
فانتدب رجلين، فأتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال نحن رسل أكثم يسألك من أنت وما جئت به؟ فقال أنا محمد بن عبد الله عبد الله ورسوله، ثم تلا عليهم هذه الآية، قالوا ردد علينا هذا القول، فردده عليه الصلاة والسلام عليهم حتى حفظوها، فأتيا أكثم، فأخبراه، فلما سمع الآية قال إني لأراه يأمر بمكارم الأخلاق، وينهي عن مذامها، فكونوا في هذا الأمر رأسا، ولا تكونوا فيه أذنابا، عرض عليهم بكلامه هذا طلبا لأن يكونوا أول أتباعه لئلا يسبقهم أحد فيتقدم عليهم لدى محمد صلّى الله عليه وسلم ودينه. وأخرج الطبراني وأحمد والبخاري في الأدب عن ابن عباس أن هذه الآية صارت سببا لاستقرار الإيمان في قلب عثمان بن مظعون ومحبّته للنبي صلّى الله عليه وسلم.
وأخرج أحمد عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم جالسا إذ شخص بصره، فقال أتاني جبريل عليه السلام فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع، أي بموضعها هذا من هذه السورة. وهذا يؤذن بأن نزولها كان متأخرا عنها، وهذا مغزى ما ذكرناه في المقدمة، وفي الآية ١٠٠ من سورة الكهف المارة.
قال تعالى «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ» أحدا باسم الله تعالى، لأنه من آكد الحقوق، وقدمنا ما يتعلق بالعهود في الآية ٣٤ من سورة الإسراء فراجعها.
الحكم الشرعي: وجوب الوفاء به إذا كان فيه صلاحا، وإلا فلا، قال صلّى الله عليه وسلم:
من خلف يمينا ثم رأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه.
لأن العهد يمين وكفارته كفارة يمين وهذا من العام المخصص بالسنة، قالوا إن هذه الآية نزلت في الذين بايعوا حضرة الرسول في الموسم قبل الهجرة، وسيأتي بيانها إن شاء الله في الآية ١٠ من سورة الممتحنة والفتح في ج ٣، وبعد أن أمر الله تعالى بإيفاء العهد نهى عن النكث فيه فقال «وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها» باسم الله تعالى فتحنثوا، وكيف يليق بكم ذلك «وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا» على الوفاء به وهو الشهيد على كل شيء «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» ٩١ من الوفاء والبر والنقض والحنث، ثم ضرب الله مثلا لنقض العهد فقال «وَلا تَكُونُوا» أيها المعاهدون المؤكدون عهودكم بالأيمان «كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ» في إبرامه وإحكامه وجملة (من بعد قوة) معترضة بين ما قبلها

وقوله تعالى «أَنْكاثاً» طاقات الخبوط المنقوضة بعد الغزل أو القتل «تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا» دغلا وخيانة وخديعة بأن تظهروا الوفاء وتبطنوا النقض، وهذا هو معنى الدخل، لأنه الذي يدخل بالشيء على طريق الإفساد بسبب «أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى» أكثر عددا وأوفر مالا «مِنْ أُمَّةٍ» أخرى وذلك أن الناس في الجاهلية كانوا يحالفون الخلفاء، فإذا وجدوا قوما أقوياء أكثر منهم وأعز نقضوا عهدهم معهم وحالفوا الأكثر عددا والأعز مكانة، فذم الله تعالى صنيعهم هذا وقال «إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ» أي الوفاء بالعهد ويختبركم لينظر أتتمسكون بعهدكم وما وكدتموه بالإيمان من بيعة الرسول أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم فتنقضونه كما كان يفعله من قبلكم «وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» ٩٢ في الدنيا فيثيب المحق ويعاقب المبطل «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً» وقطع مادة الاختلاف «وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ٩٣ من خير أو شر ثم كرر ما بمعنى الآية الأولى تأكيدا وتهديدا وإعلاما بعظم نقض العهد فقال «وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ» أيها