آيات من القرآن الكريم

إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭ ﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو فيقول: «اللهم قنّعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف عليّ كل غائبة لي بخير».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية بوضوح أن إفادة العمل الصالح للحياة الطيبة مشروط بالإيمان.
أما إفادته تخفيف العقاب فإنه لا يتوقف على الإيمان.
والحياة الطيبة ذكر فيها خمسة أقوال أصحها أنها تشمل كل مناحي السعادة في الدنيا من الصحة والرزق الحلال الطيب، والطمأنينة النفسية وراحة البال، والتوفيق إلى الطاعات، فإنها تؤدي إلى رضوان الله تعالى.
ما يتعلق بالقرآن الاستعاذة والنسخ وعربية القرآن
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٩٨ الى ١٠٥]
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥)

صفحة رقم 229

الإعراب:
إِنَّما سُلْطانُهُ.. هُمْ بِهِ هاء (سلطانه) تعود على الشيطان، وهاء بِهِ لله تعالى، وهو مما جاء في التنزيل من ضميرين مختلفين، مثل الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ، وَأَمْلى لَهُمْ [محمد ٤٧/ ٢٥] أي سول الشيطان، وأملى الله تعالى، كقوله: أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ [آل عمران ٣/ ١٧٨] وقيل: هاء بِهِ تعود على الشيطان أيضا.
وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ معطوفان على محل لِيُثَبِّتَ أي تثبيتا وهداية وبشارة، فهما مفعولان لأجله.
البلاغة:
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ مجاز مرسل من إطلاق المسبّب على السبب، أي إذا أردت قراءة القرآن.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ جملة اعتراضية لبيان حكمة النسخ، وفيه التفات من المتكلم إلى الغائب، وذكر اسم الله للمهابة.
لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ استعار اللسان للغة والكلام، والعرب تستعمل اللسان بمعنى اللغة مثل وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [إبراهيم ١٤/ ٤].
أَعْجَمِيٌّ وعَرَبِيٌّ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ أي أردت قراءته فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ.. أي قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أي ألجأ إلى الله لحمايتي من وساوس الشيطان في القراءة، وذلك في كل ركعة للمصلي لأن الحكم المترتب على شرط يتكرر بتكرره قياسا. سُلْطانٌ تسلط وقوة واستيلاء.
يَتَوَلَّوْنَهُ بطاعته، يقال: توليته: أطعته، وتوليت عنه: أعرضت. هُمْ بِهِ بالله.
بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ بنسخها أو رفعها وإنزال غيرها، لمصلحة العباد. قالُوا: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ أي قال الكفار للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إنما أنت كذاب، تقوله من عندك. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ حقيقة القرآن وحكمة النسخ وتمييز الخطأ من الصواب. قُلْ: نَزَّلَهُ قل لهم يا محمد: نَزَّلَهُ

صفحة رقم 230

رُوحُ الْقُدُسِ
جبريل، وسمي بذلك لأنه ينزل بالقدس أي بما يطهر النفوس. بِالْحَقِّ متعلق ينزل، أي نزله ملتبسا بالحكمة المقتضية له. لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا على الإيمان بأنه كلامه، وإنهم إذا سمعوا الناسخ، وتدبروا ما فيه من رعاية الصلاح والحكمة، رسخت عقائدهم، واطمأنت قلوبهم. لِلْمُسْلِمِينَ المنقادين لحكمه، وفيه تعريض بحصول أضداد ذلك لغيرهم.
وَلَقَدْ للتحقيق. يُعَلِّمُهُ القرآن. بَشَرٌ هو جبر الرومي، غلام عامر بن الحضرمي النصراني، كان قد قرأ التوراة والإنجيل، وكان حدادا، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يدخل عليه، ويجلس إليه إذا آذاه أهل مكة. لِسانُ لغة وكلام. الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ يميلون إليه، ويشيرون أنه يعلمه. أَعْجَمِيٌّ في لسانه عجمة، سواء من العجم أو من العرب، وهو الذي لا يفصح عن مراده. وَهذا القرآن لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ذو بيان وفصاحة، فكيف يعلمه أعجمي. والجملتان مستأنفتان لإبطال طعنهم. لا يَهْدِيهِمُ لا يخلق الإيمان في قلوبهم، وهذا عام مخصوص فقد اهتدى قوم كفروا بآيات الله تعالى.
أَلِيمٌ مؤلم في الآخرة. يَفْتَرِي يختلق. الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ القرآن بقولهم: هذا من قول البشر لأنهم لا يخافون عقابا يردعهم عنه. وَأُولئِكَ إشارة إلى الذين كفروا، أو إلى قريش. هُمُ الْكاذِبُونَ أي الكاذبون على الحقيقة، أو الكاملون في الكذب لأن تكذيب آيات الله والطعن فيها بهذه المزاعم أعظم الكذب، أو الكاذبون في قولهم: إنما أنت مفتر، إنما يعلمه بشر، والتأكيد بالتكرار ردّ لقولهم المذكور.
سبب النزول:
نزول الآية (١٠١) :
وَإِذا بَدَّلْنا.. نزلت حين قال المشركون: إن محمدا عليه الصلاة والسلام سخر بأصحابه، يأمرهم اليوم بأمر، وينهاهم عنه غدا، أو يأتيهم بما هو أهون عليهم، وما هو إلا مفتري يقوله من تلقاء نفسه، فأنزل الله تعالى هذه الآية والتي بعدها.
نزول الآية (١٠٣) :
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ.. الآية: أخرج ابن أبي حاتم من طريق حصين عن عبد الله بن مسلم الحضرمي قال: كان لنا عبدان: أحدهما يقال له:

صفحة رقم 231

يسار، والآخر جبر، وكانا صقلبيّين، فكانا يقرآن كتابهما، ويعلمان علمهما، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمرّ بهما، فيستمع قراءتهما، فقالوا: إنما يتعلم منهما، فنزلت.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى أنه يجزي المؤمنين بأحسن أعمالهم، أرشد إلى العمل الذي تخلص به أعمالهم من وساوس الشيطان. ثم ذكر بعض وساوسه إلى منكري نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم بإلقاء الشبهات ومنها شبهتان:
الأولى- شبهة النسخ: وهو التبديل، أي رفع الشيء مع وضع غيره مكانه، وتبديل الآية: رفعها بآية أخرى غيرها، وهو نسخها بآية سواها.
والثانية- شبهة كون القرآن من تعليم نصراني لا من الله، وكان الردّ مفحما موضحا بطلان هذه الشبهة: وهو أن القرآن كلام عربي مبين، وهذا المعلم المزعوم أعجمي، فكيف يعلّم كلاما عربيا فصيحا؟!
التفسير والبيان:
يأمر الله عباده على لسان نبيه صلّى الله عليه وسلّم إذا أرادوا قراءة القرآن أن يستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم، فيقول: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ.. أي إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله، أي الجأ إلى الله من وساوس الشيطان المرجوم الملعون المطرود من رحمة الله، حتى لا تلتبس عليك القراءة، ولتتدبر معاني القرآن.
والآية متصلة بما سبق: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ.
وخطاب النبي صلّى الله عليه وسلّم خطاب لأمته، بل هي أولى لأنه معصوم من وساوس الشيطان وإغوائه.
وظاهر الآية جعل الاستعاذة عقب القراءة، ولكنها قبل القراءة، كما في قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة ٥/ ٦] وقوله:

صفحة رقم 232

وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا
[الأنعام ٦/ ١٥٢] وقوله: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الأحزاب ٣٣/ ٥٣] وقوله: إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً [المجادلة ٥٨/ ١٢] أي إذا أردتم ذلك. ثم إن سبب الاستعاذة وهو دفع وسوسة الشيطان يقتضي تقديم الاستعاذة قبل القراءة.
والاستعاذة أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
والأمر بها أمر ندب بإجماع العلماء، كما حكى ابن جرير وغيره من الأئمة.
وعن الثوري وعطاء: أنها واجبة في الصلاة أو غيرها، عملا بظاهر الآية إذ الأمر للوجوب، لكن الوجوب في رأي الجمهور مصروف عنه إلى الندب لأنه صلّى الله عليه وسلّم لم يعلمها الأعرابي، ولأنه كان يتركها أحيانا.
والاستعاذة في رأي الحنفية وجماعة مطلوبة فقط في أول الصلاة لأنها عمل واحد، مفتتح بقراءة، فتكون في ابتدائها. وفي رأي الشافعية وجماعة: تتكرر في كل ركعة لأنها قد رتّبت على القراءة، وكل ركعة فيها قراءة، فتبدأ الركعة بالاستعاذة.
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ.. أي إن الشيطان أي جنسه ليس له قوة ولا تسلط على المصدقين بلقاء الله، ويفوضون أمورهم إليه. إِنَّما سُلْطانُهُ..
أي إنما تسلطه بالغواية والإضلال على الذين أطاعوه واتخذوه وليا ناصرا لهم من دون الله، والذين أشركوه في عبادة الله، ويحتمل أن تكون الباء سببية، أي صاروا بسبب طاعتهم للشيطان وإغوائه لهم مشركين بربهم.
ثم ذكر تعالى شبهتين من شبهات منكري النبوة بتأثير وسوسة الشيطان.
الشبهة الأولى:
وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً.. أي إذا رفعنا آية وجعلنا مكانها آية أخرى لحكمة

صفحة رقم 233

وهدف، والله أعلم بما ينزله من القرآن، ورأوا تغيير الأحكام ناسخها بمنسوخها، عيّروا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقالوا له: إنما أنت مفتر، أي كذاب، متقول على الله، تأمر بشيء ثم تنهى عنه، بل أكثرهم لا يعلمون ما في التغيير من حكمة ومصلحة للناس، ومراعاة لظروف التغير والتطور، وأخذ بمبدإ التدرج في تنزيل الأحكام، فليس محمد بمفتر، وإنما يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد، كما قال تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها، نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة ٢/ ١٠٦].
فردّ الله عليهم شبهتهم الواهية آمرا رسوله: قُلْ: نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ.. أي قل لهم يا محمد: نزّله، أي القرآن المتلو عليكم جبريل عليه السلام، وقد أضيف أي جبريل إلى القدس وهو الطهر من المآثم، نزّله من ربك بالحق، أي مقترنا بالصدق والعدل والحكمة، وأن النسخ من جملة الحق.
لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا.. أي ليبلوهم بالنسخ، فيصدقوا بما أنزل أولا وثانيا، وتطمئن له قلوبهم، فإذا قالوا: هو الحق من ربنا، حكم لهم بثبات القدم في الدين وصحة اليقين بأن الله حكيم، فلا يفعل إلا ما هو حكمة وصواب.
واستعمال كلمة نَزَّلَهُ الدالة على أن التنزيل شيئا فشيئا على حسب الحوادث والمصالح، فيه إشارة- كما قال الزمخشري- إلى أن التبديل من باب المصالح، وأن ترك النسخ بمنزلة إنزاله دفعة واحدة في خروجه عن الحكمة.
وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ معطوف على محل لِيُثَبِّتَ أي إن القرآن بما فيه من نسخ نزل تثبيتا لهم، وإرشادا وهاديا، وبشارة بالجنة للمسلمين الذين أسلموا وجوههم لله، وأطاعوه، وانقادوا لحكمه وأمره، وآمنوا بالله ورسله.
وهذا يدل على أن المسلمين إذا رأوا النسخ، رسخت عقائدهم واطمأنت

صفحة رقم 234

قلوبهم، وثبت الدين في نفوسهم، وتيقنوا من حكمة الله، وهدوا إلى الحق من الضلال والزيغ، وبشروا بجنات تجري من تحتها الأنهار. وأما المشركون فهم على الضد من هذه الصفات.
والشبهة الثانية:
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّما يُعَلِّمُهُ.. أي ونحن نعلم تمام العلم ما يقوله المشركون من الكذب والافتراء على محمد صلّى الله عليه وسلّم، فهم يقولون جهلا: إنما يعلمه هذا القرآن بشر آدمي، وليس وحيا من الله، ويشيرون إلى رجل أعجمي اللسان، لا يعرف العربية، غلام لبعض القرشيين، وكان بياعا يبيع عند الصفا، وربما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجلس إليه، ويكلمه بعض الشيء.
واسمه جبر، وقيل: بلعام، وقيل: يعيش عبد لبني الحضرمي، وكان غلاما للفاكه بن المغيرة أو لعامر بن الحضرمي أو لعتبة بن ربيعة «١»، وكان نصرانيا فأسلم، فإذا سمع المشركون بعض القصص القرآني، قالوا: إنما يعلمه جبر، وهو أعجمي.
فردّ الله عليهم افتراءهم وكذبهم بنحو يدعو إلى العجب، فقال: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ.. أي لسان الذي يميلون ويشيرون إليه أعجمي لا عربي، والقرآن كلام عربي واضح مبين لكل شيء فصيح يدرك بسرعة، بل أفصح ما يكون من العربية، فكيف يتعلم من جاء بهذا القرآن في فصاحته، وبلاغته، ومعانيه التامة الشاملة التي هي أكمل من معاني كل كتاب نزل على بني إسرائيل، كيف يتعلم من رجل أعجمي لا يحسن التعبير العربي؟! لا يعقل أن يتعلم هذا النبي كلاما من هذا النوع من مثل هذا الرجل الأعجمي.

