آيات من القرآن الكريم

وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا
ﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ ﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉ

حماية النبي صلّى الله عليه وسلّم من أذى المشركين إذا قرأ القرآن
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤٥ الى ٤٨]
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨)
الإعراب:
حِجاباً مَسْتُوراً أي ذا ستر، على النّسب، مثل: امرأة حائض وطالق وطامث أي ذات حيض وطمث وطلاق، أو بمعنى ساتر، فيجيء مفعول بمعنى فاعل، كما يجيء فاعل بمعنى مفعول، مثل: سرّ كاتم، وماء دافق، أي سر مكتوم، وماء مدفوق. وَحْدَهُ مصدر وقع موقع الحال، أي واحدا.
وَإِذْ هُمْ نَجْوى إما جمع نجيّ، كجريح وجرحى، وقتيل وقتلى، وإما مصدر، مثل قوله تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ [المجادلة ٥٨/ ٧].
إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِذْ بدل من إِذْ قبله.
المفردات اللغوية:
حِجاباً وحجبا: أي منعا من الوصول إلى الشيء، والمراد: حاجبا. مَسْتُوراً أي ساترا لك عنهم، فلا يرونك. أَكِنَّةً أغطية، جمع كنان. أَنْ يَفْقَهُوهُ أي منعناهم أن يفهموه، أو كراهة أن يفهموه. وَقْراً ثقلا وصمما يمنعهم عن استماعه استماع تأمل في لفظه، وتدبر في معناه. وَحْدَهُ واحدا غير مشفوع به آلهتهم، قال الزمخشري: وحد يحد وحدا وحدة نحو وعد يعد وعدا وعدة، ووحده هنا: مصدر سادّ مسدّ الحال، أصله: يحد وحده بمعنى واحدا وحده.

صفحة رقم 87

بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ بسببه من الهزء. إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ إلى قراءتك. نَجْوى يتناجون بينهم، أي يتحدثون. إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ في تناجيهم. إِنْ ما تتبعون.
مَسْحُوراً مخبول العقل، كقولهم: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ [المؤمنون ٢٣/ ٢٥].
كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ بالمسحور والكاهن والشاعر. فَضَلُّوا جاروا عن طريق الهدى.
فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا طريقا إليه.
سبب النزول:
نزول الآية (٤٥) :
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ الآية:
أخرج ابن المنذر عن ابن شهاب الزهري قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا تلا القرآن على مشركي قريش، ودعاهم إلى الكتاب قالوا يهزؤون به: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت ٤١/ ٥]، فأنزل الله في ذلك من قولهم: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ الآيات.
وروى ابن عباس: أن أبا سفيان، والنضر بن الحارث، وأبا جهل وغيرهم كانوا يجالسون النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويستمعون إلى حديثه، فقال النضر يوما: ما أدري ما يقول محمد، غير أني أرى شفتيه تتحرك بشيء، وقال أبو سفيان: إني لأرى بعض ما يقوله حقا، وقال أبو جهل: هو مجنون، وقال أبو لهب: هو كاهن، وقال حويطب بن عبد العزّى: هو شاعر، فنزلت هذه الآية.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد تلاوة القرآن، قرأ قبلها ثلاث آيات، وهي قوله في سورة الكهف: إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ، وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً [٥٧] وفي النحل: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [١٠٨] وفي حم الجاثية: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [٢٣] إلى آخر الآية
، فكان الله تعالى يحجبه ببركات هذه الآيات عن عيون المشركين «١».

(١) تفسير الرازي: ٢٠/ ٢٢١

صفحة رقم 88

فهذه الآية نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا قرأ القرآن على الناس. روي أنه عليه الصلاة والسلام كان كلما قرأ القرآن، قام عن يمينه رجلان، وعن يساره آخران من ولد قصي يصفّقون ويصفرون، ويخلّطون عليه بالأشعار.
نزول الآية (٤٦) :
وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ: قيل:
دخل ملأ قريش على أبي طالب يزورونه، فدخل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقرأ، ومرّ بالتوحيد، ثم قال:
يا معشر قريش، قولوا: لا إله إلا الله، تملكون بها العرب، وتدين لكم العجم، فولّوا، فنزلت هذه الآية.
قال أبو حيان: والظاهر أن الآية في حال الفارّين عند وقت قراءته القرآن، ومروره بتوحيد الله تعالى، والمعنى: إذا جاءت مواضع التوحيد، فرّ الكفار إنكارا له، واستبشاعا لرفض آلهتهم، واطراحها «١».
المناسبة:
بعد أن تكلّم الله تعالى في المسائل الإلهية، وجادل المشركين بضرب الأمثال لهم، تكلّم في هذه الآية فيما يتعلّق بتقرير النّبوة، والنّعي عليهم بعدم فهمهم للقرآن ونفورهم منه وهزئهم به، وإيذائهم النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، واتّهامهم له بأنه كاهن أو ساحر أو مجنون أو شاعر.
التفسير والبيان:
وإذا قرأت يا محمد القرآن على هؤلاء المشركين الذين لا يصدقون بالبعث ولا بالثواب والعقاب، جعلنا بينك وبينهم حجابا مستورا، أي حائلا مانعا يمنع

(١) البحر المحيط: ٦/ ٤٢.

صفحة رقم 89

قلوبهم عن فهم معاني القرآن وتدبر آياته، وجعلنا على قلوبهم أغطية بحيث لا يتسرّب إليها فهم مدارك القرآن ومعرفة أحكامه وأسراره وغاياته، وفي آذانهم ما يمنع من سماع صوته. فمعنى قوله تعالى: أَنْ يَفْقَهُوهُ أي لئلا يفهموا القرآن، والوقر: هو الثقل الذي يمنع من سماع القرآن سماع انتفاع واهتداء به.
ونظير الآية قوله تعالى: وَقالُوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت ٤١/ ٥].
والحجاب المستور أي الساتر، فهو يستر البصائر عن أن تبصر حقائق الأشياء، ومعنى جعل الأكنة على القلوب: أي جعل القلوب في الأكنّة، والأكنّة جمع كنان: الذي يغشى القلب، فصار التغليف والحيلولة دون الفهم من الظاهر والباطن والأعلى والأسفل، وأوصد الله الآذان وصمّها عن السّماع سماع وعي وفهم وتدبّر، فهم كانوا عقلاء سامعين فاهمين، والمراد بالآية منعهم عن الإيمان، ومنعهم عن سماع القرآن بحيث لا يقفون على أسراره، ولا يفهمون دقائقه وحقائقه، وذلك لتأصّل الشرك في نفوسهم، وعدم إعمال أفكارهم في حقائق الدّين.
وقد تقدّم ما روي أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا قرأ القرآن، قام عن يمينه رجلان وعن يساره آخران من ولد قصيّ يصفّقون، ويصفرون، ويخلّطون عليه بالأشعار.
وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ.. أي وإذا وحّدت الله في تلاوتك وقلت: لا إله إلا الله، ولم تقل: واللّات والعزّى، ولّوا أي أدبروا راجعين على أدبارهم نافرين نفورا، تكبّرا من ذكر الله وحده، كما قال تعالى: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [الزّمر ٣٩/ ٤٥] وذلك لأنهم مشركون، فإذا سمعوا بالتّوحيد نفروا.
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ.. نحن يا محمد أعلم بالنّحو الذي يستمعون به

صفحة رقم 90

حين يستمعون إليك هزءا وسخرية وتكذيبا، وأعرف بما يتناجى به رؤساء كفار قريش، ويتسارّون، حين جاؤوا يستمعون قراءتك سرّا قائلين: إنك رجل مسحور، أو مجنون، أو كاهن، لذا قال تعالى:
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ.. أي تأمل يا محمد كيف مثّلوا لك الأمثال، وأعطوك الأشباه، فقالوا: هو مسحور، وهو شاعر مجنون، فحادوا عن سواء السّبيل، ولم يهتدوا إلى الحقّ لضلالهم، ولم يجدوا إليه مخلصا يتخلّصون من متاهة ما هم فيه من الضّياع. وهذا وعيد لهم وإيناس لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- الثّابت الذي دلّ عليه القرآن والسّيرة أن الله تعالى حجب رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن أبصار كفار قريش عند قراءة القرآن، فكانوا يمرّون به ولا يرونه.
٢- حجب الله القرآن عن أبصار المشركين وعقولهم وأفهامهم، وجعل على قلوبهم أغطية لئلا يفقهوه أو كراهية أن يفقهوه، أي أن يفهموا ما فيه من الأوامر والنّواهي، والحكم والمعاني، وجعل أيضا في آذانهم وقرا أي صمما وثقلا أن يسمعوه، وإذا ذكر النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ربه عند تلاوة القرآن فقال: لا إله إلا الله وحده، ولّى المشركون نافرين نفورا من سماع كلمة الحقّ والتّوحيد.
٣- الله تعالى أعلم بالنّحو الذي يستمع فيه المشركون إلى القرآن حين يقول الظالمون منهم كأبي جهل والوليد بن المغيرة وأمثالهما للناس لتنفيرهم عن النّبي:
ما تتبعون إلا رجلا مسحورا، قد خبله السّحر، فاختلط عليه أمره، يقولون بينهم متناجين: هو ساحر وهو مسحور، بعد أن قرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى التّوحيد،
وقال: «قولوا: لا إله إلا الله لتطيعكم العرب، وتدين لكم العجم»
فأبوا.

صفحة رقم 91
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية