
قال الحسن وسعيد بن جبير: ﴿حَيَاةً طَيِّبَةً﴾: في الآخرة (١)، فعلى هذا هذه الحياة في الجنة، روى عوف (٢) عن الحسن قال: لا تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة (٣).
٩٨ - قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ الآية. قال الزجاج وجميع أصحاب المعاني: معناه: إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ (٤)، ليس معناه استعذ بعد أن تقرأ القرآن؛ ومثله إذا أكلت فقل: بسم الله (٥)، وقد
(٢) عوف بن أبي جميلة العبدي البصري، المعروف بالأعرابي، صاحب الحسن وابن سيرين، ثقة ثبت، روى عن أبي العالية، وعنه: شعبة والقطان، مات سنة (١٤٧ هـ). انظر: "الجرح والتعديل" ٧/ ١٥، و"ميزان الاعتدال" ٤/ ٢٢٥، و"الكاشف" ٢/ ١٠١، و"تقريب التهذيب" ص ٤٣٣، و"تفسير الطبري" تحقيق شاكر ١/ ١٣٤.
(٣) أخرجه الطبري ١٤/ ١٧١ بنصه وبنحوه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٠٤، بنصه، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٤٩، بنصه، والثعلبي ٢/ ١٦٢ ب، بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" ٢/ ٤٢، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٧٤، والخازن ٣/ ١٣٣، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٤٥، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
وهذا قول صحيح لكن السياق يدل علي أن الحياة الطيبة في الدنيا، يقابلها قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ [طه: ١٢٤] وهذه المعيشة الضنك هي في الدنيا، أما الأقوال التي ذكرت أنها:
الرزق الحلال، أو القناعة، أو السعادة، | فهي من باب التفسير بالمثال، لأن الحياة الطيبة تشمل كل ذلك. |
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١٨، بتصرف يسير، وورد بنحوه في "تفسير الطبري" ١٤/ ١٧٣، و"معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٠٥، و"تفسير الجصاص" ٢/ ١٩١، =

ذكرنا هذا عند قوله: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ﴾ [المائدة: ٦]، وبينا حكم (إذا) في وقوع (ما) بعدها مستقبلًا في أوائل سورة البقرة وإجماع الفقهاء أن الاستعاذة تكون قبل القراءة (١).
وبه وردت الأخبار (٢)، وذهب أبو هريرة -رضي الله عنه- إلى أن الاستعاذة بعد
(١) في دعوى الإجماع نظر، وقد خالفه بعض السلف وكبار الفقهاء -وإن كان استدلالهم ضعيفًا أو مشكوكًا في نسبته إليهم-، قال الثعلبي: اختلف الفقهاء في وقت الاستعاذة؛ فقال أكثرهم: قبل القراءة، وهذا قول الجمهور، وهو الصحيح المشهور، وقال أبو هريرة -رضي الله عنه-: يتعوذ بعد القراءة، وإليه ذهب داود، وقال مالك يتعوذ بعد القراءة، واحتجوا بظاهر الآية، وقال الكيالهراسي: ونُقل عن بعض السلف التعوذ بعد القراءة مطلقًا، احتجاجًا بالآية، وقال النووي: وأما محله فقال الجمهور هو قبل القراءة، وقال أبو هريرة وابن سيرين والنخعي: يتَعوذ بعد القراءة، وكان أبو هريرة يتعوذ بعد فراغ الفاتحة لظاهر الآية، وقال الجمهور معناه: إذا أردت القراءة فاستعذ، وهو اللائق السابق إلى الفهم، وقال القرطبي: رُوي عن أبي هريرة أن الاستعاذة بعد القراءة، وقاله داود، وقال ابن كثير: حُكي عن حمزة وأبي حاتم السجستاني أنها تكون بعد التلاوة، واحتجا بهذه الآية، وأبهم ابنُ العربي القائلين ووصفهم وصفًا قاسيًا لا يليق بهم، قال: انتهى العِيُّ بقوم إلى أن قالوا: إن القارئ إذا فرغ من قراءة القرآن حينئذ يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، فهذه الأقوال تجعل دعوى الإجماع غير صحيحة، بل الصحيح أنه قول الأكثر والجمهور؛ كما نص الثعلبي والنووي. انظر: "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٣أ، و"الكيالهراسي" ٤/ ١٧٥، و"ابن العربي" ٣/ ١١٧٥، والفخر الرازي ٢٠/ ١١٤، و"تفسير القرطبي" ١/ ٨٨، و"المجموع" ٣/ ٣٢٥، و"تفسير ابن كثير" ١/ ١٤ - ١٧، ٢/ ٦٤٥.
(٢) منها: ما رواه أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قام إلى الصلاة بالليل كبر ثم يقول: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، =

القراءة، وهو مذهب مالك (١)، وداود (٢)، كأنهم أخذوا بظاهر الآية (٣)، وذلك جهل بمقاييس العربية (٤).
(١) وقد استغرب ابن العربي نسبة هذا القول إلى مالك، وقال هذه دعوى عريضة لا تُشْبِهُ أصولَ مالك ولا فهمه، والله أعلم بسرِّ هذه الرواية. انظر: "تفسير ابن العربي" ٣/ ١١٧٦.
(٢) داود بن علي بن خلف الأصبهاني، أبو سليمان، فقيه حافظ، أحد الأئمة المجتهدين في الإسلام، وإليه ينسب المذهب الظاهري، وكان فاضلاً صدوقًا ورعًا، سمع من إسحاق بن راهويه ومسدد بن مسرْهَد، وعنه: ابنه محمد ويوسف ابن يعقوب، من مصنفاته: "الإفصاح"، "الأصول"، ولد بالكوفة سنة (٢٠٢ هـ) وسكن بغداد، ومات سنة (٢٧٠ هـ). انظر: "الفهرست" ص ٢٩٩، و"الأنساب" للسمعاني ٤/ ٩٩، و"وفيات الأعيان" ٢/ ٢٥٥، و"تذكرة الحفاظ" ٢/ ٥٧٣.
(٣) لا شك أن ظاهر الآية يقتضي ذلك، ولكنه مدفوع ومفسرٌ بفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول الجصاص: يقتضي ظاهره أن تكون الاستعاذة بعد القراءة، ولكنه قد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن السلف الاستعاذة قبل القراءة، وقد جرت العادة بإطلاق مثله. انظر: "تفسير الجصاص" ٢/ ١٩١، و"المحلى" ٣/ ٣٥٠، و"تفسير الكيالهراسي" ٤/ ١٧٥، ومن توجيهات القائلين بهذا القول، أن الاستعاذة بعد القراءة هي لوقاية العمل من الحبوط، إذ ربما أورث حسن القراءة العجب في نفس القارئ، والعجب من الشيطان، فكان من المناسب أن يؤمر بالاستعاذة منه. انظر: "تفسير ابن كثير" ٤/ ١٤ - ٤٧.
(٤) عبارته هذه قاسية، ولا يليق وصف الصحابة وأئِمة الأمة بالجهل.