(١) قال القرطبي: والكل محتمل، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم ربما جلس إليهم في أوقات مختلفة ليعلمهم مما علمه الله، وكان ذلك بمكة.

صفحة رقم 235

ثم كشف الله زيفهم وتوعدهم بقوله: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ... أي إن الذين لا يصدّقون بالآيات المنزلة على رسوله صلّى الله عليه وسلّم، ولم يكن لهم قصد إلى الإيمان بما جاء من عند الله، لا يهديهم ولا يوفقهم الله إلى الإيمان بآياته وما أرسل به رسله، لفقد استعدادهم لذلك واقترافهم السيئات، ولهم في الآخرة عذاب أليم موجع. وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ أي وأولئك المشركون من قريش هم الكاذبون المفترون، لا أنت يا محمد.
وهذا تصريح بوصفهم بالكذب الذين عرفوا به عند الناس، أما الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم فكان أصدق الناس وأبرهم وأكملهم علما وعملا وإيمانا ويقينا، معروفا بالصدق في قومه، حتى لقبوه بالأمين محمد.
ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن صفات الرسول صلّى الله عليه وسلّم أجابه بأنه صدوق، وكان فيما قال له: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا، فقال هرقل: فما كان ليدع الكذب على الناس، ويذهب فيكذب على الله عز وجل.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات الأحكام التالية:
١- الاستعاذة من الشيطان الرجيم مطلوبة على سبيل الندب عند الشروع في قراءة القرآن، في الصلاة وغيرها، حتى لا يعرض الشيطان بوسوسته للقارئ، فيصده عن تدبر القرآن والعمل بما فيه.
وللشيطان وسوسة في القلب، حتى في حق الأنبياء، بدليل قوله تعالى:
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى، أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ، فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ، ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ [الحج ٢٢/ ٥٢].

صفحة رقم 236

٢- ليس للشيطان بحال سلطان وقوة بالإغواء والكفر على المؤمنين المصدقين بالله ورسوله لأن الله تعالى صرف سلطانه عنهم حين قال إبليس:
لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر ١٥/ ٣٩- ٤٠] قال الله تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ [الحجر ١٥/ ٤٢].
لكن قال القرطبي: إن هذا عام يدخله التخصيص، وقد أغوى آدم وحواء عليهما السلام بسلطانه، وقد شوش على الفضلاء أوقاتهم بقوله: من خلق ربك «١» ؟.
٣- النسخ واقع في القرآن لحكمة هي مراعاة المصالح والحوادث وتطور الأوضاع البشرية. والنسخ: رفع الحكم الشرعي بطريق شرعي متراخ أو متأخر عنه.
وقد نزل جبريل بالقرآن كله ناسخه ومنسوخه، من كلام ربه لتثبيت المؤمنين بما فيه من الحجج والآيات، ولجعله هاديا ومرشدا ومبشرا للمسلمين بجنات النعيم، فلا يصح للمشركين الاعتراض على النسخ.
وقد ذكرت في تفسير سورة البقرة أن مذهب أبي مسلم الأصفهاني: أن النسخ غير واقع في هذه الشريعة. وقال عن هذه الآية: إذا بدلنا آية مكان آية في الكتب المتقدمة، مثل أنه حوّل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، قال المشركون: أنت مفتر في هذا التبديل، فالآية هي الرسالة أو بعضها.
وقال سائر المفسرين: النسخ واقع في هذه الشريعة، بأدلة واقعية في القرآن والسنة، سبق إيرادها.

(١) تفسير القرطبي: ١٠/ ١٧٦

صفحة رقم 237
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية