آيات من القرآن الكريم

وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا
ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌ ﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟ ﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ

قَوْمِهِ فَاقْتَدُوا بِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا أَنَّ آباءكم اقتدوا به والله أعلم.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤ الى ٦]
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ إِنْعَامَهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِإِنْزَالِ التَّوْرَاةِ عَلَيْهِمْ، وَبِأَنَّهُ جَعَلَ التَّوْرَاةَ هُدًى لَهُمْ، بَيَّنَ أَنَّهُمْ مَا اهْتَدَوْا بِهُدَاهُ، بَلْ وَقَعُوا فِي الْفَسَادِ فَقَالَ: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: الْقَضَاءُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ قَطْعِ الْأَشْيَاءِ عَنْ إِحْكَامٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [فُصِّلَتْ: ١٢] وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا... دَاوُدُ...
فَقَوْلُهُ: وَقَضَيْنا أَيْ أَعْلَمْنَاهُمْ وَأَخْبَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ. وَلَفْظُ (إِلَى) صِلَةٌ لِلْإِيحَاءِ، لِأَنَّ مَعْنَى قَضَيْنَا أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ كَذَا. وَقَوْلُهُ: لَتُفْسِدُنَّ يُرِيدُ الْمَعَاصِيَ وَخِلَافَ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ وَقَوْلُهُ: فِي الْأَرْضِ يَعْنِي أَرْضَ مِصْرَ وَقَوْلُهُ: وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً يَعْنِي أَنَّهُ يَكُونُ اسْتِعْلَاؤُكُمْ عَلَى النَّاسِ بِغَيْرِ الْحَقِّ اسْتِعْلَاءً عَظِيمًا، لِأَنَّهُ يُقَالُ لِكُلِّ مُتَجَبِّرٍ: قَدْ عَلَا وَتَعَظَّمَ، ثم قال: فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما يَعْنِي أُولَى الْمَرَّتَيْنِ: بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِذَا جَاءَ وَعْدُ الْفُسَّاقِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى أَرْسَلْنَا عَلَيْكُمْ قَوْمًا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ، وَنَجْدَةٍ وَشِدَّةٍ، وَالْبَأْسُ الْقِتَالُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحِينَ الْبَأْسِ [الْبَقَرَةِ: ١٧٧] وَمَعْنَى بَعَثْنا عَلَيْكُمْ أَرْسَلْنَا عَلَيْكُمْ، وَخَلَّيْنَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ خَاذِلِينَ إِيَّاكُمْ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَؤُلَاءِ الْعِبَادِ مَنْ هُمْ؟ قِيلَ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَعَظَّمُوا وَتَكَبَّرُوا وَاسْتَحَلُّوا الْمَحَارِمَ وَقَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ، وَذَلِكَ أَوَّلُ الْفَسَادَيْنِ فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بُخْتَنَصَّرَ فَقَتَلَ مِنْهُمْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا مِمَّنْ يَقْرَأُ التَّوْرَاةَ وَذَهَبَ بِالْبَقِيَّةِ إِلَى أَرْضِ نَفْسِهِ فَبَقُوا هُنَاكَ فِي الذُّلِّ إِلَى أَنْ قَيَّضَ اللَّهُ مَلِكًا آخَرَ غَزَا أَهْلَ بَابِلَ وَاتَّفَقَ أَنْ/ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَطَلَبَتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ مِنْ ذَلِكَ الْمَلِكِ أَنْ يَرُدَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَفَعَلَ، وَبَعْدَ مُدَّةٍ قَامَتْ فِيهِمُ الْأَنْبِيَاءُ وَرَجَعُوا إِلَى أَحْسَنِ مَا كَانُوا، فَهُوَ قَوْلُهُ: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَلَّطَ عَلَيْهِمْ جَالُوتَ حَتَّى أَهْلَكَهُمْ وَأَبَادَهُمْ وَقَوْلُهُ: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَوَّى طَالُوتَ حَتَّى حَارَبَ جَالُوتَ وَنَصَرَ دَاوُدَ حَتَّى قَتَلَ جَالُوتَ فَذَاكَ هُوَ عَوْدُ الْكَرَّةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّ قَوْلَهُ: بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَلْقَى الرُّعْبَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي قُلُوبِ الْمَجُوسِ، فَلَمَّا كَثُرَتِ الْمَعَاصِي فِيهِمْ أَزَالَ ذَلِكَ الرُّعْبَ عَنْ قُلُوبِ الْمَجُوسِ فَقَصَدُوهُمْ وَبَالَغُوا فِي قَتْلِهِمْ وَإِفْنَائِهِمْ وإهلاكهم.

صفحة رقم 299

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ كَثِيرُ غَرَضٍ فِي مَعْرِفَةِ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ بِأَعْيَانِهِمْ، بَلِ الْمَقْصُودُ هُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا أَكْثَرُوا مِنَ الْمَعَاصِي سَلَّطَ عَلَيْهِمْ أَقْوَامًا قَتَلُوهُمْ وَأَفْنَوْهُمْ.
ثم قال تَعَالَى: فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ قَالَ اللَّيْثُ: الْجَوْسُ وَالْجَوَسَانُ التَّرَدُّدُ خِلَالَ الدِّيَارِ، وَالْبُيُوتِ فِي الْفَسَادِ، وَالْخِلَالُ هُوَ الِانْفِرَاجُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، وَالدِّيَارُ دِيَارُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، واختلفت عبارات المفسرين في تفسير جاسوا فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَتَّشُوا وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: طَلَبُوا مَنْ فِيهَا. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: عَاثُوا وَأَفْسَدُوا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:
طَافُوا خِلَالَ الدِّيَارِ هَلْ بَقِيَ أَحَدٌ لَمْ يَقْتُلُوهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْجَوْسُ هُوَ التَّرَدُّدُ وَالطَّلَبُ وَذَلِكَ مُحْتَمِلٌ لِكُلِّ مَا قَالُوهُ.
ثم قال تَعَالَى: وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا أَيْ كَانَ قَضَاءُ اللَّهِ بِذَلِكَ قَضَاءً جَزْمًا حَتْمًا لَا يَقْبَلُ النَّقْضَ وَالنَّسْخَ، ثم قال تَعَالَى: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ أَيْ أَهْلَكْنَا أَعْدَاءَكُمْ وَرَدَدْنَا الدَّوْلَةَ وَالْقُوَّةَ عَلَيْكُمْ. وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً النَّفِيرُ الْعَدَدُ مِنَ الرِّجَالِ وَأَصْلُهُ مِنْ نَفَرَ مَعَ الرَّجُلِ مِنْ عَشِيرَتِهِ وَقَوْمِهِ، وَالنَّفِيرُ وَالنَّافِرُ وَاحِدٌ، كَالْقَدِيرِ وَالْقَادِرِ، وَذَكَرْنَا مَعْنَى نَفَرَ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ [التَّوْبَةِ: ١٢٢] وَقَوْلِهِ: انْفِرُوا خِفافاً [التَّوْبَةِ: ٤١].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ:
أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً وَهَذَا الْقَضَاءُ أَقَلُّ احْتِمَالَاتِهِ الحكم الْجَزْمُ، وَالْخَبَرُ الْحَتْمُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ سَيُقْدِمُونَ عَلَى الْفَسَادِ وَالْمَعَاصِي خَبَرًا جَزْمًا لَا يَقْبَلُ النَّسْخَ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ مَعْنَاهُ الحكم الْجَزْمُ عَلَى مَا شَرَحْنَاهُ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ ذَلِكَ الْقَضَاءَ مَزِيدَ تَأْكِيدٍ فَقَالَ: وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: عَدَمُ وُقُوعِ ذَلِكَ الْفَسَادِ عَنْهُمْ يَسْتَلْزِمُ انْقِلَابَ خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى الصِّدْقِ كَذِبًا وَانْقِلَابَ حُكْمِهِ الْجَازِمِ بَاطِلًا، وَانْقِلَابَ عِلْمِهِ الْحَقِّ جَهْلًا، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ، فَكَانَ عَدَمُ إِقْدَامِهِمْ عَلَى ذَلِكَ الْفَسَادِ مُحَالًا، فَكَانَ إِقْدَامُهُمْ عَلَيْهِ وَاجِبًا ضَرُورِيًّا لَا يَقْبَلُ النَّسْخَ وَالرَّفْعَ، مَعَ أَنَّهُمْ كُلِّفُوا بِتَرْكِهِ وَلُعِنُوا عَلَى فِعْلِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا: إِنَّ اللَّهَ قَدْ يَأْمُرُ بِشَيْءٍ وَيَصُدُّ عَنْهُ وَقَدْ يَنْهَى عَنْ شَيْءٍ وَيَقْضِي بِتَحْصِيلِهِ، فَهَذَا أَحَدُ وُجُوهِ الِاسْتِدَلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
الوجه الثَّانِي: فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْمُرَادُ أُولَئِكَ الَّذِينَ تَسَلَّطُوا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْقَتْلِ وَالنَّهْبِ وَالْأَسْرِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي بَعَثَهُمْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَتْلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَنَهْبَ أَمْوَالِهِمْ وَأَسْرَ أَوْلَادِهِمْ كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى الظُّلْمِ الْكَثِيرِ وَالْمَعَاصِي الْعَظِيمَةِ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ كُلَّ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: بَعَثْنا عَلَيْكُمْ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَالطَّاعَةَ وَالْمَعْصِيَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْ بَعَثْنا عَلَيْكُمْ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ أُولَئِكَ الْأَقْوَامَ بِغَزْوِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا ظَهَرَ فِيهِمْ مِنَ الْفَسَادِ، فَأُضِيفَ ذَلِكَ الْفَعْلُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ الْأَمْرُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ خَلَّيْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَا أَلْقَيْنَا الْخَوْفَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي قُلُوبِهِمْ. وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْبَعْثِ التَّخْلِيَةُ وَعَدَمُ الْمَنْعِ.

صفحة رقم 300
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية