
وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَاطَبَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَمَرَهُ بِالسُّؤَالِ لِيَتَبَيَّنَ كَذِبَهُمْ مَعَ قَوْمِهِمْ. فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسى مَسْحُوراً، أَيْ: مَطْبُوبًا سَحَرُوكَ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَخْدُوعًا. وَقِيلَ:
مَصْرُوفًا عَنِ الْحَقِّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: سَاحِرًا، فَوَضَعَ الْمَفْعُولَ مَوْضِعَ الْفَاعِلِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ: مُعْطًى عِلْمُ السِّحْرِ، فَهَذِهِ الْعَجَائِبُ الَّتِي تَفْعَلُهَا من سحرك.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٠٢ الى ١٠٤]
قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤)
قالَ، مُوسَى، لَقَدْ عَلِمْتَ، قَرَأَ الْعَامَّةُ بِفَتْحِ التَّاءِ خِطَابًا لِفِرْعَوْنَ، وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ بِضَمِّ التَّاءِ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَلَيٍّ [رَضِيَ اللَّهُ عنه] [١]، وَقَالَ: لَمْ يَعْلَمِ الْخَبِيثُ أَنَّ مُوسَى عَلَى الْحَقِّ، وَلَوْ عَلِمَ لَآمَنَ وَلَكِنْ مُوسَى هُوَ الَّذِي علمه، وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلِمَهُ فِرْعَوْنُ وَلَكِنَّهُ عَانَدَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النَّمْلُ: ١٤]، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ وَهِيَ نَصْبُ التَّاءِ أَصَحُّ فِي الْمَعْنَى وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْقُرَّاءِ، لِأَنَّ مُوسَى لَا يحتج عليه بعلم نفسه، ولم يَثْبُتُ عَنْ عَلِيٍّ رَفْعُ التَّاءِ لأنه يروى عَنْ رَجُلٍ مَنْ مُرَادٍ عَنْ علي، وذلك الرَّجُلَ مَجْهُولٌ وَلَمْ يَتَمَسَّكْ بِهَا أَحَدٌ مِنَ الْقُرَّاءِ غَيْرَ الْكِسَائِيُّ، مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ، هَذِهِ الْآيَاتَ التِّسْعَ، إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ، جَمْعُ بَصِيرَةٍ أَيْ يُبَصَرُ بِهَا، وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَلْعُونًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَالِكًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: مُهْلَكًا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ مَصْرُوفًا مَمْنُوعًا عَنِ الْخَيْرِ. يُقَالُ: مَا ثَبَرَكَ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ أَيْ مَا مَنَعَكَ وَصَرَفَكَ عَنْهُ.
فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ، أَيْ: أَرَادَ فِرْعَوْنُ أَنْ يَسْتَفِزَّ [٢] مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ أَيْ يُخْرِجَهُمْ، مِنَ الْأَرْضِ، يَعْنِي أَرْضَ مِصْرَ، فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً، وَنَجَّيْنَا مُوسَى وَقَوْمَهُ.
وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ، أَيْ مِنْ بَعْدِ هَلَاكِ فِرْعَوْنَ، لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ، يَعْنِي أَرْضَ مِصْرَ وَالشَّامِ، فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ، يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً أَيْ: جَمِيعًا إِلَى مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ.
وَاللَّفِيفُ: الْجَمْعُ الْكَثِيرُ إِذَا كَانُوا مُخْتَلِطِينَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ، يُقَالُ: لَفَّتِ [٣] الْجُيُوشُ إِذَا اخْتَلَطُوا، وَجَمْعُ الْقِيَامَةِ.
كَذَلِكَ، فِيهِمُ [٤] الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ يَعْنِي مَجِيءَ عِيسَى مِنَ السَّمَاءِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا أَيِ [٥] النُّزَّاعُ: مِنْ كُلِّ قوم من هاهنا وهاهنا لفوا جميعا.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٠٥ الى ١٠٩]
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩)
(١) زيادة عن المخطوط.
(٢) في المطبوع «يستفزهم».
(٣) في المخطوط «لفف».
(٤) في المخطوط «منهم».
(٥) زيد في المطبوع وط، وفي المخطوط «أنواعا» والمثبت هو الراجح، ويدل عليه ونزعنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً... الآية.

وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ، يَعْنِي الْقُرْآنَ، وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً لِلْمُطِيعِينَ، وَنَذِيراً، لِلْعَاصِينَ.
وَقُرْآناً فَرَقْناهُ، قيل: أنزلنا نُجُومًا لَمْ يَنْزِلْ مَرَّةً وَاحِدَةً، بِدَلِيلِ قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «وَقُرْآنًا فَرَّقْنَاهُ» بِالتَّشْدِيدِ، وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِالتَّخْفِيفِ، أَيْ: فَصَّلْنَاهُ. وَقِيلَ: بَيَّنَّاهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ فَرَّقْنَا بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ أَيْ: عَلَى تُؤَدَةٍ وَتَرَسُّلٍ فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا [أي رتلناه ترتيلا] [١].
قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا، هَذَا عَلَى طَرِيقِ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ، إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ، قِيلَ:
هُمْ مُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَطْلُبُونَ الدِّينَ قَبْلَ مَبْعَثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَسْلَمُوا بَعْدَ مَبْعَثِهِ، مِثْلُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو [٢] بْنِ نُفَيْلٍ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَأَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِمْ. إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ، يَعْنِي الْقُرْآنَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ أَيْ: يَسْقُطُونَ عَلَى الْأَذْقَانِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَادَ بِهَا الْوُجُوهَ، سُجَّداً.
وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (١٠٨)، أَيْ: كَائِنًا وَاقِعًا.
وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ، أَيْ: يَقَعُونَ عَلَى الوجوه يبكون، والبكاء مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَيَزِيدُهُمْ، نُزُولُ الْقُرْآنِ، خُشُوعاً، خُضُوعًا لِرَبِّهِمْ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا [مَرْيَمُ: ٥٨].
«١٣٣٥» أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَنَا أَبُو عَمْرٍو بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُزَنِيُّ ثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عبد الله الحفيد [٣] ثنا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ الْبَجَلِيُّ أَنَا عاصم بن علي بن عاصم ثنا الْمَسْعُودِيُّ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى آلِ طَلْحَةَ عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَلِجُ النَّارَ مَنْ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ، وَلَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي مَنْخَرَيْ مُسْلِمٍ أَبَدًا».
«١٣٣٦» أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ هَوَازِنٍ الْقُشَيْرِيُّ أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْخَالِقِ بْنُ عَلِيِّ بن
- والحديث بدون «حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ» صحيح له شواهد كثيرة.
- وهو في «شرح السنة» ٤٠٦٣ بهذا الإسناد.
- وأخرجه الترمذي ٢٣١١ و١٦٣٣ والنسائي ٦/ ١٢ وأحمد ٢/ ٥٠٥ والحاكم ٤/ ٢٥٩ من طرق عن المسعودي به.
- وأخرجه النسائي ٦/ ١٢ من طريق مسعر عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ به.
- وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الترمذي حسن صحيح.
- وأخرج ابن حبان ٤٦٠٧ عجزه فقط من طريق مسعر عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ به.
١٣٣٦- متن حسن صحيح بشواهده. إسناده ضعيف لضعف محمد بن يونس الكديمي، وجهالة أبي حبيب القنوي، حيث لم أجد له ترجمة، وقد توبع محمد بن يونس عند الطبراني، فانحصرت العلة في أبي حبيب، وللحديث شواهد كثيرة.
- وهو في «شرح السنة» ٤٠٦٤ بهذا الإسناد. [.....]
(١) زيادة عن المخطوط.
(٢) تصحف في المطبوع «عمر».
(٣) تصحف في المطبوع «الجنيد».