الناس الحذر الحذر من هذا «فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها» تزلق أقدامكم عن محجة الإسلام والإيمان بعد أن ثبتها الله فيهما بتوفيقكم إليهما وتعرضوا أنفسكم لما تكرهون «وَتَذُوقُوا السُّوءَ» في الدنيا بذم الناس «بِما صَدَدْتُمْ» غيركم «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» لأن من نقض العهد فقد علّم غيره نقضه فكأنه صده عن الوفاء به «وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» ٩٤ في الآخرة جزاء عملكم ذلك، ثم أكد ثالثا فقال «وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ» الذي عاهدتم به رسوله عليه، لأنه هو المقصود في هذا الكون كلّه المطلوب بأن تنقاد له الخلق أجمع ويوقى له بما يريده منهم، لأن هذه المعاهدة هي التي سببت الهجرة إلى المدينة إذ جعلت لهم أصحابا فيها، فكذلك أكد الله تعالى عليها هذه التأكيدات لإيجاب الإيفاء بها، وهكذا كل عهد لعموم لفظ الآية، وإياكم أيها الناس أن تأخذوا لقاء نقضه «ثَمَناً» ثم وصف هذا الثمن بكونه «قَلِيلًا» لأنه مهما كثر فهو قليل بنسبة نقض العهد الذي لا يقابله ثمن لما يترتب عليه من
صفحة رقم 248
الخزي والعار في الدنيا والعذاب والعقاب في الآخرة، وبالنسبة لما يترتب على الوفاء به من المدح في الدنيا والثواب في الآخرة «إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ» من الأجر العظيم على الوفاء بالعهد «هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» مما تتعجلون أخذه من حطام الدنيا على نقضه «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» ٩٥ ماهية العوضين وعاقبتهما في الدارين، واعلموا أيها الناس أن «ما عِنْدَكُمْ» من متاع الدنيا جميعه «يَنْفَدُ» يفنى فيها لا تأخذون معكم منه شيئا للآخرة إلا وباله «وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ» لكم ثوابه لا يقنى ويصحبكم في الآخرة، لأن من أخذ مالا على نقض العهد فقد فضل ما عنده البالي الذي يحمل ورزه في الآخرة على ما عند الله الباقي أجره المضاعف خيره في الدار الدائمة. روى أبو موسى الأشعري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال:
من أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى «وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا» على ضراء العهد والبر بأيمانهم والمحافظة على وعودهم «أَجْرَهُمْ» بالآخرة «بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» ٩٦ في الدنيا فنعطيهم بمقابلة الأدنى من أعمالهم ما نعطيه بمقابلة الأحسن منها «مَنْ عَمِلَ صالِحاً» في دنياه من وفاء العهد وغيره «مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ» لأن من لا إيمان له لا ثواب له في الآخرة، لأن الله تعالى يكافئه على عمله الصالح في دنياه حتى يلقى الله وليس له عنده شيء من الخير: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً، بعيش رغيد وجاء مديد ومال ولد وصحة وقناعة وأمن مماة حياته مع زوجة صالحة وإخوان صالحين حتى يلقى الله راضيا مرضيا «وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ» بالآخرة «بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» ٩٧ وهذا وعد حق من الله الحق، والله لا يخلف وعده. واعلم أن هذه الآيات وإن كانت نزلت في الذين عاهدوا حضرة الرسول أوّل معاهدة عاهدها الناس له فهي عامة في كل عهد حق فيه صلاح، لأن نزولها في الجماعة الذين عاهدوا حضرة الرسول في الموسم في ٨ محرم الحرام سنة ٥٢ من ميلاده الشريف الثانية عشرة من البعثة لا يخصصها أو يقيدها بها، بل هي عامة، راجع الآية ١١٣ من آل عمران في ج ٣ تجد تفصيل هذه المعاهدة إن شاء الله، وإنما أخرناها عن موقعها هنا لما رأينا أن ذكرها هناك أكثر مناسبة، ومن الله التوفيق.