
الإسراء فيما قال مقاتِلٌ وقتادةُ: قبل الهجرة بعامٍ «١»، وقيل: بعام ونصفٍ، والمتحقِّق أن ذلك كان بَعْدَ شَقِّ الصحيفة، وقبل بيعة العقبة، ووقع في «الصحيحين» لشَرِيك بن أبي نَمِرٍ، وَهْمٌ في هذا المعنى فإنه روى حديثَ الإِسراء، فقال فيه: وذلك قبل أنْ يوحى إِليه، ولا خلاف بين المحدِّثين أن هذا وَهْمَ من شريك.
قال ص: أَسْرى بِعَبْدِهِ بمعنى: سَرَى، وليست همزتُهُ للتعدية، بل ك «سقى وأسقى»، والباء للتعدية، ولَيْلًا ظرفٌ للتأكيد لأن السُّرَى لا يكون لغةً إِلا بليلٍ، وقيل: يعنى به في جوف الليل، فلم يكن إِدْلاجاً ولا ادلاجا انتهى.
والْمَسْجِدِ الْأَقْصَى: بيت المقدس، «والأقصى» البعيدُ، والبركة حولَهُ منْ وجهين:
أحدهما، النبوَّة والشرائعُ والرسُل الذين كانوا في ذَلِكَ القُطْر، وفي نواحيه.
والآخر: النِّعَم من الأشجار والمياه والأرض المفيدة.
وقوله سبحانه: لِنُرِيَهُ يريد لنري محمَّداً بعينه آياتنا في السموات والملائكة والجَنَّةَ والسِّدْرةَ وغير ذلك من العجائبِ، مما رآه تلك الليلة، ولا خلاف أنَّ في هذا الإِسراء فُرِضَت الصلواتُ الخمسُ على هذه الأمة.
وقوله سبحانه: إِنَّهُ هُوَ/ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وعيد للمكذِّبين بأمر الإِسراء، أي: هو السميع لما تقولون، البصير بأفعالكم.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢ الى ٤]
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤)
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ، أي: التوراة.
وقوله: أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا... الآية: التقديرُ: فعلنا ذلك لَئِلاَّ تتخذوا يا ذرية ف ذُرِّيَّةَ: منصوب على النداء، وهذه مخاطبة للعالَم، ويتجه نصبُ (ذرِّيَّة) على أنه مفعول ب «تتخذوا»، ويكون المعنى أَلاَّ يتخذوا بشراً إِلاها من دون الله، وقرأ أبو عمرو «٢»
(٢) وحجته أن الفعل قرب من الخبر عن بني إسرائيل، فجعل الفعل مسندا إليهم، والمعنى حينئذ: جعلناه هدى لبني إسرائيل، لئلا يتخذوا من دوني وكيلا.

وحده: «أَلاَّ يَتَّخِذُوا» بالياء، على لفظ الغائب، «والوكيل» هنا من التوكيل، أي: متوكَّلاً عليه في الأمور، فهو ندٌّ للَّه بهذا الوجه، وقال مجاهد: وَكِيلًا: شريكاً «١»، ووصف نوح بالشُّكْر لأنه كان يحمد اللَّه في كل حالٍ، وعلى كل نعمةٍ من المطعم والمشرب والملبس والبراز وغير ذلك صلّى الله عليه وسلّم، قاله سلمانُ الفارسيُّ وغيره «٢»، وقال ابن المبارك في «رقائقه» : أخبرنا ابنُ أبي ذئبٍ عن سعيدٍ المُقْبُرِيِّ عن أبيه عن عبد الله بن سَلاَمٍ: أن موسى عليه السلام قال: يا ربِّ، ما الشكْرُ الذي ينبغي لَكَ؟ قَالَ: يَا مُوسَى لا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْباً مِنْ ذِكْرِي «٣»، انتهى، وقد رُوِّيناه مسنداً عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أعني قوله: «لاَ يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْباً مِنْ ذِكْرِ اللَّه» «٤».
وقوله سبحانَهُ: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ... الآية: قالتْ فرقة: قَضَيْنا معناه:
في أم الكتاب.
قال ع «٥» : وإنما يُلْبِسُ في هذا المكان تعديةُ قَضَيْنا ب «إلى»، وتلخيصُ المعنى عندي: أنَّ هذا الأمر هو مما قضاه اللَّه عزَّ وجلَّ في أمِّ الكتاب على بني إسرائيل،
(١) أخرجه الطبري (٨/ ١٧) برقم: (٢٢٠٣٦)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٣٧)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٢٩٤)، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٢) أخرجه الطبري (٨/ ١٩) برقم: (٢٢٠٤٤)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٣٧)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٢٩٤)، وعزاه للفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والحاكم وصححه، والبيهقي في «شعب الإيمان».
(٣) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» ص: (٣٣٠) رقم: (٩٤٢).
(٤) أخرجه الترمذي (٥/ ٤٥٨) كتاب «الدعوات» باب: ما جاء في فضل الذكر حديث (٣٣٧٥)، وابن ماجه (٢/ ١٢٤٦) كتاب «الأدب» باب: فضل الذكر، حديث (٣٧٩٣)، وابن أبي شيبة (١٠/ ٣٠١) رقم:
(٥٩٠٢)، وأحمد (٤/ ١٩٠)، وفي «الزهد» ص: (٣٥)، والحاكم (١/ ٤٩٥)، وابن حبان (٢٣١٧- موارد)، وأبو نعيم في «الحلية» (٩/ ٥١)، وابن المبارك في «الزهد» ص: (٣٢٨) رقم: (٩٣٥)، والبيهقي (٣/ ٣٧١) كتاب «الجنائز» باب: طوبى لحسن طال عمره وحسن عمله، كلهم من طريق عمرو بن قيس الكندي، عن عبد الله بن بسر قال: جاء أعرابيان إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال أحدهما: يا رسول الله أخبرني بأمر أتشبث به، قال: فذكر الحديث.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وصححه ابن حبان.
(٥) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٤٣٧). [.....]