آيات من القرآن الكريم

وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا
ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜ ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬ ﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚ ﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸ ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈ

ومع كل هذه الدلائل أبى المشركون الظالمون إلا جحودا بأجل القيامة وبآيات الله تعالى.
٧- لو وسّع الله الرزق على العباد لبخلوا أيضا، فإن قوله تعالى: قُلْ: لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي أي خزائن الأرزاق والنعم إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ من البخل، هو جواب قولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء ١٧/ ٩٠] حتى نتوسع في المعيشة، والمعنى: لو توسعتم لبخلتم أيضا، وكان الإنسان قتورا أي بخيلا مضيّقا، والآية على الصحيح عامة في المشركين وغيرهم.
الآيات التسع لموسى عليه السلام وصفة إنزال القرآن
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٠١ الى ١٠٩]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥)
وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩)

صفحة رقم 178

الإعراب:
تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ بَيِّناتٍ إما وصف مجرور لآيات، أو وصف منصوب لتسع.
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ، وَبِالْحَقِّ نَزَلَ الباء في بِالْحَقِّ في الموضعين: إما متعلقة بالفعلين على جهة التعدي، وإما أن الأولى حال من هاء أَنْزَلْناهُ والثانية حال من ضمير نَزَلَ.
وَقُرْآناً إما منصوب بفعل مقدر، وتفسيره فَرَقْناهُ أي فرقنا قرآنا فرقناه، أو معطوف على قوله: مُبَشِّراً وَنَذِيراً على تقدير: وصاحب قرآن، ثم حذف المضاف، فيكون فَرَقْناهُ وصفا لقرآن. وعَلى مُكْثٍ: حال، أي متمهلا مترفّقا.
البلاغة:
مُبَشِّراً وَنَذِيراً بينهما طباق.
مَسْحُوراً مَثْبُوراً بينهما جناس ناقص لتغير بعض الحروف.
إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً بينهما مقابلة، وفيهما سجع.
المفردات اللغوية:
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ أي والله لقد أعطينا موسى تسع آيات واضحات الدلالة على نبوته، وصحة ما جاء به من عند الله، وهي العصا، واليد البيضاء، والطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، وهذه سبع باتفاق، وأما الثنتان فقيل: انفلاق البحر، والسنون، وقيل: انفلاق البحر ونتق الطور على بني إسرائيل، وقيل: انفلاق البحر، وحل عقدة لسان موسى. وهما مرويان عن ابن عباس، وقيل عن مجاهد وآخرين: السنون، ونقص الثمرات.
وقيل بغير ذلك كما ذكرنا في سورة الأعراف.
خمس منها ذكرت في سورة الأعراف: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ، وَالضَّفادِعَ، وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ [١٣٣] والباقي متفرقات.

صفحة رقم 179

وقيل: المراد بالآيات: الأحكام،
أخرج أحمد والبيهقي والطبراني والنسائي وابن ماجه: «أن يهوديين قال أحدهما لصاحبه: انطلق بنا إلى هذا النبي فنسأله، فأتياه صلّى الله عليه وآله وسلّم، فسألاه عن قول الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فقال: لا تشركوا بالله شيئا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسرقوا، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تقذفوا محصنة، وأنتم يا يهود عليكم خاصة ألا تعدوا في السبت، فقبّلا يده ورجله، وقالا: نشهد إنك نبي، قال: فما يمنعكما أن تسلما؟ قال: إن داود دعا ألا يزال من ذريته نبي، وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا يهود»
قال الشهاب الخفاجي: وهذا هو التفسير الذي عليه المعوّل في الآية.
فَسْئَلْ يا محمد. بَنِي إِسْرائِيلَ عنه سؤال تقرير للمشركين على صدقك، أو: فقلنا له: اسأل. مَسْحُوراً سحرت، فأصبحت متخبط العقل مخبولا. هؤُلاءِ الآيات.
بَصائِرَ بينات واضحات وعبرا، ولكنك تعاند. مَثْبُوراً هالكا، أو مصروفا عن الخير، مطبوعا على الشر. فَأَرادَ فرعون. أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ أن يخرج موسى وقومه وينفيهم من الأرض: أرض مصر، أو الأرض مطلقا بالقتل والاستئصال.
اسْكُنُوا الْأَرْضَ التي أراد أن يستفزكم منها. وَعْدُ الْآخِرَةِ أي الساعة أو الدار الآخرة يعني قيام القيامة. لَفِيفاً جميعا أنتم وهم، واللفيف: الجمع العظيم المختلط من الطائعين والعصاة وغيرهم. فَرَقْناهُ نزلناه مفرقا على مدى ثلاث وعشرين سنة. مُكْثٍ مهل وتؤدة وتأن ليفهموه. وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا شيئا بعد شيء على حسب المصالح والحوادث.
قُلْ لكفار مكة. آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا تهديد لهم ووعيد. مِنْ قَبْلِهِ قبل نزوله، وهم مؤمنو أهل الكتاب. يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً يسقطون على وجوههم تعظيما لأمر الله، وشكرا لإنجازه وعده في تلك الكتب ببعثة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم على فترة من الرسل وإنزاله القرآن عليه.
والمعنى: إن لم تؤمنوا به، فقد آمن به من هو خير منكم، وهم العلماء الذين قرءوا الكتب السابقة، وعرفوا حقيقة الوحي، وأمارات النبوة، وتمكنوا من التمييز بين الحق والمبطل، أو رأوا نعتك وصفة ما أنزل إليك في تلك الكتب. فالخرور: السقوط بسرعة، والأذقان جمع ذقن: وهو مجتمع اللحيين.
سُبْحانَ رَبِّنا تنزيها له عن خلف الوعد. سُبْحانَ مخففة من الثقيلة. كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا بإنزال القرآن وبعث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم. وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ عطف بزيادة صفة.
وَيَزِيدُهُمْ القرآن. خُشُوعاً تواضعا لله.
المناسبة:
بعد أن حكى الله تعالى عن قريش تعنتهم في اقتراحهم وعنادهم للرسول

صفحة رقم 180

صلّى الله عليه وآله وسلّم، سلّاه تعالى وذكّره بما جرى لموسى مع فرعون، وقومه من قولهم: أرنا الله جهرة، وقول قريش: أو تأتي بالله، أو نرى ربنا، وأنه أنزل آيات تسعا على موسى مثلما اقترحوا، فلم تفد تلك الآيات فرعون وقومه بالإقبال على ساحة الإيمان، ويكفيكم ما أنزل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من آيات علمية غير مادية، فإن لم يؤمنوا، كانت عاقبتكم الدمار والهلاك، كما أهلك فرعون وقومه بالغرق.
وبعد أن ذكر تعالى إعجاز القرآن بقوله: قُلْ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ [الإسراء ١٧/ ٨٨] عاد إلى بيان صفة نزول القرآن منجما، وأنه حق ثابت لا يزول. وهكذا طريقة كلام العرب وأسلوبها، تأخذ في شيء وتستطرد منه إلى شيء آخر ثم إلى آخر، ثم تعود إلى ما ذكرته أولا «١». وهدد تعالى من لم يؤمن به، وأنه قد آمن به علماء أهل الكتاب.
التفسير والبيان:
أجاب الله تعالى المشركين في هذه الآيات عن قولهم: لن نؤمن لك حتى تأتينا بهذه المعجزات القاهرة، فقال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ أي لقد أمددنا موسى عليه السلام وأعطيناه تسع آيات بيّنات، وهي الدلائل القاطعة على صحة نبوته وصدقه، فيما أخبر به، حين أرسله إلى فرعون وقومه، فلم يؤمنوا بها، كما قال تعالى: فَاسْتَكْبَرُوا، وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ قال موسى لفرعون: لقد علمت علم اليقين أن هذه الآيات التسع ما أنزلها خالق [النمل ٢٧/ ١٤].
والآيات التسع هي كما
ذكر ابن عباس فيما رواه عنه عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر: «العصا، واليد، والسنين، والبحر، والطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم آيات مفصلات».

(١) البحر المحيط: ٦/ ٨٧.

صفحة رقم 181

لكن تخصيص التسع بالذكر لا يمنع ثبوت الزائد عليها لأن القاعدة في أصول الفقه: أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد.
وقد ذكر القرآن المجيد ست عشرة معجزة لموسى عليه السلام ذكرها الرازي «١» وهي: إزالة العقدة من لسانه أي إذهاب العجمة وصيرورته فصيحا، وانقلاب العصا حية، وتلقف الحية حبالهم وعصيهم على كثرتها، واليد البيضاء، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وشق البحر: وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ [البقرة ٢/ ٥٠] والحجر: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ [الأعراف ٧/ ١٦٠] وإضلال الجبل: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ [الأعراف ٧/ ١٧١] وإنزال المن والسلوى عليه وعلى قومه، والجدب، ونقص الثمرات: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ، وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ [الأعراف ٧/ ١٣٠] والطمس على أموالهم من النحل والدقيق والأطعمة والنقود.
وقال الرازي «٢» بعد أن ذكر أن الروايات ظنية غير يقينية في بيان الآيات التسع: أجود الروايات في تفسير قوله تعالى: تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ما
روى صفوان بن عسّال المرادي أنه قال: إن يهوديا قال لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي نسأله عن تسع آيات، فذهبا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وسألاه عنها، فقال: «هن ألا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا المحصنة، ولا تولوا الفرار يوم الزحف، وعليكم خاصة اليهود أن تعدلوا في السبت، فقام اليهوديان، فقبّلا يديه ورجليه، وقالوا:
نشهد إنك نبي، ولولا نخاف القتل، وإلا اتبعناك»
«٣».
فالمراد بالآيات:
الأحكام.

(١) تفسير الرازي: ٢١/ ٦٤.
(٢) المرجع السابق.
(٣) أخرجه أحمد والترمذي والبيهقي والطبراني والنسائي وابن ماجه.

صفحة رقم 182

فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ أي فاسأل أيها النبي بني إسرائيل المعاصرين لك كعبد الله بن سلام وصحبه سؤال تأكد واستيثاق واطمئنان، لتعلم ثبوت ذلك في كتابهم.
إِذْ جاءَهُمْ، فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً أي فاسألهم حين جاءهم موسى بتلك الآيات، وبلغها فرعون، فقال فرعون: إني لأظنك يا موسى أن الناس سحروك وخبلوك، فصرت مختلط العقل.
قالَ: لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ أي قال موسى لفرعون: لقد علمت علم اليقين أن هذه الآيات التسع ما أنزلها خالق الأرض والسموات إلا حججا وأدلة على صدق ما جئتك به، فهي تهدي الإنسان إلى الطريق الحق، وأنها من عند الله لا من عند غيره.
وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً أي مغلوبا هالكا مصروفا عن الخير، ميالا إلى الشر.
فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ أي فأراد فرعون أن يخرج موسى وقومه بني إسرائيل من أرض مصر بالقتل، أو بالطرد.
فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً أي فأهلكناه وجنوده جميعا بالإغراق في البحر.
وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ: اسْكُنُوا الْأَرْضَ أي ونجينا موسى وقومه بني إسرائيل، وقلنا لهم بعد هلاك فرعون: اسكنوا الأرض التي أراد فرعون إخراجكم منها وهي أرض مصر، أو أرض الشام التي وعدتم بها.
فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً أي فإذا جاء يوم القيامة جئنا بكم أنتم وعدوكم جميعا، مختلطين أنتم وهم، ثم نحكم بينكم وبينهم. واللفيف: الجمع

صفحة رقم 183

العظيم من أخلاط شتى من الشريف والدني، والمطيع والعاصي، والقوي والضعيف.
وبعد أن ردّ الله تعالى على الكفار بأنه لا حاجة للمعجزات لأن قوم موسى آتاهم الله تسع آيات بينات، فلما جحدوا بها أهلكهم الله، ولأنه لو جاءهم بتلك المعجزات التي اقترحوها ثم كفروا بها، لأنزل بهم عذاب الاستئصال، فاقتضت الحكمة عدم تلبية مطالبهم لعلمه تعالى أن منهم من يؤمن، ومنهم من لا يؤمن...
بعد هذا عاد الله تعالى إلى تذكيرهم بالمعجزة الخالدة وهي القرآن، وإلى تعظيم شأنه، والاكتفاء به، فقال:
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ... أي إننا أنزلنا القرآن متضمنا للحق من تبيان براهين الوحدانية والوجود، وحاجة الناس إلى الرسل، والأمر بالعدل ومكارم الأخلاق، والنهي عن الظلم وقبائح الأفعال والأقوال، والأحكام التشريعية والأوامر والنواهي المنظمة لحياة الفرد والجماعة والدولة وغير ذلك من أصول التشريع الرفيع.
ونزل إليك يا محمد هذا القرآن محفوظا محروسا، لم يختلط بغيره، ولم يطرأ عليه زيادة فيه ولا نقص منه، بل وصل إليك مع الحق وهو جبريل عليه السلام، الشديد القوي، الأمين المكين المطاع في الملأ الأعلى.
وبعد بيان خواص القرآن أبان تعالى مهام النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً أي وما أرسلناك يا محمد إلا مبشرا لمن أطاعك من المؤمنين بالجنة، ونذيرا لمن عصاك من الكافرين بالنار.
ثم عاد إلى بيان كيفية نزول القرآن منجما، أي مقسطا بحسب الوقائع والمناسبات، فقال تعالى:

صفحة رقم 184

وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ، وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا أي وأنزلنا قرآنا مفرقا منجما في مدى ثلاث وعشرين سنة، فلم ينزل في يومين أو ثلاثة، وإنما أنزلناه بحسب الوقائع والحوادث وعلى ما تقتضيه الحكمة والمصلحة العامة النافعة في الدنيا والآخرة على وفق المناسبات، وقد ابتدأ نزوله في ليلة مباركة هي ليلة القدر في رمضان، وقرئ فَرَقْناهُ بالتشديد، أي أنزلناه آية آية مبينا مفسرا.
وذلك لتبلغه للناس وتتلوه عليهم على مهل، ونزلناه تنزيلا أي شيئا بعد شيء، على الحد المذكور والصفة المذكورة. وفائدة قوله: وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا بعد قوله فَرَقْناهُ بيان كون التنزيل على حسب الحوادث.
ثم هددهم الله محتقرا لهم غير مبال بشأنهم بقوله: قُلْ: آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا أي قل يا محمد لهؤلاء الكافرين الذين لم يقتنعوا بكون القرآن معجزة كافية، وقالوا لك: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء ١٧/ ٩٠] آمنوا بهذا القرآن أو لا تؤمنوا به، فهو حق في نفسه أنزله الله، وكتاب خالد إلى أبد الدهر.
إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ... أي إن علماء أهل الكتاب الصالحين الذين تمسكوا بكتابهم ولم يبدلوه ولم يحرفوه، إذا يتلى عليهم هذا القرآن يسجدون على وجوههم تعظيما لله عز وجل، وشكرا على ما أنعم به عليهم، وعبر عن السجود بقوله لِلْأَذْقانِ لأن الإنسان كلما ابتدأ بالخرور والإقبال على السجود فأقرب الأشياء من الجبهة إلى الأرض: الذقن، أو هو كناية عن المبالغة في الخضوع والخشوع والخوف من الله تعالى.
ويقولون في سجودهم: سُبْحانَ رَبِّنا... أي تنزيها لله تعالى وتعظيما وتوقيرا على قدرته التامة، وأنه لا يخلف الميعاد، لذا قال: إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا

صفحة رقم 185

لَمَفْعُولًا
أي منجزا واقعا آتيا لا محالة.
وهؤلاء كما قال مجاهد: ناس من أهل الكتاب، حين سمعوا ما أنزل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم خرّوا سجدا، منهم زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل، وعبد الله بن سلام.
وهذا السجود من هؤلاء تعريض بأهل الجاهلية والشرك، فإنهم إن لم يؤمنوا بالقرآن، فإن خيرا منهم وأفضل علماء أهل الكتاب الذين قرءوا الكتب، وعلموا ما الوحي، وما الشرائع، فآمنوا وصدقوا به، وثبت لديهم أنه النبي الموعود به في كتبهم، فإذا تلي عليهم خروا سجدا لله، تعظيما لأمره، ولإنجاز ما وعد في الكتب المنزلة، وبشر به من بعثة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإنزال القرآن عليه، وهو المراد بالوعد في الآية: إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا أي بإنزال القرآن وبعثة محمد.
وصفة سجودهم ما قال تعالى: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً أي ويخرون ساجدين باكين خاشعين خاضعين لله عز وجل من خشية الله، وإيمانا وتصديقا بكتابه ورسوله.
ويزيدهم السجود خشوعا، أي إيمانا وتسليما، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً، وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد ٤٧/ ١٧].
وقد امتدح النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم البكاء في أحاديث كثيرة منها:
ما رواه الترمذي عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «عينان لا تمسّهما النار: عين بكت من خشية الله تعالى، وعين باتت تحرس في سبيل الله تعالى».
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى التالي:
١- أيد الله نبيه موسى عليه السلام بمعجزات أو آيات تسع، كما ذكرت الآية

صفحة رقم 186

هنا، وهي بدلالة آيات أخرى ست عشرة معجزة، كما بينا في التفسير، واخترنا ما اختاره الرازي وغيره أنها آيات الكتاب والأحكام.
ولم تكن الإحالة بالسؤال إلى بني إسرائيل عن هذه الآيات إلا من قبيل الاستفهام والإلزام، ليعرف اليهود صحة ما يقول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وبالرغم من دعم موسى بهذه الآيات، فلم يؤمن فرعون برسالته، وإنما قال له: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً أي ساحرا بغرائب أفعالك، أو مسحورا من غيرك مختلط العقل مخبولا. والظن هنا على حقيقته المفيد رجحان الوقوع.
٢- لم يجد موسى جوابا لفرعون إلا الاعتصام بربه، وإعلانه أن هذه الآيات منزلة من رب السماء والأرض بصائر، أي دلالات يستدل بها على قدرته ووحدانيته وتصديقه موسى في نبوته، وقال له: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً والظن هنا بمعنى التحقيق والتيقن، والثبور: الهلاك والخسران.
٣- لم يجد الطاغية فرعون غير استخدام السلطة والقوة، وصمم على إخراج موسى وبني إسرائيل إما بالقتل أو بالإبعاد، فأهلكه الله عز وجل، وأسكن بني إسرائيل من بعد إغراقه أرض الشام ومصر. ثم يأتي الله بالجميع يوم القيامة من قبورهم مختلطين من كل موضع، قد اختلط المؤمن بالكافر دون تمييز ولا تحيز، ويحاسب كل امرئ على ما قدم.
٤- أنزل الله القرآن متضمنا الحق والعدل والشريعة والحكم الأمثل، والجمع بين الإنزالين لمعنيين، فقوله: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ أي أوجبنا إنزاله بالحق، وقوله: وَبِالْحَقِّ نَزَلَ أي ونزل وفيه الحق، أو أن الأول معناه: مع الحق، والثاني بالحق أي بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، أي نزل عليه.

صفحة رقم 187
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية