
السالفة كلها، وأئمتها ومن أوتوها ألقوا الزعامة إليه، وصاروا مؤتمين به.
(٦) إن فى هذا مغزى جديرا بطويل التأمل والتفكير، وهو أن جميع الأنبياء كانوا فى وفاق ووثام فى الملكوت الأعلى بالقرب من ربهم الذي أرسلهم- أفلا يجدر بمتبعيهم أن يقتفوا سنة رسلهم، وأن يجعلوا أمرهم بينهم سلما لا حربا، وأن يجعلوا الشريعة الأخيرة، والقانون الذي جاءت، به هو الشريعة التي يقضى بها بين الناس، كما هو المتبع فى القوانين الوضعية، فإن الذي يجب العمل به هو القانون الأخير، وهو يلغى جميع ما سبقه.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢ الى ٨]
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦)
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨)

تفسير المفردات
الكتاب: هو التوراة، وكيلا: أي كفيلا تكلون إليه أموركم، شكورا أي كثير الشكر، وقضينا: أي أعلمنا بالوحى، لتعلن: أي لتستكبرنّ عن طاعة الله، والوعد أي الموعد به وهو العقاب، والبؤس والبأس والبأساء: الشدة والمكروه كما قال الراغب إلا أن البؤس كثر استعماله فى الفقر والحرب، والبأس والبأساء فى النكاية بالعدو، جاسوا خلال الديار: توسطوها وترددوا بينها، والكرة: الدّولة والغلبة وأصل الكر العطف والرجوع، والنفير والنافر: من ينفر مع الرجل من عشيرته وأهل بيته، والتتبير: الهلاك وهى كلمة نبطية كما روى عن سعيد بن جبير وكل شىء كسرته وفتته فقد تبرته، ما علوا: أي ما غلبوا واستولوا عليه من بلادكم، والحصير: السجن كما قال ابن عباس.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فى الآية الأولى أنه أكرم عبده ورسوله بالإسراء من مكة إلى بيت المقدس- أردف ذلك ذكر ما أكرم به موسى قبله من إعطائه التوراة وجعلها هدى لبنى إسرائيل، ليخرجهم من ظلمات الكفر والجهل إلى نور العلم والهدى، ثم قفّى على ذلك ببيان أنهم ما عملوا بهديها، بل أفسدوا فى الأرض فسلط الله عليهم البابليين أثخنوا فيهم وقصدوهم بالقتل والنهب والسلب.
ولما تابوا أزال عنهم هذه المحنة، وأعاد لهم الدّولة، وأمدهم بالأموال والبنين، وجعلهم أكثر عددا مما كانوا، ثم عادوا إلى عصيانهم وقتلوا زكريا ويحيى عليهما السلام، فسلط الله عليهم من أدال دولتهم مرة أخرى، فأعمل فيهم السيف، وسلب ونهب، وجاس خلال ديارهم، فدخل بيت المقدس كرة أخرى بالقهر والغلبة والإذلال، وأهلك ما أهلك مما قد جمعوه وكنزوه، ثم أوعدهم على عصيانهم بالعقاب فى الآخرة بنار جهنم، وبئس السجن هى لمن عصى الله وخالف أوامر دينه.

الإيضاح
(وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا) أي وأعطينا موسى التوراة وجعلنا فيها هداية لبنى إسرائيل، وقلنا لهم: لا تتخذوا من دونى وليا ولا نصيرا تكلون إليه أموركم، وهذه مقالة أوحى الله بها إلى كل نبى أرسله، أمرهم جميعا أن يعبدوه وحده لا شريك له، وألا يعوّلوا فى أمر إلا عليه.
وقد جاءت هذه الآية عقب ذكر آية الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلّم من قبل أن موسى أوتى التوراة بمسيره إلى الطور، كما أسرى بمحمد إلى بيت المقدس.
ثم نبّه إلى عظيم شرف بنى إسرائيل، وإتمام نعمته عليهم، ليكون فى ذلك تهييج لهم، وبيان لعظيم المنة عليهم فقال:
(ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) أي يا سلالة ذلك النبي الكريم الذي شمله الله بجميل رعايته، وأنجاه من غرق الطوفان، بما ألهمه من عمل السفينة التي حمل فيها من كل زوجين اثنين، أنتم من حفدة أبنائه، فتشبهوا بأبيكم، واقتدوا به، فإنه كان عبدا شكورا أي مبالغا فى الشكر، بصرفه كل ما أنعم الله به عليه فيما خلق لأجله، فاللسان لذكر الله، والعقل للفكر فيما خلق الله، والبصر للتأمل فيما صنع الله، وهكذا بقية الحواس وأعضاء الجسم.
أخرج ابن مردويه عن معاذ بن أنس الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إن نوحا كان إذا أمسى وأصبح قال سبحان (اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ).
وأخرج ابن جرير والبيهقي والحاكم عن سلمان الفارسي قال: «كان نوح إذا لبس ثوبا أو أطعم طعاما حمد الله تعالى فسمّى عبدا شكورا».
وفى هذا إيماء إلى أن إنجاء من كان معه كان ببركة شكره، وفيه حث للذرية على الاقتداء به، وزجر لهم عن الشرك الذي هو أفظع مراتب الكفر.

ثم بين سبحانه أنه أنعم على بنى إسرائيل بالتوراة، وجعلها هدى لهم لكنهم لم يهتدوا بها فقال:
(وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) أي وأوحينا إلى بنى إسرائيل فيما أنزلناه فى التوراة على موسى فأعلمهم به:
لتعصنّ الله ولتخالفنّ أمره مرتين: أولا هما تغيير التوراة وقتل شعيا عليه السلام وحبس إرميا حين أنذرهم سخط الله. والثانية قتل زكريا ويحيى وقصدهم قتل عيسى عليهم السلام ولتستكبرنّ عن طاعة الله، ولتبغنّ على الناس، ولتظلمنهم ظلما شديدا، تفرطون فيه، وتبلغون أقصى الغاية.
(فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا) أي فإذا حان وقت حلول العقاب الموعود أرسلنا عليكم لمؤاخذتكم بجنايتكم عبادا لنا أولى بطش شديد فى الحروب، هم سنحاريب ملك بابل وجنوده، أوغلوا فى البلاد، وترددوا بين الدور والمساكن، للقتل والسلب والنهب، وقتلوا علماءكم وكبراءكم، وأحرقوا التوراة وخرّبوا بيت المقدس، وسبوا منكم عددا كثيرا، وكان ذلك وعدا نافذا لا مردّ له.
(ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) أي ثم رجعت لكم الدّولة والغلبة على الذين فعلوا بكم ما فعلوا، حين تبتم ورجعتم عما كنتم عليه من الإفساد والعلوّ، فغزوتم البابليين واستنقذتم الأسرى والأموال، ورجع الملك إليكم، وكثرت أموالكم بعد أن نهبت، وأولادكم بعد أن سبيت، وصرتم أكثر عددا، وأعظم قوة مما كنتم من قبل، وذلك بفضل طاعته تعالى والإخبات إليه ومن ثم قال:
(إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) أي إن أحسنتم فأطعتم الله ولزمتم أمره وتركتم نهيه- أحسنتم لأنفسكم، لأنكم تنفعونها بذلك فى دنياها وآخرتها أما فى الدنيا فإن الله يدفع عنكم أذى من أرادكم بسوء، ويرد كيده فى نحره، وينمّى

لكم أموالكم، ويزيدكم قوة إلى قوتكم، وأما فى الآخرة فإن الله يثيبكم جنات تجرى من تحتها الأنهار، ويرضى عنكم (وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ).
وإن عصيتم ربكم وفعلتم ما نهاكم عنه فإلى أنفسكم تسيئون، لأنكم تسخطونه، فيسلط عليكم فى الدنيا أعداءكم، ويمكّن منكم من يبغى بكم السوء، ويلحق بكم فى الآخرة العذاب المهين.
(فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً) أي فإذا جاء وقت حلول العقاب على المرة الآخرة من مرّتى إفسادكم فى الأرض، بعثنا أعداءكم، ليجعلوا آثار المساءة والكآبة بادية فى وجوهكم (فإن الأعراض النفسية تظهر فى الوجوه فالفرح يظهر فيها النضارة والإشراق، والحزن والخوف يظهر فيها الغبرة والقترة) وليدخلوا المسجد قاهرين فاتحين مذلّين لكم كما دخلوه أول مرة، وليهلكوا ما ادخر تموه وخزنتموه تتبيرا شديدا، فلا يبقون منه شيئا.
قال البيضاوي: سلط الله عليهم الفرس مرة أخرى فغزاهم ملك بابل من ملوك الطوائف ويسمى بيردوس أو خردوس اه.
والذي أثبته اليهود فى تواريخهم أن الذي أغار عليهم أولا وخرّب بيت المقدس هو بختنصّر وكان ذلك فى زمن إرميا عليه السلام، وقد أنذرهم مجيئه صريحا بعد أن نهاهم عن الفساد وعبادة الأصنام، فحبسوه فى بئر وجرحوه- وأن الذي أغار عليهم ثانيا هو أسبيانوس قيصر الروم، وكان بين الإغارتين نحو من خمسمائة سنة.
وعلى الجملة فمعرفة من بعث إليهم بأعيانهم وتواريخ البعوث مما لا يتعلق به غرض كبير، لأن المراد أنه كلما كثرت معاصيهم سلط الله عليهم من ينتقم منهم مرة بعد أخرى.
وظاهر الآية يدل على اتحاد المبعوثين أولا وثانيا.
(عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) بعد البعث الثاني إن تبتم وازدجرتم عن المعاصي، وقد حقق الله لهم وعده، فكثر عددهم وأعزهم بعد الذلة وجعل منهم الملوك والأنبياء.