
الْمُعَيَّنَةِ مِنَ الْجَائِزَاتِ فَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ الِاخْتِصَاصُ إِلَّا بِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ قَادِرٍ حَكِيمٍ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَقَدْ ظَهَرَ أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ تِلْكَ التُّفَّاحَةِ دَلِيلٌ تَامٌّ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ وَكُلَّ صِفَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِذَلِكَ الْجُزْءِ الْوَاحِدِ فَهُوَ أَيْضًا دَلِيلٌ تَامٌّ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ تَعَالَى، ثُمَّ عَدَدُ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَأَحْوَالُ تِلْكَ الصِّفَاتِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ تَعَالَى: وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْكُفَّارَ وَإِنْ كَانُوا يُقِرُّونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ بِإِثْبَاتِ إِلَهِ الْعَالَمِ إِلَّا أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَتَفَكَّرُونَ فِي أَنْوَاعِ الدَّلَائِلِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ [يُوسُفَ: ١٠٥] فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ هَذَا الْمَعْنَى.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْقَوْمَ وَإِنْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَلْسِنَتِهِمْ بِإِثْبَاتِ إِلَهِ الْعَالَمِ إِلَّا أَنَّهُمْ مَا كَانُوا عَالِمِينَ بِكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُمُ اسْتَبْعَدُوا كَوْنَهُ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ فَكَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا فَهُمْ مَا كَانُوا عَالِمِينَ بِهَذَا الدَّلِيلِ فَلَمَّا ذُكِرَ هَذَا الدَّلِيلُ قَالَ: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ فتسبيح السموات وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ يَشْهَدُ بِصِحَّةِ هَذَا الدَّلِيلِ وَقُوَّتِهِ وَأَنْتُمْ لَا تَفْقَهُونَ هَذَا الدَّلِيلَ وَلَا تَعْرِفُونَهُ، بَلْ نَقُولُ: إِنَّ الْقَوْمَ كَانُوا غَافِلِينَ عَنْ أَكْثَرِ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ، وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ذَلِكَ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ قَوْلُهُ: إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً فذكر الحليم والغفور هاهنا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَوْنَهُمْ بِحَيْثُ لَا يَفْقَهُونَ ذَلِكَ التَّسْبِيحَ جُرْمٌ عَظِيمٌ صَدَرَ عَنْهُمْ وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ جُرْمًا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ تلك التَّسْبِيحِ كَوْنَهَا دَالَّةٌ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لِغَفْلَتِهِمْ وَجَهْلِهِمْ مَا عَرَفُوا وَجْهَ دَلَالَةِ تِلْكَ الدَّلَائِلِ. أَمَّا لَوْ حَمَلْنَا هَذَا التَّسْبِيحَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْجَمَادَاتِ تُسَبِّحُ اللَّهَ بِأَقْوَالِهَا وَأَلْفَاظِهَا لَمْ يَكُنْ عَدَمُ الْفِقْهِ لِتِلْكَ التَّسْبِيحَاتِ جُرْمًا وَلَا ذَنْبًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ جُرْمًا وَلَا ذَنْبًا لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ: إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً لَائِقًا بِهَذَا الْمَوْضِعِ، فَهَذَا وَجْهٌ قَوِيٌّ فِي نُصْرَةِ الْقَوْلِ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ هَذِهِ الْجَمَادَاتِ وَالْحَيَوَانَاتِ تُسَبِّحُ اللَّهَ بِأَلْفَاظِهَا أَضَافُوا إِلَى كُلِّ حَيَوَانٍ نَوْعًا آخَرَ مِنَ التَّسْبِيحِ وَقَالُوا: إِنَّهَا إِذَا ذُبِحَتْ لَمْ تُسَبِّحْ مَعَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ الْجَمَادَاتِ تُسَبِّحُ اللَّهَ، فَإِذَا كَانَ كَوْنُهُ جَمَادًا لَا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ مُسَبِّحًا، فَكَيْفَ صَارَ ذَبْحُ الْحَيَوَانِ مَانِعًا لَهُ مِنَ التَّسْبِيحِ، وَقَالُوا أَيْضًا: إِنَّ غُصْنَ الشَّجَرَةِ إِذَا كُسِرَ لَمْ يُسَبِّحْ، وَإِذَا كَانَ كَوْنُهُ جَمَادًا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ كَوْنِهِ مُسَبِّحًا فَكَسْرُهُ كَيْفَ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، فَعُلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ ضَعِيفَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ تصريح بإضافة التسبيح/ إلى السموات وَالْأَرْضِ وَإِلَى الْمُكَلَّفِينَ الْحَاصِلِينَ فِيهِنَّ وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ التَّسْبِيحَ الْمُضَافَ إِلَى الْجَمَادَاتِ لَيْسَ إِلَّا بِمَعْنَى الدَّلَالَةِ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِطْلَاقُ لَفْظِ التَّسْبِيحِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مَجَازٌ، وَأَمَّا التَّسْبِيحُ الصَّادِرُ عَنِ الْمُكَلَّفِينَ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، فَهَذَا حَقِيقَةٌ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: تُسَبِّحُ لَفْظًا وَاحِدًا قَدِ اسْتُعْمِلَ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مَعًا، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ عَلَى مَا ثَبَتَ دَلِيلُهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ هَذَا التَّسْبِيحُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَجَازِيِّ فِي حَقِّ الْجَمَادَاتِ لَا فِي حَقِّ الْعُقَلَاءِ لِئَلَّا يلزم ذلك المحذور والله أعلم.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤٥ الى ٤٨]
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَكَلَّمَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الْمَسَائِلِ الْإِلَهِيَّةِ تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِتَقْرِيرِ النُّبُوَّةِ.
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا يُؤْذُونَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى النَّاسِ.
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ كُلَّمَا قَرَأَ الْقُرْآنَ قَامَ عَنْ يَمِينِهِ رجلان/، عن يَسَارِهِ آخَرَانِ مَنْ وَلَدِ قُصَيٍّ يُصَفِّقُونَ وَيُصَفِّرُونَ وَيَخْلِطُونَ عَلَيْهِ بِالْأَشْعَارِ،
وَعَنْ أَسْمَاءَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ جَالِسًا وَمَعَهُ أَبُو بكر إذا أَقْبَلَتِ امْرَأَةُ أَبِي لَهَبٍ وَمَعَهَا فِهْرٌ تُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ تَقُولُ:
مُذَمَّمًا أَتَيْنَا وَدِينَهُ قَلَيْنَا وَأَمْرَهُ عَصَيْنَا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَعَهَا فِهْرٌ أَخْشَاهَا عَلَيْكَ، فَتَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ فَجَاءَتْ فَمَا رَأَتْ رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَالَتْ: إِنَّ قُرَيْشًا قَدْ عَلِمَتْ أَنِّي ابْنَةُ سَيِّدِهَا وَأَنَّ صَاحِبَكَ هَجَانِي فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ مَا هَجَاكِ.
وَرَوَى ابْنُ عباس: أن أبا سفيان والنضر بن الحرث وَأَبَا جَهْلٍ وَغَيْرَهُمْ كَانُوا يُجَالِسُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْتَمِعُونَ إِلَى حَدِيثِهِ، فَقَالَ النَّضْرُ يَوْمًا: مَا أَدْرِي مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ غَيْرَ أَنِّي أَرَى شَفَتَيْهِ تَتَحَرَّكُ بِشَيْءٍ. وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: إِنِّي لَأَرَى بَعْضَ مَا يَقُولُهُ حَقًّا، وَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: هُوَ مَجْنُونٌ. وَقَالَ أَبُو لَهَبٍ هُوَ كَاهِنٌ. وَقَالَ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى هُوَ شَاعِرٌ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ قَرَأَ قَبْلَهَا ثَلَاثَةَ آيَاتٍ وَهِيَ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ: إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً [الكهف: ٥٧] وَفِي النَّحْلِ: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [النَّحْلِ: ١٠٨] وَفِي حم الْجَاثِيَةِ: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الْجَاثِيَةِ: ٢٣] إِلَى آخَرِ الْآيَةِ فَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى يَحْجُبُهُ بِبَرَكَاتِ هَذِهِ الْآيَاتِ عَنْ عُيُونِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً وَفِيهِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ حِجَابًا سَاتِرًا.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ الْحِجَابَ حِجَابٌ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي عُيُونِهِمْ بِحَيْثُ يَمْنَعُهُمْ ذَلِكَ الْحِجَابُ عَنْ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ الْحِجَابُ شَيْءٌ لا يراه فَكَانَ مَسْتُورًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْحَاسَّةُ سَلِيمَةً وَيَكُونُ الْمَرْئِيُّ حَاضِرًا مَعَ أَنَّهُ لَا يَرَاهُ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ لِأَجْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ فِي عَيْنَيْهِ مَانِعًا يَمْنَعُهُ عَنْ رُؤْيَتِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَالُوا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَاضِرًا وَكَانَتْ حَوَاسُّ الْكُفَّارِ سَلِيمَةً، ثُمَّ إِنَّهُمْ

مَا كَانُوا يَرَوْنَهُ، وَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ أَنَّهُ جَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ حِجَابًا مَسْتُورًا، وَالْحِجَابُ الْمَسْتُورُ لَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا الْمَعْنَى الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي عُيُونِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى مَانِعًا لَهُمْ مِنْ أَنْ يَرَوْهُ وَيُبْصِرُوهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّهُ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَابِنٌ وَتَامِرٌ بِمَعْنَى ذُو لَبَنٍ وَذُو تَمْرٍ فَكَذَلِكَ/ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ مَسْتُورًا مَعْنَاهُ ذُو سِتْرٍ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ مَرْطُوبٌ أَيْ ذُو رُطُوبَةٍ وَلَا يُقَالُ رَطِيبَةٌ وَيُقَالُ مَكَانٌ مَهُولٌ أَيْ فِيهِ هَوْلٌ وَلَا يُقَالُ: هِلْتُ الْمَكَانَ بِمَعْنَى جَعَلْتُ فِيهِ الْهَوْلَ، وَيُقَالُ: جَارِيَةٌ مَغْنُوجَةٌ ذَاتُ غُنْجٍ وَلَا يُقَالُ غَنَجْتُهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: في الجواب قال الأخفش: المستور هاهنا بِمَعْنَى السَّاتِرِ، فَإِنَّ الْفَاعِلَ قَدْ يَجِيءُ بِلَفْظِ الْمَفْعُولِ كَمَا يُقَالُ: إِنَّكَ لَمَشْئُومٌ عَلَيْنَا وَمَيْمُونٌ وَإِنَّمَا هُوَ شَائِمٌ وَيَامِنٌ، لِأَنَّهُ مِنْ قَوْلِهِمْ شَأَّمَهُمْ وَيَمَّنَهُمْ، هَذَا قَوْلُ الْأَخْفَشِ: وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ، إِلَّا أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ طَعَنَ فِي هَذَا الْقَوْلِ، وَالْحَقُّ هُوَ الْجَوَابُ الْأَوَّلُ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى الْحِجَابِ الطَّبْعُ الَّذِي عَلَى قُلُوبِهِمْ وَالطَّبْعُ وَالْمَنْعُ الَّذِي مَنَعَهُمْ عَنْ أَنْ يُدْرِكُوا لَطَائِفَ الْقُرْآنِ وَمَحَاسِنَهُ وَفَوَائِدَهُ، فَالْمُرَادُ مِنَ الْحِجَابِ الْمَسْتُورِ ذَلِكَ الطَّبْعُ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَهَذِهِ الْآيَةُ مَذْكُورَةٌ بِعَيْنِهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَذَكَرْنَا اسْتِدْلَالَ أَصْحَابِنَا بِهَا وَذَكَرْنَا سُؤَالَاتِ الْمُعْتَزِلَةِ وَلَا بَأْسَ بِإِعَادَةِ بَعْضِهَا قَالَ الْأَصْحَابُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ قُلُوبَهُمْ فِي الْأَكِنَّةِ وَالْأَكِنَّةُ جَمْعُ كِنَانٍ وَهُوَ مَا سَتَرَ الشَّيْءَ مِثْلَ كِنَانِ النَّبْلِ وَقَوْلُهُ:
أَنْ يَفْقَهُوهُ أَيْ لِئَلَّا يَفْقَهُوهُ وَجَعَلَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ كَانُوا عُقَلَاءَ سَامِعِينَ فَاهِمِينَ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مَنْعُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَمَنْعُهُمْ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ بِحَيْثُ لَا يَقِفُونَ عَلَى أَسْرَارِهِ وَلَا يَفْهَمُونَ دَقَائِقَهُ وَحَقَائِقَهُ.
قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ مَا ذَكَرْتُمْ بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ وُجُوهٌ أُخْرَى. الْأَوَّلُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: كَانُوا يَطْلُبُونَ مَوْضِعَهُ فِي اللَّيَالِي لِيَنْتَهُوا إِلَيْهِ وَيُؤْذُونَهُ، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى مَبِيتِهِ بِاسْتِمَاعِ قِرَاءَتِهِ فَأَمَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ شَرِّهِمْ، وَذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ جَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ حِجَابًا لَا يُمْكِنُهُمُ الْوُصُولُ إِلَيْهِ مَعَهُ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ جَعَلَ فِي قُلُوبِهِمْ مَا يَشْغَلُهُمْ عَنْ فَهْمِ الْقُرْآنِ وَفِي آذَانِهِمْ مَا يَمْنَعُ مِنْ سَمَاعِ صَوْتِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَرَضًا شَاغِلًا يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْمَصِيرِ إِلَيْهِ وَالتَّفَرُّغِ لَهُ، لَا أَنَّهُ حَصَلَ هُنَاكَ كَنٌّ لِلْقَلْبِ وَوَقْرٌ فِي الْأُذُنِ. الثَّانِي: قَالَ الْكَعْبِيُّ: إِنَّ الْقَوْمَ لِشِدَّةِ امْتِنَاعِهِمْ عَنْ قَبُولِ دَلَائِلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَارُوا كَأَنَّهُ حَصَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ تِلْكَ الدَّلَائِلِ حِجَابٌ مَانِعٌ وَسَاتِرٌ، وَإِنَّمَا نَسَبَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ الْحِجَابَ إِلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا خَلَّاهُمْ مَعَ أَنْفُسِهِمْ، وَمَا مَنَعَهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْإِعْرَاضِ صَارَتْ تِلْكَ التَّخْلِيَةُ كَأَنَّهَا هِيَ السَّبَبُ لِوُقُوعِهِمْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَهَذَا مِثْلُ أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا لَمْ يُرَاقِبْ أَحْوَالَ عَبْدِهِ فَإِذَا سَاءَتْ سِيرَتُهُ فَالسَّيِّدُ يَقُولُ: أَنَا الَّذِي أَلْقَيْتُكَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِسَبَبِ أَنِّي خَلَّيْتُكَ مَعَ رَأْيِكَ وَمَا رَاقَبْتُ أَحْوَالَكَ. الثَّالِثُ: قَالَ الْقَفَّالُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَذَلَهُمْ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلِ/ الْأَلْطَافَ الدَّاعِيَةَ لَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ صَحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ فِعْلُ الْحِجَابِ السَّاتِرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ مَعَ كَلِمَاتٍ أُخْرَى ذَكَرْنَاهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَأَجَبْنَا عَنْهَا، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا عِنْدَ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ عَلَى حَالَتَيْنِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوا مِنَ الْقُرْآنِ مَا لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى بقوا مبهوتين