آيات من القرآن الكريم

وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰ ﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄ

الْعَدْلِ وَبَيْنَ الْجَوْرِ. فَثَبَتَ أَنَّ وَصْفَهُ بِأَنَّهُ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ يَتَضَمَّنُ وَصْفَهُ بِكَوْنِهِ قَادِرًا عَالِمًا، وَكَوْنُهُ آمِرًا يُنَاقِضُ كَوْنَ الْأَوَّلِ أَبْكَمَ، وَكَوْنُهُ قَادِرًا يُنَاقِضُ وَصْفَ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَبِأَنَّهُ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ، وَكَوْنُهُ عالما يناقض وصف الأول بأنه لا يأت بخير.
ثم قال تعالى: وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ مَعْنَاهُ كَوْنُهُ عَادِلًا مُبَرَّأً عَنِ الْجَوْرِ وَالْعَبَثِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: ظَاهِرٌ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ أَنَّ الْأَوَّلَ والثاني لا يستويان، فكذا هاهنا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الثَّانِيَةُ: فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الْمَثَلِ أَقْوَالٌ كَمَا فِي الْمَثَلِ الْمُتَقَدِّمِ.
فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: كُلُّ هَذَا مَثَلُ إِلَهِ الْخَلْقِ وَمَا يُدْعَى مِنْ دُونِهِ مِنَ الْبَاطِلِ. وَأَمَّا الْأَبْكَمُ فَمَثَلُ الصَّنَمِ، لِأَنَّهُ لَا يَنْطِقُ الْبَتَّةَ وَكَذَلِكَ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، وَأَيْضًا كَلٌّ عَلَى عَابِدِيهِ لِأَنَّهُ لَا يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ يُنْفِقُونَ عَلَيْهِ، وَأَيْضًا إِلَى أَيِّ مُهِمٍّ تَوَجَّهَ الصَّنَمُ لَمْ يَأْتِ بِخَيْرٍ، وَأَمَّا الَّذِي يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ فَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْأَبْكَمِ: هُوَ عَبْدٌ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ كَانَ ذَلِكَ الْعَبْدُ يَكْرَهُ الْإِسْلَامَ، وَمَا كَانَ فِيهِ خَيْرٌ، وَمَوْلَاهُ وَهُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ كَانَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ، وَكَانَ عَلَى الدِّينِ الْقَوِيمِ وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ: كُلُّ عَبْدٍ مَوْصُوفٍ بَهَذِهِ الصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ وَكُلُّ حُرٍّ مَوْصُوفٍ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ وَصْفَهُ تَعَالَى إِيَّاهُمَا بِكَوْنِهِمَا رَجُلَيْنِ يَمْنَعُ مِنْ حَمْلِ ذَلِكَ عَلَى الْوَثَنِ، وَكَذَلِكَ بالبكم وبالكل وبالتوجه فِي جِهَاتِ الْمَنَافِعِ وَكَذَلِكَ وَصْفُ الْآخَرِ بِأَنَّهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ يَمْنَعُ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَيْضًا فَالْمَقْصُودُ تَشْبِيهُ صُورَةٍ بِصُورَةٍ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَذَلِكَ التَّشْبِيهُ لَا يتم إلا عند كون إحدى الصُّورَتَيْنِ مُغَايِرَةً لِلْأُخْرَى.
وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: فَضَعِيفٌ أَيْضًا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِبَانَةُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ مَوْصُوفَيْنِ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِشَخْصٍ معين، بل أيما حَصَلَ التَّفَاوُتُ فِي الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ. والله أعلم.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٧٧ الى ٧٩]
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩)
[في قوله تعالى وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى قوله عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مَثَلَ الْكُفَّارِ بِالْأَبْكَمِ الْعَاجِزِ، وَمَثَلَ نَفْسِهِ بِالَّذِي يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ، وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُوُنَ آمِرًا بِالْعَدْلِ، وَأَنْ يَكُونَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ إِلَّا إِذَا كان كاملا في العلم والقدرة، وذكر فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانَ كَوْنِهِ كَامِلًا فِي الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، أَمَّا بَيَانُ كَمَالِ الْعِلْمِ فَهُوَ قَوْلُهُ:
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْمَعْنَى: عَلِمَ الله غيب السموات وَالْأَرْضِ وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُفِيدُ الْحَصْرَ مَعْنَاهُ: أَنَّ الْعِلْمَ بِهَذِهِ الْغُيُوبِ لَيْسَ إِلَّا لِلَّهِ وَأَمَّا بَيَانُ كَمَالِ الْقُدْرَةِ فَقَوْلُهُ: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ

صفحة رقم 249

إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ
وَالسَّاعَةُ هِيَ الْوَقْتُ الَّذِي تَقُومُ فِيهِ الْقِيَامَةُ سُمِّيَتْ سَاعَةً لِأَنَّهَا تَفْجَأُ الْإِنْسَانَ فِي سَاعَةٍ فَيَمُوتُ الْخَلْقُ بِصَيْحَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَوْلُهُ: إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ اللَّمْحُ النَّظَرُ بِسُرْعَةٍ يُقَالُ لَمَحَهُ بِبَصَرِهِ لَمْحًا ولمحانا، والمعنى: وما أمر قيام الْقِيَامَةِ فِي السُّرْعَةِ إِلَّا كَطَرْفِ الْعَيْنِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ تَقْرِيرُ كَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَقَوْلُهُ:
أَوْ هُوَ أَقْرَبُ مَعْنَاهُ أَنَّ لَمْحَ الْبَصَرِ عِبَارَةٌ عَنِ انْتِقَالِ الْجِسْمِ الْمُسَمَّى بِالطَّرْفِ مِنْ أَعْلَى الْحَدَقَةِ إِلَى أَسْفَلِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحَدَقَةَ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ أَجْزَاءٍ لَا تَتَجَزَّأُ، فَلَمْحُ الْبَصَرِ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُرُورِ عَلَى جُمْلَةِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الَّتِي مِنْهَا تَأَلَّفَ سَطْحُ الْحَدَقَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ كَثِيرَةٌ، وَالزَّمَانُ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ لَمْحُ الْبَصَرِ مُرَكَّبٌ مِنْ آنَاتٍ مُتَعَاقِبَةٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِقَامَةِ الْقِيَامَةِ فِي آنٍ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْآنَاتِ فَلِهَذَا قَالَ: أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَسْرَعُ الْأَحْوَالِ وَالْحَوَادِثِ فِي عُقُولِنَا وَأَفْكَارِنَا هُوَ لَمْحَ الْبَصَرِ لَا جَرَمَ ذَكَرَهُ. ثم قال: أَوْ هُوَ أَقْرَبُ تَنْبِيهًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ طَرِيقَةَ الشَّكِّ، بِلِ الْمُرَادُ: بَلْ هُوَ أَقْرَبُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُرَادُ بِهِ الْإِبْهَامُ عَنِ الْمُخَاطَبِينَ أَنَّهُ تَعَالَى يَأْتِي بِالسَّاعَةِ إِمَّا بِقَدْرِ لَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ بِمَا هُوَ أَسْرَعُ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ إِقَامَةَ السَّاعَةِ لَيْسَتْ حَالَ تَكْلِيفٍ حَتَّى يُقَالُ إِنَّهُ تَعَالَى يَأْتِي بِهَا فِي زَمَانٍ، بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يَخْلُقَهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَيُفَارِقُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي ابتداء خلق السموات وَالْأَرْضِ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَ حَالُ تَكْلِيفٍ، فَلَمْ يمتنع أن يخلقهما كَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَصْلَحَةِ الْمَلَائِكَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاعْتِرَاضَ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى مَذْهَبِ الْقَاضِي، أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا فِي أَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيُحْكِمُ مَا يُرِيدُ فَلَيْسَ لَهُ قُوَّةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عَادَ إِلَى الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ فَقَالَ:
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ أُمَّهاتِكُمْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهَا.
المسألة الثَّانِيَةُ: أُمَّهَاتِكُمْ أَصْلُهُ أُمَّاتِكُمْ، إِلَّا أَنَّهُ زِيدَ الْهَاءُ فِيهِ كَمَا زِيدَ فِي أَرَاقَ فَقِيلَ: أَهْرَاقَ وَشَذَّتْ زِيَادَتُهَا فِي الْوَاحِدَةِ فِي قَوْلِهِ:
أُمَّهَتِي خِنْدَفُ وَالْيَأْسُ أَبِي
المسألة الثَّالِثَةُ: الْإِنْسَانُ خُلِقَ فِي مَبْدَأِ الْفِطْرَةِ خَالِيًا عَنْ معرفة الأشياء.
ثم قال تعالى: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ والمعنى: أَنَّ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ لَمَّا كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْخِلْقَةِ خَالِيَةً عَنِ الْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ بِاللَّهِ، فَاللَّهُ أَعْطَاهُ هَذِهِ الْحَوَاسَّ لِيَسْتَفِيدَ بِهَا الْمَعَارِفَ وَالْعُلُومَ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ يَسْتَدْعِي مَزِيدَ تَقْرِيرٍ فَنَقُولُ: التَّصَوُّرَاتُ وَالتَّصْدِيقَاتُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ كَسْبِيَّةً، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ بَدِيهِيَّةً، وَالْكَسْبِيَّاتُ إِنَّمَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا بِوَاسِطَةِ تَرْكِيبَاتِ الْبَدِيهِيَّاتِ، فَلَا بُدَّ مِنْ سَبْقِ هَذِهِ الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ، وَحِينَئِذٍ لِسَائِلٍ أَنْ يَسْأَلَ فَيَقُولَ: هَذِهِ الْعُلُومُ الْبَدِيهِيَّةُ إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا كَانَتْ حَاصِلَةً مُنْذَ خُلِقْنَا أَوْ مَا كَانَتْ حَاصِلَةً. وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّا بِالضَّرُورَةِ نَعْلَمُ أَنَّا حِينَ كُنَّا جَنِينًا فِي رَحِمِ الْأُمِّ مَا كُنَّا نَعْرِفُ أَنَّ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَمَا كُنَّا نَعْرِفُ أَنَّ الْكُلَّ أَعْظَمُ مِنَ الْجُزْءِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْعُلُومَ الْبَدِيهِيَّةَ حَصَلَتْ فِي نُفُوسِنَا بَعْدَ أَنَّهَا مَا كَانَتْ حَاصِلَةً، فَحِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُ حُصُولُهَا إِلَّا بِكَسْبٍ وَطَلَبٍ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَسْبِيًّا فَهُوَ مَسْبُوقٌ بِعُلُومٍ أُخْرَى، فَهَذِهِ الْعُلُومُ الْبَدِيهِيَّةُ

صفحة رقم 250

تَصِيرُ كَسْبِيَّةً، وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَسْبُوقَةً بِعُلُومٍ أُخْرَى إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ، وَهَذَا سُؤَالٌ قَوِيٌّ مُشْكِلٌ.
وَجَوَابُهُ أَنْ نَقُولَ: الْحَقُّ أَنَّ هَذِهِ الْعُلُومَ الْبَدِيهِيَّةَ مَا كَانَتْ حَاصِلَةً فِي نُفُوسِنَا، ثُمَّ إِنَّهَا حَدَثَتْ وَحَصَلَتْ، أما قوله فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ كَسْبِيَّةً.
قُلْنَا: هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ مَمْنُوعَةٌ، بَلْ نَقُولُ: إِنَّهَا إِنَّمَا حَدَثَتْ فِي نُفُوسِنَا بَعْدَ عَدَمِهَا بِوَاسِطَةِ إِعَانَةِ الْحَوَاسِّ الَّتِي هِيَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ النَّفْسَ كَانَتْ فِي مَبْدَأِ الْخِلْقَةِ خَالِيَةً عَنْ جَمِيعِ الْعُلُومِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ، فَإِذَا أَبْصَرَ الطِّفْلُ شَيْئًا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى ارْتَسَمَ فِي خَيَالِهِ مَاهِيَّةُ ذَلِكَ الْمُبْصَرِ، وَكَذَلِكَ إِذَا سَمِعَ شَيْئًا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى ارْتَسَمَ فِي سَمْعِهِ وَخَيَالِهِ مَاهِيَّةُ ذَلِكَ الْمَسْمُوعِ وكذا القول فِي سَائِرِ الْحَوَاسِّ، فَيَصِيرُ حُصُولُ الْحَوَاسِّ سَبَبًا لِحُضُورِ مَاهِيَّاتِ الْمَحْسُوسَاتِ فِي النَّفْسِ وَالْعَقْلِ ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الْمَاهِيَّاتِ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ: مَا يَكُونُ نَفْسُ حُضُورِهِ مُوجِبًا تَامًّا فِي جَزْمِ الذِّهْنِ بِإِسْنَادِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ بِالنَّفْيِ أَوِ الْإِثْبَاتِ، مِثْلَ أَنَّهُ إِذَا حَضَرَ فِي الذِّهْنِ أَنَّ الْوَاحِدَ مَا هُوَ، / وَأَنَّ نِصْفَ الِاثْنَيْنِ مَا هُوَ كَانَ حُضُورُ هَذَيْنِ التَّصَوُّرَيْنِ فِي الذِّهْنِ عِلَّةً تَامَّةً فِي جَزْمِ الذِّهْنِ بِأَنَّ الْوَاحِدَ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ، وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ عَيْنُ الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَهُوَ الْعُلُومُ النَّظَرِيَّةُ، مِثْلَ أَنَّهُ إِذَا حَضَرَ فِي الذِّهْنِ أَنَّ الْجِسْمَ مَا هُوَ وَأَنَّ الْمُحْدَثَ مَا هُوَ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ هَذَيْنِ التَّصَوُّرَيْنِ فِي الذِّهْنِ لَا يَكْفِي فِي جَزْمِ الذِّهْنِ بِأَنَّ الْجِسْمَ مُحْدَثٌ، بَلْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ وَعُلُومٍ سَابِقَةٍ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْعُلُومَ الْكَسْبِيَّةَ إِنَّمَا يُمْكِنُ اكْتِسَابُهَا بِوَاسِطَةِ الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ، وَحُدُوثُ هَذِهِ الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ إِنَّمَا كَانَ عِنْدَ حُدُوثِ تَصَوُّرِ مَوْضُوعَاتِهَا وَتَصَوُّرِ مَحْمُولَاتِهَا. وَحُدُوثُ هَذِهِ التَّصَوُّرَاتِ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ إِعَانَةِ هَذِهِ الْحَوَاسِّ عَلَى جُزْئِيَّاتِهَا، فَظَهَرَ أَنَّ السَّبَبَ الْأَوَّلَ لِحُدُوثِ هَذِهِ الْمَعَارِفِ فِي النُّفُوسِ وَالْعُقُولِ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَى هَذِهِ الْحَوَاسَّ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ
لِيَصِيرَ حُصُولُ هَذِهِ الْحَوَاسِّ سَبَبًا لِانْتِقَالِ نُفُوسِكُمْ مِنَ الْجَهْلِ إِلَى الْعِلْمِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَهَذِهِ أَبْحَاثٌ شَرِيفَةٌ عَقْلِيَّةٌ مَحْضَةٌ مُدْرَجَةٌ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ لِتَسْمَعُوا مَوَاعِظَ اللَّهِ وَالْأَبْصارَ لِتُبْصِرُوا دَلَائِلَ اللَّهِ، وَالْأَفْئِدَةَ لِتَعْقِلُوا عَظَمَةَ اللَّهِ، وَالْأَفْئِدَةُ جَمْعُ فُؤَادٍ نَحْوَ أَغْرِبَةٍ وَغُرَابٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَمْ يُجْمَعْ فُؤَادٌ عَلَى أَكْثَرِ الْعَدَدِ، وَمَا قِيلَ فِيهِ فِئْدَانٌ كما قيل: غراب وغربان. وَأَقُولُ: لَعَلَّ الْفُؤَادَ إِنَّمَا جُمِعَ عَلَى بِنَاءِ جَمْعِ الْقِلَّةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ كَثِيرَانِ وَأَنَّ الْفُؤَادَ قَلِيلٌ، لِأَنَّ الْفُؤَادَ إِنَّمَا خُلِقَ لِلْمَعَارِفِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْعُلُومِ الْيَقِينِيَّةِ، وَأَكْثَرُ الْخَلْقِ لَيْسُوا كَذَلِكَ بَلْ يَكُونُونَ مَشْغُولِينَ بِالْأَفْعَالِ الْبَهِيمِيَّةِ وَالصِّفَاتِ السَّبُعِيَّةِ، فَكَأَنَّ فُؤَادَهُمْ لَيْسَ بِفُؤَادٍ، فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرَ فِي جَمْعِهِ صِيغَةَ جَمْعِ الْقِلَّةِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَخْرَجَكُمْ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ جَعْلُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْإِخْرَاجِ عَنِ الْبَطْنِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ حَرْفَ الْوَاوِ لَا يُوجِبُ التَّرْتِيبَ، وَأَيْضًا إِذَا حَمَلْنَا السَّمْعَ عَلَى الِاسْتِمَاعِ وَالْأَبْصَارَ عَلَى الرُّؤْيَةِ زَالَ السُّؤَالُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أما قوله: أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ فَفِيهِ مسألتان:

صفحة رقم 251
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية