إليه وسهل عليكم ما يعسر من مباديه، وهذا تذليل فيه تعليل لما سبق من الإزجاء والابتغاء للفضل، وصيغة الرحيم كما في إرشاد العقل السليم للدلالة على أن المراد بالرحمة الرحمة الدنيوية والنعمة العاجلة المنقسمة إلى الجليلة والحقيرة، وهو مبني على اختصاص الرحيم بالدنيا كما هو المشهور، وعليه يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا، وقيل بعدم الاختصاص وعليه يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما.
وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ خوف الغرق بعصف الريح وتقاذف الأمواج ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ أي ذهب عن خواطركم كل من تدعونه وترجون نفعه فلا تذكرونه إِلَّا إِيَّاهُ جل وعلا فإنكم تذكرونه وحده سبحانه لا تذكرون سواه ولا يخطر ببالكم غيره تعالى لكشف ما حل بكم من الضر استقلالا أو اشتراكا فالمراد بضلالهم غيبتهم عن الفكر لا عن النظر والحس لأنه أمر معلوم من قولهم: ضل عنه كذا إذا نسيه، وفي الكشف هو من ضل عنه كذا إذا ضاع ولا حاجة إلى تضمين أو من ضله فلان ذهب عنه فلم يقدر عليه ذكره الأزهري وأنشد:

والسائل المبتغي كرائمها يعلم أني تضلني عللي
أي تفارقني وتذهب عني فلا أتعلل بعلة وهذا أظهر، نعم الضلال راجع إلى الذكر لا بمعنى إضماره فإنه ركيك يقال ضل عن خاطري كذا إذا لم تذكره فإنه ضلال له لا أنه ضلال ذكره ولا تقول ضل عن خاطري ذكره وكذلك ضلني الأمر اه، والدعاء في هذا على ظاهره والاستثناء متصل بناء على أن ما عبارة عن المدعوين مطلقا وأنهم كانوا يدعون الله تعالى وغيره في الحوادث، وإن كانت ما عبارة عن آلهتهم الباطلة فقط وإنهم كانوا في حالة السراء يدعونها وحدها كما يدل عليه ظاهر ما بعد فالاستثناء منقطع، وفسر الدعاء على هذا بدعاء العبادة واللجأ.
وقال أبو حيان: الظاهر الانقطاع لأنه تعالى لم يندرج في من تدعون إذ المعنى ضلت آلهتهم أي معبوداتهم وهم لا يعبدون الله تعالى. وتعقب بأن مقتضى كونهم مشركين أنهم يعبدونه سبحانه أيضا لكن على طريق الإشراك بل قولهم ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: ٣] كما قص سبحانه عنهم يقتضي أنه جل مجده المعبود الحقيقي عندهم، وقد يقال: إن الشارع أسقط مثل هذه العبادة عن درجة الاعتبار فهم غير عابدين الله جل وعلا شرعا بل قيل إنهم غير عابدين لغة أيضا لأن العبادة لغة غاية الخضوع والتذلل ولا يتحقق ذلك مع الشركة ولو على الوجه الذي زعموه فتأمل.
وجوز غير واحد أن يكون المعنى ضل من تدعونه عن إغاثتكم إلا إياه تعالى، والضلال فيه إما بمعنى الغيبة أو بمعنى عدم الاهتداء منه كأنه قيل ضل عن محجة الصواب في إنقاذكم ولم يقدر على ذلك، وأمر الاستثناء من الاتصال والانقطاع ومبنى كل على حاله، والزمخشري جوز أن يكون المعنى ضل من تدعون من الآلهة عن إغاثتكم ولكن الله تعالى هو الذي ترجونه وجعل الاستثناء عليه منقطعا فقيل إن ذلك لتخصيصه المدعوين بالآلهة.
وفي الكشف لعل الوجه فيه أنه تعالى ما كانوا يدعونه أي دعاء العبادة واللجأ إلا في تلك الحالة وأما في حالة السراء فيخصون آلهتهم بالدعاء، والتحقيق أن الضلال بهذا المعنى لم يتناول الحق سبحانه لأن معناه ضل المدعوون وغابوا عن إغاثتهم ولا يراد غابوا وحضر جل وعلا بل المراد ولكن رجوا أن يغيثهم ولا يخذلهم فعل المدعوين على حسبانهم وهذا هو الوجه إن شاء الله تعالى اه. ومبنى التحقيق لا يخفى على المتدرب في علم النحو، هذا ومن اللطائف
أن بعض الناس قال لبعض الأئمة: أثبت لي وجود الله تعالى ولا تذكر لي الجوهر والعرض فقال له: هل ركبت البحر؟ قال: نعم قال: فهل عصفت الريح؟ قال: نعم قال: فهل أشرفت بك السفينة على الغرق؟ قال: نعم قال: فهل

صفحة رقم 109

يئست من نفع من في السفينة ونحوهم من المخلوقين لك وإنجائهم مما أنت فيه إياك؟ قال نعم: فهل بقي قلبك متعلقا بشيء غير أولئك؟ قال: نعم قال: ذلك هو الله عز وجل فاستحس ذلك.
فَلَمَّا نَجَّاكُمْ من الضر وأوصلكم إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ عن ذكره تعالى بعد أن كنتم غير ذاكرين إلا إياه سبحانه أو أعرضتم عن توحيده جل وعلا أو عن شكره عز وجل بتوحيده وطاعته سبحانه أو توغلتم في التوسع في كفران النعمة على أنه من العرض مقابل الطول وجعل كناية عن ذلك كما في قول ذي الرمة:

عطاء فتى تمكن في المعالي فأعرض في المكارم واستطالا
وكأنه أريد أعرضتم واستطلتم في الكفران إلا أنه استغنى بذكر العرض عن ذكر الطول للزومه له.
وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً كالتعليل للإعراض وهو بيان لحكم الجنس ويعلم منه حكم أولئك المخاطبين وفيه لطافة حيث أعرض سبحانه عن خطابهم بخصوصهم وذكر أن جنس الإنسان مجبول على الكفران فلما أعرضوا أعرض الله سبحانه عنهم.
أَفَأَمِنْتُمْ الهمزة للإنكار على معنى أنه لا ينبغي الأمن، والفاء للعطف على محذوف متوسط بينها وبين الهمزة أي أنجوتم فأمنتم وهو مذهب بعض النحويين، واختار بعضهم أن الهمزة مقدمة من تأخير لأصالتها في الصدارة والعطف على ما قبله، وجملة كانَ الْإِنْسانُ إلخ معترضة بين المتعاطفين ولا حذف في مثل ذلك وهو مذهب الأكثرين لكن لا يظهر تسبب الإنكار للأمن على ما قبل على ما يقتضيه هذا المذهب بل الظاهر ترتبه على النجاة فقط ولا مدخل للإعراض في تسبب الإنكار، والحق عندي في أمثال ذلك ما فيه استقامة المعنى من غير تكلف ولا يتعين التزام أحد المذهبين وإن أدى إلى التكلف فإنه تعصب محض، والخطاب لمن تقدم أفأمنتم أيها المعرضون عند النجاة أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ الذي هو مأمنكم أي أن يغيبه الله تعالى ويذهب به في أعماق الأرض مصاحبا بكم أي وأنتم عليه على أن الباء للمصاحبة والجار والمجرور في موضع الحال، وجوز أن تكون الباء للسببية والجار والمجرور متعلق بما عنده أي أن يغيبه سبحانه بسببكم وتعقب بأنه لا يلزم من قلبه بسببهم أن يكونوا مهلكين مخسوفا بهم. وأجيب بأنه حيث كان المراد من جانب البر جانبه الذي هم فيه استلزم خسفه هلاكهم ولولا هذا لم يكن في التوعد به فائدة، ونصب جانِبَ في الوجهين على أنه مفعول به ليخسف.
وفي الدر المصون أنه منصوب على الظرفية وحينئذ يجوز كون الباء للتعدية على معنى أفأمنتم أن يغيبكم في ذلك.
وفي القاموس خسف الله تعالى بفلان الأرض غيبه فيها، والظاهر أنه بيان للمعنى اللغوي للفظ، وفي ذكر الجانب تنبيه على أنهم عند ما وصلوا الساحل أعرضوا أو ليكون المعنى أن الجوانب والجهات متساوية بالنسبة إلى قدرته سبحانه وقهره وسلطانه فله في كل جانب برا كان أو بحرا سبب مرصد من أسباب الهلكة فليس جانب البحر وحده مختصا بذلك بل إن كان الغرق في جانب البحر ففي جانب البر ما هو مثله وهو الخسف لأنه تغييب تحت التراب كما أن الغرق تغييب تحت الماء فعلى العاقل أن يخاف من الله تعالى في جميع الجوانب وحيث كان.
والأول على تقدير أن يراد بجانب البر طرفه مما يلي البحر وهو الساحل، وهذا على احتمال أن يراد به ما يشتمل جميع جوانبه. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «نخسف» بنون العظمة وكذا في الأربعة التي بعده.
أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ من فوقكم حاصِباً أخرج ابن المنذر عن ابن عباس أنه قال: هو مطر الحجارة، أي

صفحة رقم 110

مطرا يحصبكم أي يرميكم بالحصباء وهو صغار الحجارة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة أنه فسر الحاصب بالحجارة نفسها ولعله حينئذ صيغة نسبة أي ذا حصب ويراد منه الرمي، وقال الفراء: الحاصب الريح التي ترمي بالحصباء، وقال الزجاج: هو التراب الذي فيه الحصباء والصيغة عليه صيغة نسبة أيضا، وجاء بمعنى ما تناثر من دقاق الثلج والبرد، ومنه قول الفرزدق:

مستقبلين شمال الشام تضربهم بحاصب كنديف القطن منثور
وبمعنى السحاب الذي يرمي بهما، واختار الزمخشري ومن تبعه تفسير الفراء والظاهر أن الكلام عليه على حقيقته فالمعنى أو إن لم يصبكم بالهلاك من تحتكم بالخسف أصابكم به من فوقكم بريح يرسلها عليكم فيها الحصباء يرجمكم بها فيكون أشد عليكم من الغرق في البحر، ويقال نحو هذا على سائر تفاسير الحاصب، وقال الخفاجي في وصف الريح بالرمي بالحصباء: إنه عبارة عن شدتها، وذكرها إشارة إلى أنهم خافوا إهلاك الريح في البحر فقيل إن شاء أهلككم بالريح في البر أيضا، ولا أدري ما المانع من إرادة الظاهر والشدة تلزم الرمي المذكور عادة والإشارة هي الإشارة ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا تكلون إليه أموركم فيحفظكم من ذلك أو يصرفه عنكم غيره جل وعلا فإنه لأراد لأمره الغالب جل جلاله أَمْ أَمِنْتُمْ أي بل أأمنتم أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ أي في البحر الذي نجاكم منه فأعرضتم بركوب الفلك لا في الفلك لأنها مؤنثة وأوثرت كلمة في على كلمة إلى المنبئة عن مجرد الانتهاء للدلالة على استقرارهم فيه تارَةً أُخْرى أي مرة غير المرة الأولى، وهو منصوب على الظرفية ويجمع على تارات وتير كما في قوله: يقوم تارات ويمشي تيرا وربما حذفوا منه الهاء كقوله:
بالويل تارا والثبور تارا وإسناد الإعادة إليه تعالى مع أن العود باختيارهم ومما ينسب إليهم وإن كان مخلوقا له سبحانه كسائر أفعالهم باعتبار خلق الدواعي فيهم الملجئة إلى ذلك، وفيه إيماء إلى كمال شدة هول ما لا قوة في التارة الأولى بحيث لولا الإعادة ما عادوا فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ وأنتم في البحر قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ وهي الريح الشديدة التي تقصف ما تمر به من الشجر ونحوه أو التي لها قصيف وهو الصوت الشديد كأنها تتقصف أي تتكسر..
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: القاصف من الريح الريح التي تغرق، وقيل: الريح المهلكة في البر حاصب والريح المهلكة في البحر قاصف والعاصف كالقاصف كما روي عن عبد الله بن عمرو، وفي رواية عن ابن عباس تفسير القاصف بالعاصف، وقرأ أبو جعفر «من الرياح» بالجمع فَيُغْرِقَكُمْ الله سبحانه بواسطة ما ينال فلككم من القاصف، وقرأ أبو جعفر «فتغرقكم» بالتاء ثالثة الحروف على أن الفعل مسند إلى الريح، والحسن، وأبو رجاء «فيغرّقكم» بالياء آخر الحروف وفتح الغين وشد الراء، وفي رواية عن أبي جعفر كذلك إلا أنه بالتاء لا الياء، وقرأ حميد بالنون وإسكان الغين وإدغام القاف في الكاف ورويت عن أبي عمرو وابن محيصن بِما كَفَرْتُمْ أي بسبب كفركم السابق وهو إعراضهم عند الإنجاء في المرة الأولى، وقيل: بسبب كفركم الذي هو دأبكم دائما ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً أي نصيرا كما روي عن ابن عباس أو ثائرا يطلبنا بما فعلنا انتصارا منا أو دركا للنار من جهتنا فهو كقوله تعالى: فَسَوَّاها وَلا يَخافُ عُقْباها [الشمس: ١٤، ١٥] كما روي عن مجاهد، وضمير بِهِ قيل للإرسال، وقيل: للإغراق، وقيل: لهما باعتبار ما وقع ونحوه كما أشير إليه وكأنه سبحانه لما جعل الغرق بين الإعادة إلى البحر انتقاما في مقابلة الكفر عقبه تعالى بنفي وجدان التبييع فكأنه قيل ننتقم من غير أن يقوم لنصركم فهو وعيد على وعيد وجعل ما قبل من شق العذاب كمس الضر في البحر عقبه بنفي وجدان الوكيل فكأنه قيل

صفحة رقم 111

لا تجدون من تتكلون عليه في دفعه غيره تعالى لقوله سبحانه: ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ وهذا اختيار صاحب الكشف فلا تغفل وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ أي جعلناهم قاطبة برهم وفاجرهم ذوي كرم أي شرف ومحاسن جمة لا يحيط بها نطاق الحصر، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كرمهم سبحانه بالعقل، وفي رواية بتناولهم الطعام بأيديهم لا بأفواههم كسائر الحيوانات.
وعن الضحاك بالنطق، وعن عطاء بتعديل القامة وامتدادها، وعن زيد بن أسلم بالمطاعم واللذات، وعن يمان بحسن الصورة، وعن ابن جرير بالتسلط على غيرهم من الخلق وتسخيره لهم، وعن محمد بن كعب بجعل محمد صلّى الله عليه وسلّم منهم.
وقيل: بخلق الله تعالى أباهم آدم بيديه، وقيل: بتدبير المعاش والمعاد، وقيل: بالخط، وقيل: باللحية للرجل والذؤابة للمرأة، وقيل وقيل والكل في الحقيقة على سبيل التمثيل ومن ادعى الحصر في واحد كابن عطية حيث قال:
إنما التكريم بالعقل لا غير فقد ادعى غلطا ورام شططا وخالف صريح العقل وصحيح النقل ولذا استدل الإمام الشافعي بالآية على عدم نجاسة الآدمي بالموت وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ على أكباد رطبة وأعواد يابسة من الدواب والسفن فهو من حملته على كذا إذا أعطيته ما يركبه ويحمله فالمحمول عليه مقدر بقرينة المقام.
وقيل: المراد من حملهم في البر والبحر جعلهم قارين فيهما بأن لم يخسف بهم الأرض ولم يغرقهم بالماء، والأول انسب بالتكريم إذ لا يثبت لشيء من الحيوانات سواهم بخلاف الثاني وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي فنون النعم وضروب المستلذات مما يحصل بصنعهم وبغير صنعهم من المأكولات والملبوسات والمفروشات والمقتنيات وغير ذلك وَفَضَّلْناهُمْ قيل: أي بالتكريم المذكور عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا عظيما، والمراد أن ذلك مخصوص بهم بالنسبة إلى الكثير فلم يكرم الكثير كما كرموا، وبحث الإمام في هذا المقام بأنه تعالى قال أولا:
وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وقال سبحانه هنا وَفَضَّلْناهُمْ فلا بد من فرق بين التكريم والتفضيل لئلا يلزم التكرار.
والأقرب في ذلك أن يقال: إنه تعالى فضل الإنسان على سائر الحيوانات بأمور خلقية طبيعية ذاتية مثل العقل والنطق والخط والصورة الحسنة والقامة المديدة ثم إنه عز وجل عرضه بواسطة العقل والفهم لاكتساب العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة فالأول هو التكريم والثاني هو التفضيل فكأنه قيل فضلناهم بالتعريض لاكتساب ما فيه النجاة والزلفى بواسطة ما كرمناهم به من مبادئ ذلك فعليهم أن يشكروا ويصرفوا ما خلق لهم لما خلق له فيوحدوا الله تعالى ولا يشركوا به شيئا ويرفضوا ما هم عليه من عبادة غيره عز وجل، ويقال نحو هذا عى ما سبق أيضا بقليل تغيير، وقال الطيبي: قد كرر في الآية ما ينبىء عن غاية المدح من ذكر الكرامة والتفضيل وتسخير الأشياء على سبيل الترقي كأنه قيل: ولقد كرمنا بني آدم بكرامة أبيهم عليه السلام ثم سخرنا لهم الأشياء ورزقناهم من الطيبات ثم فضلناهم تفضيلا أي تفضيل ولذا عقب بها قوله سبحانه: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا إلخ وهو لبيان كرامة أبيهم وما توسط بينهما من الآيات كالاستطراد والاعتراض إلى آخر ما قال، ويعلم منه دفع التكرار وإن لم يسقه لذلك الغرض، وفيه تخصيص التكريم، وكذا فيما قيل إن التكريم بالنعم التي يصح بها التكليف والتفضيل بالتكليف الذي عرضهم به للمنازلة الرفيعة، والمراد بالكثير من عدا الملائكة عليهم السلام عند الكثير ومنهم الزمخشري وزعم أن الآية صريحة في تفضيل الملك على البشر وشنع على أهل السنة تشنيعا أقذع فيه.
والحق أنها لا تصلح للاحتجاج على التفضيل المتنازع فيه، ففي الكشف أن الظاهر من سياق الآية أنه حث للإنسان على الشكر وعلى أن لا يشرك به تعالى حيث ذكر ما في البر والبحر من حسن كلاءته سبحانه له وضمن فيه

صفحة رقم 112

أنه جلا وعلا هداهم إلى الفلك وصنعته وما يترتب عليه من الفوائد في قوله سبحانه: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ الآيات فقال عز وجل وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ أي هذا النوع من بين سائر الأنواع باصطناعات خصصناهم بها فذكر تعالى منها حملهم في البر والبحر ورزقهم من الطيبات وتفضيلهم على كثير من المخلوقات وهذا التفضيل لا يراد منه عظم الدرجة وزيادة القربة عند الله تعالى وهو المتنازع فيه لأن الحكم للنوع من حيث هو وذكر الله تعالى لذلك موجبات تعم الصالح والطالح فسواء دخل في هذا الكثير الملائكة أو لم يدخل لم يدل على الأفضلية بالمعنى المذكور فلا يصلح لاحتجاج إحدى الطائفتين اه.
ثم إن على فرض أن التفضيل بالمعنى المتنازع فيه لا تدل الآية على أن الملك أفضل من البشر إلا بطريق المفهوم وفي حجيته خلاف، وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه لا يقول به على أنه يدل على أنهم فضلوا على الكثير ولم يفضلوا على مقابله وهو يحتمل المساواة وتفضيل المقابل فليس نصا في مذهب الزمخشري.
وجعل الطيبي من بيانية كما في قولك بذلت له العريض من جاهي أي فضلناهم على الكثيرين الذين خلقناهم من ذوي العقول كما هو الظاهر من (من) وهم منحصرون في الملك والجن والبشر فحيث خرج البشر لأن الشيء لا يفضل على نفسه بقي الملك والجن فيكون المراد بيان تفضيل البشر عليهم جميعا وهو الذي يقتضيه مقام المدح فإن الآية مسوقة له وإذا جعلت للتبعيض كان مِمَّنْ خَلَقْنا بدلا أي فضلناهم على بعض المخلوقين.
وذكر البعض في هذا المقام يدل على تعظيم المفضل عليه كما قرر في قوله تعالى وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ [البقرة: ٢٥٣] وأي مدح لبني آدم وإثبات للفضل والكرامة بالجملة القسمية إذا جعلوا مفضلين على الجن والشياطين على أن صفة الكثرة إذا جعلت مخصصة لإخراج البعض كانت الملائكة أولى من الجن والشياطين لأنهم هم الموصوفون بالكثرة كما تدل عليه الأخبار الكثيرة كخبر أطيط السماء وخبر نزول قطرات المطر وخبر ما يدخل البيت المعمور في كل يوم من الملائكة إلى غير ذلك، وإليه ينظر قول صاحب التقريب إنه يحتمل أن يراد بكثير ممن خلقنا الملائكة إذ هم كثير من العقلاء المخلوقين اه.
وتعقب بأن ما ذكره من حمل من خَلَقْنا على تعميم ذوي العقول مقبول فإن تفضيلهم على غير ذوي العقول حينئذ آت من طريق مفهوم الموافقة فلا حاجة إلى ارتكاب خلاف الظاهر واعتبار تغليبهم ليعمهم وغيرهم لكن حمل من على البيان غير مقبول فإنه بعيد جدا لأن قيد الكثرة يضيع عليه حمل من على التعميم التغليبي أو الوضعي ولأن استعماله في التبعيض شائع أينما وقع في التنزيل واستعمالات الفصحاء وهو أكثر تعسفا من حمله على الغاية في قوله تعالى (١) فامسحوا برؤوسكم وأرجلكم منه على ما ذكره الزمخشري فيه وأنه إذا قوبل بشيء آخر دل على القلة في المقابل كما في قوله تعالى فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ [الحديد: ٢٦] فإنه صرح بأنه يدل على أن الغلبة للفساق للمقابلة أما ورد ابتداء (٢) فربما كان الأكثر خلاف ذلك كما في قوله تعالى: فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ [النمل: ١٥] فقوله إن صفة الكثرة إذا جعلت مخصصة إلخ كلام لم يصدر عن ثبت، ولهذه النكتة قال صاحب التقريب: يحتمل دلالة على أنه مرجوح.
هذا ثم إن مسألة التفضيل مختلف فيها بين أهل السنة، فمنهم من ذهب إلى تفضيل الملائكة وهو مذهب ابن

(١) قوله فامسحوا برؤوسكم وأرجلكم منه كذا في نسخة المؤلف والتلاوة فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه.
(٢) قوله وأما ورد ابتداء كذا في نسخة المؤلف ولعله وأما إذا ورد إلخ فتأمل.

صفحة رقم 113

عباس رضي الله تعالى عنهما واختيار الزجاج على ما رواه الواحدي في البسيط، ومنهم من فصل فقال: إن الرسل من البشر أفضل مطلقا ثم الرسل من الملائكة على من سواهم من البشر والملائكة ثم عموم الملائكة على عموم البشر وهذا ما عليه أصحاب الإمام أبي حنيفة عليه الرحمة وكثير من الشافعية والأشعرية، ومنهم من عمم تفضيل الكمل من نوع الإنسان نبيا كان أو وليا، ومنهم من فضل الكروبيين من الملائكة مطلقا ثم الرسل من البشر ثم الكمل منهم ثم عموم الملائكة على عموم البشر.
وهذا ما عليه الإمام الرازي وبه يشعر كلام الغزالي في مواضع عديدة في كتبه، ومن هذا يعلم أن إطلاق القول بأن أهل السنة يفضلون البشر على الملك ليس على ما ينبغي، وهذه المسألة ومسألة تفضيل الأئمة ليستا مما يبدع الذاهب إلى أحد طرفيهما على ما في الكشف إذ لا يرجع إلى أصل في الاعتقاد ولا يستند إلى قطعي بعد أن يسلم من الطعن وما يخل بتعظيم في المسألتين لكن المشهور في مسألة تفضيل الأئمة أن القول بخلاف ما استقر عليه رأي أهل السنة ابتداع ومن أنصف قال بما في الكشف فهذر الزمخشري على من خالفه محض جهالة إذا لم يكن بتلك الغاية فكيف وهو قد بلغ فيه من السفاهة غايتها ومن البذاذة نهايتها وسيرى جزاء ذلك.
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ شروع في بيان تفاوت أحوال بني آدم في الآخرة بعد بيان حالهم في الدنيا، ويَوْمَ مفعول به لفعل محذوف أي اذكر يوم ندعو إلخ.
وجوز ابن عطية وغيره أن يكون ظرفا لفعل يدل عليه لا يُظْلَمُونَ ولم يجعل ظرفا له بناء على أن الفاء لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ولو ظرفا، وجوز أيضا أن يكون مبتدأ وهو مبني لإضافته إلى غير متمكن والخبر جملة فَمَنْ أُوتِيَ إلخ ويقدر للربط فيها فيه وفيه أن المنقسم إلى متمكن وغير متمكن هو الاسم لا الفعل وما في حيزه هنا فعل مضارع على أن بناء أسماء الظروف المضافة إلى جملة هو أحد ركنيها بناء على مذهب الكوفيين والبصريين لا يجوزون ذلك ومع هذا هو تخريج متكلف.
وجوز أيضا كونه ظرفا لفضلناهم قال: وتفضيل البشر على سائر الحيوانات يوم القيامة بيّن وبه قال بعض النحاة إلا أنه قال: فضلناهم بالثواب، وفيه أنه أي تفضيل للبشر ذلك اليوم والكفار منهم أخس من كل شيء إلا أن يقال:
يكفي في تفضيل الجنس تفضيل بعض أفراده ألا ترى صحة الرجال أفضل من النساء مع أن من النساء من هي أفضل من بعض الرجال بمراتب، وأيضا إذا أريد التفضيل بالثواب لا يصح إخراج الملائكة لأن جنس البشر يثابون والملائكة عليهم السلام لا يثابون كما هو مقرر في محله، ثم إنهم يشاركهم في الثواب الجن لأن مؤمنيهم يثابون كما يثاب البشر عند بعض، وقيل إن ثوابهم دون ثوابهم لأنهم لا يرون الله تعالى في الجنة عند من قال: إن الله تعالى يرى فيها فالبشر مفضلون عليهم في الثواب من هذه الجهة، وقيل ظرف يَقْرَؤُنَ أو ما دل عليه، وفيه أنهم لا يقرؤون كتابهم وقت الدعوة. وأجيب بأن المراد بيوم يدعون وقت طويل وهو اليوم الآخر الذي يكون فيه ما يكون ويبقى في جعله ظرفا للمذكور حديث الفاء.
وقال الفراء: هو ظرف لنعيدكم محذوفا، وقيل ظرف ليستجيبون، وقيل هو بدل من يَوْمَ يَدْعُوكُمْ وقيل العامل فيه ما دل عليه قوله سبحانه مَتى هُوَ [الإسراء: ٥١] وهي أقوال في غاية الضعف، وأقرب الأقوال وأقواها ما ذكرناه أولا.
والإمام المقتدى به والمتبع عاقلا كان أو غيره، والجار والمجرور متعلق بندعو أي ندعو كل أناس من بني آدم

صفحة رقم 114

الذين فعلنا بهم في الدنيا ما فعلنا من التكريم وما عطف عليه بمن ائتموا به من نبي أو مقدم في الدين أو كتاب أو دين فيقال: يا أتباع فلان يا أهل دين كذا أو كتاب كذا.
وأخرج ابن مردويه عن علي كرّم الله تعالى وجهه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الآية: يدعى كل قوم بإمام زمانهم كتاب ربهم وسنة نبيهم
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر. وغيرهما عن ابن عباس أنه قال: إمام هدى وإمام ضلالة.
وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: بإمامهم بكتاب أعمالهم فيقال: يا أصحاب كتاب الخير يا أصحاب كتاب الشر وروي ذلك عنه أبي العالية والربيع، والحسن
، وقرىء «بكتابهم» ولعل وجه كون ذلك إمامهم أنهم متبعون لما يحكم به من جنة أو نار، وقال الضحاك وابن زيد: هو كتابهم الذي نزل عليهم.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والخطيب في تاريخه عن أنس أنه قال: هو نبيهم الذي بعث إليهم.
واختار ابن عطية كغيره عموم الإمام لما ذكر في الآثار، وقيل: المراد القوى الحاملة لهم على عقائدهم وأفعالهم كالقوة النظرية والعملية والقوة الغضبية والشهوية سواء كانت الشهوة شهوة النقود أو الضياع أو الجاه والرياسة ولاتباعهم لها دعيت إماما، وهو مع كونه غير مأثور بعيد جدا فلا يقتدى بقائله وإن كان إماما.
وفي الكشاف أن من بدع التفاسير أن الإمام جمع أم كخف وخفاف وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم وأن الحكمة في الدعاء بهن دون الآباء رعاية حق عيسى عليه السلام وشرف الحسن والحسين ولا يفضح أولاد الزنا، وليت شعري أيهما أبدع أصحة تفسيره أم بهاء حكمته انتهى، وهو مروي عن محمد بن كعب.
ووجه عدم قبوله على ما في الكشف، أما أولا فلأن إمام جمع أم غير شائع وإنما المعروف الأمهات.
وأما ثانيا فلأن رعاية حق عيسى عليه السلام في امتيازه بالدعاء بالأم فإن خلقه من غير أب كرامة له لا غض منه ليجبر بأن الناس أسوته في انتسابهم إلى الأمهات، وإظهار شرف الحسنين بدون ذلك أتم فإن أباهما خير من أمهما مع أن أهل البيت كحلقة مفرغة، وأما افتضاح أولاد الزنا فلا فضيحة إلا للامهات وهي حاصلة دعي غيرهم بالأمهات أو بالآباء ولا ذنب لهم في ذلك حتى يترتب عليه الافتضاح انتهى، وما ذكر من عدم شيوع الجمع المذكور بين، وأما الطعن في الحكمة فقد تعقب فإن حاصلها إنه لو دعي جميع الناس بآبائهم ودعي عيسى عليه السلام بأمه لربما أشعر بنقص فروعي تعظيمه عليه السلام ودعي الجميع بالأمهات وكذا روعي تعظيم الحسنين رضي الله تعالى عنهما لما أن في ذلك بيان نسبهما من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولو نسبا إلى أبيهما كرّم الله تعالى وجهه لم يفهم هذا وإن كان هو هو رضي الله تعالى عنه، وفي ذلك أيضا ستر على الخلق حتى لا يفتضح أولاد الزنا فإنه لو دعي الناس بآبائهم ودعوا هم بأمهاتهم علم أنهم لا نسبة لهم إلى آباء يدعون بهم وفيه تشهير لهم ولو دعوا بآباء لم يعرفوا بهم في الدنيا وإن لم ينسبوا إليهم شرعا كان كذلك، وعلى هذا يسقط ما في الكشف، وعندي أن القائل بذلك لا يكاد يقول به من غير أن يتمسك بخبر لأنه خلاف ما ينساق إلى الأذهان على اختلاف مراتبها ولا تكاد تسلم حكمته عن وهن ولا يصلح العطار ما أفسد الدهر.
ولعل الخبر إن كان ليس بالصحيح ويعارضه ما قدمناه غير بعيد من
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم»
والله تعالى أعلم، وما ذكر من تعلق الجار بما عنده هو الظاهر الذي ذهب إليه الجمهور، وجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا أي مصحوبين بإمامهم، ثم إن الداعي إما الله عز وجل وإما الملك وهو الذي تشعر به الآثار فإسناد الفعل إليه تعالى مجاز.

صفحة رقم 115

وقرأ مجاهد «يدعو» بالياء آخر الحروف أي يدعو الله تعالى أو الملك، والحسن في رواية «يدعى» بالبناء للمفعول ورفع كُلَّ على النيابة عن الفاعل، وفي رواية أخرى «يدعوا» بضم الياء وفتح العين بعدها واو ورفع كُلَّ وخرجت على وجهين فإن الظاهر يدعون بإثبات النون التي هي علامة الرفع الأول إن الواو ليست ضمير جمع ولا علامته وإنما هي حرف من نفس الكلمة وكانت ألفا والأصل يدعى كما في القراءة الأخرى وقلبت الألف واوا على لغة من يقول في أفعى وهي الحية أفعو، وهذه اللغة مخصوصة بالوقف على المشهور فيكون قد أجري هنا الوصل مجرى الوقف. ونقل عن سيبويه أن قلب الألف في الآخر واوا لغة مطلقا، والثاني أن الواو ضمير أو علامة كما في يتعاقبون فيكم ملائكة والنون محذوفة كما في
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تؤمنوا حتى تحابوا وكما تكونوا يولّى عليكم»
في قول، وكذا في قول الشاعر:

أبيت أسرى وتبيتي تدلكي وجهك بالعنبر والمسك الذكي
وكأنها لكونها علامة إعراب عوملت معاملة حركته في إظهارها تارة وتقديرها أخرى، ولا فرق في كونها علامة إعراب بين أن تكون الواو ضميرا وأن تكون علامة جمع على الصحيح، والظاهر أن حذفها في مثل ما ذكر شاذ لا ضرورة وإلا فلا يصح هذا التخريج في الآية، وفي توجيه رفع كُلَّ على هذه القراءة الأقوال في توجيه الرفع في أمثاله وهي مشهورة في كتب النحو فَمَنْ أُوتِيَ يومئذ من أولئك المدعوين كِتابَهُ صحيفة أعمالهم والله سبحانه أعلم بحقيقتها بِيَمِينِهِ إبانة لخطر الكتاب المؤتى وتشريفا لصاحبه وتبشيرا له من أول الأمر بما في مطاويه فَأُولئِكَ إشارة إلى من باعتبار معناه وكأنه أشير بذلك إلى أنهم حزب مجتمعون على شأن جليل، وقيل فيه إشعار بأن قراءتهم لكتبهم على وجه الاجتماع لا على وجه الانفراد كما في حال الإيتاء، وأكثر الأخبار ظاهرة في أن حال القراءة كحال الإيتاء، نعم جاء من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنه يؤتى العبد كتابه بيمينه فيقرأ سيئاته ويقرأ الناس حسناته ثم يحول الصحيفة فيعول الله تعالى حسناته فيقرؤها الناس فيقولون ما كان لهذا العبد من سيئة.
ويحتمل أن يكون كل من يؤتى كتابه بيمينه بعد أن يقرأه منفردا يأتي أصحابه ويقول هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ [الحاقة: ١٩] فيجتمعون عليه ويقرؤونه ويقرؤه هو أيضا معهم تلذذا به لكن لم نجد في ذلك أثرا ومع هذا لا يجدي نفعا فيما أراد القائل، وفي إلحاق اسم الإشارة علامة البعد إشارة إلى رفعة درجات المشار إليهم أي أولئك المختصون بتلك الكرامة التي يشعر بها إيتاء الكتاب باليمين يَقْرَؤُنَ ولو لم يكونوا قارئين في الدنيا كِتابَهُمْ الذي أوتوه باليمين ليذكروا أعمالهم ويقفوا على تفاصيلها فيحاسبوا عليها. وقيل يقرؤونه تبجحا بما سطر فيه من الحسنات المستتبعة لفنون الكرامات، والإظهار في مقام الإضمار لمزيد الاعتناء وَلا يُظْلَمُونَ أي لا ينقصون من أجور أعمالهم المرتسمة في كتبهم بل يؤتونها مضاعفة فَتِيلًا أي قدر فتيل وهو القشر الذي في شق النواة سمي بذلك لأنه على هيئة الشيء المفتول، وقيل هو ما تفتله بين أصابعك من خيط أو وسخ ويضرب به المثل في الشيء الحقير، ثم إن الذي يسرع إلى الذهن أن فاعل الإيتاء الملائكة عليهم السلام يعطون السعيد بعد أن يدعى كتابه بيمينه فيقرؤه فيحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا.
لكن
أخرج العقيلي عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الكتب كلها تحت العرش فإذا كان يوم القيامة يبعث الله تعالى ريحا فتطيرها إلى الأيمان والشمائل وأول خط فيها اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً
[الإسراء:
١٤] وهو ظاهر في أن فاعل الإيتاء ليس الملك إلا أن الخبر يحتاج إلى تنقير فإني لست من صحته على يقين.
نعم
جاء في حديث أخرجه الإمام أحمد عن عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: «قلت يا رسول الله

صفحة رقم 116

هل يذكر الحبيب حبيبه يوم القيامة؟ قال: أما عند ثلاث فلا إلى أن قال وعند تطاير الكتب»
وهو مؤيد بظاهره الخبر السابق والله تعالى أعلم.
وجاء في بعض الآثار أن أول من يؤتى كتابه بيمينه من هذه الأمة أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد وأول من يؤتى كتابه بشماله أخوه الأسود سود الله تعالى وجهه بعد أن يمد يمينه ليأخذه بها فيخلعها ملك
، وسبب ذلك مذكور في السير وَمَنْ كانَ من المدعوين المذكورين فِي هذِهِ الدنيا التي فعل بهم فيها من التكريم والتفضيل ما فعل أَعْمى لا يهتدي إلى طريق نجاته من النظر إلى ما أولاه مولاه جل علاوه والقيام بحقوقه وشكره سبحانه بما ينبغي له عز شأنه من الإيمان والعمل فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ التي عبر عنها- بيوم ندعو أَعْمى لا يهتدي أيضا إلى ما ينجيه ولا يظفر بما يجديه لأن العمى الأول موجب للثاني وهو في الموضعين مستعار من آفة البصر.
وجوز أن يكون أَعْمى الثاني أفعل تفضيل من عمى البصيرة وهو من العيوب الباطنة التي يجوز أن يصاغ منها أفعل التفضيل كالأحمق والأبله، وبنى على ذلك إمالة أبي عمرو الأول وتفخيمه الثاني وبيان أن الألف في الأول آخر الكلمة كما ترى وتحسن الإمالة في الأواخر وهي في الثاني على تقديره كونه أفعل تفضيل كأنها في وسط الكلمة لأن أفعل المذكور غير معرف باللام ولا مضاف لا يستعمل بدون من الجارة للمفضل عليه ملفوظة أو مقدرة وهو معها في حكم الكلمة الواحدة ولا تحسن الإمالة فيها ولا تكثر كما في المتطرفة.
وقد صرح بذلك أبو علي في الحجة فلا يرد إمالة «أدنى من ذلك» و «الكافرين» وأن حمزة والكسائي وأبا بكر يميلون الأعمى في الموضعين ولا حاجة إلى أن يقال: إنهم لا يرونه أفعل تفضيل أو أن الإمالة فيما يرونه كذلك للمشاكلة. وقال بعض المحققين: إنه لما أريد افتراق معنى الأعمى في الموضعين افترق اللفظان إمالة وتفخيما، وفخم الثاني لأن ما يدل على زيادة المعنى أولى بالتفخيم مع عدم حسن الإمالة فيه حسنها في الأول، ولا يظن بأبي عليّ أنه يقول بامتناع الإمالة وإنما يقول بأولوية التفخيم.
وقال بعضهم: إن كان العمى فيما يكون للبصر وما يكون للبصيرة حقيقة فلا إشكال، وإن كان حقيقة في الأول وتجوز به عن الثاني ففيه إشكال إلا أن يقال: إنه ألحق بما وضع لذلك وقد منعه آخرون لأن العلة وهي الإلباس بالوصف موجودة فيه فتدبر، وقوى هذا التأويل بعطف قوله تعالى: وَأَضَلُّ سَبِيلًا منه في الدنيا لزوال الاستعداد وعدم إمكان تدارك ما فات، وهذا بعينه هو الذي أوتي كتابه بشماله بدلالة حال ما سبق من الفريق المقابل له، ولعل العدول إلى هذا العنوان للإيذان بالعلة الموجبة كما في قوله تعالى: وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ [الواقعة: ٩٢] بعد قوله سبحانه:
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ [الواقعة: ٩٠] وللرمز إلى علة حال الفريق الأول وفي ذلك ما هو من قبيل الاحتباك حيث ذكر في أحد الجانبين المسبب وفي الآخر السبب ودل بالمذكور في كل منهما على المتروك في الآخر تعويلا على شهادة العقل، وجعله ابن المنير مقابلا للقسم الأول على معنى فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فهو الذي يتبصره ويقرؤه ومن كان في الدنيا أعمى غير متبصر في نفسه ولا ناظر في معاده فهو في الآخرة كذلك غير متبصر في كتابه بل أعمى عنه أو أشد عمى مما كان في الدنيا على اختلاف التأويلين وهو خلاف الظاهر.
ويشعر أيضا بأن من كان في الدنيا أعمى عن السلوك في طريق نجاته لا يقرأ في الآخرة كتابه وهو خلاف المصرح به في الآيات والأحاديث، نعم فرق بين القراءتين ولعل الآية تشعر بالفرق وإن لم تقرر المقابلة بما ذكر هذا وعن أبي مسلم تفسير أَعْمى الثاني بأعمى العين ولا تجوز أي من كان في الدنيا أعمى القلب فهو في الآخرة أعمى العين أي يحشر كذلك عقوبة له على ضلالته في الدنيا وهو كقوله تعالى: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى [طه:

صفحة رقم 117

١٢٤] الآية، وتأول فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق: ٢٢] بالعلم والمعرفة، وعنه أيضا تجويز أن يكون العمى عبارة عما يلحقه من الغم المفرط كأنه قيل من كان في الدنيا ضالا فهو في الآخرة مغموم جدا فإن من لا يرى إلا ما يسوءه والأعمى سواء، وهذا كما يقال: فلان سخين العين وهو كما ترى.
وقيل إن هذه إشارة إلى النعم المذكورة قبل على معنى من كان أعمى غير متبصر في هذه النعم وقد عاينها فهو في شأن الآخرة التي لم يعاينها أعمى وأضل سبيلا، واستند في ذلك إلى ما أخرجه الفريابي. وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عباس فسأله رجل منهم أرأيت قوله تعالى: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى فقال ابن عباس: لم تصل المسألة اقرأ ما قبلها رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ [الإسراء:
٦٦] حتى بلغ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا ثم قال: من كان أعمى عن هذه النعم التي قد رأى وعاين فهو في أمر الآخرة التي لم ير ولم يعاين أعمى وأضل سبيلا.
وفي رواية أخرى أخرجها عنه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة من طريق الضحاك أنه قال في الآية: يقول تعالى من كان في الدنيا أعمى عما رأى من قدرتي من خلق السماء والأرض والجبال والبحار والناس والدواب وأشباه هذا فهو عما وصفت له في الآخرة أعمى وأضل سبيلا يقول سبحانه أبعد حجة.
وروى أبو الشيخ عن قتادة نحوه، ولا يخفى أن كلا التأويلين بعيد جدا وإن كان الثاني دون الأول في البعد ولا أظن الحبر يقول ذلك والله تعالى أعلم.
«ومن باب الإشارة في الآيات» قَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ قالت الوجودية من الصوفية: إنه تعالى سبق قضاؤه أن لا يعبد سواه فكل عابد إنما يعبد الله سبحانه من حيث يدري ومن حيث لا يدري فإنه جل شأنه الأول والآخر والظاهر والباطن والأعيان الثابتة ما شمت رائحة الوجود ولا تشمه أبدا، ومما ينسبونه إلى زين العابدين رضي الله تعالى عنه ويزعمون أنه مشير إلى مدعاهم قوله:

إني لأكتم من علمي جواهره كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا
وقد تقدم في هذا أبو حسن إلى الحسين وأوصى قبله الحسنا
فرب جوهر علم لو أبوح به لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسنا
قالوا: إنه رضي الله تعالى عنه عنى بهذا الجوهر الذي لو باح به لقيل له: أنت ممن يعبد الوثن علم الوحدة إذ منه يعلم أن الوثن وكذا غيره مظهر له جل وعلا وليس في الدار غيره ديار، وقد مر عن قرب ما نقل عن الحلاج ومثله كثير للشيخ الأكبر قدس سره ولغيره عربا وعجما وهو عفا الله تعالى عنه قد فتح بابا في هذا المطلب لا يسد إلى أن يأتي أمر الله عز وجل وكأنه أوصى إليه بأن يبوح وينثر هاتيك الجواهر بين الأصاغر والأكابر كما أوصى إلى الحسنين بأن يكتما من ذلك ما علما، وفي بعض كتبه قدس سره ما هو صريح في أنه مأمور فإن صح ذلك فهو معذور، وأنا لا أرى عذرا لمن يقفو أثره في المقال مع مباينته له في الحال فإن هذا المطلب أجل من أن يحصل لغريق الشهوات وأسير المألوفات ورهين العادات ولله تعالى در من قال:
تقول نساء الحي تطمع أن ترى محاسن ليلى مت بداء المطامع
وكيف ترى ليلى بعين ترى بها سواها وما طهرتها بالمدامع

صفحة رقم 118

ولا يخفى أنه على تأويل الصوفية هذه الآية لا يكون قوله تعالى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً داخلا فيما قضى إذ لا يسمعهم أن يقولوا إن كل أحد محسن بوالديه من حيث يدري ومن حيث لا، ويفهم من كلام بعض المتصوفة أن هذا إيصاء بالإحسان إلى الشيخ أيضا، وعليه فيحتمل أن يكون تثنية الوالدين كما في قولهم: القلم أحد اللسانين وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ قيل: ذو القربى إشارة إلى الروح لأنها كانت قبل في القربة والمشاهدة ثم هبطت حيث هبطت، والمسكين إشارة إلى العقل لأنه عاجز عن تحصيل العلم بحقيقة ربه سبحانه، وابن السبيل إشارة إلى القلب لأنه يتقلب في سبل السلوك إلى ملك الملوك، وحق الروح المشاهدة، والعقل الفكر، والقلب الذكر، وقيل: الأول إشارة إلى إخوان المعرفة الذين وصلوا معالي المقامات وحقهم ذكر ما يزيد تمكينهم، والثاني إشارة إلى العاشقين الذين سكنهم عشق مولاهم عن طلب ما سواه وحقهم ذكر ما يزيد عشقهم، والثالث إشارة إلى السالكين سبل الطلب الممتطين نجائب الهمة وحقهم ذكر ما يزيد رغبتهم ويهون مشقتهم وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فيه إشارة للمشايخ كيف يكونون مع المريدين أي لا يبخل على المريد بنشر فضائل المعرفة وحقائق القربة ولا تذكر شيئا لا يتحمل فيهلك وكن بين بين وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ الذي أخذ منكم قبل خلق الأشباح وهو أن توحدوه تعالى ولا تشركوا به شيئا.
وقال يحيى بن معاذ: لربك عليك عهود ظاهرا وباطنا فعهد على الأسرار أن لا تشاهد سواه جل جلاله، وعهد على الروح أن لا تفارق مقام القربة، وعهد على القلب أن لا يفارق الخوف، وعهد على النفس أن لا تترك شيئا من الفرائض، وعهد على الجوارح أن تلازم الأدب وتترك المخالفات وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ قيل فيه إشارة للمشايخ أيضا أن لا ينقصوا المستعدين ما يقتضيه استعدادهم من الفيوضات القلبية، وفي قوله تعالى: وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ إشارة لهم أن يعرضوا أعمال المريدين القلبية والقالبية على الشريعة فهي القسطاس المستقيم وكفتاها الحظر والإباحة وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ الآية فيه إشارة إلى بعض ما يلزم السالك من التثبت والاحتياط والكف عن الدعاوى العاطلة تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ الآية وقد علمت ما عند الصوفية في تسبيح الأشياء من أنه قال إلا أنه لا يسمعه إلا من فاز بقرب النوافل أو من أشرق عليه شيء من أنواره كالذين سمعوا تسبيح الحصى في مجلس سيد الكاملين صلّى الله عليه وسلّم، والتسبيح الحالي مما لا ينكره أحد من المسلمين، وقرره بعض الصوفية بأن لكل شيء خاصية ليست لغيره وكما لا يخصه دون ما عداه فهو يشتاقه ويطلبه إذا لم يكن حاصلا له ويحفظه ويحبه إذا حصل فهو بإظهار خاصيته ينزه الله تعالى من الشريك وإلا لم يكن متوحدا فيها فلسان حاله يقول أوحده على ما وحدني وبطلب كماله ينزهه سبحانه عن صفات النقص كأنه يقول يا كامل كملني وبإظهار كماله كأنه يقول كملني الكامل المكمل وعلى هذا القياس، وحينئذ يقال: تسبحه السماوات بالكمال والتأثير والربوبية وبأنه كل يوم هو في شأن ونحو ذلك، والأرض بالخلاقية والرزاقية والرحمة إلى غير ذلك، والملائكة بالعلم والقدرة والتجرد عن المادة على القول بأنهم أرواح مجردة وهكذا وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً من الجهل وعمى القلب فلا يرون حقيقتك القدسية ولا يدركون منك إلا الصورة البشرية، وإنما خص ذلك بوقت قراءة القرآن مع أنهم في كل وقت هم أجهل الخلق به صلّى الله عليه وسلّم لأن في ذلك الوقت يظهر إشراق أنوار الصفات عليه الصلاة والسلام فإذا كانوا محجوبين إذ ذاك كانوا في غيره من الأوقات أحجب وأحجب وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً من الغشاوات الطبيعية والهيئات البدنية أَنْ يَفْقَهُوهُ فإن القرآن كلامه تعالى وهو أحد صفاته وإذا لم يعرفوا نبيه صلّى الله عليه وسلّم لم يعرفوه عز وجل وإذا لم يعرفوه سبحانه لم يعرفوا صفاته تعالى فلم يعرفوا كلامه سبحانه وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً لرسوخ

صفحة رقم 119

أوساخ التعلقات فيها يمنعهم عن سماع القراءة وهذا ناشىء من جهلهم بأفعاله تعالى وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً لتشتت أهوائها وتفرق همهم في عبادة آلهتهم المتنوعة فلا تناسب الوحدة بواطنهم يَوْمَ يَدْعُوكُمْ للقيام من القبور فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ حامدين له تعالى مجده بلسان القال أو بلسان الحال حيث أظهر فيكم الحياة بعد الموت ونحو ذلك.
وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ في القبور أو في الدنيا إِلَّا قَلِيلًا لذهولكم عن ذلك الزمان أو لاستقصاركم الدنيا بالنسبة إلى الآخرة رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ فيه إشارة إلى أن المشيئة تابعة للعلم فمن علم سبحانه أهليته للرحمة شاء تعالى رحمته فرحمه ومن علم جل وعلا أهليته للعذاب شاء عذابه فعذبه، ولا يخفى ما في تقديم شق مشيئته الرحمة من تقوية الأمل أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ أي يدعونهم الكفار ويعبدونهم يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ أي يطلب الأقرب منهم الوسيلة إلى الله تعالى فكيف بغير الأقرب والوسيلة في الأصل الواسطة التي يتوسل ويتقرب بها إلى الشيء وهي هنا الطاعة كما تقدم.
وقيل هي كرمه تعالى القديم وإحسانه عز وجل العميم، وقيل هي الشفاعة يوم القيامة، ولما كان مقام الوسيلة بهذا المعنى خاصا بنبينا صلّى الله عليه وسلّم أطلقوا الوسيلة عليه الصلاة والسلام، وفسرها بذلك هنا بعض الصوفية فكل من عبد من دون الله تعالى من عيسى وعزير والملائكة عليهم السلام وسيلتهم إلى الله تعالى نبينا صلّى الله عليه وسلّم بل هو عليه الصلاة والسلام وسيلة سائر الموجودات والواسطة بينهم وبين الله تعالى في إفاضته سبحانه الوجود وكذا سائر ما أفيض عليهم وأحظى الخلق بوساطته الأنبياء عليهم السلام فإنهم أشعة أنواره وعكوسات آثاره وهو النور الحق والنبي المطلق وكان نبيا وآدم بين الماء والطين وقد تلقى الأنبياء منه من وراء حجاب الأرحام والأصلاب وظهروا إذ كان محتجبا ظهور الكواكب في الليل فلما بزغت شمس النبوة المطلقة من أفق الظهور غابوا ونسخت أحكامهم على نحو غيبوبة الكواكب وانمحاق أنوارها وأضوائها عند طلوع الشمس من تحت الحجاب منخلعة عن الجلباب وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ لعلمهم بجماله وجلاله والرجاء والخوف جناحا من يطير إلى حضرة القدس وروضة الأنس ومن عطل أحدهما تعطل عن الطيران وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ إلى قوله سبحانه وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا فيه إشارة إلى اختلاف مراتب تمكن الشيطان من إغواء بني آدم فمن كان منهم ضعيف الاستعداد استفزه واستخفه بصوته فأغواه بوسوسة وهمس بل هاجسة ولمة، ومن كان قوي الاستعداد فإن كان خالصا عن شوائب الغيرية أو عن شوائب الصفات النفسانية لم يتمكن من إغوائه وهذا هو المراد بقوله تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وإن لم يكن خالصا فإن كان منغمسا في الشواغل الحسية منهمكا في الأمور الدنيوية شاركه في أمواله وأولاده وحرضه على إشراكهم بالله تعالى في المحبة وسول له التمتع والتكاثر والتفاخر بهم ومناه الأماني الكاذبة وزين له الآمال الفارغة، وإن لم ينغمس فإن كان عالما بتسويلاته أجلب عليه بخيله ورجله أي مكر بأنواع الحيل وكاده بصنوف الفتن وأفتاه بأن تحصيل أنواع الحطام والملاذ من جملة مصالح المعاش وغره بعلمه وحمله على الإعجاب به وأمثال ذلك حتى أضله على علم، وإن لم يكن عالما بل كان عابدا متنسكا أغواه بالوعد وغره برؤية الطاعة وتزكية النفس وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ الآية قيل كرمهم تعالى بأن خلق أباهم آدم على صورة الرحمن وجعل لهم ذلك بحكم الوراثة وأن الولد سر أبيه وفضلهم على الكثير بأن جعل لهم من النعم ما يستغرق العد وجوز أن يقال: تكريمهم بأن بسط موائد الأنعام لهم وجعل من عداهم طفيليا، وتفضيلهم بما ذكر في التكريم أولا وفيه احتمالات أخر يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ أي نناديهم بنسبتهم إلى من كانوا يقتدون به في الدنيا لأنه المستعلى محبتهم إياه على سائر محباتهم فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ

صفحة رقم 120
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية
وتطمع منها بالحديث وقد جرى حديث سواها في خروق المسامع