
تَفْصِيلِهِ وَشَرْحِهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ خَيْرَاتِ الْجَنَّةِ عَظِيمَةٌ، وَأَهْوَالَ النَّارِ شَدِيدَةٌ، فَلَوْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا شَاهَدَهُمَا فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ شَاهَدَهُمَا فِي ابْتِدَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَرُبَّمَا رَغَبَ فِي خَيْرَاتِ الْجَنَّةِ أَوْ خَافَ مِنْ أَهْوَالِ النَّارِ، أَمَّا لَمَّا شَاهَدَهُمَا فِي الدُّنْيَا فِي لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ فَحِينَئِذٍ لَا يَعْظُمُ وَقْعُهُمَا فِي قَلْبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَّةِ فَلَا يَبْقَى مَشْغُولَ الْقَلْبِ بِهِمَا، وَحِينَئِذٍ يَتَفَرَّغُ لِلشَّفَاعَةِ. الثَّانِي: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ مُشَاهَدَتُهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ، صَارَتْ سَبَبًا لِتَكَامُلِ مَصْلَحَتِهِ أَوْ مَصْلَحَتِهِمْ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنَّهُ إِذَا صَعَدَ الْفَلَكَ وشاهد أحوال السموات وَالْكُرْسِيَّ وَالْعَرْشَ، صَارَتْ مُشَاهَدَةُ أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ وَأَهْوَالِهِ حَقِيرَةً فِي عَيْنِهِ، فَتَحْصُلُ لَهُ زِيَادَةُ قُوَّةٍ فِي الْقَلْبِ بِاعْتِبَارِهَا يَكُونُ فِي شُرُوعِهِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَكْمَلَ وَقِلَّةُ الْتِفَاتِهِ إِلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَقْوَى، يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ عَايَنَ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْبَابِ، لَا يَكُونُ حَالُهُ فِي قُوَّةِ النَّفْسِ وَثَبَاتِ الْقَلْبِ عَلَى احْتِمَالِ الْمَكَارِهِ فِي الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ إِلَّا أَضْعَافَ مَا يَكُونُ عَلَيْهِ حَالُ مَنْ لَمْ يُعَايِنْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ فَائِدَةَ ذَلِكَ الْإِسْرَاءِ مُخْتَصَّةٌ بِهِ وَعَائِدَةٌ إِلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْيِينِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الشُّبْهَةِ الثَّالِثَةِ: أَنَّا عِنْدَ الِانْتِهَاءِ إِلَى تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ نُبَيِّنُ أَنَّ تِلْكَ الرُّؤْيَا رُؤْيَا عَيَانٍ لَا رُؤْيَا مَنَامٍ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الشُّبْهَةِ الرَّابِعَةِ: لَا اعْتِرَاضَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَفْعَالِهِ فَهُوَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ ما يريد، والله أعلم.
المسألة الثالثة: أما العروج إلى السموات وَإِلَى مَا فَوْقَ الْعَرْشِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِأَوَّلِ سُورَةِ وَالنَّجْمِ، وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ [الِانْشِقَاقِ: ١٩] وَتَفْسِيرُهُمَا مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ، وَأَمَّا دَلَالَةُ الْحَدِيثِ فَكَمَا سلف والله أعلم.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢ الى ٣]
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِيهَا انْتَقَلَ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ وَمِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ الْغَيْبَةِ وَقَوْلُهُ: بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا فِيهِ ثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ دَالَّةٍ عَلَى الْحُضُورِ وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ يَدُلُّ عَلَى الْغَيْبَةِ وَقَوْلُهُ:
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ إِلَخْ يَدُلُّ عَلَى الْحُضُورِ وَانْتِقَالُ الْكَلَامِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ وَبِالْعَكْسِ يُسَمَّى صَنْعَةَ الِالْتِفَاتِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى إِكْرَامَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ أَسْرَى بِهِ، وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ أَكْرَمَ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَبْلَهُ بِالْكِتَابِ الَّذِي آتَاهُ فَقَالَ: وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يَعْنِي التَّوْرَاةَ: وَجَعَلْناهُ هُدىً أَيْ يُخْرِجُهُمْ بِوَاسِطَةِ ذَلِكَ الْكِتَابِ مِنْ ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ الْحَقِّ وَقَوْلُهُ: أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا وَفِيهِ أبحاث:

البحث الأول: قرأ أبو عمرو: أَلَّا تَتَّخِذُوا بِالْيَاءِ خَبَرًا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخَطَابِ، أَيْ قُلْنَا لَهُمْ لَا تَتَّخِذُوا.
البحث الثَّانِي: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: إِنَّ قَوْلَهُ: أَلَّا تَتَّخِذُوا فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ (أَنْ) نَاصِبَةً لِلْفِعْلِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَجَعَلْنَاهُ هَدًى لِئَلَّا تَتَّخِذُوا. وَثَانِيهَا: أَنْ تَكُونَ (أَنْ) بِمَعْنَى أَيِ الَّتِي لِلتَّفْسِيرِ وَانْصَرَفَ الْكَلَامُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ فِي قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ كَمَا انْصَرَفَ مِنْهَا إِلَى الْخِطَابِ. وَالْأَمْرِ فِي قوله:
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا [ص: ٦] فَكَذَلِكَ انْصَرَفَ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ: أَلَّا تَتَّخِذُوا.
وَثَالِثُهَا: أَنْ تَكُونَ (أَنْ) زَائِدَةً وَيُجْعَلَ تَتَّخِذُوا عَلَى الْقَوْلِ الْمُضْمَرِ وَالتَّقْدِيرُ: وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَقُلْنَا لَا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا.
البحث الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَكِيلًا أَيْ رَبًّا تَكِلُونَ أُمُورَكُمْ إِلَيْهِ. أَقُولُ حَاصِلُ الْكَلَامِ فِيُ الْآيَةِ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ تَشْرِيفَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِسْرَاءِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ تَشْرِيفَ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِإِنْزَالِ التَّوْرَاةِ عَلَيْهِ، ثُمَّ وَصَفَ التَّوْرَاةَ بِكَوْنِهَا هُدًى، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ التَّوْرَاةَ إِنَّمَا كَانَ هُدًى لِاشْتِمَالِهِ عَلَى النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ غَيْرِ اللَّهِ وَكِيلًا، وَذَلِكَ هُوَ التَّوْحِيدُ، فَرَجَعَ حَاصِلُ الْكَلَامِ بَعْدَ رِعَايَةِ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ أَنَّهُ لَا مِعْرَاجَ أَعْلَى وَلَا دَرَجَةَ أَشْرَفُ وَلَا مَنْقَبَةَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَصِيرَ الْمَرْءُ غَرِقًا فِي بَحْرِ التَّوْحِيدِ وَأَنْ لَا يُعَوِّلَ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ، فَإِنْ نَطَقَ، نطق بذكر الله، وإن تَفَكَّرَ فِي دَلَائِلِ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ طَلَبَ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ، فَيَكُونُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَبِاللَّهِ، ثم قال: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَفِي نَصْبِ ذُرِّيَّةَ وَجْهَانِ:
الوجه الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى النِّدَاءِ يَعْنِي: يَا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ لِأَنَّهُ قَالَ: هَذَا نِدَاءٌ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: لَا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا يَا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ قَالَ قَتَادَةُ: النَّاسُ كُلُّهُمْ ذُرِّيَّةُ نُوحٍ لِأَنَّهُ كَانَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ ثَلَاثَةُ بَنِينَ: سَامٌ وَحَامٌ وَيَافِثُ فَالنَّاسُ كُلُّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ أُولَئِكَ، فَكَانَ قَوْلُهُ: يَا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ، قَائِمًا مَقَامَ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ.
الوجه الثَّانِي: فِي نَصْبِ قَوْلِهِ: ذُرِّيَّةَ أَنَّ الِاتْخَاذَ فِعْلٌ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ كَقَوْلِهِ: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا [النِّسَاءِ: ١٢٥] وَالتَّقْدِيرُ: لَا تَتَّخِذُوا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ مِنْ دُونِي وَكِيلًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَثْنَى عَلَى نُوحٍ فَقَالَ: إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً [الإسراء: ٣] أَيْ كَانَ كَثِيرَ الشُّكْرِ،
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ إِذَا أَكَلَ قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي وَلَوْ شَاءَ أَجَاعَنِي» وَإِذَا شَرِبَ قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَسْقَانِي وَلَوْ شاء أظمأني» وإذا اكتسى قال: «الحمد الله الَّذِي كَسَانِي وَلَوْ شَاءَ أَعْرَانِي» وَإِذَا احْتَذَى قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي حَذَانِي وَلَوْ شَاءَ أَحْفَانِي» وَإِذَا قَضَى حَاجَتَهُ قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَخْرَجَ عَنِّي أَذَاهُ فِي عَافِيَةٍ وَلَوْ شَاءَ حَبَسَهُ»
وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَرَادَ الْإِفْطَارَ عَرَضَ طَعَامَهُ عَلَى مَنْ آمَنَ بِهِ فَإِنْ وَجَدَهُ مُحْتَاجًا آثَرَهُ بِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً مَا وَجْهُ ملاءمته لِمَا قَبْلَهُ؟
قُلْنَا: التَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا وَلَا تُشْرِكُوا بِي، لِأَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْعَبْدُ شَكُورًا لَوْ كَانَ مُوَحِّدًا لَا يَرَى حُصُولَ شَيْءٍ مِنَ النِّعَمِ إِلَّا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ ذُرِّيَّةُ