آيات من القرآن الكريم

نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا
ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ

قوله تعالى: ﴿بِمَا يَسْتَمِعُونَ﴾ : الباء في «بما» متعلق ب «أعْلَمُ». وما كان من باب العلم والجهل في أفعل التفضيل، وأفعل في التعجب تعدَّى بالباء؛ نحو: أنت أعلمُ به، وما أَعلمك به! ﴿وهو أجهل به، وما أجهله به﴾ ! ومن غيرهما يتعدَّى في البابين باللام؛ نحو: أنت أكسى للفقراء، و «مَا» بمعنى الذي، وهي عبارةٌ عن الاستخفاف والإعراض، فكأنه قال: نحن أعلم بالاستخفاف، والاستهزاءِ الذي يستمعون به، قاله ابن عطيَّة.
قوله: «به» فيه أوجه:

صفحة رقم 301

أحدها: أنه حال، فيتعلق بمحذوف.
قال الزمخشري: «وبه في موضع الحالِ، كما تقول: يستمعون بالهزءِ، أي: هازئين».
الثاني: أنها بمعنى اللامِ، أي: بما يستمعون له.
الثالث: أنها على بابها، أي: يستمعون بقلوبهم أو بظاهر أسماعهم، قالهما أبو البقاء.
الرابع: قال الحوفيُّ: «لم يقلْ يستمعونه، ولا يستمعونك؛ لمَّا كان الغرضُ ليس الإخبار عن الاستماعِ فقط، وكان مضمَّناً أنَّ الاستماع كان على طريق الهزء بأن يقولوا: مجنونٌ أو مسحورٌ، جاء الاستماع بالباء وإلى، ليعلم أنَّ الاستماع ليس المراد به تفهُّم المسموعِ دون هذا المقصد» فعلى هذا ايضاً تتعلَّق الباء ب «يَسْتمِعُونَ».
قوله تعالى: ﴿إِذْ يَسْتَمِعُونَ﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنه معمولٌ ل «أعْلَمُ». قال الزمخشري: «إذ يستمعون نصب ب» أعْلَمُ «أي: أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون، وبما يتناجون؛ إذ هم ذوو نجوى».
والثاني: أنه منصوبٌ ب «يَسْتمِعُونَ» الأولى.
قال ابن عطيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «والعامل في» إذ «الأولى، وفي المعطوف» يَسْتمِعُونَ «الأولى».
وقال الحوفيُّ: و «إذ» الأولى تتعلق ب «يَسْتمِعُونَ» وكذا «وإذْ هُمْ نجْوَى» لأن المعنى: نحن أعلم بالذي يستمعون إليك، وإلى قراءتك وكلامك، إنما يستمعون لسقطك، وتتبُّع عيبك، والتماسِ ما يطعنون به عليك، يعني في زعمهم؛ ولهذا ذكر تعديتهُ بالباء و «إلى». قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: «نَجْوَى» يجوز أن يكون مصدراً، فيكون من إطلاق المصدر على العين مبالغة، أو على حذف مضاف، أي: ذوو نجوى، كما قاله الزمخشري، ويجوز أن يكون جمع نجيِّ، كقتيلٍ وقتلى، قاله أبو البقاء.
قوله تعالى: ﴿إِذْ يَقُولُ﴾ بدل من «إذ» الأولى في أحد القولين، والقول لآخر: أنَّها معمولة ل «اذْكُرْ» مقدَّراً.
قوله تعالى: «مَسْحُوراً» الظاهر أنَّه اسم مفعول من «السِّحرِ» بكسر السين، أي: مخبول العقل، أو مخدوعه، وقال أبو عبيدة: معناه أنَّ له سَحْراً، أي: رئة بمعنى أنه لا يستغني عن الطَّعام والشَّراب، فهو بشرٌ مثلكم، وتقول العرب للجبان: «قد انتفخَ سَحرهُ» بفتح السين، ولكلِّ من أكل وشرب: مسحورٌ، ومسحرٌ، فمن الأول قول امرئ القيس: [الوافر]

٣٤٢٦ - أرَانَا مُوضَعِينَ لأمْرِ غَيْبٍ ونُسْحِرُ بالطَّعامِ وبالشَّرابِ
أي: نُغذَّى ونُعَلَّلُ، ومن الثاني قول لبيدٍ: [الطويل]

صفحة رقم 302

٣٤٢٧ - فَإنْ تَسْألِينَا فيمَ نَحْنُ فَإنَّنَا عَصَافِيرُ مِنْ هذا الأنَامِ المُسحَّرِ
وردَّ الناس على أبي عبيدة قوله؛ لبعده لفظاً ومعنًى. قال ابن قتيبة: «لا أدري ما الذي حمل أبا عبيدة على هذا التَّفسير المستكرهِ مع ما فسَّره السَّلف بالوجوهِ الواضحة».
قال شهاب الدين: وأيضاً فإن «السَّحْر» الذي هو الرِّئة لم يضرب له فيه مثلٌ؛ بخلاف «السِّحْر» فإنهم ضربوا له فيه المثل، فما بعد الآية من قوله ﴿انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال﴾ [الإسراء: ٤٨] لا يناسب إلا «السِّحْر» بالكسرِ.
فصل في معنى قوله: ﴿نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ﴾.
قال المفسرون: معنى الآية ﴿نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ﴾ أي يطلبون سماعه، ﴿إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾ وأنت تقرأ القرآن، ﴿وَإِذْ هُمْ نجوى﴾ يتناجون في أمرك، فبعضهم يقول: هذا مجنونٌ، وبعضهم يقول: شاعرٌ ﴿إِذْ يَقُولُ الظالمون﴾ يعني الوليد بن المغيرة وأصحابه: ﴿إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً﴾ مطبوباً.
وقال مجاهد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مخدوعاً؛ لأنَّ السِّحر حيلة وخديعة، وذلك لأنَّ المشركين حانوا يقولون: إنَّ محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يتعلَّم من بعض النَّاس هذه الكلمات، وأولئك النَّاس يخدعونه بهذه الكلمات، فلذلك قالوا: «مَسْحُوراً» أي: مخدوعاً.
وأيضاً: كانوا يقولون: إنَّ الشيطان يتخيَّل له، فيظنُّ أنه ملكٌ، فقالوا: إنه مخدوع من قبل الشَّيطان.
وقيل: مصروفاً عن الحقِّ، يقال: ما سحرك عن كذا، اي: ما صرفك، وقيل: المسحور هو الشَّيء المفسود، يقال: طعام مسحور، إذا فسد، وأرض مسحورة، إذا أصابها من المطر أكثر ممَّا ينبغي فأفسدها.
فإن قيل: إنَّهم لم يتبعوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكيف يصحُّ أن يقولوا: ﴿إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً﴾.
فالجواب أنَّ معناه: إن اتَّبعْتُموهُ، فقد اتَّبعْتُمْ رجلاً مسحوراً. ثم قال تعالى: ﴿انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال﴾، أي: كلُّ أحد شبَّهك بشيءٍ، فقالوا: كاهنٌ، وساحرٌ، وشاعرٌ، ومعلَّمٌ، ومجنونٌ، فضلُّوا عن الحقِّ، فلا يستطيعون سبيلاً، اي: وصولاً إلى طريق الحقِّ.

صفحة رقم 303
اللباب في علوم الكتاب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
تحقيق
عادل أحمد عبد الموجود
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت / لبنان
سنة النشر
1419 - 1998
الطبعة
الأولى، 1419 ه -1998م
عدد الأجزاء
20
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية